الصحافة
لا نزاع في أن الصحافة العربية قد كانت من أقوى عوامل هذه النهضة بما أثارته من الحركة الفكرية، ونقلت من أخبار الغرب الناهض إلى أهل الشرق النائم. وقد كان بحسب معلوماتي، وربما أكون مخطئًا في بعضها أول جريدة عربية صدرت في الشرق جريدة الوقائع المصرية بعهد محمد علي، ولكن بقيت سوريا مدة طويلة لا تصدر فيها جريدة.
ويُقال إن أول جريدة صدرت في بلادنا هي جريدة «حديقة الأخبار»، أنشأها خليل أفندي الخوري من شعراء لبنان في وقته، وذلك سنة ١٧٦٠، ثم أصدر المعلم بطرس البستاني الشهير نشرات وطنية في بيروت لذلك العهد، ولم يلبث أن نشر جريدة أسبوعية باسم الجنة، ثم جريدة يومية باسم الجنينة، ثم مجلة شهرية باسم الجنان، وقد التزم هذه المادة في التسمية لمناسبتها مع اسمه «البستاني»، وكان اليسوعيون قد أصدروا في بيروت جريدة باسم البشير تغلب عليها المباحث الدينية الكاثوليكية، ثم أصدر القس لويس الصابونجي جريدة النحلة.
وأصدر غيره جريدة اسمها النجاح، وأصدر الأمريكيون جريدة اسمها النشرة الأسبوعية، ثم تحرك المسلمون فأصدروا جريدة سموها ثمرات الفنون، وكانت تصدر بإدارة الشيخ عبد القادر القباني، وقد تولى تحريرها في البداية العلامة الشيخ يوسف الأسير، ثم خلفه عليها العلامة الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي، وهذا كله كان بين ١٨٦٠ و١٨٨٠ أي في مدة عشرين سنة، فوُجِدت في بيروت في ذلك العهد عدة مطابع، وصارت تُطبَع الكتب العربية بعد أن كان طبع الكتب العربية منحصرًا في مطبعة بولاق المصرية وغيرها من مطابع مصر، وكانت قد صدرت في الآستانة في أثناء حرب القريم سنة ١٨٥٥جريدة مرآة الأحوال، وذلك بأمر الدولة وتولى تحريرها رزق الله حسون الكاتب الشهير، وقد وقعت إليَّ عدة نسخ كانت باقية عندنا من تلك الجريدة فيها أخبار حرب القريم وغيرها من الأخبار.
ومما أتذكره أنه كان عند ذكر خديوي مصر يلقبه بسعادة عزيز مصر، وأظن أن جريدة مرآة الأحوال هذه هي الجريدة العربية الثانية بعد تقويم الوقائع المصرية، وقد بقيت تصدر في عاصمة السلطنة العثمانية عدة سنوات إلى أن فر رزق الله حسون من الآستانة إلى أوروبا على أثر حادثة جرت معه، وقيل فيها إنه اختلس مالًا للدولة فَلاذَ بالفرار وكان أحمد فارس الشدياق في باريس، فقدم إلى الآستانة وأنشأ جريدة «الجوائب» المشهورة، فكانت في وقتها أشهر جريدة عربية في العالم، وكان لها مشتركون في جميع الأقطار الإسلامية؛ نظرًا لبراعة كاتبها أحمد فارس المعدود من أكبر كتاب القرون الأخيرة، وأما رزق الله حسون فبعد أن فر إلى أوروبا نشر كتابًا تحت عنوان «النفثات» نال فيه من الدولة العثمانية، ومن صاحب الحوائب، فأشار هذا إلى كتاب النفثات بقوله: «كان حسون لصًّا وله سرقات؛ فلينقلب صلًّا وله نفثات.» وأظنني غير مخطئ إذا قلت: إنه لذلك العهد أو بعده بقليل ظهرت جريدة في تونس اسمها «الرائد التونسي» وظهرت جريدة أخرى في مصر باسم وادي النيل، وربما يكون قد صدر في مصر جرائد أخرى لم أسمع بها.
ولست محاولًا في هذه العجالة الإحاطة بأسماء جميع الجرائد العربية التي صدرت وتواريخ صدورها، وإنما أنا أذكر الآن أشهرها على سبيل التمثيل، وأقول: إنه لما انتشرت جريدة الجوائب بمكان أحمد فارس من علم اللغة وبراعة الإنشاء وسعة المدارك، كانت عاملًا قويًّا من عوامل النهضة العربية الأدبية، وصار صاحبها يطبع في الآستانة من نفائس الكتب العربية التي كانت مجهولة، والتي اطلع عليها في خزائن كتب القسطنطينية ما أُعجِب به العالم العربي كله لا سيما أنه نشرها بالطبع الجميل.
وربما كانت خدمته للثقافة العربية بهذه المطبوعات في الدرجة الثانية عن خدمة مطبعة بولاق، وإني قد أدركت، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة عهد أحمد فارس في أواخر عمره وكان لا يزال، وقد بلغ من الكبر عتيًّا، يخدم هذه اللغة الشريفة التي كان من أعلامها، ومن شاء أن يعلم مدى براعة أحمد فارس ومبلغ بلائه في سبيل اللغة العربية والوطن العربي، فليراجع مجموعة كنز الرغائب في منتخبات الجوائب؛ فهي كتاب يحتوي على سبعة مجلدات لا يمكن أن يستغني عنه من أراد الاطلاع على الحركة العلمية العربية، والحركة السياسية العالمية بين ١٧٦٠–١٨٨٠.
الحركة العلمية
ولنعد إلى سير الحركة العلمية في سوريا فنقول: إنه إلى حد سنة ١٨٨٠ كانت الجرائد منحصرة في بيروت لا تتعداها إلى غيرها من مدن سورية، ولم يكن في دمشق سوى جريدة رسمية للولاية باسم «سوريا»، وبعد ذلك بكثير أصدر مصطفى واصف جريدة اسمها «الشام»، وبعده أصدر الأستاذ كرد علي جريدة سياسية في دمشق اسمها «المقتبس»، وكذلك كانت جريدة رسمية لولاية حلب باسم «الفرات». وكل من جريدتي سوريا والفرات كان نصفها بالتركي والنصف الآخر بالعربي، وقلما كانت تنشر شيئًا خارجًا عن الأخبار الرسمية، وكانت في بغداد جريدة رسمية اسمها «الزوراء» على هذا النمط أيضًا، وأما بيروت فكانت لا تزال على تقدمها في طريق العلم والعرفان. وأول مدرسة داخلية في بيروت كانت المدرسة الوطنية التي أسسها المعلم بطرس البستاني، ثم أخذت كل طائفة من الطوائف المختلفة التي في ساحل سوريا تؤسس مدرسة داخلية في بيروت، فكان للروم الكاثوليك مدرسة يُقال لها: «البطريركية» وللموارنة مدرسة يقال لها: «الحكمة». وللمسلمين مدرسة يقال لها: المدرسة «السلطانية». تولى إدارتها مدة من الزمن العلامة الشيخ حسين الجسر الطرابلسي صاحب الرسالة الحميدية في التأليف بين العلم والدين، وكان اليهود أيضًا أسسوا مدرسة داخلية باسم المدرسة الإسرائيلية كان يديرها زاكي كوهين.
وكان اليسوعيون قد أنشئوا الكلية «اليسوعية» مناظرة للكلية الأمريكية، وكان في لبنان مدرسة فرنسية في كسروان، يقال لها: مدرسة عينطورة. انتفع منها كثير ممن اشتهروا في إتقان اللغة الفرنسية، ثم شرع أساقفة الموارنة يؤسسون مدارس لأبناء طائفتهم، فكانت مدرسة «قرنة شهوان»، ومدرسة «غزير» لبني زوين، ومدارس أخرى متعددة. وقد كان للموارنة من قبل هذه مدارس قديمة إكليريكية؛ مثل: مدرسة عين ورقة، ومدرسة مار عبدا هرهريا، ومدرسة مار يوحنا مارون. وكان للكاثوليك مدرسة في الشوبر. وقد اطلعتُ على مطبوعات قديمة ترجع إلى مائة سنة أو أكثر، جرى طبعها في كسروان بمطابع للموارنة منها مطبعة دير سبدة طاميش، وكان الموارنة من القديم يطبعون بالعربية والسريانية.
ولا يجوز أن ننسى المدرسة التي قام بإنشائها الأمير ملحم أرسلان بمساعدة سعيد بك تلحوق لطائفة الدروز في قرية عبية، فقد كانت من أقدم مدارس لبنان يرجع تأسيسها إلى سنة ١٨٦٢.
وكانت تقبل الطلبة مجانًا لاعتمادها في نفقاتها على الأوقاف التي ألحقها بها الأمير المشار إليه، ولما تولى قائمقامية ابن عمه الأمير مصطفى زاد الاعتناء بها، وانتدب لها من الأساتذة مثل العلامة الشيخ أحمد عباس البيروتي وأمثاله، وهي هي نفس المدرسة التي يشرف على إدارتها الآن الأستاذ عارف النكدي مدير العدلية في الدولة السورية بما اشتهر به من الدراية والأمانة وعلو الهمة.
ثم نقول: إنه كان لازدياد عدد الجرائد متساوقًا مع ازدياد عدد المدارس، فظهرت في بيروت بعد الجرائد المتقدم ذكرها جريدة لسان الحال لصاحبها خليل سركيس، وجريدة المتقدم التي كان يتولى تحريرها أديب إسحاق الكاتب المشهور في وقته، وجريدة المصباح التي أنشأها المطران يوسف الدبس مؤسس مدرسة الحكمة، وعهد بإدارتها وتحريرها إلى نقولا أفندي النقاش من أعضاء مجلس الأمة العثماني، وإلى بولس زين من أدباء الموارنة. وكانت مجلة المقتطف قد صدرت في بيروت لصاحبيها العلامتين الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر، ومن أول نشأتها كانت مجلة راقية حافلة بالفوائد العلمية والصناعية والتاريخية واللغوية.
ومما لا جدال فيه أن للمقتطف أثرًا بليغًا في عموم النهضة العربية، ولا ينكره إلا كل مكابر، ومن مساعي العلامتين الشهيرين صروف ونمر تأسيس مجمع علمي في بيروت سموه المجمع العلمي الشرقي، قد ضم نخبة العلماء والأدباء الذين كان يُشار إليهم بالبنان في ذلك الوقت، ولم يكن هذا المجمع أول مجمع علمي في بيروت، بل قد سبقه جمعية علمية تأسست قبل ذلك بنحو من عشرين سنة، كان رئيسها الأمير محمد الأمين أرسلان، وكان من أعضائها: الشيخ يوسف الأسير، والشيخ إبراهيم الأحدب، والشيخ ناصيف اليازجي، والمعلم بطرس البستاني صاحب دائرة المعارف، والسيد حسين بيهم، وسليم أفندي رمضان، وغيرهم من علماء ذلك الوقت وأدبائه.
وفي نواحي سنة ١٨٨٤ فيما أتذكر كان الشيخ عبد المجيد الخاني الأديب الدمشقي البارع جاء إلى بيروت، فذكر ما رآه فيها من الرقي الفكري، وسرد أسماء جرائدها نظمًا، فقال:
ثم أنشأ علي بك ناصر الدين مجلة اسمها الصفاء صارت فيما بعد جريدة سياسية ولا تزال إلى هذا اليوم، قائمة حق القيام بخدمة العلم والأدب، وقد كان لي فيها أول مقابلة صدرت من قلمي وذلك سنة ١٨٨٥، وأصدر عبد القادر أفندي الدنا جريدة باسم بيروت كان يكتب فيها الأستاذ البليغ السيد مرتضى الجزائري ابن أخي المغفور له الأمير عبد القادر.
ثمانون جريدة في سوسيا
ولكن عدد الجرائد لم يزدد هذا الازدياد الرائع إلا بعد إعلان الدستور العثماني، ومن قبله صدرت جريدة طرابلس التي كان ينشئها الشيخ حسين الجسر، ولم يكن جريدة سواها تصدر في غير بيروت من مدن سورية إلا أنه لما أُعلِن الدستور العثماني، وتقررت حرية الصحافة أخذت الجرائد تنتشر بسرعة عظيمة، فلما نشبت الحرب الكبرى كان يُنشَر في سورية وفلسطين ثمانون جريدة موزعة بين بيروت ولبنان ودمشق وطرابلس واللاذقية وحمص وحماة وحلب وصيدا وحيفا ويافا والقدس. وكانت تظهر في هذه البلاد مجلات شهرية وأسبوعية لا تقل عن بضع عشرة مجلة، ولا نجد لزومًا لسرد أسماء جميع هذه الجرائد وهذه المجلات. وهذا أول دليل على سرعة الرقي العلمي في سوريا، وليس في الكلام أفصح من الأرقام، فوفرة الجرائد دليل على وفرة عدد القراء، ووفرة عدد القراء دليل على صدق عمل المدارس. نعم؛ إنه لا يزال عدد الأميين كثيرًا في هذه البلاد، وربما بلغ مع الأسف ٦٠ بالمائة، ولكن المظنون بحسب ما نراه من إقبال الأهلين على تعليم أبنائهم أنه لا يمضي عشر سنوات حتى ينزل عدد الأميين إلى ٢٠ بالمائة، وقد كان في بيروت بضع عشرة مطبعة فتضاعف هذا العدد مرتين وثلاثًا، وتأسست مطابع كثيرة في سائر المدن السورية. وليس عمل هذه المطابع كله منحصرًا في طبع الجرائد، بل هي تقوم بطبع الكتب التي لا تُطبَع إلا إذا كان أصحاب المطابع يجدون لها عددًا كافيًا من المشترين، وإن مكانة الصحافة الآن في سوريا ولبنان بالقياس إلى عدد أهلها لا تقل عن مكانة الصحافة في أوروبة، فأما في مصر فمما لا شك فيه أن الصحافة أرقى منها في سوريا؛ لأن ثروة مصر أعظم من ثروة سوريا بكثير. وقد كان في أثناء ثورة عرابي باشا — أي سنة ١٨٨٢ — يصدر في مصر بضع جرائد لا غير، منها: الأهرام واللطائف والمفيد وغيرها. فما زال عدد الجرائد يرتقي إلى أن تضاعف مرارًا، وإن بعض جرائدها اليومية تصدر بثماني صفحات أو ست عشرة صفحة، ومنها جرائد مصورة كثيرة، وربما تطبع الواحدة من جرائد مصر الكبرى من ٣٠ إلى ٤٠ ألف نسخة، وقد أكد لي أحد الإخباريين الأوروبيين الذين يراسلون الأهرام من أمهات الجرائد المصرية أن هذه الجريدة لو وُضِعت في جانب صحف باريس في الإتقان، وسعة النفقات، وكثرة القراء، لكانت معادلة لأحسنها.
ولما كانت الأمثال أحسن مظهر لحقائق الأشياء، وأبلغ مؤثر في النفوس رأيت الآن إيراد مثال وقع معي، وكنت قد ذكرته في مجلة المقتطف، ومنه يتبين الفرق الهائل بين حالة الصحافة في مصر منذ ٤٠ سنة، وحالتها منذ عشرين سنة.
قلت في المقتطف: إنني كنت زرت مصر سنة ١٨٩٠ وكنا نجتمع في مجلس الإمام الشيخ محمد عبده، وأكثر ما كنا نسمر عند سعد باشا زغلول، وهو يومئذ سعد أفندي زغلول، وكان من المحامين المشهورين بمصر، وكان ينتاب تلك الحلقة شيخ شخت الخلقة اسمه الشيخ علي يوسف إذا أتى جلس في آخر المجلس، ولبث أكثر المجلس ساكنًا مستمعًا تكاد ترثي له لضعفه ولمسكنته. وكان قد بدأ بإصدار جريدة اسمها المؤيد كانت تظهر مرتين بالأسبوع، وهو يعجز أن يجعلها يومية إلا أن هذا الرجل على ضئولة جسمه كانت بادية عليه سيماء الهمة والعزم، فزرته مرة في مطبعة المؤيد فرأيته جالسًا على مقعد رث لا يسع أكثر من ثلاثة جلوس بعضهم ملزوز إلى بعض، وأمامه منضدة بدون غطاء عليها من بقع الحبر ما يهول الناظر وهو يعالج تحرير مقالته في دخول العام الهجري الجديد حينئذ، ولا يعرف كيف يصوغها، وكانت بجانب تلك الغرفة غرفة ثانية فيها المطبعة، وبين الغرفتين باب مفتوح وأنا من مكان جلوسي أرى منضدى الحروف من خلال ذلك الباب يصفون الحروف، ثم إني رأيت الشيخ عليًّا في تعب زائد مع مقالته هذه عن الحول الجديد، وهو يكتب ويطلس ويمحو ويثبت، فقلت له: لو قلت كذا وكذا … فأجابني: بالله عليك تكتب أنت هذه الافتتاحية. فكتبتها أمامه، هذا وبعد ٢٠ سنة من ذلك العهد جئت إلى مصر.
المؤيد تطبع ٣٠ ألف عدد
وأنا ذاهب إلى حرب طرابلس فماذا وجدت؟ وجدت جريدة المؤيد من أعظم الجرائد اليومية في مصر تطبع كل يوم من ٢٠ إلى ٣٠ ألف نسخة، ووجدت إدارة المؤيد تكاد تكون قصرًا من قصور الأمراء فيها الزراة المبثوثة، والطنافس الحريرية الفاخرة بدلًا من ذلك المقعد الحقير عليه الغطاء القديم من الشيت بدون حشوة، ووجدت مطبعة بخارية من أكبر المطابع كان صاحب المؤيد اشتراها بخمسة آلاف جنيه، مع أن تلك المطبعة القديمة التي رأيتها من قبل ما كانت لتساوي ١٠٠ جنيه.
انتشار الصحافة في العالم الإسلامي
ولقد كانت الصحافة العربية فيما مضى منحصرة في القطرين المصري والشامي، فصارت الآن منبثة في جميع الأقطار العربية، ففي العراق بضع عشرة جريدة ومجلة منها ما هو في بغداد، ومنها ما هو في البصرة، وكذلك ظهرت جرائد في الحجاز قد كان أولها جريدة القبلة في زمن الملك حسين، ولما استولى ابن سعود على الحجاز استبدل بها أم القرى، ثم ظهرت جريدة اسمها صوت الحجاز في مكة، وجريدة ومجلة في المدينة المنورة، وصدرت جريدة الإيمان للحكومة اليمانية في صنعاء، وصدرت جرائد عربية وراء البحار أشهرها جريدة حضرموت في جاوة، كما أنه يوجد في الهند مجلة عربية اسمها الضياء للأستاذ مسعود الندوي.
أما في المهجر فإن للعرب نحوًا من ٣٠ جريدة ومجلة، منها ما هو في أمريكا الشمالية، وما هو في أمريكا الجنوبية. وفي المهاجر العربية هناك من الكتاب والشعراء والأدباء والأطباء والفلاسفة نفر تفخر بهم أوطانهم، وهم جزء متمم للعالم العربي الأدبي لا يتم إلا بهم وإني أشبه الجاليات العربية في وسط هاتيك الأمم الأجنبية التي تُحصَى بمئات الملايين بجزائر عربية صغيرة في أوقيانوس من العجمة لا نهاية له، وقد احتفظت مع ذلك هذه الجزائر الصغيرة بلغتها العربية وآدابها وأذواقها ومنازعها ومشاربها. وهذا لعمري برهان الآصالة والنبالة وعلو الهمة، فإن الذي يخجل بوطنه وقومه ليس بإنسان. وفي نيويورك شارع كبير خاص بالعرب نجد فيه فوق أبواب المخازن العناوين العربية فوق الإنكليزية، وتنظر المطاعم العربية التي تطهو من المآكل الشرقية المتنوعة ما يكون قد درس بتمامه في البلاد العربية الأصلية.
وإنك لتسمع الموسيقى ثمة العربية كيفما توجهت سواء من المغنين أو من الآلات الحاكية، وإذا نظرت إلى النوافذ، وجدت فيها الأصص من الفخار فيها الرياحين، وأكثرها من الحبق الذي يقال له: الريحان في دمشق وفي لبنان الحبق. ويظهر أن العرب يأخذون هذه الريحانة أينما ذهبوا في الأرض، فإني قد وجدتها بكثرة في إسبانيا، وهي حافظة أضمها العربي فيقول لها الإسبانيول: «هبقة» أي حبقة، ومن غرائب ما سمعته عن اعتصام السوريين بعاداتهم القومية وهم في المهجر أن كثيرين منهم يسكنون في حارات على حدة، وربما بنوا قرى منفردة لأنفسهم؛ وذلك ليكونوا أحرارًا في ممارسة عاداتهم التي كانت لهم في بلادهم الأصلية، فإذا حصلت أعراس عندهم حسبتها واقعة في نفس سوريا بما فيها من الأغاريد والأناشيد والزغاريد وما يقال له في لبنان: «التراويد». وقد حضرت في نيويورك عرس فوزي بك البريدي من زحلة، وقد اجتمع فيه أبناء العرب فخلت نفسي في زحلة أو في أية بلدة من لبنان. وكذلك قيل لي: إنهم في الأماكن التي يسكن فيها السوريون على حدة يمارسون عاداتهم الأصلية بالمآتم فتندب النساء من جهة حول الميت، ويندب الرجال من جهة أخرى، وهم يذهبون ويجيئون وبأيديهم المناديل يهزونها في الهواء، وهي ما كان العرب يقولون له: المآلي. واحدة مئلاة، إلا أن بقاء هذه الحالة عند السوريين المهاجرين لا يعدو العصر الحاضر لأن أعقابهم مع الأسف ذائبون إلا ما ندر في الجنسية الأمريكية، وقلما رأينا من ذراريهم المولودين في أمريكا من يعرف اللغة العربية لا سيما الذين أمهاتهم من هناك. وقد عالج بعضهم هذه الحالة وحاولوا استبقاء اللغة العربية بين المولودين في أمريكا من أبنائهم، وفتحوا مكاتب وكتاتيب علمت بوجود اثنين منها في ديترويت مشيغن وحدثوني عن غيرهما، ولكن هذا العوز لا ينسد مع الأسف ببضعة كتاتيب، فالسوريون الذين في أمريكا الشمالية يزيدون على ٢٠٠ ألف نسمة، وهم في الأمريكتين جميعًا أكثر من نصف مليون.
وقد قيل لي: إن أعلى المهاجرين العرب هممًا من جهة الاحتفاظ بلغتهم هم مهاجرو العرب في البرازيل الذين عندهم مجلات راقية وجرائد مفيدة، كما يوجد مثل ذلك في نيويورك، ولم يقتصروا في البرازيل على بعض الكتاتيب لاستبقاء عروبة أبنائهم، بل أسسوا هناك لهذا الغرض مدارس عالية، يدرس الطلبة فيها العربية الفصحى في جانب اللغة البرتغالية التي يتكلم بها أهل البرازيل، أما إذا بقيت أبواب المهاجرة مسدودة على العرب في أمريكا الشمالية فلا تمضي عليهم هناك أكثر من نصف قرن حتى ينقرض منها مع الأسف كل شيء أصله عربي، ويصير وجود العرب في تلك القارة خبرًا من الأخبار التاريخية.
الصحافة العربية في شمالي إفريقية
ولنعد إلى حديث الصحافة العربية الذي كنا في صدده، فنقول: إن شمالي إفريقية قد نهض في العصر الحاضر نهضة أكيدة، وكثرت فيه الجرائد العربية والمطابع وسائر أدوات النشر التي تعول عليها كل أمة ناهضة، ولم يكن في بادئ الأمر بغير تونس جرائد عربية مغربية، وقد تقدم ذكرنا لجريدة الرائد التونسي التي كانت تصدر فيما أذكر من قبل احتلال فرنسا لتونس أي منذ ستين سنة. وبعد ذلك صدرت في تونس جرائد أخرى، وفي يومنا هذا تصدر في تونس عدة جرائد ومجلات راقية؛ كالزهرة والنهضة والصواب والمجلة الزيتونية وغيرها.
كما أنه صدرت في تطوان من المنطقة التي يحتلها الإسبانيول جريدة الريف وجريدة الحرية لحزب الإصلاح الوطني وجريدة الوحدة المغربية للمكي الناصري، ومن قبل كانت جريدة الحياة للسيد عبد الخالق الطوريس ومجلة السلاح للسيد محمد داود. وأما في طرابلس الغرب فلم يكن أيام الدولة العثمانية غير جريدة الولاية الرسمية، وفي الوقت الحاضر توجد جريدة للحكومة في طرابلس وأخرى في بنغازي، ولكن الطرابلسيين يقرءون الجرائد العربية التي ترد عليهم من الشرق والغرب بلذة زائدة، ولا عجب فإن علاقاتهم من جهة الشرق مع مصر والشام ومن جهة الغرب مع تونس هي علاقات أقطار شقيقة، وفي زنجبار من شرقي إفريقية مطبعة سلطانية من قديم الزمن، اطلعنا على كتب مطبوعة فيها، ومؤخرًا وصلت إلينا جريدة عربية صادرة في جريدة زنجبار هذه.
فهذه هي لمحة دالة عن الصحافة العربية في الخمسين من السنين الأخيرة لا نزعم فيها الإحاطة، وإنما نجتزئ بالإشارة التي تعطي القارئ صورة صحيحة عن هذا البحث، وبالجملة فالصحافة العربية كانت من أعظم عوامل نهضة العرب ولا تزال تتقدم إلى الأمام.