لعنة الصليب الذهبي
حول طاولة صغيرة، جلس ستة أشخاص لا يبدو بينهم أيُّ تآلف، وكأنما التقَوا معًا دونما اتفاق، كأن كلَّ واحد منهم كان على متن سفينة وتحطَّمت به على الجزيرة المُقفرة الصغيرة نفسها. على الأقل كان البحر يحوطهم؛ إذ كانت جزيرتهم تلك، على نحوٍ ما، جزءًا من جزيرة أخرى ضخمة عائمة كجزيرة لابوتا. لقد كانت طاولتهم الصغيرة واحدةً ضمن عدة طاولات صغيرة مبعثرة هنا وهناك في صالة الطعام بالسفينة العملاقة «مورافيا»، والتي كانت تشقُّ طريقها بسرعة كبيرة في الخواء السرمدي للمحيط الأطلنطي وسط ظلمة الليل. لم يكن ثمة ما يربط بين أفراد تلك الرفقة الصغيرة سوى أنهم كانوا جميعًا مسافرين من أمريكا إلى إنجلترا. كان اثنان منهم على الأقل يمكن اعتبارُهما من المشاهير؛ أما الباقي فكانوا مغمورين، وكان واحد أو اثنان منهم مثيرَين للريبة.
كان الأول هو البروفيسور الشهير سميل، الذي يُعَد حجة في دراسات علم الآثار التي تتناول أواخر عهد الإمبراطورية البيزنطية. كانت محاضراته، التي يُلقيها في إحدى الجامعات الأمريكية، هي المرجعَ الأول حتى في مراكز التعليم الأكثر ثقة في أوروبا. وكانت أعماله الأدبية مشبعةً بتعاطف تخيلي وهادئ تجاه التاريخ الأوروبي؛ حتى إن الغرباء كثيرًا ما كانوا يندهشون عندما يسمعونه يتحدث بلكنة أمريكية. ومع ذلك، فقد كان أمريكيًّا للغاية في سمْته؛ فكان له شعرٌ أشقر طويل مصفف للخلف كاشف عن جبهة عريضة مربعة، وقسمات مستطيلة مستقيمة، ومزيج غريب من الاستغراق في التفكير والرزانة التي تحمل في طياتها سرعة كامنة، كأسد يفكر بذهن شارد في قفزته التالية.
كان الجمع يضمُّ سيدةً واحدة؛ وكانت تُجيد دور المضيفة (كما كان يقول عنها الصحفيون عادة)؛ فقد كانت على أتمِّ الاستعداد للعب دور المضيفة، فما بالك بدور الإمبراطورة، على تلك الطاولة، أو على أي طاولة أخرى. كانت تلك السيدة هي ديانا ويلز، الرحَّالة المشهورة التي تطوف البلاد الاستوائية وغيرها؛ إلا أنه لم يكن في مظهرها على طاولة العشاء ما ينمُّ عن سمات ذكورية أو خشونة؛ فقد كانت تتمتَّع بجمال شبه استوائي، ولها شعر أحمر صارخ كثيف؛ وكانت ملابسها تتبع ما يسمِّيه الصحفيُّون صيحة جريئة، لكنَّ وجهها كان ينمُّ عن الذكاء وكان لعينَيها ذلك البريقُ والبروزُ اللذان يميِّزان أعين النساء اللاتي يطرحْن الأسئلة في الاجتماعات السياسية.
في حضورها الطاغي كان الرجال الأربعة الآخرون يبدون جميعًا مجردَ ظلال؛ لكن عند إمعان النظر، تتضح بعضُ الاختلافات بينهم. فقد كان أحدُهم شابًّا مدرجًا في سجل ركاب السفينة باسم بول تي تارانت. كان نموذجًا أمريكيًّا قد يكون من الأصح أن يسمَّى نقيض النموذج الأمريكي. إن لكل شعب على الأرجح نقيضًا للنموذج العام له؛ نوعًا من الاستثناء الفج الذي يُعَد إثباتًا للقاعدة العامة. فالأمريكيون يجلُّون العمل حقًّا كما يجلُّ الأوروبيون الحرب، ويحيطونه بهالة من البطولة، وتواني المرءِ عنه يُعَد انتقاصًا من رجولته. أما ذلك النقيض فيتجلَّى من خلال ندرته الشديدة. إنه نموذج الشاب المختال أو المتأنق؛ ذلك الثري المسرف الذي تُصوِّره العديدُ من الروايات الأمريكية في صورة شرير ضعيف. كان يبدو أن بول تارانت ليس لديه ما يفعله سوى تبديل ثيابه، وهو ما كان يفعله نحو ست مرات يوميًّا؛ فيبدل حلَّته ذات اللون الرمادي الفاتح الأنيق إلى أخرى بدرجة أفتح أو أغمق قليلًا، كما تتبدل درجاتُ اللون الفضي الدقيقة لضوء الشفق. وعكس معظم الأمريكيين، كان يُطلق لحية مجعدة قصيرة مشذبة بعناية كبيرة؛ وعكس معظم الغنادِرة، حتى مَن هم على شاكلته، لم يكن يبدو متفاخرًا بقدر ما يبدو متجهمًا. ربما كان في صمته وكآبته شيءٌ من بايرون في أشعاره.
بطبيعة الحال، صُنِّف المسافران التاليان في الفئة نفسها؛ لا لشيء سوى أن كلًّا منهما كان محاضرًا إنجليزيًّا عائدًا من جولة بأمريكا. كان الأول يُدعى ليونارد سمايث، وهو على ما يبدو شاعرٌ فاشل لكنه صحفيٌّ مرموق؛ له رأس طويل وشعر أشقر، وهو رجل أنيق الهندام ويُجيد العناية بنفسه تمامًا. أما الآخر فكان نقيضًا هزليًّا له؛ فكان قصيرًا وعريضًا، له شاربٌ أسود كثٌّ، وكان قليلَ الكلام بقدر ما كان الأول ثرثارًا، لكن لأنه خلال سفراته الحافلة المتنوعة اتُّهِم بالسرقة، وفي الوقت نفسه أُشيد به لإنقاذه أميرة رومانية من براثن أسد جبلي، وهكذا صار ضلعًا في واقعة مشهورة حظيت باهتمام الصحافة، كان من الطبيعي الظن بأن آراءه عن الرب والتطور وحياته المبكرة ومستقبل العلاقات الإنجليزية الأمريكية ستكون مثيرةً للاهتمام وذات قيمة كبيرة لسكان ولايتَي مينيابوليس وأوماها. أما الشخص السادس وأقلهم قدرًا، فكان قَسًّا إنجليزيًّا يُدعى براون. كان يستمع للحوار بانتباه مشوب بالاحترام، وفي تلك اللحظة كان قد بدأ يتكون لديه انطباعٌ بأن ثمة أمرًا مثيرًا للفضول بشأنه.
كان ليونارد سمايث يقول: «أعتقد أن دراساتِك تلك عن الحضارة البيزنطية أيها البروفيسور من شأنها أن تُلقيَ بعضَ الضوء على قصة المقبرة التي اكتُشِفَت في مكان ما بالساحل الجنوبي؛ أظن أنه قريب من برايتون، أليس كذلك؟ بالطبع برايتون بعيدة جدًّا عن بيزنطة، لكني قرأتُ أن أسلوب الدفن أو التحنيط أو شيء من هذا القبيل يُعتقَد أنه بيزنطي.»
رد البروفيسور بفتور: «لا شك أن الدراسات البيزنطية يجب أن تكون واسعةَ النطاق للغاية. إنهم يتحدثون عن المتخصصين، لكني أعتقد أن التخصص في مجال هو أصعب شيء على وجه الأرض. في تلك الحالة على سبيل المثال، كيف يمكن لأحد أن يعرف أيَّ شيء عن بيزنطة قبل أن يعرف كلَّ شيء عن الحضارة الرومانية التي سبقتْها والحضارة الإسلامية التي جاءت بعدها؟ معظم الفنون العربية هي فنون بيزنطية قديمة. فلنأخذ الجبر على سبيل المثال.»
صاحت السيدة بحسم: «لكني لستُ مهتمة بالجبر. فلم أحبَّه يومًا ولن أحبَّه أبدًا، لكني مهتمةٌ أيما اهتمام بالتحنيط. لقد كنتُ برفقة جاتون، كما تعلم، عندما فتح القبور البابلية. ومنذ ذلك الحين أرى المومياوات والجثث المحنَّطة مثيرة لأقصى حدٍّ. رجاءً حدثْنا عن هذا الموضوع.»
قال البروفيسور: «لقد كان جاتون رجلًا مثيرًا للاهتمام. وكذلك كانت عائلته؛ فلم يكن أخوه ذاك الذي انضم إلى البرلمان مجرد سياسي عادي. لم أفهم الفاشية قط حتى ألقى خطابه ذاك عن إيطاليا.»
قالت السيدة ديانا بإصرار: «حسنًا، إيطاليا ليست وجهتَنا في هذه الرحلة، وأعتقد أنك ذاهب إلى البلدة الصغيرة حيث اكتُشِفَت المقبرة. إنها تقع في ساسكس، أليس كذلك؟»
أجاب البروفيسور: «ساسكس مقاطعة كبيرة نوعًا، مقارنة بتلك المقاطعات الإنجليزية الصغيرة. يمكن للمرء أن يجولَ في أرجائها لتمضية وقت ممتع؛ وهي مكان جيد للتجول. فتلك التلال المنخفضة تبدو مدهشةً عند الوقوف فوقها.»
ساد صمتٌ عارض مفاجئ، قطعته السيدةُ قائلة: «سأصعد إلى السطح.» ثم نهضتْ وتبعها الرجال. أما البروفيسور، فظل في مكانه وكان القَسُّ الضئيل هو آخِر من همَّ بمغادرة الطاولة وهو يطوي منديلَه بعناية. ولمَّا صارَا وحدهما؛ إذ بالبروفيسور يقول فجأةً لرفيقه:
«في رأيك، ماذا كان المغزى من تلك المحادثة المقتضبة؟»
قال الأب براون مبتسمًا: «حسنًا، بما أنك سألتني، لقد كان بها ما أثار اهتمامي بعضَ الشيء. ربما أكون مخطئًا؛ لكن بدَا لي أن أولئك الرفقاء قاموا بثلاث محاولات لحثِّك على الحديث عن جثة محنَّطة يقال إنه عُثِر عليها في ساسكس. وأنت من جانبك عرضتَ بأدبٍ جمٍّ الحديثَ أولًا عن الجبر ثم عن الفاشية ثم عن المعالم الطبيعية في داونز.»
رد البروفيسور: «إيجازًا، رأيتَ أني مستعدٌّ للخوض في الحديث عن أي موضوع عدا ذلك بالتحديد. وقد كنتَ محقًّا تمامًا في ذلك.»
صمت البروفيسور برهة وخفض عينيه متأملًا مفرشَ الطاولة، ثم رفعهما وتحدث بذلك الاندفاع السلس الذي يوحي بقفزة الأسد.
«اسمعني جيدًا أيها الأب براون. أنا أعتبرك الرجل الأكثر حكمة والأكثر نقاء فيمن قابلتهم كافة.»
كان الأب براون إنجليزيًّا حتى النخاع. ومثل جميع أبناء وطنه، وقف عاجزًا بلا حيلة أمام مجاملة جادة وصادقة وُجهت إليه فجأة على الطريقة الأمريكية. فكان ردُّه مجردَ همهمة بلا معنًى؛ وكان البروفيسور هو من اضطلع بمواصلة الحديث بنفس الجدية المتقطعة: «الأمر كلُّه بسيط للغاية إلى حدٍّ ما كما ترى. لقد اكتُشِفت مقبرةٌ مسيحية ترجع إلى العصور المظلمة، يبدو أنها لأسقف، تحت كنيسة صغيرة في دولهام على ساحل ساسكس. تصادَف أن كان راعي تلك الكنيسة عالمَ آثار بارعًا نوعًا ما، وتمكَّن من اكتشاف أمور كثيرة تفوق ما أعرفه حتى الآن. وسرتْ شائعةٌ بأن الجثة محنَّطة بطريقة اختص بها اليونانيون والمصريون القدماء، لكنها لم تكن معروفةً للغرب، خصوصًا في تلك الحقبة الزمنية. وبطبيعة الحال دفع ذلك السيد والترز (راعي الكنيسة) للتساؤل عما إذا كان هناك أيُّ أثر للبيزنطيين في هذا الأمر، لكنه ذكر أيضًا شيئًا آخر، يهمني أكثر بصفة شخصية.»
بدا وجهُه المستطيل الجاد وقد ازداد استطالةً وجدية عندما خفض عينَيه إلى مفرش الطاولة قاطبًا حاجبَيه. وبدا وكأنه يرسم عليه نقوشًا بإصبعه الطويل تُشبه خرائطَ لمدن لم تعُد موجودة بمعابدها ومقابرها.
«لذا سأخبرك، دون أحدٍ سواك، لمَ يجبُ أن آخذَ حذري من ذكْر ذلك الأمر أمام مجموعة مختلطة؛ ولمَ يجبُ أن أزداد حذرًا كلما ازدادوا حماسًا للحديث عنه؟ يقال أيضًا إن بداخل التابوت سلسلةً بها صليب يبدو عاديًّا تمامًا للناظرين، لكن على ظهره يوجد رمزٌ سرِّيٌّ معين لا يوجد إلا على صليب واحد آخر في العالم. وذلك الرمز من أسرار الكنيسة الأولى، ويُعتقَد أنه يشير إلى تأسيس سانت بيتر لكنيسته في أنطاكيا قبل قدومه إلى روما. على كل حال، أعتقد أنه لا يوجد إلا مثيلٌ واحد فقط له، وهو ملكي. سمعت أن ثمة قصة حول لعنة تُحيط به، لكني لا أُلقي لها بالًا. لكن سواء كان هناك لعنة أم لا، فهناك مؤامرة، إن جاز التعبير؛ وإن كانت مؤامرة يَحيكها رجلٌ واحد فقط.»
ردَّد الأب براون تلقائيًّا: «رجل واحد فقط؟»
قال البروفيسور سميل: «رجل واحد مجنون حسب علمي. إنها قصة طويلة وساذجة نوعًا ما.»
توقَّف برهةً مجددًا، وأخذ يرسم بإصبعه على المفرش مخططاتٍ تُشبه الرسوماتِ المعمارية، ثم تابع قائلًا: «ربما كان من الأفضل أن أقصَّها عليك من البداية، لعلك تفهم شيئًا ولو قليلًا من تلك القصة التي تبدو لي غير مفهومة. بدأ الأمر منذ سنواتٍ عديدة، كنت حينها أُجري بعض أعمال التنقيب بمفردي في مناطق الآثار بكريت والجزر اليونانية. وقد أجريت جزءًا كبيرًا منها دون مساعدة؛ أحيانًا كنتُ أحصل على مساعدةٍ مؤقتةٍ من السكان المحليِّين الشديدي الفظاظة، وأحيانًا أخرى أكون بمفردي تمامًا. كنت بمفردي تمامًا عندما عثرتُ على متاهةٍ من الممرات تحت الأرض، تؤدي في النهاية إلى كومةٍ من المهملات الثمينة، تضمُّ تُحَفًا محطمةً وجواهرَ مبعثرةً حسبتها أنقاض مذبح غارق، وهناك وجدت الصليب الذهبي الغريب. قلبتُه، فرأيت على ظهره رمز أختوس أو سمكة يسوع، وهو رمزٌ مسيحيٌّ قديمٌ استخدمه المسيحيون الأوائل، لكنه كان يختلف في شكله ونقشِه عما نراه عادة؛ وكان أكثرَ واقعية كما تراءى لي، وكأنما قصد مصمِّمُه القديمُ أن يجعله أقرب إلى سمكةٍ حقيقيةٍ منه إلى القوسين أو إكليل النور التقليديَّين. كان هناك جزءٌ مفلطح عند أحد طرفَيه لم يبدُ لي مجرد زخرفة هندسية، بل أقرب إلى نوعٍ من الرموز الحيوانية البدائية أو الهمجية.
كي أشرح لك بإيجازٍ شديدٍ لمَ رأيتُ أن ذلك الاكتشاف مهم، يجب أن أخبرك بالغرض من وراء عملية التنقيب. بادئَ بدءٍ، لقد كانت بمنزلة عملية تنقيب داخل عملية تنقيب أخرى. لقد كنا لا نقتفي أثر الآثار القديمة فحسب، بل أيضًا الأثريينَ المهتمينَ بالآثار القديمة. كان لدينا سببٌ، أو هكذا ظنَّ بعضنا، للاعتقاد بأن تلك الممرات تحت الأرض، التي يرجع أغلبُها إلى العصر المينوسي، مثل ذلك الممر الشهير الذي يُعتقد فعليًّا أنه متاهة المينوتور، لمَ تظلُّ حقًّا مفقودة ومتروكة على حالها بلا اكتشاف على مدى تلك العصور كلِّها التي مرت منذ عصر المينوتور حتى مستكشفي العصر الحديث؟ فقد كنا نعتقد أن بعض الأشخاص، بدافع ما، قد اخترقوا بالفعل هذه المواقع تحت الأرض، أو بالأحرى هذه المدن والقرى المبنية تحت الأرض، خلال الفترة التي توسطت العصرَين. ثمة مدارس اختلفت آراؤها بخصوص ذلك الدافع؛ فالبعض يعتقد أن الأباطرة قد أمروا بإجراء عمليات استكشاف رسمية بدافع الفضول العلمي فحسب؛ والبعض الآخر يعتقد أن الولع المحموم الذي ساد في أواخر عصر الإمبراطورية الرومانية بجميع أشكال الخرافات الآسيوية الشنيعة قد أدَّى إلى ظهور طائفة مانوية مجهولة الاسم تُعربد في الكهوف في طقوس ماجنة كان يجب أن تظلَّ متوارية عن ضوء الشمس. أما أنا فأنتمي إلى الفريق الذي يؤمن بأن تلك الكهوف كانت تُستخدم مثلما كانت سراديب الموتى تُستخدم. بعبارة أخرى، أنا ممن يعتقدون أن في خضمِّ الاضطهادات الدينية التي انتشرت في جميع أرجاء الإمبراطورية كالنار في الهشيم، اختبأ المسيحيون في تلك المتاهات الوثنية الحجرية القديمة؛ لهذا انتابتْني إثارةٌ حادة كقصف الرعد عندما وجدت الصليب الذهبي والتقطتُه من فوق الأرض ورأيت النقش المحفور عليه؛ وكانت مفاجأة سارة للغاية عندما التفتُّ مرة أخرى لأسير باتجاه الخارج إلى ضوء الشمس، وبينما كنت رافعًا بصري إلى جدران الصخرة العارية الممتدة بلا نهاية بمحاذاة الممرات المنخفضة، لأرى شكل السمكة محفورًا بنقش أكثر بدائية لكنه أكثر وضوحًا.
ثمة شيء ما بذلك النقش جعله يبدو كأنه سمكة أحفورية أو كائن بدائي تسمَّر إلى الأبد في بحر متجمد ماؤه. لم أجد تحليلًا لذلك التشبيه الذي لا يمتُّ بصلة إلى رسم بسيط محفور على حجر، حتى أدركتُ أن عقلي الباطن كان يُخبرني أن المسيحيين الأوائل كانوا حتمًا يبدون أشبه بالأسماك، بُكْمًا يسكنون عالمًا خربًا متدنِّيًا من الظلام والصمت، يتوارى بعيدًا تحت أقدام البشر، ويتحركون وسط العتمة والظلمة في عالم صامت بلا صوت.
كلُّ من يسير في ممرات حجرية، يعرف معنى أن يكون في أثره قدمٌ خيالية. ذلك الصدى الذي يأتي المرءَ من أمامه أو من خلفه مرفرفًا أو مصفقًا، ما يجعل من المستحيل على من يسير وحده حقًّا أن يُصدِّق أنه وحيد بالفعل. لقد ألِفتُ تأثيرات ذلك الصدى ولم أعُد ألاحظه كثيرًا منذ مدة، حتى لمحتُ الشكل الرمزي المحفور على الحائط الصخري. توقفت، وفي اللحظة ذاتها تراءى لي كأن قلبي قد توقف هو الآخر؛ فقد توقفت قدماي عن السير لكن الصدى كان يتابع مسيره.
انطلقتُ أركض، وخُيِّل لي كأن الخطوات الخيالية قد انطلقت تركض أيضًا، لكن ليس بتلك الوتيرة الدقيقة التي تُميز الرجع المادي الحقيقي لصوت ما. توقفتُ مرة أخرى، فتوقفتِ الخطوات كذلك، لكني أكاد أجزِم بأنها توقفتْ متأخرة لحظات؛ صحتُ بسؤال، فجاءتني الإجابة؛ لكن بصوت ليس صوتي.
جاءني الصوتُ بالقرب من صخرة ماثلة أمامي مباشرة؛ وخلال تلك المطاردة الخارقة للطبيعة، لاحظتُ أنه دائمًا ما يتوقف ويتكلم من زاوية مماثلة من الطريق المتعرِّج. كنت طوال الوقت أرى المساحة الصغيرة التي يُضيئها كشافي الكهربائيُّ الصغير فارغةً تمامًا كغرفةٍ خاوية. في تلك الظروف، خضتُ نقاشًا مع ذلك الذي لا أعرف مَن يكون، استمر حتى تراءى لي أول بصيص لضوء النهار، وحتى حينها، لم أستطع أن أرى كيف اختفى في وضَح النهار، لكن مدخل المتاهة كان مليئًا بفتحات وشقوق وفلقات عديدة، ولم يكن من الصعب عليه أن يمرقَ بطريقة أو بأخرى إلى الداخل ويختفيَ مجددًا في غياهب ذلك العالم السفلي من المغارات. لا أعرف سوى أني خرجتُ إلى الدَّرَج المهجور لجبل عظيم بدا أشبهَ بمصطبة رخامية، لا يُميزه عنها سوى رقعة من العشب الأخضر، بدت على نحوٍ ما أروع من نقاء الحجارة، كالغزو الشرقي الذي انتشر في بقاع متفرقة من الدولة اليونانية القديمة إبَّان سقوطها. وجدتُ نفسي مشرفًا على بحر ذي زرقة صافية لا تشوبها شائبة، وكان ضوء الشمس يسطع بثبات على ذلك الخواء والصمت المطبقَين، ولم يحرِّك ورقةَ عشب واحدة همسُ أقدام هاربة ولا حتى ظلُّ خيال إنسان.
كان حوارًا مريعًا؛ كان حميميًّا للغاية وشخصيًّا للغاية، وغيرَ متكلف بطريقة ما. لم أعرف لذلك الكيان جسدًا ولا وجهًا ولا اسمًا، ولكنه كان يخاطبني باسمي، وكان يتحدث إليَّ داخل تلك السراديب والصدوع التي كنا مدفونَين تحتها أحياء، بصوت لا يحمل قدرًا من انفعال أو ميلودرامية يفوق ما قد يحمله ونحن جالسان في مقعدين مريحين داخل نادٍ ترفيهي، لكنه أخبرني أيضًا أنه سيقتلني دون تردُّدٍ، أنا أو أي شخص آخر، يحوز الصليب الذي يحمل رمز السمكة. وأخبرني صراحة أنه ليس غبيًّا كي يهاجمني هناك في المتاهة؛ لأنه يعلم أن بحوزتي مسدسًا محشوًّا، وأنه إن فعل كان سيُعرِّض نفسه لخطر شأن الخطر الذي كان يتهدَّدُني. لكنه أخبرني بالنبرة الهادئة نفسها أنه سيخطط لقتلي بطريقة تضمن حتميةَ نجاحه، وأنه سيخطط لكل تفصيلة وسيزيح عن طريقه كلَّ خطر محتمل، وسيقوم بذلك بإتقان حِرَفي كالذي يبذله حِرَفيٌّ صيني أو عامل تطريز هندي في أفضل أعماله الفنية، لكنه لم يكن شرقيًّا؛ فأنا واثق أنه كان رجلًا أبيض. بل إني أحسب أنه من أبناء وطني.
منذ ذلك الحين، يصلني من وقت لآخر علاماتٌ ورموز ورسائل غريبة من مجهول أكَّدت لي، على الأقل، أن الرجل إن كان مهووسًا، فهوسُه منصبٌّ على أمر واحد. فدائمًا ما يخبرني في تلك الرسائل، بأسلوبه الوديع اللامبالي، أن تجهيزاتِ موتي ودفني تسير على نحوٍ مُرضٍ؛ وأن الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها أن أحول دون أن تُكلَّل هذه التجهيزات بالنجاح بسهولة هي أن أتخلَّى عن الأثر الذي في حوزتي؛ الصليب الفريد الذي وجدتُه في الكهف. لا يبدو أن تعلُّقَه بالأمر تعلُّقٌ دينيٌّ أو متطرفٌ؛ فلا يبدو أنه يُحرِّكه أيُّ شغف غير شغف جمع التُّحف. وهذا أحد الأسباب التي تجعلني واثقًا من أنه رجل من الغرب لا من الشرق، لكن تلك التحفة بالتحديد يبدو أنها دفعته للجنون التام.
ثم جاءت تلك الأنباء، التي لم تتأكد صحتُها بعد، حول العثور على أثر مشابه على جثة محنطة بمقبرة في ساسكس. لو كان يعتبر مهووسًا قبل ذلك، فقد حوَّله ذلك الخبرُ إلى مجنون ممسوس بسبعة شياطين. أن يكون هناك صليبٌ واحد ويكون بحوزة رجل غيره لهو أمر سيِّئ بما يكفي بالنسبة له، لكن أن يكونَا اثنين لا يملك أيًّا منهما، فذاك ضرب من العذاب لا يطيقه. بدأت رسائله المجنونة تنهال عليَّ كسيلٍ من السهام المسمومة، وكلٌّ منها كانت تؤكد بثقةٍ أكبر من سابقتها أن الموت سيدركني في اللحظة التي أمدُّ فيها يدي غير المستحِقة نحو الصليب الذي في المقبرة.
كتب يقول: «لن تعرف أبدًا من أكون، لن يردَ اسمي على لسانك، ولن ترى وجهي؛ ستموت دون أن تعرف مَن قتلك. قد أكون واحدًا من المحيطين بك متخذًا أيَّ هيئة، لكنها ستكون الهيئة الوحيدة التي ستسهو عن النظر إليها.»
استنتجتُ من تلك التهديدات أنه على الأرجح سيتبعني كظلِّي في تلك الرحلة وسيحاول سرقةَ الأثر أو يُلحق بي أذًى نظرًا لحيازتي له، لكن لأني لم أرَه قط في حياتي، فقد يكون أيَّ رجل أقابله. منطقيًّا، قد يكون أيًّا من النُّدُل القائمين على خدمة طاولتي. وقد يكون أيًّا من الركاب الجالسين معي على الطاولة.»
قال الأب براون بابتهاج مستخفًّا بقواعد اللغة: «وقد يكون أنا.»
أجابه سميل بجدية: «قد يكون أي شخص آخر. هذا مقصدي مما قلته للتو. أنت الرجل الوحيد الذي أثق بأنه ليس غريمي.»
بدا الحرج على الأب براون مرة أخرى؛ ثم قال مبتسمًا: «حسنًا، من الغريب أنني لستُ غريمك. ما يجب أن نفكر فيه هو هل لدينا فرصة لمعرفة إن كان حقًّا هنا قبل … قبل أن يأتيَ بتصرف بغيض.»
رد البروفيسور بشيء من العبوس والتجهم: «أظن أن ثمة فرصةً واحدة كي نكتشف ذلك. عندما نصل إلى ساوثامبتون، سأستقلُّ على الفور سيارة ستسير بمحاذاة الساحل؛ سيسرني إن رافقتني، لكن بطبيعة الحال، سيتفرق شملُ جمعنا الصغير ذاك. فإن ظهر أيٌّ منهم مرة أخرى في ساحة تلك الكنيسة الصغيرة على ساحل ساسكس، فسنعلم من يكون حقًّا.»
نُفِّذ برنامج البروفيسور بحذافيره، على الأقل فيما يخص السيارة التي استقلَّها معه الأب براون. سارت السيارة بسلاسة في الطريق الذي يحدُّه البحر من جانب ومن الجانب الآخر تلال هامبشير وساسكس، ولم يُرَ أيُّ أثر يشير إلى أن هناك من يلاحقهم. عندما اقتربَا من قرية دولهام، لم يصادفَا أيَّ شخص له صلة بالأمر الذي جاءَا من أجله سوى رجل واحد؛ صحفيًّا كان قد انتهى للتو من زيارته للكنيسة الصغيرة التي نُقبَ عنها حديثًا، صحِبه خلالها راعي الكنيسة بكل وُدٍّ ولياقة، لكن تعليقاته وملاحظاته بدَتْ من النوع الصحفي العادي، لكن البروفيسور سميل ربما كان متوهمًا بعضَ الشيء؛ إذ لم يستطع أن يصرف عنه ذلك الشعور الذي راوده بأن ثمة أمرًا غريبًا ومنفِّرًا في أسلوب ذلك الرجل، الذي كان طويلًا وغير مهندم، وذا أنف معقوف وعينَين غائرتَين، وشاربَين متهدلَين لأسفل في كآبة. لم يبدُ أن تجربته الأخيرة كسائح قد أسعدته كثيرًا؛ بل بدا أنه يسير مبتعدًا عن الأنظار بأسرع ما يمكنه عندما استوقفاه ليطرحَا عليه سؤالًا.
قال: «الأمر كلُّه يتعلق بلعنة؛ لعنة حلَّت على المكان، حسبما يقول دليلُ السياح، أو القَسُّ، أو أقدم السكان، أو أيًّا كان مرجع تلك القصة؛ وفي الواقع، يبدو لي الأمر كذلك. وسواء كان هناك لعنة أم لا، أنا سعيد أني خرجت من ذلك المكان.»
سأله سميل بفضول: «هل تؤمن باللعنات؟»
أجاب المخلوق البائس: «أنا لا أومن بأي شيء؛ فأنا صحفي — اسمي بون وأعمل بصحيفة «ديلي واير». لكنَّ ثمة أمرًا مخيفًا بشأن ذلك السرداب؛ ولن أُنكر أنه جعل بدني يقشعر.» ثم تابع طريقه إلى محطة القطار بخطًا أكثر تسارعًا.
علَّق سميل وهما يلتفتان ناحية ساحة الكنيسة: «ذلك الرجل يبدو لي كالغراب النواح. ماذا كان ذلك المثل الذي يقال عن الطائر نذير الشؤم؟»
دخلَا ببطء إلى ساحة الكنيسة وقد تعلَّقت عينَا عالم الآثار الأمريكي بإعجاب بالسقف المعزول الفريد للبوابة المسقوفة للساحة، وشجرة الطقسوس الضخمة المثمرة التي بدت كالليل الحالك في وضح النهار. كان المسار يصعد لأعلى وسط مرج متدرج استقرت فيه شواهدُ القبور مائلة بزوايا مختلفة كأنها قواربُ حجرية مبعثرة على صفحة بحر أخضر، حتى وصل بهم إلى حافة التل الذي امتدَّ وراءَه البحرُ الواسع كقضيب حديدي، تُزيِّنُه أضواء باهتة لونها كالفولاذ. بدأ العشب الكثيف الخشن تحت أقدامهما يتحول إلى كومة من نبات القرصعنة البحرية وانتهى برمال ذات لون أصفر مختلط بالرمادي؛ وعلى بُعد قدم أو اثنتين من القرصعنة، وقف جسدٌ بلا حَراك، وقد بدت هيئتُه معتمة قُبالةَ البحر ذي اللون الفولاذي. لولا ملابسُه الرمادية الداكنة، لربما بدا كتمثال يقف على نُصب تذكاري كئيب، لكنَّ شيئًا ما بكتفيه الأنيقتَين المنحنيتَين ولحيته القصيرة البارزة للأمام في عبوس بدا مألوفًا للأب براون في الحال.
قال عالم الآثار باندهاش: «يا للعجب! إنه ذلك الرجل الذي يُدعى تارانت، إن صح أن نسمِّيَه رجلًا. هل كنتَ تظنُّ عندما تحدثت إليك على متن السفينة أنني سأحصل على إجابة لسؤالي بتلك السرعة؟»
أجابه الأب براون: «بل ظننتُ أنك ربما تحصل على إجابات عدَّة.»
تساءل البروفيسور وهو يرمقه بنظرة من فوق كتفه: «ماذا تعني؟»
أجاب الآخر بهدوء: «أعني أنني ربما سمعتُ أصواتًا قادمة من خلف شجرة الطقسوس. ولا أظن أن السيد تارانت وحيدٌ كما يبدو؛ بل قد أزعم أنه وحيد تمامًا كما يحب أن يبدو.»
بينما كان تارانت يلتفت ببطء بطريقته الكئيبة، جاءهم التأكيد؛ فقد قال صوتٌ آخر عالٍ به شيء من الغلظة، لكنه مع ذلك أنثوي، بسخرية محنكة: «وكيف كان لي أن أعرف أنه سيكون هنا؟» شعر البروفيسور سميل أن تلك الملاحظة المرِحة لم تكن موجَّهةً إليه؛ لذا كان عليه أن يستنتج بشيء من الارتباك والحيرة أن ثمة شخصًا ثالثًا موجودًا. عندما خرجت السيدة ديانا ويلز من خلف ظلال شجرة الطقسوس في تألُّق وعزم كعهدها دائمًا، لاحظَ في تجهُّمٍ أن ثمة ظلًّا حيًّا يرافقها. وفي الحال ظهر من وراء قوامها المتوهج، السيد ليونارد سمايث الكاتب المتملق، بجسده النحيل المتأنق، مبتسمًا وقد أمال رأسه قليلًا إلى أحد الجانبين كما يفعل الكلب.
تمتم سميل: «خبثاء! إنهم جميعًا هنا! جميعهم عدا ذلك الرجل الهزلي الضئيل ذي الشاربين اللذَين يُشبهان شوارب حصان البحر.»
سمع الأب براون يضحك بصوت منخفض بجواره؛ وقد بدأ الوضع حقًّا يتحول إلى شيء يتجاوز حدودَ الهزل المضحك. لقد بدا المشهد وقد انقلب رأسًا على عقب وراح يقع على آذانهم كوقع خدعة سحرية صامتة؛ فحتى بينما كان البروفيسور يتحدث، كانت كلماته تُلاقَى بنقيض شديد الهزلية. فجأةً، خرج الرأس المستدير ذو الشارب الأسود الهلالي المضحك من حفرة في الأرض على ما يبدو. وأدركَا بعد لحظات أن هذه الحفرة ما هي إلا حفرة كبيرة للغاية، تؤدي إلى سلَّم ينحدر إلى باطن الأرض؛ وأن تلك الحفرة في الواقع هي مدخل الموقع الذي أتيَا لزيارته تحت الأرض. كان الرجل الضئيل هو أول من وجد المدخل، ولم يكد يهبط درجة أو اثنتين من السلَّم حتى أخرج رأسه مرة أخرى لمخاطبة رفقاء سفره. كان يبدو كحفار قبور شديد الحُمق في محاكاة ساخرة لمسرحية «هاملت». كان كل ما قاله من وراء شاربه الكثِّ وبصوت أجشَّ: «إنها هنا بالأسفل.» أدرك باقي أفراد الجمع فجأةً أنهم بالكاد سمعوه يتحدث من قبل، مع أنهم شاركوه الطاولة نفسها أثناء الوجبات لمدة أسبوع، وأنه كان يتحدث بلكنة أجنبية مستترة نوعًا ما مع أنه يُفترض أنه محاضر إنجليزي.
صاحت السيدة ديانا بابتهاج شديد: «كما ترى أيها البروفيسور العزيز، لقد أثارت مومياؤك البيزنطية حماسَنا للغاية فلم نشأْ تفويت رؤيتها. لقد اضطُررتُ ببساطة أن آتيَ لأراها؛ وأنا واثقةٌ أن السادة الأفاضل شعروا بالشيء نفسه. والآن يجب أن تُخبرَنا بكل شيء عنها.»
قال البروفيسور بنبرةٍ جادةٍ بل، قُل بعبوس: «لا أعرف كلَّ شيء عنها. بل إنني بشكل ما لا أعرف حتى ماهية الموضوع كله. بالطبع يبدو من الغريب أن نلتقيَ جميعًا مجددًا بتلك السرعة، لكني أعتقد أن التعطُّش للمعلومات في عصرنا الحالي لا حدود له، لكن إنْ كنا جميعًا سنزور الموقع، يجب أن نفعل ذلك بأسلوب مسئول، واسمحوا لي أن أقول، تحت قيادة مسئولة. يجب أن نُخطِر الشخص المسئول عن عمليات التنقيب تلك؛ وربما يكون علينا أن ندوِّن أسماءنا في سجلٍّ على الأقل.»
تبِع ذلك التصادمَ بين استعجال السيدة وشكوك عالم الآثار شيءٌ أقرب إلى الجدال؛ لكن في النهاية انتصر إصرارُ الأخير على حفظ الحقوق الرسمية لراعي الكنيسة وجهات التنقيب المحلية؛ وخرج الرجل الضئيل الحجم ذو الشارب على مضض من قبره مجددًا، وصعِد السلم مذعنًا في صمتٍ وقد خبا حماسه. لحسن الحظ، ظهر القَسُّ بنفسه في تلك اللحظة؛ كان رجلًا أشيب الشعر حسن الطلعة، له ظهرٌ منحنٍ، عزَّز من تأثيره نظارتُه ذات العدسات الثنائية؛ وبينما كان يتعرف بطريقة ودية سريعة على البروفيسور باعتباره أثريًّا زميلًا، لم يبدُ أن نظرته إلى المجموعة غير المؤتلفة التي ترافقه تحمل عداءً بقدر ما حملت تندُّرًا.
قال القَسُّ بأسلوب ودود: «أتمنى ألَّا يكون فيكم مَن يتَطَيَّر. عليَّ أن أُخبرَكم بادئَ بدءٍ أن جميعَ نُذُر الشؤم واللعنات تحلِّق فوق رءوسنا نحن المهتمين بهذا الشأن كما يُعتقَد. كنت للتوِّ أفكُّ شفرة نقش لاتيني وُجد على مدخل الكنيسة، ويبدو لي أن ثمة ما لا يقلُّ عن ثلاث لعنات مرتبطة بذلك الأمر؛ لعنة تُصيب من يدخل إلى الحجرة المغلقة، ولعنة مزدوجة تُصيب من يفتح التابوت، ولعنة ثلاثية، وهي أبشعُها جميعًا، تُصيب من يمسُّ الأثر الذهبي بداخله.» ثم أضاف مبتسمًا: «وقد جلبتُ على نفسي اللعنتَين الأوليَين، لكني أخشى أنكم إن أردتم رؤيةَ أيِّ شيء، فستضطرون إلى الوقوع في اللعنة الأولى وهي أقلُّها ضررًا. وفقًا للقصة، تحلُّ تلك اللعنات، على نحوٍ بطيءٍ نوعًا ما، على فترات متباعدة وفي أوقات لاحقة. لا أعلم ما إذا كان ذلك مطمئنًا بأي حال بالنسبة لكم.» ثم ابتسم السيد والترز الموقَّر مجدَّدًا بأسلوبه الواهن السمح.
كرَّر البروفيسور سميل: «قصة! أي قصة تلك؟»
أجابه راعي الكنيسة: «هي قصة طويلة للغاية تنوعت رواياتُها، كباقي الأساطير المحلية، لكنها بلا شك مزامنة لعصر تلك المقبرة؛ وفحواها مُضمن في ذلك النقش وسأرويه لكم بصورةٍ تقريبيةٍ: أُعجب جاي دي جيسور، أحدُ لوردات الضيعة الإقطاعية هنا في القرن الثالث عشر، بحصان أسود جميل يمتلكه مبعوثٌ من جنوة، وأبى ذلك الأمير الذي كان تاجرًا عمليًّا أن يبيعه إلا بثمن باهظ. دفع الجشع جاي لنهب الضريح، وحسب إحدى الروايات، قتل الأسقف، الذي كان يقيم هناك حينها. على كل حال، تلا الأسقف لعنة تحلُّ بأي شخص يستمر في إبعاد الصليب الذهبي عن مستقرِّه بمقبرته، أو يتخذ أيَّ خطوات لتحريكه بعد إعادته لها. جمع اللورد الإقطاعي المال اللازم لشراء الحصان ببيع الأثر الذهبي إلى صائغ ذهب بالبلدة، لكن في أول يوم يمتطي فيه الحصان، شبَّ الحصان وطرحه أمام شرفة الكنيسة، فانكسر عنقُه. في تلك الأثناء، وقعت عدةُ حوادث لا تفسير لها أدَّت لإفلاس الصائغ الذي كان رجلًا ثريًّا مترفًا قبل ذلك، فوقع في براثن مُرابٍ يهودي يعيش في الإقطاعية. في النهاية، قام الصائغُ البائس الذي لم يتبقَّ له شيءٌ سوى الجوع، بشنق نفسه على شجرة تفاح. كان الصليب الذهبي بالإضافة إلى جميع بضائعه الأخرى، ومنزله، ومتجره، ومعداته، آلت جميعًا منذ وقت طويل إلى المرابي. في تلك الأثناء، دفعت صدمة ابن اللورد الإقطاعي ووريثه من القصاص الإلهي الذي حلَّ بوالده المهرطق، لأن يصير مؤمنًا متدينًا بالمعنى المظلم المتشدِّد الذي ساد في ذلك العصر، وأخذ على عاتقه القضاءَ على كل أشكال الهرطقة والكفر بين التابعين لمقاطعته. وهكذا وبأمر من الابن حُرِق اليهودي، الذي كان الأب يَقبلُ بوجوده على مضض، ليُعاقَب بدوره على حيازته للصليب الأثري. بعد تلك العقوبات الثلاث، أُعيد الصليب إلى مقبرة الأسقف، ومنذ ذلك الحين، لم تره عينٌ أو تلمسه يد.»
كان الانبهار الذي بدا على السيدة ديانا ويلز يفوق المتوقع. قالت: «من المخيف حقًّا أن نفكر أننا سنكون أولَ من يدخل، باستثناء راعي الكنيسة.»
لم يدخل المبادر ذو الشارب الكث واللكنة الإنجليزية الركيكة عن طريق سُلَّمِه المفضل، والذي لم يكن يستخدمه فعليًّا سوى بعض العمال القائمين على أعمال التنقيب؛ فقد قادهم القَسُّ إلى مدخل أكبر وأكثر سهولة وملاءمة يبعد حوالي مائة ياردة، والذي كان قد خرج عبره إبَّان بحثِه تحت الأرض. كان النزول هنا عن طريق انحدار تدريجي بعضَ الشيء لم يكتنفْه أيُّ صعوبات عدا العتمة المتزايدة؛ إذ سرعان ما وجدوا أنفسهم يسيرون في طابور واحد عبر نفق حالك الظلام، ولم يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يرَوا بصيص ضوء أمامهم. خلال تلك المسيرة الصامتة، سُمع مرة صوتٌ أشبه بلهاث تعذَّر تحديدُ صاحبِه؛ ومرة سُمِع قَسَمٌ كان وقْعُه كانفجار مكتوم، نُطِق بلغة مجهولة.
خرجوا من النفق إلى حجرة دائرية كالكاتدرائية، تقع داخل حلقة من الأقواس الدائرية؛ فقد شُيِّدت تلك الكنيسة قبل أن يخترق أول قوس مدبَّب، والذي يميز العمارة القوطية، حضارتنا كالرمح. حدَّد بصيصٌ من ضوء مائل للخضرة بين بعض الأعمدة موضعَ الفُتحة الأخرى التي تؤدي إلى العالم العلوي، وأضفى شعورًا غامضًا بأنهم في أعماق البحر، وهو الشعور الذي تعزَّز ببضعة تشابهات أخرى عرضية أو ربما كانت تخيلية. فقد أمكن بصعوبة رؤيةُ نقش أسنان الكلب الذي يميز العمارة النورمانية يحيط بجميع الأقواس مما جعلها، بوجودها فوق عتمتها المجوفة، تُشبه فكوكَ أسماك القرش المتوحشة. وبدا جوفُ المقبرة المعتمة نفسها في المنتصف، بغطائها الحجري المرفوع عنها، أشبه بفكَّي وحش بحري عظيم.
كان القَسُّ الهاوي للآثار قد رتب لإضاءة الكنيسة بواسطة أربعِ شمعاتٍ طوالٍ استقرت في شمعدانات خشبية مثبتة في الأرض فقط، ربما لشعوره بأنها ملائمة أو ربما لعدم امتلاكه وسائلَ إنارة أحدث. لم يكن يضيء منها سوى شمعة واحدة فقط عندما دخلوا، وكانت تُلقي ببصيص ضوء خافت على الأشكال المعمارية المهيبة. عندما تجمعوا كلهم، بدأ القَسُّ في إشعال الشمعات الثلاث الأخرى، فاستبان لهم أكثرُ شكل التابوت الحجري العظيم ومحتوياته.
اتجهت جميعُ الأنظار أولًا صوب وجه الرجل الميت، الذي ظل جثمانه محفوظًا على مرِّ كل تلك العصور التي خُطَّت في دفتر الحياة بواسطة عملية شرقية سرية، يقال إنها متوارثة من العهد الوثني القديم وغير معروفة في مقابر جزيرتنا. بالكاد استطاع البروفيسور أن يكتم صيحة اندهاش؛ فقد كان الوجه شاحبًا كقناع من الشمع، إلا أنه بدا كوجه رجل نائم، أغمض عينَيه للتو. كان للوجه سماتُ الزهد، أو ربما حتى التشدد؛ إذ كانت عظامه بارزة، بينما كان الجسد مكسوًّا برداء كاهن ذهبي وثياب كهنوتية فخمة، وفي أعلى صدره عند قاعدة عنقه تألق الصليب الذهبي الذي كان متدلِّيًا من سلسلة ذهبية قصيرة أو بالأحرى عِقد. كان التابوت الحجري قد فُتح برفع غطائه لأعلى وإسناده إلى قائمَين أو عمودَين خشبيَّين متينَين، مثبَّتَين لأعلى تحت حافة اللوح العلوي وحُشِر طرفاهما السفليان في زاويتَي التابوت خلف رأس الجثة؛ لذا لم يُرَ الكثير من قدمَي الرجل أو الجزء السفلي منه، لكن ضوء الشموع كان مُسلطًا بالكامل على وجهه، وعلى نقيض بشرته الشاحبة، بدا الصليب الذهبي يلمع ويتوهج كشعلة لهب.
حمل جبينُ البروفيسور سميل العريض تقطيبةً تنمُّ عن تأملٍ شديدة، أو ربما قلق، منذ روى القَسُّ قصةَ اللعنة. لكنَّ الغريزة الأنثوية متأثرة بالانفعال الأنثوي، فسَّرت معنى وجومه ذاك أفضل من جميع الرجال حوله. ووسط سكون ذلك الكهف الذي ينيره ضوءُ الشموع، صاحت السيدة ديانا فجأة: «حذار، لا تلمسْه!»
لكن الرجل كان قد أتى بالفعل بإحدى حركاته السريعة التي تُشبه حركات الأسد، مائلًا بجسده فوق الجثة. وفي الحال هرعوا جميعًا، بعضهم للأمام وبعضهم للخلف، لكنهم جميعًا خفضوا رءوسهم مرتاعين وكأنما ستسقط عليهم السماءُ.
بمجرد أن لمس البروفيسور الصليب الذهبي بإصبعه، انتفضت الدعامتان الخشبيتان اللتان انحنيتا انحناءةً بسيطة للغاية لدعْم الغطاء الحجري المرفوع، واستقامتا فجأةً. وانزلق طرفُ اللوح الحجري من مسنده الخشبي؛ وشعروا جميعًا في أرواحهم وأجسادهم بالهلاك ينقضُّ عليهم وكأنهم سقطوا جميعًا من فوق حافة جرف. كان سميل قد سحب رأسه سريعًا لكن ليس في الوقت المناسب؛ ليرقد فاقدَ الوعي بجوار التابوت وسط بركة من الدماء سالت من فروة رأسه أو جمجمته. وأُغلِق التابوت الحجري القديم مرة أخرى كما لو كان لقرون عديدة، لا يفصل بينه وبين غطائه سوى بضع شظيات أو أعواد خشبية انحشرت في الفجوة بينهما، تُوحي بشاعتُها وكأنها بقايا عظام سحقها غول، وأطبق الوحش البحري فكَّيه الحجريَّين.
كانت السيدة ديانا تُحدق في الحطام بعينَين اشتعلتا ببريق كمن صعقه الجنونُ؛ وبدا شعرُها الأحمر قرمزيًّا إزاء شحوب وجهها في الضوء الخافت المخضر. كان سمايث ينظر إليها برأسه المائل الذي يشبه الكلب، لكن التعبير الذي ارتسم على وجهه كان ككلب ينظر إلى سيده الذي لحقت به كارثةٌ لا يستطيع فهْمَ جميع جوانبها. تصلَّب تارانت والرجل الأجنبي في وضعهما المتجهم المعتاد، لكنَّ وجهَيهما تحوَّلا إلى لون المِلاط. وبدا أن راعي الكنيسة قد أُغشيَ عليه. وكان الأب بروان جاثيًا بجوار الرجل الطريح الأرض، محاولًا تبيُّنَ حالته.
واندهش الحاضرون بعضَ الشيء عندما تقدَّم المتبطل الكئيب بول تارانت كي يساعدَه.
قال: «من الأفضل أن نحملَه إلى الخارج في الهواء الطلق. أعتقد أنه قد يكون أمامه فرصةٌ ضئيلة للنجاة.»
قال الأب براون بصوت خافت: «إنه لا يزال على قيد الحياة، لكني أعتقد أن إصابته خطيرة؛ أنت لستَ طبيبًا بأي حال، أليس كذلك؟»
قال الآخر: «بلى؛ ولكن الظروف أرغمتني على تعلُّم الكثير من المهارات خلال حياتي. لكن دعْك مني الآن. فمهنتي الحقيقية ربما ستكون مفاجأةً بالنسبة لك.»
ردَّ الأب براون بابتسامة بسيطة: «لا أعتقد ذلك. لقد خمَّنتُها في منتصف الرحلة. أنت محقق تراقب شخصًا ما. حسنًا، على أي حال، لقد صار الصليب في مأمن من اللصوص الآن.»
أثناء حديثهما، رفع تارانت جسدَ الرجل الصريع الهزيل بقوة ومهارة وبلا أدنى صعوبة، وكان يحمله بعناية باتجاه المخرج. وأجاب وهو ينظر من فوق كتفه:
«أجل، الصليب آمنٌ تمامًا.»
ردَّ براون: «تقصد أن لا أحدَ عداه آمن؟ هل تفكر أنت أيضًا في اللعنة؟»
أمضى الأب براون الساعاتِ القليلة التالية مثقلًا بارتباك واجم يفوق صدمةَ الحادث المأساوي. كان قد ساعد في حمْل الضحية إلى النُّزُل الصغير المقابل للكنيسة، وقابل الطبيب، الذي ذكر أن الإصابة خطيرة، ولكنها ليست مميتة حتمًا، وحمل تلك الأنباء إلى جمع المسافرين الذين تجمَّعوا حول طاولة مستديرة في رَدْهة الاستقبال بالنُّزُل، لكن أينما كان يذهب، كانت تُصاحبه سحابةُ الغموض التي كانت تحوم حوله وبدتْ تزداد قتامةً كلما أمعن التفكير؛ فقد كان اللغز الرئيس يزداد غموضًا أكثر وأكثر، بقدر ما كانت العديد من الألغاز الجانبية قد بدأت تتضح في ذهنه. وبقدر ما بدأ يتضح له سببُ وجود كل شخصية في ذلك اللفيف المتنافر من المسافرين، كان تفسير ما حدث يزداد صعوبةً أكثر وأكثر. لقد جاء ليونارد سمايث لمجرد أن السيدة ديانا أتت لا أكثر؛ والسيدة ديانا أتت لا لشيء سوى أنها رغبت بذلك. كانا منغمسَين في واحدة من تلك النزوات العابرة التي ينغمس فيها الصفوة، والتي يزيدها توشُّحُها برداء الثقافة سخافةً، لكن النزعة الرومانسية الحالمة لدى السيدة كان يشوبها إيمانٌ بالخرافات؛ وكانت النهاية المريعة التي آلت إليها مغامرتُها قد أنهكتها للغاية. أما بول تارانت، فكان محقِّقًا خاصًّا، ربما يراقب تلك النزوة العابرة بتكليف من زوج أو زوجة؛ أو ربما يتبع المحاضر الأجنبي ذا الشارب، الذي كانت سيماؤه توحي إلى حدٍّ كبير بانطباع الغريب غير المرغوب بوجوده، لكن إن كان ينوي هو أو غيره سرقةَ الصليب الأثري، فقد أُحبطت تلك النية في النهاية. وكما بدا لهم جميعًا، كان ما أحبطها إما صدفة غريبة وإما تدخُّل اللعنة القديمة.
بينما كان يقف في حيرته غير المعهودة وسط الشارع القروي الكائن بين الكنيسة والنُّزُل، شعر بشيء من الدهشة عند رؤية شخص قابله مؤخرًا لكنه لم يتوقع رؤيتَه يسير في الشارع متقدمًا صوبَه. كان السيد بون الصحفي يبدو مرهقًا للغاية في ضوء الشمس الذي أبرز ثيابَه الرثَّة التي تُشبه ثياب الفزَّاعة، وكانت عيناه الداكنتان الغائرتان (المتقاربتان نوعًا ما على جانبَي أنفه الطويل المعقوف) مثبَّتتَين على القَسِّ. راح الأخير يُنعِم النظرَ قبل أن يُدرك أن الشارب الكثَّ الداكن يُخفي وراءه ابتسامةً عريضة أو على الأقل ابتسامة جادة.
قال الأب براون بشيء من الحدة: «ظننتُك سترحل. كنت أعتقد أنك غادرتَ بالقطار منذ ساعتين.»
قال بون: «حسنًا، كما ترى، أنا لم أغادر.»
سأله القَسُّ بصرامة واضحة: «لمَ عدتَ؟»
أجابه الآخر: «مثل هذا النوع من القرى الصغيرة الخلَّابة لا يغادره الصحفي على عجَل. الأمور تتصاعد بوتيرة سريعة للغاية هنا، مما يجعل العودة إلى مدينةٍ كئيبةٍ مثل لندن أمرًا لا يستحق العناء. علاوة على ذلك، لا يمكنهم إبعادي عن الأمر — أعني ذلك الأمر الثاني. أنا من عثرتُ على الجثة، أو بأي حال، على الملابس. كان ذلك سلوكًا مثيرًا للريبة للغاية من جانبي، أليس كذلك؟ لعلك تعتقد أني أردتُ أن أتنكَّر في ثيابه. ألن يبدوَ مظهري لطيفًا كقَسٍّ؟»
ثم قام المحتالُ النحيل ذو الأنف الطويل فجأةً بحركة استعراضية وسط السوق، مادًّا ذراعَيه وباسطًا يدَيه المكسوَّتَين بقفازَين داكنين في محاكاة ساخرة للتبريك، وقال: «إخواني وأخواتي الأعزاء، بإمكاني أن أحتضنَكم جميعًا …»
صاح الأب براون وهو يضرب الحصى قليلًا بمظلته الغليظة؛ فقد كان صبرُه أقلَّ بعض الشيء من المعتاد: «عمَّ تتحدث؟»
أجاب بون بازدراء: «إن سألتَ جماعةَ المسافرين اللطيفة في النُّزُل فسيخبرونك بكل شيء. يبدو أن ذلك المدعو تارانت يشتبه بي لا لسبب سوى أني مَن وجدتُ الثياب أولًا؛ مع أنه كان سيجدها لو كان قد أبكر إليها بضع لحظات، لكن ثمة العديد من الألغاز تحيط بذلك الأمر. ذلك الرجل القصير ذو الشارب الكبير ربما يُبطن أكثر مما يُظهر. بالمناسبة، لا أرى ما يمنع أن تكون أنت من قتَل ذلك الرجل المسكين.»
لم يبدُ أن ذلك الاقتراح قد أثار انزعاجَ الأب براون بأي حال، لكن يبدو أن الملاحظة قد حيَّرته وضايقته إلى حدٍّ بالغ. قال ببساطة أقرب إلى السذاجة: «هل تعني أني أنا من حاولتُ قتل البروفيسور سميل؟»
قال الآخر مشيحًا بيده كمن يقدِّم تنازلًا كبيرًا: «على الإطلاق، هناك ما يكفي من الموتى لتختار بينهم. الأمر لا يقتصر على البروفيسور سميل. عجبًا، ألا تعلم أن رجلًا آخر وُجِد ميتًا، ميتًا أكثر من البروفيسور سميل؟ ولا أرى ما يمنع أن تكون أنت مَن قتله، بطريقه هادئة. بسبب الخلافات الدينية كما تعلم … أو التحسُّر على شتات العالم المسيحي … أحسب أنك طالما أردت استعادة الأبراشيات الإنجليزية القديمة.»
قال القَسُّ بهدوء: «سأعود إلى النُّزُل؛ أنت تقول إن الناس هناك يعرفون ما تقصده، وربما يستطيعون إخباري به.»
في الحقيقة، واجهت قلاقله ومشاغله الخفية تلاشيًا لحظيًّا عقب سماعه أنباءَ تلك الفاجعة الجديدة. وفي اللحظة التي دخل فيها إلى الردهة الصغيرة حيث تجمعتْ باقي المجموعة، استشفَّ من وجوههم الشاحبة أنهم مصدومون من شيء أحدث من الحادث الأخير الذي وقع بالمقبرة. وفي لحظة دخوله، كان ليونارد سمايث يقول: «إلى ماذا سينتهي كلُّ ذلك؟»
كررت السيدة ديانا وهي تحملق في الفراغ بعينين ذاهلتين: «لن ينتهيَ، أؤكد لك، لن ينتهيَ حتى نهلكَ جميعًا. ستُجهز علينا اللعنة واحدًا تلو الآخر، ربما ببطء كما قال راعي الكنيسة المسكين، لكنها ستُجهز علينا كما أجهزت عليه.»
سأل الأب براون: «ماذا حدث أيضًا؟»
ساد الصمت، ثم قال تارانت بصوت بدَا واهنًا بعض الشيء: «لقد انتحر السيد والترز راعي الكنيسة. أعتقد أن الصدمة أخلت بسلامته العقلية، لكني أخشى أن الأمر أكيد لا شك فيه. فلم نعثر سوى على قبعته السوداء وثيابه على صخرة بارزة من الشاطئ. لقد قفز في البحر على ما يبدو. أظن أنه كان يبدو كأن الصدمة قد أصابته بلوثة عقلية، وربما كان علينا أن نعتنيَ به؛ لكن كان علينا الاعتناء بالعديد من الأمور هناك.»
قالت السيدة: «لم يكن بإمكانك أن تفعل أيَّ شيء. ألا ترى أن اللعنة تُنزِل بنا الهلاك بترتيب مريع؟ البروفيسور لمس الصليب، وقد جاء دوره أولًا؛ وراعي الكنيسة فتح المقبرة، وجاء دوره ثانيًا؛ ونحن دخلنا الكنيسة فحسب، و…»
قال الأب براون بنبرة حادة نادرًا ما يستعملها: «على رِسلك، يجب أن يتوقف هذا.»
كان لا يزال قاطبًا جبينه بحدَّة دون أن يشعر، لكن غشاوة الغموض التي كانت في عينيه لم يعُد لها وجود، وحلَّ مكانَها بريقُ الفهم المريع. تمتم قائلًا: «يا لي من أحمق! كان عليَّ أن أرى ذلك منذ مدة طويلة. كان يجب أن أستشفَّه من قصة اللعنة.»
سأل تارانت: «هل تعني أن شيئًا حدث في القرن الثالث عشر يمكن أن يتسبب في قتلنا حقًّا؟»
هزَّ الأب براون رأسه نفيًا وأجاب بنبرة تأكيدية هادئة: «لن أجادل بشأن ما إذا كان من الممكن أن نُقتل بفعل شيء حدث في القرن الثالث عشر؛ لكني متأكدٌ تمامًا من أننا لا يمكن أن نُقتل بسبب شيء لم يحدث قط في القرن الثالث عشر؛ بل لم يحدث على الإطلاق.»
قال تارانت: «حسنًا، يسرُّني أن أرى قَسًّا يُشكك لتلك الدرجة في الغيبيَّات.»
ردَّ القَسُّ بهدوء: «على الإطلاق، أنا لا أشكك في جانب الغيبيَّات. بل في جانب الطبيعيات. فأنا أجد نفسي تمامًا في موضع الرجل الذي قال: «بإمكاني أن أصدق ما هو مستحيل، لكن لا يمكنني أن أصدق ما هو غير محتمل».»
سأله الآخر: «هذا ما تسميه تناقضًا، أليس كذلك؟»
أجاب الأب براون: «هذا ما أسميه المنطق البدهيَّ، حسب مفهومه الصحيح. أن نصدق قصة خارقة للطبيعة تتناول أمورًا لا نفهمها لهو أكثر بداهة من أن نصدق قصة عادية تتعارض مع الأمور التي نفهمها. إن أخبرتني أن شبح بارنيل كان يطارد السيد جلادستون العظيم في ساعاته الأخيرة، فسأقف موقفَ الحياد من ذلك، لكن إن أخبرتني أن السيد جلادستون عندما مثل أمام الملكة فيكتوريا لأول مرة لم يخلع قبعته عندما دخل غرفة استقبالها وصفعها على ظهرها وقدَّم لها سيجارًا، فلن أقف موقف الحياد من ذلك إطلاقًا. فذلك ليس مستحيلًا؛ لكنه مستبعدُ الحدوث، لكنَّ ثقتي في أنه لم يحدث أكبرُ من ثقتي بأن شبح بارنيل لم يظهر؛ لأن ذلك يتعارض مع قوانين العالم الذي أعرفه. وكذلك الحال بالنسبة لقصة اللعنة. أنا لا أُكذِّب الأسطورة — بل التاريخ.»
كانت السيدة ديانا قد تعافت قليلًا من غشية نبوءاتها الكارثية، وبدأ فضولها الأزلي تجاه كل ما هو جديد يطلُّ من عينَيها اللامعتَين الواسعتين مرة أخرى.
قالت: «يا لك من رجل مثير للفضول! ما الذي يدفعك إلى تكذيب التاريخ؟»
أجاب الأب براون: «أنا أكذِّب التاريخ لأنه ليس تاريخًا. في نظر أي شخص يتصادف أن يكون لديه معرفة ولو محدودة بالعصور الوسطى، ستبدو أرجحية القصة بأكملها كأرجحية تقديم جلادستون سيجارًا للملكة فيكتوريا، لكن هل يعرف أيٌّ منا أيَّ شيء عن العصور الوسطى؟ أتعرفين ماذا كانت الطائفة الحرفية؟ هل سمعت عن الشعار «سالفو ماناجيو سو»؟ هل تعرفين مَن هم خدم البلاط الملكي المدعوون «سيرفي ريجيس»؟»
قالت السيدة بشيء من الغضب: «لا، بالطبع لا أعرف. ما كل هذه الكلمات اللاتينية!»
قال الأب براون: «بالطبع لا تعرفين. لو كان الأمر يخصُّ توت عنخ آمون ومجموعة من الأفريقيين ممن حُفظَت جثامينُهم لسبب لا يعلمه إلا الله في الجانب الآخر من العالم؛ أو كان يخصُّ بابل أو الصين؛ أو يخصُّ سباقًا لتفسير أمرٍ غامض وتافه كالرجل الذي يُرى في القمر، لأخبرتْكم صحفُكم بكلِّ شيء عنه، حتى أحدث اكتشاف لفرشاة أسنان أو زر قميص، لكن الرجال الذين شيَّدوا كنائس أبراشياتكم، ومنحوا بلداتِكم ومهنَكم والطرقَ التي تسيرون عليها أسماءَها، أولئك لم يخطر لكم قط أن تعرفوا أيَّ شيء عنهم. أنا لا أدَّعي أني أعرف الكثير عنهم، لكني أعرف ما يكفي لأرى أن القصة من بدايتها وحتى نهايتها مجردُ سخافات ومحض هُراء. فالقانون حينها لم يكن يسمح للمرابين بالاستيلاء على متجر شخص ومُعدَّاته. ومن غير المحتمل على الإطلاق ألا تتدخل الطائفةُ الحِرَفية لإنقاذ رجل من براثن هذا الإفلاس التام، خاصة إذا كان على يد يهودي. لقد كان لأولئك القوم مساويهم ومآسيهم؛ إذ كانوا يعذِّبون الناسَ ويحرقونهم في بعض الأحيان، لكن فكرة أن يُترك رجلٌ يزحف إلى موته، دون ربٍّ أو أملٍ في الحياة، لأن لا أحدَ يهتمُّ بحياته، فتلك فكرة لا تتسق مع العصور الوسطى، بل هي نتاجُ تقدُّمِنا العلمي والاقتصادي. لم يكن اليهودي ليصبحَ تابعًا للُّورد الإقطاعي؛ فقد كان لليهود مكانةٌ خاصة باعتبارهم خدمَ الملك. وفوق ذلك كلِّه، لا يمكن أن يكون اليهودي قد حُرِق بسبب ديانته.»
قال تارانت: «ها هي المتناقضات تتزايد، لكنك بالطبع لن تُنكر أن اليهود كانوا مضطهدين في العصور الوسطى، أليس كذلك؟»
قال الأب براون: «سيكون الأقرب إلى الحقيقة القول إنهم كانوا الوحيدين الذين لم يتعرضوا للاضطهاد في العصور الوسطى. إن أردت أن تنتقد العصور الوسطى، يمكنك أن تُقيمَ حجة جيدة بالقول إن مسيحيًّا فقيرًا قد يحرق حيًّا إن «أخطأ بشأن ألوهية المسيح»، بينما يمكن ليهودي غني أن يسير في الطرقات مستهزئًا جهرًا بالمسيح وأمه. هكذا هي القصة. هي لم تكن قط قصة من العصور الوسطى، ولم تكن حتى أسطورة ذات صلة بالعصور الوسطى، بل هي قصة اختلقها شخصٌ تشكَّلت مفاهيمه من الروايات والصحف، وعلى الأرجح أنه قد ارتجلها دون سابق تفكير.»
بدا الآخرون مشدوهين قليلًا بذلك الاستطراد التاريخي، وبدَوا يتساءلون على نحوٍ غامض لمَ يُصِرُّ القَسُّ على التأكيد عليه ويعتبره جزءًا مهمًّا من ذلك اللغز، لكن تارانت، الذي كانت مهنته تقوم على التقاط التفاصيل المهمة من بين الاستطرادات العديدة المتشابكة، انتبه فجأةً. كان ذقنه الملتحي بارزًا للأمام أكثر من ذي قبل، لكنَّ عينَيه الواجمتَين كانتا منتبهتَين تمامًا. قال: «آه، ارتجلها!»
أقرَّ الأب براون بهدوء: «ربما كانت تلك مبالغة. كان أحرى بي أن أقول إنه اختلقها على نحوٍ عابر ودون اهتمام أكثر من باقي تفاصيل الخطة المحبوكة بعناية غير عادية. لكنَّ واضع الخطة لم يظنَّ أن أحدًا سيهتمُّ كثيرًا بتفاصيل تاريخ العصور الوسطى. وكانت حسبته شبهَ صحيحة في العموم، كباقي حساباته.»
سألت السيدة فجأة بانفعال من نفاد صبرها: «حسابات من؟ من الذي صحَّتْ حساباتُه؟ من ذلك الشخص الذي تتحدث عنه؟ ألا يكفينا ما خُضناه كي تجعل أبداننا تقشعر بالحديث عن شخص مجهول؟»
قال الأب براون: «أنا أتحدث عن القاتل.»
سألتْ بحدَّة: «أيُّ قاتل؟ هل تعني أن البروفيسور المسكين قُتِل؟»
قال تارانت المشدوه بفظاظة من وراء لحيته: «حسنًا، لا يمكننا أن نقول إنه قُتِل؛ فلسنا متأكدين أن أحدًا تعمَّد قتله.»
قال القَسُّ بجدية: «لقد قتَل القاتلُ شخصًا آخر غير البروفيسور سميل.»
سأله الآخر: «مَن عساه أن يكون ذلك الآخر الذي قتله؟» ردَّ الأب براون بدقة: «قتَل الموقر جون والترز، راعي كنيسة دولهام. لقد أراد قتْل هذين الرجلين فقط؛ لأن كليهما وضع يده على أثرٍ عليه نقشٌ نادر. كان القاتل مهووسًا نوعًا ما بذلك الأمر.»
تمتم تارانت: «الأمر كلُّه يبدو شديد الغرابة. بالطبع لا يمكننا أن نجزمَ بموت راعي كنيسة كذلك. فنحن لم نرَ جثته.»
قال الأب براون: «بل رأيتموها.»
ساد صمتٌ مفاجئ كضربة ناقوس؛ صمْت خمَّنت خلاله السيدة في عقلها الباطن الذي كان في غاية النشاط والحدة ما كاد يدفعها للصراخ.
تابع القَسُّ كلامه قائلًا: «هذا بالضبط ما رأيتموه، لقد رأيتم جثته. لم ترَوا القَسَّ الحقيقي حيًّا؛ لكنكم رأيتم جثته بالفعل. وحدَّقتم إليها في ضوء أربع شمعات ضخمة؛ لم تكن تسبح في البحر بعد أن ألقى بنفسه فيه منتحرًا، بل كانت ترقد كجثة أحد أمراء الكنيسة الكاثوليكية في ضريح شُيِّد قبل الحملة الصليبية.»
قال تارانت: «ببساطة، أنت تطلب منا أن نصدق أن تلك الجثة المحنطة هي في الحقيقة جثة رجل مقتول.»
صمت الأب براون برهة؛ ثم قال في لامبالاة: «كان أول ما لاحظته بشأنها هو الصليب؛ أو بالأحرى السلسلة التي كان يتدلَّى منها. لقد كان بالنسبة لأغلبكم، بطبيعة الحال، مجردَ عقد من الخرز لا يميِّزه شيءٌ؛ لكن بطبيعة الحال أيضًا، كان ذلك الأمر يقع في مجال اختصاصي أكثر منكم. تذكرون أنه كان يستقرُّ بالقرب من ذقنه، ولا يظهر منه سوى بضع خرزات، ما أظهر العِقد وكأنه عِقدٌ قصير للغاية، لكن الخرزات الظاهرة كانت منظومة بترتيب خاص: خرزة واحدة تليها ثلاثٌ ثم خرزة واحدة وهكذا؛ في الواقع، أدركت بمجرد أن لمحتُها أنها مِسْبَحةٌ عادية في طرفها صليبٌ، لكن المِسْبَحَة يكون بها على الأقل خمس مجموعات من عشر خرزات، إلى جانب خرزات إضافية؛ وبطبيعة الحال تساءلتُ أين ذهب باقي الخرز. كان طولها كافيًا لتلتفَّ حول عنق الرجل العجوز أكثر من مرة. لم أفهم ذلك حينها، ولم أُدرك أين يمكن أن يكون قد ذهب باقي طولها إلا فيما بعد. كانت ملفوفةً عدة لفات حول قاعدة الدعامة الخشبية المثبتة في جانب التابوت لإبقاء غطائه مرفوعًا؛ لذا بمجرد أن جذب سميل المسكين الصليب، تحركت الدعامة من مكانها وسقط الغطاء على جمجمته كهِراوة حجرية.»
قال تارانت: «يا للهول! لقد بدأتُ أظنُّ أنك محقٌّ فيما تقول. يا لها من قصة غريبة إن كانت حقيقية فعلًا!»
تابع الأب براون قائلًا: «حين أدركتُ ذلك، استطعت تخمين ما تبقَّى نوعًا ما. تذكروا، قبل كل شيء، أنه لم يكن ثمة أيُّ خبير آثار مسئول مصرَّح له بالقيام بأكثر من مجرد الاستكشاف. كان والترز العجوز المسكين أثريًّا نزيهًا، عمَد إلى فتح المقبرة كي يكتشفَ ما إذا كانت أسطورة الجثث المحنطة بها أي شيء من الحقيقة. أما الباقي فكان محض شائعات، كالتي تستبق عادةً تلك الاكتشافات أو تُضخِّمها. في الواقع، لقد وجد أن الجثة لم تُحنَّط، بل تحوَّلت إلى ترابٍ منذ زمنٍ بعيد. فقط بينما كان يعمل هناك على ضوء شمعته الوحيدة في أعماق تلك الكنيسة الغارقة، رأى في ضوئها ظلًّا آخر ليس بظلِّه.»
صاحت السيدة ديانا وهي تلتقط أنفاسها: «أوه! أفهم الآن ما تعنيه. أنت تقصد أن تُخبرنا أننا قابلنا القاتل وتحدَّثنا معه ومازحْناه، وسمعنا منه قصة خيالية، ثم تركناه يغادر في سلام دون أن يمسَّه سوءٌ.»
قال الأب براون موافقًا إياها: «بعد أن ترك زيَّه التنكُّريَّ على صخرة. الأمر كله بسيط للغاية. لقد سبق هذا الرجل البروفيسور سميل في السباق إلى ساحة الكنيسة وإلى داخلها، ربما أثناء حديث البروفيسور مع ذلك الصحفي الكئيب. وتسلَّل خلف رجل الدين العجوز الواقف بجوار التابوت الخاوي ثم قتله. ثم تنكَّر في رداء القَسِّ الأسود بعد أن نزعه عنه، وألبس جثتَه عباءةً قديمة كانت ضمن الآثار الحقيقية التي اكتُشفت أثناء البحث، ووضعها داخل التابوت، ثم وضع المسبحة حول عنقه ولفَّها حول الدعامة الخشبية على النحو الذي وصفته. وهكذا، وبعد أن انتهى من نصْب الفخِّ لغريمه الثاني على هذا النحو، صَعِد لأعلى حيث ضوءُ الشمس، وحيَّانا جميعًا بكل أدبٍ ووُدٍّ كعادة رجال الدين بالريف.»
عارضه تارانت قائلًا: «لكنه خاطر كثيرًا بأن يتمكن أحدٌ من التعرف على والترز بالنظر.»
وافقه الأب براون قائلًا: «أُقرُّ بأن به قدرًا من الجنون، وأعتقد أنك ستقرُّ بأن المخاطرة كانت تستحق أن يخوضها؛ فقد أفلت بفعلته في النهاية.»
همهم تارانت متبرمًا: «أُقرُّ بأنه محظوظ للغاية. ومن هو بحق الشيطان؟»
أجابه الأب براون: «كما قلت، لقد كان محظوظًا للغاية، خاصة فيما يتعلق بذلك الأمر. فربما يكون هذا هو الشيء الوحيد الذي لن نعرفه أبدًا.» نظر إلى الجالسين على الطاولة مقطِّبًا جبينَه لوهلة ثم تابع قائلًا: «لقد ظل ذلك الرجل يحوم حول البروفيسور ويهدِّده لسنوات، لكن أكثر ما كان حريصًا عليه هو أن تظلَّ هُويَّته سرًّا؛ وقد نجح في ذلك حتى الآن، لكن إن تعافى سميل المسكين، وأظن أنه سيتعافى، يمكنني أن أجزم أنكم ستعرفون أكثر عن الأمر.»
سألت السيدة ديانا: «ماذا سيفعل البروفيسور سميل في ظنِّك؟»
قال تارانت: «أظن أن أول شيء سيفعله هو أن يُطلق المحقِّقين كالكلاب خلف ذلك الشيطان القاتل. وسيسرني أن أجرِّب حظِّي في القبض عليه بنفسي.»
قال الأب براون مبتسمًا فجأة بعد فترة طويلة من الحيرة الواجمة: «أظنني أعرف أول شيء يجب أن يفعله.»
سألت السيدة ديانا بلهفةٍ رقيقة: «وما هو؟»
قال الأب براون: «يجب أن يعتذر إليكم جميعًا.»
لكن الأب براون لم يأتِ على ذكْر تلك النقطة إلى البروفيسور سميل وهو يجلس إلى جوار سرير عالم الآثار البارز أثناء تماثله البطيء للشفاء. والواقع أن الأب براون لم يكن هو المستأثر بالحديث؛ فمع أن البروفيسور كان مسموحًا له بجرعات محدودة من الحديث لتنشيط حواسِّه؛ فقد ركز معظمه في لقاءاته مع صديقه القَسِّ. وكان الأب براون يملك موهبةَ الصمت على نحوٍ يستحثُّ الآخر على الحديث، وقد كان صمته يستحثُّ سميل على الحديث عن العديد من الأمور الغريبة التي لا يسهل دائمًا الحديث عنها؛ مثل أطوار النقاهة الوبيلة والكوابيس المرعبة التي غالبًا ما تُصاحب الهذيان. عادة ما يكون التعافي ببطء من ضربة عنيفة على الرأس مصحوبًا بتشوش وخلل في الاتزان، وعندما يكون ذلك الرأس مثيرًا للاهتمام كرأس البروفيسور سميل، فحتى خيالاته المشوهة واضطراباته تميل لأن تكون إبداعيةً ومثيرة للفضول. كانت أحلامه مثل تصاميم جريئة وضخمة لا تخضع لقواعد الرسم نوعًا ما؛ إذ يمكن رؤيتُها في الفنون القوية والجامدة القديمة التي درسها؛ فكانت تعجُّ بقديسين غريبي الأشكال تحيط برءوسهم هالاتٌ مثلثة ومربعة، وتيجان ذهبية وهالات مجد ضوئية مبهرة تحيط بوجوه مستديرة داكنة مفلطحة، ونسور قادمة من الشرق وعمامات عالية يرتديها رجالٌ ملتحون يعقدون شعورَهم كالنساء. ثمة حلمٌ واحد، حسبما أخبر صديقه، كان أبسطَ وأقلَّ تعقيدًا بكثير، وكان يتكرر باستمرار في ذاكرته الواسعة الخيال؛ فكثيرًا ما كان يرى كلَّ تلك النقوش البيزنطية تختفي كالذهب الباهت الذي رُسِمت عليه وكأنها مرسومة على النار، ولا يتبقى سوى الحائط الحجري العاري المعتم الذي رُسِمَ عليه شكل السمكة اللامعة وكأنما رُسم بإصبع غُمِس في المادة الفسفورية الموجودة بالأسماك. كان ذلك هو الرمزَ الذي رآه عندما نظر لأعلى في اللحظة التي سمع فيها لأول مرة صوت غريمه يحدِّثه بالقرب من الممرِّ المعتم.
قال: «وأخيرًا، أعتقد أنني أدركتُ معنًى في ذلك الرسم وذلك الصوت؛ معنًى لم أستوعبْه قط من قبل. لمَ يجبُ أن أقلقَ لأن رجلًا مختلًّا من بين ملايين الأسوياء في مجتمع عظيم تآمر ضدَّه رجلٌ اختار أن يتباهى باضطهادي أو بتوعُّدي بالقتل؟ إن الرجل الذي رسم ذلك الرمز السري للمسيح داخل السرداب المظلم وقع عليه شكلٌ مختلف تمامًا من الاضطهاد. كان رجلًا مجنونًا وحيدًا؛ وقد تحالف المجتمعُ العاقل بأكمله لا على إنقاذه بل على قتله. كنتُ أحيانًا أقلق وأتململ متسائلًا إن كان هذا الرجل أو ذاك هو من يضطهدني؛ إن كان هو تارانت أو ليونارد سمايث أو أي واحد منهم، لكن كيف لو كانوا جميعًا يضطهدونني؟ كيف لو كان كلُّ من في السفينة وكلُّ من في القطار وكلُّ من في القرية يضطهدني؟ كيف لو كانوا جميعًا بالنسبة لي قتَلة؟ كنت أحسب أنه يحقُّ لي أن أنزعج؛ لأني كنتُ أزحف في أحشاء الأرض وسط الظلام وهناك رجل سيدمرني. كيف سيكون الحال لو كان ذلك المتوعِّد يقف في وضَح النهار وكان يملك الأرض كلها ويقود الجيوش والحشود كلها؟ كيف سيكون الحال لو كان بيده أن يوقف الأرضَ كلَّها أو يُجبرني على الخروج من جحري، أو يقتلني في اللحظة التي أُخرج فيها أنفي في ضوء النهار؟ كيف يكون التعامل مع قاتل بذلك الحجم؟ لقد نسيَ العالم هذه البشاعات، مثلما نسيَ الحرب منذ وقت قريب.»
قال الأب براون: «أجلْ، لكن الحرب جاءت. ربما تُرغم السمكةَ على الاختباء تحت الأرض مجدَّدًا، لكنها ستخرج إلى ضوء النهار مرة أخرى. كما يقول القديس أنطوني البادوفاني ساخرًا: «وحدَها الأسماك تنجو من الطوفان».»