المجمع العلمي في دمشق ومصر
ولا يجوز لنا أن ننسى ذكر مجمعنا العلمي هذا الذي كان أول مجمع على نسق أكاديميات أوروبا في الأقطار الشرقية، فإنه يضم نيفًا ومائة عالم شرقي ومستشرق كلهم من ذوي الشهرة الطائرة سواء في الغرب أو في الشرق، وللمجمع مجلة علمية من أرقى ما صدر من المجلات في العربية وأدقها بحثًا وأحسنا أسلوبًا وأجمعها للنوادر وأحفلها بالفوائد، ولا يستغني متخصص في العربية إذا أراد جد الاطلاع عليها عن اقتناء مجموعة هذه المجلة منذ صدورها. وقد سبقت سوريا مصرًا في تأسيس هذا المجمع، ولكن مصر عادت فسدت هذا العوز بتأسيس مجمعها الحالي؛ فكلا المجمعين الشقيقين يخدم هذه اللغة الشريفة وثقافتها بكل ما أُوتِي من قوة ووسائل. ولنا الأمل بأن يسير المجمعان معًا إلى الأمام خطوات واسعة، وأن حكومتي القطرين تشد أزرهما بالمال إلى الحد الذي يمكنهما من القيام بخدمات جلى للعربية والعروبة، كما هو الشأن في أكاديميات الممالك الأوروبية، فإن أمام العرب مهمات عظيمة في إثارة دفائن عقولهم وكشف دارس مدنيتهم والتنقيب عن دقائق تاريخهم، لا يقوم بها إلا هذه المجامع العلمية التي هي أيضًا لا تقوم إلا بتوفير أقساطها من الميزانية المالية، ولست متعرضًا الآن إلى الكلام عما قام به المجمعان الشامي والمصري من الخدمة اللغوية بإيجاد الألفاظ التي تقتضيها حاجة العصر، وإحياء ما وُجِد منها في لغتنا بتطبيقه على المعاني المناسبة له، فإن من شاء أن يعرف طائلًا من هذا الأمر يقدر أن يراجع مجلات هذين المجمعين.
وإنا نكون غفلنا عن الحق وأهملناه جانبًا إذا كنا لا نقول أنه في القرون الأخيرة لولا بقاء الأزهر والأموي والزيتونة والقرويين لم يكن بقى أثر من آثار اللغة العربية، فضلًا عن الشريعة الإسلامية. فهذه المساجد الأربعة هي التي في الدرجة الأولى قد وَقَتْ هذه اللغة من الدثور، وهذه الشريعة من البوار. وقد كانت الفوضى في القرون الأخيرة المذكورة قد نسفت عمران هذه البلدان إلا بقايا تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، وتسلط على هذه القطار ولاة أتوا على الحرث والنسل، وهدموا كل شيء وطمسوا كل رسم، ومع هذا فقد بقيت هذه المساجد الأربعة بنوع خاص مع مساجد أخرى، كانت تجري مجراها تقيم العربية على أركان، وتصد غارات الجهل عليها وعلى الشريعة بقدر الإمكان، فكيف تثبت هذه العربية وهذه الشريعة في وسط هذا الزوال؟! وكيف بقيتا في بهرة هذا الفناء مدة تزيد على أربعة أو خمسة قرون تعاور العالم الإسلامي فيها الانهيار من كل جانب؟! إن هذا لعجب عجاب!
ولا شك أن ثبات الشريعة واللغة في وجه هذه الصدمات السياسية التي تدكدك الجبال هو الدليل الكافي على متانة أصولهما، ورسوخ قواعدهما وغزارة القوة الحيوية التي فيهما. وفي مصر عدا الأزهر معاهد كثيرة للعلم؛ مثل: الجامعة المصرية، ومدرسة القضاء الشرعي، ومدارس الحقوق والهندسة والزراعة. مما لا يتيسر لي استقصاؤه الآن، وإنما أشير إلى نتائجه الباهرة، فإنه لا يكابر مكابر في أن الحركة السياسية الأخيرة التي جرت في مصر في الشتاء الماضي، وانتهت باستقلالها بالرغم من معارضات الإنكليز تحت مختلف العلل، إنما كانت ثمرة هذه المدارس؛ لأن الذين تولوا هذا الأمر هم العشرة الآلاف طالب الذين ثاروا في القاهرة ثورة الرجل الواحد وتنجزوا الاستقلال التام لوطنهم تنجز المستميت، باذلين من دونه دماءهم بذل السخي لماله.