الشعر والشعراء
أما اللغة العربية من حيث هي، فقد طارت في هذه الخمسين سنة الأخيرة بجناحين، وصارت إلى جلالها الماضي وعنجهيتها القديمة، فكثر في السنين الأخيرة سواد الكتاب والشعراء حتى صاروا يُحصَون بالمئات إن لم يكن بالألوف، ونبغ منهم فحول يقدر الإنسان أن يلزهم في صفوف المنشئين والشعراء من أهل القرون الأولى للإسلام عندما كانت اللغة في إبان سورتها، فلا تنظر في جريدة إلا تجد فيها من النظم الفائق والترسل الرائق لشبان لم تسمع في عمرك بأسمائهم هذا، عدا المفلقين والعباقر الذين سارت بذكرهم الركبان وحفظ الرواة من شعرهم كما يحفظون شعر المتنبي وأبي تمام.
ولم يكن منذ خمسين سنة بمصر والشام والعراق والمغرب معشار العدد الذي نجده في يوم الناس هذا من هذه الطبقة الراقية في الأدب منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما قبل، وكان إذا نبغ شاعر أو برع كاتب ضُرِب به المثل لتفرده وخلو الجو من حوله، والحال أنه لو نشرته اليوم من قبره، وعرضته في الجمع لوجدت أمثاله يعدون بالعشرات، وإن كانت لا تزال له طلاوة، فهذه الطلاوة لا ترتفع به إلى صفوف العبقريين، وإنما تجعله في صف المجيدين. وقد كنا في سوريا لا نعرف شاعرًا أحسن من قصيف اليازجي اللبناني الذي نبغ في بيروت وصارت له تلك الشهرة الطائرة باستحقاق، وهو لو وُجِد في زماننا هذا لما كان إلا واحدًا من جماعة.
وكان في بيروت من الشعراء المجيدين عمر الأنسي البيروتي، يقرأ الإنسان شعره بلذة، وكان قبل الأنسي واليازجي أمين الجندي وبطرس كرامة كلاهما من حمص ولهما قصائد كسبا بها شهرة لا تزال لهما إلى اليوم، ولو أنهما عاشا في هذا العصر لم تكن لهما هذه الشهرة بالرغم من إجادتهما وعلو طبقتهما. وقد سأل الأمير بشير الشهابي — أمير لبنان في وقته — الشيخ أمين الجندي عن المعلم بطرس كرامة قائلًا له: ما نسبة المعلم بطرس إليك في الشعر؟ فأجابه: نسبة الثعلب إلى الأسد.
ولم يكن هذا الجواب صحيحًا؛ لأن لبطرس كرامة من الشعر لا سيما في الغزل والنسيب ما لا يقل رونقًا عن شعر الجندي، وكان في بغداد ثلاثة شعراء أو أربعة اشتهرت أسماؤهم في بلادنا؛ مثل: عبد الباقي العمري، وصالح التميمي، وعبد الحميد الموصلي، وعبد الغفار الأخرس. وكان أكثرهم شهرة عبد الباقي العمري وعبد الحميد الموصلي هنا بسبب مراسلاتهما مع نصيف اليازجي. كما أن شهرة صالح التميمي كانت بسبب المناقشة التي وقعت بينه وبين بطرس كرامة. وهذه الطبقة، وإن كانت تُعَد من الطبقة العالية في الأدب، فإن الذين جاءوا بعدها قد ردوها إلى الوراء، فبعد أن كانت من المجلين صارت من المصلين، اللهم إلا إذا حسبنا الشاعر الأرزي الذي لا يلز هؤلاء في قوته، ومن قبله ابن معتوق الذي كان يضارع الشعراء الأولين، وأما في مصر فما بدأ الشعر ينهض إلا بنبوغ محمود صفوت وبعده محمود سامي، وهو صاحب النهضة الشعرية الكبرى. وقد أجمع مؤرخو الأدب على أنه مجدد الشعر العربي في هذا العصر، وأنه الذي أعاد إليه ديباجته الأولى التي كانت القرون الأخيرة لا تعرف منها شيئًا. وما كان شوقي وحافظ وغيرهما من شعراء مصر إلا مبعوثين في عالم الأدب بأنفاس محمود سامي العالية، واليوم لا يكاد يُحصَى عدد المجيدين من شعراء مصر. وأغرب منه نبوغ شعراء في السودان لا يقل شعرهم في الإجادة عن شعراء الأقطار العربية الأخرى. وقد نبغ في تونس في القرن الماضي محمد قباد وهو صاحب تشطير «أفاطم لو شهدت ببطن خبت» الذي دخل فيه مدخلًا لا يفترق عن الأصل، والذي له قصائد أخرى جياد، وجاء بعده شعراء في تونس لم أعلم منهم أحدًا بلغ مداه، وقد هبت ريح الأدب في هذا العصر في أرجاء الجزائر والمغرب الأقصى، وظهر شعراء ومترسلون يمكن أن يضعهم القارئ في صعيد واحد مع شعراء الشرق، ومهما قيل في ترقي الشعراء في هذا العصر الأخير، فأعظم منه قد كان ترقي الكتابة التي لم تتقدم في فصاحة الألفاظ وتنقيح الجمل فقط، بل علت ببلاغتها وحسن أسلوبها وتشبعها بالمعاني الكثيرة التي أوجدتها الحركة العلمية الحديثة فأديل من الصناعة اللفظية، والسجع الرنان بالمسحة العلمية والإنشاء المرسل الملآن، وهذا النوع من الكتابة هو أصعب أنواعها لمن أراد أن يُسمَّى كاتبًا.
ولا نزاع في أن ترقي كل من فَنَّي الشعر والكتابة في الأدب العربي قد كان وليد النهضة العلمية العامة التي حملت المتأدبين على مراجعة أحسن ما كتب العرب وخلفوه في زوايا المكاتب؛ فسمت الهمم بسبب هذه النهضة العلمية إلى طبع الكتب التي لا تزال مجهولة، أو مما ينحصر اقتناؤه في بيوت الأمراء والكبراء، فصارت هذه الكتب من مثل ترسل ابن المقفع والجاحظ وأمثالهما مشاعًا بين جميع عشاق الأدب. وكانوا كلما قرءوا كتب الأوروبيين شعروا بحاجة إلى مادة أغزر من اللغة العربية وأساليب أطلى وفنون أبدع ومجال أوسع، فكأن اللغات الأجنبية هي نفسها قد كانت الحافظ الأعظم على إتقان العرب المحدثين للغتهم، وارتوائهم من معينها، ولا عجب في ذلك فإن العلم يريد بعضه بعضًا؛ سنة الله في خلقه.