محمد علي الكبير مؤسس النهضة
فالنهضة الشرقية العربية — نسميها بالعربية إخراجًا لما سواها من نهضات الشرق كنهضة اليابان والصين في الشرق الأقصى، ونهضة فارس والأفغان والهند في الشرق الأوسط، ونهضة الترك في الشرق الأدنى بحذائنا — قد بدأت في الواقع منذ أكثر من مائة سنة لعهد محمد علي عزيز مصر، فهو أول من لحظ الخطر الحائق بالشرق من جراء جموده على أساليب العمران القديمة، وجعل نصب عينه حُدَيَّا الغرب في أساليبه الجديدة، حتى يتأتى للشرق أن يقاتل الغرب بسلاحه ويدفعه عنه ويستقل بنفسه؛ إذ كانت سُنَّة الله منذ وُجِد العمران على سطح هذه الكُرَة، إنه كلما تقوَّى جانبٌ منها سطا على الآخر واجتاحه وضرب عليه الذلة والمسكنة.
فمحمد علي هو المؤسس الحقيقي لهذه النهضة الشرقية العربية ليس بوادي النيل فحسب، بل في البلاد التي تجاور هذا الوادي المبارك وفي مقدمتها سوريا، وأول ما استنشق السوريون ريح الحضارة الحديثة، إنما كان في زمن محمد علي وفي زمن غزاة ولده إبراهيم باشا للشام، ثم انكفأ إبراهيم باشا إلى مصر سنة ١٨٤٠، وبقيت في سوريا آثار الانتباه ونزعة التجدد، وجد السوريون لا سيما أهل الساحل منهم ينشدون أسباب المدنية الغربية؛ لما رأوا فيها من القوة والرفاهية. وأنس المرسلون الأمريكيون هذا الاستعداد في أهل سوريا، فأسسوا في بيروت كليتهم الشهيرة التي كانت النبراس الأول التي استضاءت به سوريا، ولا يزال هذا النبراس يزهر في آفاق الشرق إلى يومنا هذا. ورأت أمم أخرى — كالفرنسيين والألمان والطليان والروس — أن أرض سوريا قابلة جدًّا لبذور المعارف؛ فبثوا فيها المدارس والكتاتيب، وكل ذلك كان يبدأ في بيروت ثغر الشام البسام. ففي بيروت — والحق يُقال — ابتزغ زرع العلم العصري وأخرج شطأه، ثم انبث في جميع الشامات، ثم فيما جاورها واستغلظ واستوى على سوقه يُعجِب حتى الزُّرَّاع الأوروبيين أنفسهم، واضطرت الدولة العثمانية أن تفتح المكاتب الرشدية والإعدادية في سوريا، وأن تقبل كثيرين من شبانها في مكاتبها العالية في القسطنطينية، فتخرج فيها ألوف من الناشئة منهم من تقلدوا مناصب ملكية أو عدلية، ومنهم من تعاطوا مهنة المحاماة ومنهم أطباء وصيادلة ومنهم ضباط نبغوا في الفنون العسكرية. وامتازوا بين الأقران من ضباط العرب في العراق وسوريا واليمن كلهم ممن تخرج في مكتب بانغالدي في الآستانة، وقد يزيدون على ثلاثة آلاف ضابط فيما يقال.
ومع أن النهضة العلمية في مصر لم يكن الأصل فيها لا الكلية الأميركية ولا الكلية اليسوعية في بيروت ولا مكاتب الدولة في الآستانة، لا يُنْكَر أن مصر كانت ميدانًا لجياد القرائح السورية، وأن أنبغ الذين تخرجوا في بيروت إنما ظهروا واشتهروا وتعلقت قناديلهم بمصر، هذا كما أن لمصر على الشام فضل تخريج عدد لا يُحصَر من أبناء هذه في العلوم اللغوية والشرعية بالجامع الأزهر، وتخريج عدد كبير من أطباء سوريا بالقصر العيني. فما زال كل من القطرين المصري والشامي يشد الواحد منهما الآخر في كل ضرب من ضروب الرقي العقلي، وقلما جد في أحدهما شيء إلا سمعت رجع صداه في الآخر. على أن النهضة الشرقية العربية وإن كان قد ذرأ قرنها منذ قرن فأكثر لم تسر هذا السير الحثيث إلا في الخمسين سنة الأخيرة التي شهدها كاتب هذه الأحرف بجميع صفحاتها؛ وذلك لأني بدأت بالكتابة في الصحف وبمرافقة الحركة العملية في سيرها منذ ٥٢ سنة متوالية، فلي الحق إذن بأن أدَّعي معرفة تاريخ هذه النهضة وما دخلت فيه من التطورات على قدر ما يستطيع خادم أمين للعلم زاول عمله في مكافحة الجهل طوال مدة خمسين سنة دون أن يتخلف يومًا واحدًا.