منافسة سوريا للبلاد العربية
وما من علم يَجِدُّ في أوروبا إلا أقبل عليه الشرقيون كما أقبل الغربيون وأخذوا منه بنصيب، فالمباراة إذن جارية بكل ما يمكن من الهمة، على أن سوريا في علم الطب وتوابعه هي ذات المركز الأول في البلدان العربية؛ وذلك لسبقها غيرها إلى ورود حياض العلوم الكونية، فلا مصر ولا العراق ولا جزيرة العرب ولا إيران ولا المغرب تضارع سوريا في هذا الموضوع. ولكن نحن على ثقة أن جميع البلاد العربية من الآن إلى ثلاثين وأربعين سنة تصير متساوية بعضها إلى بعض في درجة الرقي العلمي.
ومن العلوم التي يمتاز بها العرب، ولا سيما السوريون منهم، العلوم العددية. وقد نبغ الكثيرون ممن لا نقدر على إحصاء أسمائهم، نذكر منهم على سبيل التمثيل: الشيخ محمد الطيبي في دمشق، والمعلم بطرس البستاني، والمعلم أسعد الشدودي في بيروت، وغيرهم.
ولما كان السوريون من أقوم أمم الأرض على التجارة كان علم الحساب من العلوم التي يتخصصون بها بطبيعة الحال، وكذلك في مصر لا يُنكَر ترقي العلوم الرياضية التي مصر من مراكز ازدهارها، بل نقدر أن نقول أن المهندسين فيها أكثر منهم عددًا في سوريا؛ نظرًا لأن الزراعة في وادي النيل أرقي بكثير منها في سوريا.
بقي علينا أن ننظر كيف يكون اتجاه الأمة العربية في المستقبل من جهة الثقافة! أتأخذ بالثقافة الغربية ولوازمها ومتمماتها إلى النهاية، أم تبقى معتصمة بثقافتها الشرقية الأصلية لا تبغي بها بدلًا ولا عنها حِوَلًا، أم تأخذ من الثقافتين معًا وتجعل من ذلك ثقافة خاصة لا شرقية ولا غربية؟ هذا سؤال يَرِد كثيرًا على خواطر الباحثين، وكل منهم يذهب في الجواب مذهبًا. وأظن أن ثقافة العرب المستقبلة ستكون عصرية آخذة من التجدد بأوفى نصيب لكن مع الاحتفاظ التام بالطابع العربي، وهذه أشبه بما سبق للثقافة العربية في زمن بني العباس وفي زمن بني أمية بالأندلس حينما نقل العرب حكمة اليونان إلى لغتهم واطلعوا على علوم فارس والهند، فجعلوا من هذه الثقافات الثلاث ومن الثقافة العربية الأصلية ثقافة جديدة عالية كانت أرقى ثقافة في القرون الوسطى، لكنها كانت زاهرة بطابعها العربي الذي لم يكن يفارقها بحال من الأحوال، وهكذا ستكون ثقافة العرب بعد اليوم لن تكون جامدة على القديم الذي ثبت للعرب المحدثين وجوب التعديل فيه والإضافة إليه، ولن تكون منسلخة من القديم جاحدة في التبرؤ منه على النحو الذي نحاه الأتراك الكماليون الغالبون على تركيا اليوم، ولكنها تكون ثقافة جامعة بين القديم والجديد مختارة من كل شيء أحسنه، مع بقاء الصبغة العربية التامة غير المفارقة للعرب، وذلك على النحو الذي نحاه اليابانيون الذين اقتبسوا جميع علوم الأوروبيين، ولم يغب عنهم منها شيء ولا فاتهم من صناعات أوروبا دقيق ولا جليل، ولبثوا مع ذلك يابانيين أصلاء في لغتهم وأدبهم وطربهم وطعامهم وشرابهم وجميع مناحي حياتهم. وحسب العرب قدوة للاقتداء ومثالًا للاحتذاء هذه الأمة اليابانية العظيمة التي لا يُوجَد أشد منها رجوعًا إلى قديم ولا أخذًا منها بحديث.
والآمال معقودة بأنه ستكون في الشرق الأدنى نهضة عربية علمية تضاهي النهضة العلمية التي رأيناها في الشرق الأقصى.