(١) «الكتاب» وتأصيل العروبة
لماذا كانت «عربية» القرآن في حاجةٍ إلى دفاع؟ سؤالٌ يَتبادَر إلى
الذِّهن وهو يتابع مناقشة الشافعي للرأي القائل بأن في القرآن بعض
الألفاظ ذات الأصول الأعجمية، وفي دفاعه عن القرآن، وإنكاره التام
والمُطلَق أن تكون به ألفاظٌ غير عربية، يبدو الدفاع منصبًّا على
اللغة العربية ذاتها وإنكار أن يكون قد دخلَتْها ألفاظٌ أجنبية،
ويذهب الشافعي خلافًا لما استقرَّ عليه الرأي في عصره إلى أن الألفاظ
التي يُقال إنها غير عربية هي في الواقع ألفاظٌ عربية، وأن القائلين
بغير ذلك جهلوا هذه الألفاظ أساسًا فتوَهَّموا أنَّها ليست عربية، ويطرح
الشافعي في هذا السياق فكرة اتساع اللسان العربي اتساعًا يجعل من
المستحيل الإحاطة به، إلا للأنبياء، يقول:
ولعل مَن قال: إن في القرآن غير لسان العرب وقبل ذلك منه، ذهب
إلى أن من القرآن خاصًّا يَجهل بعضَه بعضُ العرب، ولسان العرب
أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع
علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامَّتها حتى لا
يكون موجودًا فيها مَن يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم
بالسُّنَّة عند أهل الفقه، لا تعلم رجلًا جمع السُّنن فلم يذهب منها
عليه شيء.
١
وإذا كانت اللغة العربية على مثل هذا الاتساع الذي لا يمكن
لإنسانٍ استيعابه — إلا أن يكون نبيًّا — فإن مُهمَّة تفسير القرآن
تصبح مُهمَّة عسيرة، ما دام القرآن بمثابة صورة مُصغَّرة جامعة للغة
العربية على مستوى المُفردات، وعلى مستوى التراكيب أيضًا، وإذا كان
الشافعي لم يستطع أن يدرك ما في تُصوُّره للغة العربية من تناقضٍ يُؤدِّي
إلى استحالة عملية التفسير، فما ذلك إلا لأنه كان يدافع عن نقاء
اللغة العربية — وعن العروبة من ثَم — من خلال إنكاره لوجود الدخيل
في القرآن، وعلاقة المُشابَهة التي يعقدها الشافعي في النص السابق
بين العلم باللغة والعلم بالسُّنن علاقة لا تخلو من دلالةٍ تكشف عن
طبيعة المُشكِل الذي يحاول الشافعي حَلَّه، فإذا كان تفسير القرآن في ظِلِّ
تصوُّره المُشار إليه للغة يبدو صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا، فإن السُّنة
— التي لا يمكن لأحدٍ استيعابُها وحده أيضًا — تقلل إلى حدٍّ كبير
من تلك الصعوبة، وتجعل المستحيل ممكنًا، وهكذا تصبح السُّنة بمثابة
لغة ثانوية، تساعد في إطار اللغة — اللسان العربي — على إمكان فهم
النص القرآني، وتتأسَّس من ثم مشروعيتها لا في كشف دلالة القرآن
فحسب، بل في تشكيل الدلالة أيضًا.
ومن اللافت للانتباه، أن الموقف الذي اتخذه الشافعي من مشكل وجود
الأجنبي في القرآن وفي اللغة موقف وسطي تلفِيقي يقع بين طرفين: يذهب
أحدُهما إلى وجود ما كان في الأصل أجنبيًّا من الألفاظ في القرآن،
وهذا هو اتجاه كثير من مُفسِّرِي التابِعين وعلى رأسهم عبد الله بن عباس
الذي عاصر النبي
ﷺ ودعا له بالفقه في الدِّين وبعلم التأويل،
٢ والاتجاه الثاني ينكر إنكارًا تامًّا وجود ذلك في
القرآن، لا على طريقة الشافعي، بل على أساس أن وجود الأجنبي يتناقض
مع وصف النص لنفسه بأنه عربي، وبأنه بلسانٍ عربي مبين. أما طريقة
الشافعي الوسطية التلفيقية فتذهب إلى أن هذه الألفاظ مَحل الخلاف هي
من الألفاظ التي تتفق فيها لغات وألْسِنة مختلفة، دون أن تكون قد
انتقلَت من لسان أمةٍ إلى لسان أمةٍ أخرى، وتبدو التلفيقية واضحة في
محاولة التوسُّط بين الاتجاهين على غير أساس، وهي بذلك وسطية تختلف
عن الوسطية التوفيقية الحَقَّة، التي تعتمد على رصد الحقائق التاريخية
وتحليلها، وهذه الطريقة الأخيرة هي التي يُعبِّر عنها أبو عبيد القاسم
بن سلام (ت.٢٢٤ﻫ) حيث يقول:
إن هذه الحروف أصولُها أعجمية كما قال الفقهاء (= يعني
المفسِّرِين) إلا أنها سقطَت إلى العرب فأعربَتْها، وحوَّلتْها عن ألفاظ
العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن، وقد اختلطَت هذه
الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال
عجمية فهو صادق.
٣
لكن مُشكِل لغة القرآن يتجاوز ارتباطه باللغة العربية النقية
الخالصة من أية تأثيراتٍ أجنبية أو كلماتٍ دخيلة؛ أي يتجاوز
«اللسان العربي» إلى تحديد اللغة أو اللغات التي نزل بها القرآن من
بين لغات اللسان العربي العديدة، وطبقًا لحديثٍ متواتر مشهور، فقد
نزل القرآن على «سبعة أحرف» طال النقاش والجدل حولها، وحول
طبيعتها، وقد انتهى الطبري — بعد مناقشةٍ مستفيضة للآراء والمرويات
الكثيرة في الموضوع — إلى أن الحروف السبعة ليست إلا لغات (لهجات)
سبع من اللسان العربي حدَّدها بأن خمسة منها من لسان العَجُز من هوازن:
سعد بن بكر، وجُشَم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، واللغتان
الأخريان لُغتَا قريش وخُزاعة،
٤ وإذا كان القرآن الموجود بين أيدينا إلى اليوم يخلو من
سِمات ومَظاهر التعدُّد اللغوي المشار إليه في حديث الأحرف السبعة، فما
ذلك — فيما يُقرِّر الطبري — إلا لأن الأمة:
أُمِرت بحفظ القرآن، وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف
شاءت … فرأت — لعلةٍ من العلل أَوجَبت عليها الثبات على حرفٍ
واحد — قراءته بحرفٍ واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية.
٥
ومعلومٌ أن الحرف أو اللغة التي ثبتت القراءة عليها هي لغة قريش،
وذلك بناءً على التعليمات التي أصدرها الخليفة الثالث عثمان بن
عفان إلى أعضاء اللجنة التي كوَّنَها لتثبيت القراءة، بعد الخلافات
التي تَواترت أنباؤها في قراءة النص، والتي وصلت إلى حدِّ التكفير المتبادَل.
٦
لم يَتعرَّض الشافعي — فيما قرأْنَا له — لمسألة الأحرف السبعة، ويبدو
أن السبب وراء ذلك أن الخلاف حولها كان قد حُسِم على النحو الذي صاغه الطبري.
٧
هذا بالإضافة إلى أن النص كان قد ثبت قراءته بلسان قريش، الأمر
الذي يُسوِّغ لنا افتراض أن دفاع الشافعي عن نقاء لغة القرآن من
الأجنبي الدَّخيل دفاعًا عن اللسان العربي كله فحسب، بل كان بالإضافة
إلى ذلك دفاعًا عن نقاء لغة قريش، وتأكيدًا لسيادتها وهيمنتها على
لغات اللسان العربي. والحقيقة أن هذا الموقف لا يخلو من «انحيازٍ
أيديولوجي» للقُرَشية التي أَطلَّت برأسها أول ما أَطلَّت — بعد نزول الوحي
— في الخلاف حول قيادة الأمة في اجتماع السقيفة، ولا نُغالي إذا
قُلنا إن تثبيت قراءة النص — الذي نزل متعدِّدًا — في قراءة قريش كان
جزءًا من التوجيه الأيديولوجي للإسلام لتحقيق السيادة القرشية،
وفيما يتَّصِل بمذهب الشافعي فإنه لا يتركنا للتخمين، بل يُعبِّر عن
انحيازه للقرشية بطرائق مُتعدِّدة؛ فهو أولًا يحتفي احتفاءً خاصًّا
بالمروِيَّات التي تُؤكِّد فضْل قريش على الناس كافة،
٨ وهو ثانيًا لا يكتفي بالاتفاق مع جمهور علماء أهل
السُّنَّة بحصر الخلافة في قريش دون غيرها من القبائل العربية، بل يذهب
— فيما يَروِي عنه تلاميذه — إلى أن الإمامة قد تجيء من غير بيعة إن
كان ثمة ضرورة، وأن كل قرشي عَلا الخلافة بالسيف واجتمع عليه الناس
فهو خليفة، فالعِبرة عنده في الخلافة أمران: كَون المُتصدِّي لها
قرشيًّا، واجتماع الناس عليه سواء أكان الاجتماع سابقًا على إقامته
خليفة، كما في حال البيعة، أم كان الاجتماع تاليًا لاستيلائه على
السُّلطة بقوة السيف وغَلبة الشوكة.
٩
لكن أهم صور التعبير عن انحياز الشافعي للقرشية أنه الفقيه
الوحيد من فقهاء عصره الذي تَعاوَن مع السُّلطة السياسية مختارًا
راضيًا، خاصة بعد وفاة أستاذه الإمام مالك بن أنس (١٧٩ﻫ) الذي كان
له من الأمويين مَوقِف مَشهود بسبب فتواه بفساد بيعة المُكْرَه وطلاقه،
١٠ وموقف الإمام أبي حنيفة (١٥٠ﻫ) الرافض لأدنى صور
التعاون معهم — رغم سجنه وتعذيبه — يكشف إلى أيِّ حدٍّ بلغ رفض
الفقهاء لعصبية ذلك النظام ولممارساته القمعية ضد جماهير المسلمين
إلا أن يكونوا من مُؤيِّديه وأنصاره بشكلٍ مباشر،
١١ سعى الشافعي على عكس سَلَفه أبي حنيفة وأستاذه مالك إلى
العمل مع الحكَّام، فانتهز فرصة قدوم والي اليمن إلى الحجاز وجعل بعض
القرشيين يَتوسَّطون له عنده ليلحقه بعمل، فأخذه الوالي معه وولَّاه
عملًا بنجران،
١٢ وإذا كان موقف مالك وأبي حنيفة من النظام العباسي لم
يختلف كثيرًا عن موقفهم من الأمويين، فإن الشافعي تعاوَن معهم وإن
كَرِه منهم تَخلِّيهم عن «العروبة» — التي كانت سمة بارزة للنظام الأموي
— واستنادهم إلى «الفارسية»، الأمر الذي يُبرِز لنا النزوع العصبي
عند الإمام، ويُفسِّر لنا الدفاع السابق عن نقاء النص — ونقاء اللسان
العربي مِن ثَمَّ — من آفَة الدخيل الوافد من الألفاظ، ومما له دلالة في
هذا الصدد أن رحيل الشافعي إلى مصر تلا استيلاء المأمون على السُّلطة
بعد صراعه الدامي مع أخيه الأمين، وهو الصراع الذي وَجدَت فيه
الشعوبية الثقافية والفكرية تَعبِيرها العسكري. تولَّى المأمون السُّلطة
سنة ١٩٨ﻫ، ورحل الشافعي إلى مصر سنة ١٩٩ﻫ، وكان اختيار مصر بالذات؛
لأن واليها في ذلك الوقت كان قرشيًّا هاشميًّا.
١٣
وإذا كان الفقهاء ورجال الحديث ينفرون عادةً من المُتكلِّمين — ومن
المعتزِلة بصفةٍ خاصة — فإن كراهية الشافعي لهم تَكتسِب في السياق
المُشار إليه أبعادًا تَتجاوَز مجرَّد النفور من الطريقة أو المنهج،
وإذا كان الإمام مالك على سبيل المثال قد اكتفى بعدم قبول
مَروياتهم، فإن الشافعي لم يكن يكفيه بالإضافة إلى ذلك النهي عن
الاشتغال بعلم الكلام، بل قال:
حُكمي في أصحاب الكلام أن يُضرَبوا بالجريد، ويُحمَلوا على الإبل
مُنكَّسِين، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال هذا جزاء مَن ترك
الكِتاب والسُّنة، وأخَذ في الكلام … روى الربيع عنه أنه قال: لو
أن رجلًا أوصى بكُتبه من العلم، وفيها كُتب الكلام لم تدخل كُتب
الكلام في تلك الوصية.
١٤
ومن الطبيعي وقد أخرج الشافعي كُتب عِلم الكلام من نطاق العلم،
الذي حصَره في العلم بالكِتاب والسُّنة، أن يتضاعف نفوره من النظام
العباسي، ومن المأمون خاصَّة الذي تَبنَّى المذهب الاعتزالي، وحاوَل أن
يَفرِضه على العلماء، ويجعله مذهبًا للدولة، وهكذا تَتداخَل العروبة
بالقُرشِيَّة وتتوحَّد كلتاهما بالمَنْحَى الفكري المُحافِظ الذي يرفض
العقلانية، وينفر من التفكير المنطقي الاعتزالي.
وقد أدَّى تأكيد الشافعي للعروبة النقية الخالصة للقرآن إلى نتائج
لا تخلو من دلالةٍ في آرائه الفقهية التفصيلية؛ إذ يُصِر الشافعي على
أن قراءة السورة الأولى من القرآن — الفاتحة أو أم الكتاب – شرطٌ
ضروري لصحة الصلاة، ويَتجاهل الشافعي هنا موقف المسلمين من غير
العرب، والذين لم يَتعلَّموا العربية بعد، ويعجزون عن قراءة الفاتحة
بالصورة التي يشترطها الشافعي، والحقيقة أن مَوقف الشافعي لا يُفهم
إلا إذا وُضِع في سياق الصراع الفكري على مستوى عِلم الفِقْه بينه وبين
فقه الإمام أبي حنيفة من أصولٍ فارسية، وعلى عكس نفور الشافعي من
عِلم الكلام ومن المشتغلِين به، كان لأبي حنيفة باعٌ في ذلك العلم، بل
ساهمَ فيه برسالة «الفقه الأكبر» وللتسمية دلالتها بصرف النظر عن
الآراء والمواقف التفصيلية التي كان يَتبنَّاها، ولقد ذهب أبو حنيفة
إلى جواز قراءة الفاتحة باللغة الفارسية في الصلاة لمن لا يقدر على
قراءتها بالعربية، بل ذهب إلى أن القراءة بالفارسية — أو بغيرها من
اللغات بالطبع — يجعل الصلاة صحيحة، سواء كان المصلي عاجزًا عن
القراءة بالعربية أم كان غير عاجز، وإن كانت القراءة في الحالة
الثانية مكروهة فحسب،
١٥ في مقابل هذا الموقف يبدو تَشدُّد الشافعي في اشتراطه
مجموعة من الشروط لصحة القراءة — ولمشروعية الصلاة من ثَم —
بالإضافة إلى ضرورة القراءة بالعربية، فلا بد من البسملة، ولا بد
من تتابُع الآيات وفقًا لترتيبها، ولو نَسِي المُصلِّي أو سها فلم يبدأ
قراءته بالبسملة، أو أتى بآيةٍ قبل آية، فإن الصلاة تكون باطلة ما
لم يبدأ القراءة من جديدٍ بداية من البسملة، ولو أعاد ما نسيه دون
مراعاة الترتيب بطلت الصلاة:
وإن أغفل أن يقرأ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، وقرأ من
الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حتى يختم
السورة كان عليه أن يعود فيقرأ:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حتى يأتي على السورة … ولا
يجزيه أن يقرأ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ بعد قراءة
الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، ولا بين ظهرانيها حتى يعود فيقرأ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم يبتدئ أم
القرآن فيكون قد وضع كل حرفٍ في موضعه، وكذلك لو أغفل فقرأ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قال
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ حتى يأتي على آخر
السورة، وعاد فقال
الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ حتى يأتي على آخر السورة، وكذلك لو أغفل الحمد فقط،
فقال لله رب العالمين عاد فقرأ الحمد وما بعدها، لا يجزه غيره حتى يأتي بها كما
أُنزِلت، ولو أجزت له أن يُقدِّم منها شيئًا عن موضعه أو يُؤخِّره ناسيًا
أَجزتُ له إذا نَسِي أن يقرأ آخر آية منها ثم التي تليها قبلها ثم التي تليها،
حتى يجعل
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آخرها، ولكن لا يَجزي عنه حتى يأتي بها بكاملها كما أُنزِلَت.
١٦
هذا الحرص من جانِب الشافعي — والذي يصل إلى التشدد وتكليف ما لا
يُطاق بالنسبة لغير العربي — يبدو على السطح خلافًا فقهيًّا في
الفروع دون الأصول، لكنه يشير بطريقةٍ دلالية إلى مستوى أعمق من
الخلاف الأيديولوجي بين نهجين في التعامل مع النص ومع الواقع في
نفس الوقت، ويبدو الخلاف حول طبيعة النص هو المُحرِّك الباطني للخلاف
الفقهي حول القراءة في الصلاة بغير العربية، إنه خلافٌ حول «هُويَّة»
النص القرآني، هل هي المَعنَى وحده أم المعنى متلبسًا بالألفاظ، وعلى
صحة الافتراض الأول يمكن للترجمة أن تَحل مَحلَّ الأصل وتُجزئ عنه، وهو
فيما يبدو الموقف الضِّمْني الذي ينطلق منه أبو حنيفة، أما الموقِف
الذي ينطلق منه الشافعي ويَذُود عنه فهو التلازُم بين اللفظ والمعنى،
واعتبار العربية — بكل ما يَلتبِس بها من أيديولوجيا حلَّلنَاها فيما
سبق — جزءًا جوهريًّا في بنية النص، لكنها ليست العربية المُتعدِّدة
اللهجات، بل العربية التي اخْتُصرت في القرشية.
(٢) الدلالة بين العموم والخصوص
كان من الطبيعي أن يكون للخلاف الشافعي/الحنفي حول بِنْية النص
تأثيره على تصوُّر كل منهما للكيفية التي يمكن بها استخراج الدلالة،
ويبدأ الشافعي حديثه عن الدلالة بتقرير مبدأ على درجةٍ عالية من
الخطورة فَحواه أن الكتاب يَدلُّ بطرقٍ مختلفة على حلول لكل المشكلات
أو النوازل التي وَقعَت أو يمكن أن تقع في الحاضر أو في المستقبل على السواء،
١٧ وتكمُن خطورة هذا المبدأ في أنه المبدأ الذي ساد
تاريخنا العقلي والفكري، وما زال يتردَّد حتى الآن في الخِطاب الديني
بكل اتجاهاته وتياراته وفصائله، وهو المبدأ الذي حوَّل العقل العربي
إلى عقلٍ تابِع، يقتصر دوره على تأويل النص، واشتقاق الدلالات منه،
سواء كانت تلك الدلالات مشروعة أم كانت غير مشروعة، ومن الضروري
الإشارة هنا إلى أن هذا المبدأ لم يُؤسِّسه الشافعي للمرة الأولى، أو
لم يكن أول مؤسِّسيه، كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسِين، والأحرى القول
إن الشافعي اعتمَد على استقراره، وإن بشكلٍ ضمني في بنية الثقافة،
ثم أعطاه صياغته النهائية الحاسمة التي كَفلَت له السيطرة
والسيادة.
تُشير الشواهد التاريخية إلى أن الخوارج كانوا أول من رفع مبدأ
الاحتكام إلى كتاب الله بما يعنيه من تضمُّنٍ لمبدأ احتواء القرآن
على حلولٍ لكل المشكلات وإجابات لكل الأسئلة، لكن القراءة المتأنِّية
للشواهد تكشف أن المبدأ مِن طرْح الأمويين في موقعة «صفين» إذ رفعوا
المصاحف على السيوف حين أوشك جيش عليٍّ على الانتصار عليهم، وحين
انتهى أمْر التحكيم إلى ما انتهى إليه من تحكيم الرجال لم يدرك
الخوارج حقيقة الخدعة الأيديولوجية، وظلوا يتمسكون بالمبدأ حتى بعد
أن كشف لهم عليٌّ «أن الكتاب لا ينطبق وإنما ينطق به الرجال.»
١٨ وقبل ذلك كان المسلمون يُفرِّقون بين مجالات الممارَسة
الدينية التي يكون الكتاب إطارها المرجعي، وبين مجالات الحياة التي
تكون التجربة والخبرة هُما إطارها المرجعي، وهو ما تجلَّى في مبدأ
«أنتم أعلم بشئون دنياكم.»
والشافعي حين يؤسِّس المبدأ — مبدأ تضمن النص حلولًا لكل
المشكلات تأسيسًا عقلانيًّا يبدو وكأنه يؤسِّس بالعقل «إلغاء العقل»،
وهو أمرٌ سينكشف في الفقرات القادمة خاصة حين نناقش موقف الشافعي
من مبدأ «الاستحسان» التي احتفى به أبو حنيفة، ومن مبدأ «المَصالح
المرسَلة» الذي وضع أساسه مالك بن أنس أستاذ الشافعي وشيخه.
إن احتواء الكتاب على حلولٍ لكل مشكلات الماضي والحاضر والمستقبَل
يتأسَّس من منظور الشافعي على عروبة الكتاب؛ أي على اللسان العربي
الذي نزل به، والذي يبلغ من الاتساع الدلالي مدًى يجعل الإحاطة به
مستحيلة إلا لمن كان نبيًّا، كما سبقت الإشارة، وهذا الترابط
والتلازُم بين «شمولية الكتاب للحقائق» كافَّة، وبين «اتساع» اللسان
العربي، يجعل من تفسير الكتاب وفهمه مهمة شاقة لا يمكن أن ينهض بها
إلا عربي بالسليقة والجنس؛ لأن مَن سِوى العربي لا يصل إلى مستوى
العربي مَهمَا تعمَّق في اكتساب اللغة وتعلمها:
وإنما بدأتُ بما وصفتُ من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره؛
لأنه لا يعلم من إيضاح جُمل عِلم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب
وكثرة وُجوهه، وجماع معانيه وتفرُّقها، ومَن عَلِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه
التي دَخَلت على مَن جهل لسانها.
١٩
هكذا ترتبط دلالة الكتاب، أو طريقته في إنتاج الدلالة، ربطًا
وثيقًا بطرائق الدلالة في اللسان العربي عامة، وفي لغة قريش بشكلٍ
خاص، ويتجاهل هذا الربط بينهما الآليات الخاصة التي أبدَعها النص
وأضافها إلى اللسان العربي، فأغناها وأثراها:
فإنما خاطَب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تَعرِف من
معانيها، وكان مِمَّا تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فِطرته أن
يُخاطب بالشيء منه عامًّا ظاهرًا يُرادُ به العام الظاهر، ويُستغْنَى
بأول هذا منه عن آخره، وعامًّا ظاهرًا يُراد به العام ويدخله
الخاص، فيُستدلُّ على هذا ببعض ما خُوطِب به فيه، وعامًّا ظاهرًا
يُراد به الخاص، وظاهرًا يُعرف من سياقه أنه يُراد به غير ظاهره،
فكل هذا موجود عِلمُه في أول الكتاب أو وسطه أو آخره، وتبتدئ
الشيء من كلامها يُبيِّن أوَّلُ لفْظِها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يُبيِّن
آخر لفْظِها منه عن أوله. وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون
الإيضاح باللفظ، كما تعرف بالإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى
كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها. وتُسمِّي الشيء
الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمِّي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة.
٢٠
في هذا النص تتحدد الطرائق الدلالية للغة وللقرآن — ولاحظ
التوحيد بينهما — على النحو التالي:
(١) العام من الألفاظ الذي يبقى في إطار دلالته على العام داخل
التركيب أو السياق، والأمثلة والنماذج التي يستشهد بها الشافعي على
ذلك النمط لا تخلو من دلالةٍ أيديولوجية، ومنها الآية:
اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وقد وردَت في عدة
سور من القرآن، وهي آية خِلافية من حيث دلالة لفظ «كل» فيها على العموم،
٢١ والشافعي حين يستشهد بها في الدلالة على العام الباقي
على عمومه يُحدِّد بشكلٍ غير مباشر انتماءه، الأيديولوجي في صف
القائلين بالجبر الرافضين لحرية الإرادة الإنسانية، ولفعال الإنسان
في اختيار أفعاله.
٢٢
(٢) النمط الثاني هو العام الظاهر الذي يدخله تخصيص جزئي لا
يُلغى عمومه، ومن هذا النمط دلالة الآية ١٢٠ من سورة التوبة:
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ
نَفْسِهِ.
«وهذا في معنى الآية قبلها، وإنما أريد به مَن أطاق الجهاد مِن
الرجال، وليس لأحدٍ منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي، أطاق
الجهاد أو لم يُطِقه، ففي هذه الآية الخصوص والعموم.»
٢٣
(٣) النمط الثالث هو العام الظاهر، لكن دلالته هي الخصوص على غير
ظاهِره، الشاهد الواضح لهذا النمط من الدلالة الآية ١٧٣ من سورة آل
عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ:
«فإذا كان مَن مع رسول الله ناسًا غير مَن جمَع لهم من الناس،
وكان المُخبِرون لهم ناسًا غَيْر مَن جمع لهم وغير مَن معه مِمَّن جَمَع
عليه معه، وكان الجامعون لهم ناسًا — فالدلالة بَيِّنة مما وصفتُ من
أنه إنما جَمَع لهم بعضٌ من الناس دون بعض، والعِلم يحيط أن لم
يجمع لهم الناس كلهم، ولم يُخبِرْهم الناس كلُّهم، ولم يكونوا هم
الناس كلهم.»
٢٤
(التأكيد لنا.)
لكن دلالة العام على الخاص لا تكون دائمًا على نفس المستوى من
الوضوح و«البيان» الذي يكشف عنه المثال السابق، بل تتدرَّج مستويات
دلالة العام على الخاص من الوضوح المرتَبِط بكثرة الدلالات إلى
الغموض الذي لا يكشفه إلا العربي مرورًا بدرجةٍ بَيْن الوضوح التامِّ
والغُموض التامِّ بالنسبة لغير العربي فقط، والنموذج الذي يُقدِّمه
الشافعي لدرجة ما بين الوضوح والغموض هو الآية ٧٣ من سورة الحج:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ:
«فمخرج اللفظ عامٌّ على الناس كلهم، وبَيِّن عند أهل العلم بلسان
العرب منهم أنه إنما يُراد بهذا اللفظ العام المخرج بعض الناس
دون بعض؛ لأنه لا يُخاطَب بهذا إلا مَن يدعو مِن دون الله إلهًا،
تعالى عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا؛ لأن فيهم المؤمنين المَغلوبِين
على عقولهم وغير المَغلوبِين ممن لا يدعو معه إلهًا … وهذا في
معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان، والآية قبلها أوضح
عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها.»
٢٥
ليس الغموض والوضوح إذن في دلالة العموم على الخصوص مرتبطًا
بطبيعة التركيب أو السياق، بل هو مرتبطٌ أساسًا — عند الشافعي —
بطبيعة المُتلقِّي، أو بالأحْرَى بجنسيته وأصوله العِرقية، فإذا كان
عربيًّا عالمًا باللسان، فالواضح والغامض لديه سيان، بل يختفي في
حقِّه الفارق بينهما. هذا ما يُقرِّره الشافعي بوضوحٍ وهو يناقش النموذج
الثالث الدالَّ على الغامض الذي لا يعرفه إلا العربي، وهو الآية ١٩٩
من سورة البقرة: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ:
فالعلم يحيط — إن شاء الله أن الناس كُلَّهم لم يحضروا عرفة في
زمان رسول الله، ورسولُ الله المُخاطَب بهذا ومَن معه، ولكنَّ صحيحًا
من كلام العرب أن يقال: «أفيضوا من حيث أفاض الناس» «يعني بعض
الناس»: وهذه الآية في مَعنى الآيتين قبلها، وهي عند العرب
سواء، والآية الأولى أوضح عند من يجهل لسان العرب من الثانية،
والثانية أوضح عندهم من الثالثة وليس يختلف عند العرب وضوح هذه
الآيات معًا؛ لأن أقل البيان عندها كافٍ من أكثره، وإنما يريد
السامع فَهْم قول القائل فأقلُّ ما يفهمه به كافٍ عنده.
٢٦
يتبين مما سبق أن الشافعي وهو يؤسِّس عروبة الكتاب بالمعنى
والدلالات السابقة كان يفعل ذلك من منظورٍ أيديولوجي ضِمني في سياق
الصراع الشُّعوبي الفكري والثقافي، من هنا نفهم ما انتهى إليه من
تحديدٍ لأنماط الدلالة يعتمد على تصنيف المُتلقِّين لا على رصد آليات
إنتاج الدلالة في بِنية النص ذاتها، والحقيقة أن التركيز على دلالة
العام والخاص — دون إهمال الأنماط الدلالية الأخرى التي أسهب
معاصروه في محاولة ضبطها وتحديدها — لا يخلو من دلالةٍ في مُحاوَلة
الشافعي ربْط النص الثانوي — السُّنة النبوية — بالنص الأساسي —
القرآن — كما سيأتي فيما بَعد، وحين يَتعرَّض الشافعي لأنماط الدلالة
الأخرى يَستخدم مفردات «الظاهر» و«الباطن»، جنبًا إلى جنب مُصطلَحات
العموم والخصوص.
(٤) النمط الرابع من أنماط الدلالة هو الظاهر الذي يُعرَف من سياقه
أنه يُراد به غير ظاهره، والأمثلة التي يُقدِّمها الشافعي لهذا النمط
تكاد تقتصر على ظاهرة الحذف، خاصة حذف المضاف وإقامة المضاف إليه
مقامه، وهو ما يعرف ﺑ «مجاز الحذف» الظاهرة التي اهتم برصدها
لغويان معاصران للشافعي: أبو عبيدة مَعْمَر بن المُثنَّى (٢٠٧ﻫ) في
كتابه: «مجاز القرآن»، وأبو زكريا الفراء (٢٠٩ﻫ) في كتابه «معاني القرآن»،
٢٧ ومن الجدير بالذكر أن الكتابين المشار إليهما قد
أُلِّفَا أساسًا لشرح ما استغلق فَهمُه من أساليب القرآن وطرائقه
الدلالية على غير العرب؛ لذلك سيطر على الكتابين طابع الشرح
التبسيطي من جهة، والدفاع عن «مَعقوليته» بِردِّه إلى طريقة العرب — أساليب العربي
— من جهةٍ أخرى،
٢٨ وهذا يؤكد ما نذهب إليه من أن الشافعي يعتمد موقفًا
أيديولوجيًّا خاصًّا في خِضَم صراع فكري شعوبي انحاز فيه لا إلى
العروبة فقط كما انحاز كثيرٌ من معاصريه، بل إلى «القرشية»
تحديدًا.
(٥) النمط الخامس هو ما عبَّر عنه الشافعي في النص الذي سبق أن
أوردناه بقوله: «وتكلم (= العرب) بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح
باللفظ، كما تعرف بالإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها،
لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها.» والمقصود بهذا النمط
أساليب «الاستعارة والكناية» وكل ما اعتَمَد على التجاوز الدلالي،
أو الإشارة فيما يُعبِّر الشافعي، وهذا النمط من الدلالة من أعلى
الأنماط لأن العلم به مقصورٌ على «أهل العلم» دون «أهل
الجهالة».
(٦، ٧) يبقى النمطان الأخيران من أنماط الدلالة، وهما يتعلقان
بدلالة الألفاظ المُفرَدة، مثل «الترادُف» وهو أن تسمي العرب: «الشيء
الواحد بالأسماء الكثيرة.» ومثل «الاشتراك» وهو أن تسمي العرب
«بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة.»، ولم يتعرض الشافعي لهذين النمطين
ولا للنمط السابق — التجاوُز الدلالي — بالشرح أو بإعطاء الأمثلة،
معتمدًا — ربما — على الاكتفاء بشرح مُعاصِرِيه من اللغويين
والبلاغيين.
(٣) الدلالة بين الوضوح والغموض
إذا كان الشافعي قد ركَّز جُلَّ اهتمامه على ثنائية العلوم والخصوص
في دلالة الكتاب، مع عدم إهمال الإشارة إلى أنماط الدلالة الأخرى،
فإن ذلك إنما يرجع أساسًا إلى طبيعة المدخل الفقهي الباحث عن مدى
شمول الأحكام للأفراد التي يَحصُرها لفظ العموم. هذا من جهة، ومن
جهةٍ أخرى كان هدف تأسيس «السُّنة» نصًّا ثانيًا، لا يقل من حيث
مشروعيته الدلالية عن النص الأول، دافعًا ضمنًا لإعطاء ثنائية
العموم والخصوص مركز الصدارة في بحثه الدلالي. إن العموم في اللغة
جزءٌ جوهري في بِنيتها، بدونه لا تستطيع أداء وظيفتها الرمزية في
الإشارة إلى المَفاهيم والتصورات في سياقٍ ثقافي محدَّد، لكن هذا
العموم لا يكاد ينفصل عن التخصيص الذي يُحدِّده سياق الحدث اللغوي
وملابَسات الخطاب، الداخلية أو الخارجية، ولعلَّ هذا ما جعل الشافعي
يذهب إلى أن دلالة العام على العموم دلالة «ظنية لا قطعية»، حتى في
حالة عدم وجود مُخصِّص، وهو في ذلك يختلف مع الأحناف الذين يذهبون إلى
أنها دلالة قطعية. ويستند الشافعي في موقفه هذا إلى أن: «احتمال
التخصيص قوي؛ إذ العامُّ الخالي من التخصيص نادِر، وروي عن ابن عباس
أنه قال: ما من عامٍّ إلا وخُصِّص.»
٢٩ وإذا كنا سنناقش دلالة هذا الخلاف عند حديثنا عن دلالة
السُّنة، فإننا نكتفي في سياقنا الحالي بتأكيد أن دلالة العموم على
العام تدخل دائرة «المُجمَل»؛ أي الغامض الذي يحتاج إلى تفسير، وإن
كان الشافعي لم يستخدم إلا مصطلَح «الظني» وهو مصطلَح يستخدم عادة
مقابلًا لمصطلَح «القطعي»، وهما يشيران إلى درجة التَّحمُّل في الرواية؛
أي درجة «الثبوت»، أكثر مما يشيران إلى غموض الدلالة أو وضوحها،
لكن تداخل مصطلَحات الدلالة — الدراية — بمصطلَحات التحمُّل — الرواية
— لا يخلو بِدَوره من دلالة على طبيعة مشروع الشافعي، المشروع الهادف
إلى تأسيس السُّنة «نصًّا»، فهي التي تخصص عموم الكتاب، وتُحوِّله من
«الظنية» إلى «القطعية» على مستوى الدلالة:
«ولا يقال بخاصٍّ في كتاب الله ولا سُنَّته إلا بدلالةٍ فيهما
أو في واحدٍ منهما، ولا يقال بخاصٍّ حتى تكون الآية تَحتمِل أن
يكون أريد بها ذلك الخاص، فأما ما لم تَكُن مُحتمِلة له فلا يقال
فيها بما لم تَحتَمِل الآية.»
٣٠
وإذا كان العام ظَنِّي الدلالة فمعنى ذلك أنه أُدْخِل في دائرة الغموض
من «الظن»، ومن «المُحكَم»، في دلالة الكتاب، و«النص» و«المُحكَم»، أو
«المُجمَل» مستويان دلاليان لا يحتاج أولهما إلى التفسير، «ويُستغنى
فيه بالتنزيل عن التأويل»، ويحتاج الثاني منهما إلى الشرح والبيان
الذي تُقدِّمه السُّنة، وإذا أضفنا إلى ذلك دور السُّنة في تخصيص العامِّ
أمكن لنا أن نقول إن السُّنة تتداخل في دلالة الكتاب من جانبي: تفصيل
المُحكَم، وتخصيص العام:
فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه، ممَّا تَعبَّدهم به، لما مضى من
حكمه، جل ثناؤه، من وجوه:
فمنها: ما أبانه لخلقه نصًّا، مثل جُمَلِ فرائضه، في أن عليهم
صلاة وزكاة وحجًّا وصومًا، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما
بطن، ونصِّ الزِّنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن
لهم كيف فَرْضُ الوضوء مع غير ذلك ممَّا بيَّن نصًّا، ومنه ما أحكم
فَرْضَه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه: مثل عدد الصلاة
والزكاة ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من
كتابه.
ومنه: ما سَنَّ رسول الله
ﷺ مما ليس فيه نَصُّ حُكْم، وقد فَرَض
الله في كتابه طاعة رسول الله
ﷺ والانتهاء إلى حكمه،
فمَن قَبِل عن رسول الله فبِفَرْض الله قَبِل.
ومنه: ما فَرَض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم
في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.
٣١
وإذا استبعدنا مجال الاجتهاد — مؤقتًا — من مجال تحليلنا، فإننا
يمكن أن نُحدِّد أنماط الدلالة من حيث مستوى الوضوح والغموض على النحو
التالي: النص، ثم المُحكَم أو المُجمَل، ثم العام، وتَتَدخَّل السُّنة لكشف
دلالة المُحكَم، أو بالأحرى للتفصيل، كما تتدخل لتخصيص العام، ومعنى
ذلك أن الكتاب لا يستقلُّ دلاليًّا إلا في «النص» المستغنَى فيه
بالتنزيل عن التأويل. وإذا تساءلنا أين نضع أنماط الدلالة التي
حللناها في الفقرة السابقة — دلالة العموم والخصوص — في سياق
مُستوَيات الوضوح والغموض لا نجد عند الشافعي إجابةً مباشرة، لكن
إشاراته المتكررة لوضوحها بالنسبة إلى أهل العلم وغموضها بالنسبة
إلى أهل الجهل، يسمح لنا بأن نضعه في الغامض، لكنه الغامض الذي يجد
إطاره التفسيري في «اللسان العربي»، وهكذا تحتاج دلالات الكتاب إما
إلى «السُّنة»، وإما إلى «اللسان العربي» لتفسيرها وتأويلها، ويبقى
مجال «النص» هو المَجال الوحيد «الذي لا يُعذَر أحد بجهالته» فيما
يُروى عن ابن عباس،
٣٢ وهكذا نستطيع أن نُرتِّب الدلالات في علاقاتها بأطرها
التفسيرية على النحو التالي: