ثانيًا: السُّنة
(١) الكتاب مصدر مشروعية السُّنة
من الواضح أن السُّنة في عصر الشافعي كانت في حاجةٍ إلى تأسيس
مشروعيتها بوصفها مصدرًا ثانيًا من مصادر التشريع، وليس الأمر أمر
الدفاع عن السُّنة ضد «أهل الرأي»، فلم يكن الخلاف بينهم وبين «أهل
الحديث» خلافًا حول مشروعية السُّنة، لكنه كان في الأساس خلافًا حول
الثقة في بعض أنواع الأحاديث، خاصة بعد استشراء ظاهرة الوضع
لأسبابٍ عديدة معروفة، كان هناك من يرى أن في القرآن كفاية وغُنْيَة
عن أحاديث وسنن يصعب التعرُّف على مدى صدقها ونسبتها إلى الوحي،
وكان يرى دلالة الكتاب حاكمة على المرويات، وكان هؤلاء فيما يبدو
يعتمدون على مروياتٍ تُؤكِّد موقفهم، بالإضافة إلى مواقف بعض الصحابة
من مروياتٍ لم يأخذوا بها لتعارضها مع دلالة بعض نصوص القرآن؛
١ لذلك نجد الشافعي يحرص كما سبق لنا القول — لا على
جعلها شارحة ومفسِّرة للكتاب فحسب، بل على إدماجها في أنماط الدلالة
وإدخالها جزءًا جوهريًّا في بِنْية النص القرآني، وهكذا تتعلَّق السُّنة
بالكتاب من ثلاثة أوجه: الأول التشابه الدلالي، وهو تَشابُه يعتمد
على تكرار السُّنة للخِطاب القرآني، الثاني علاقة التفسير والبيان،
كما في تخصيص العام وتفصيل المُجمَل، والتعلق الثالث انفرادها
بالتشريع بوصفها نصًّا مستقلًّا، وإن كان يستمد حجيته النصية من
دوالٍ في الكتاب نفسه:
وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحدُهما: نص كتاب فاتَّبَعه
رسول الله كما أنزل الله، والآخَر جملَة بيَّن رسول الله فيها عن
الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها: عامًّا أو
خاصًّا، وكيف أراد أن يأتي به العباد، وكلاهما اتَّبَع فيه كتاب
الله … فلم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن سنن النبي من
ثلاثة وجوه، فاجتمعُوا على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرَّعان،
أحدهما: ما أنزل الله فيه نصَّ كتاب، فبيَّن رسول الله مثل ما نصَّ
الكتاب، والآخَر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبيَّن عن الله
معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سنَّ رسول الله فيما ليس فيه نصُّ كتاب، فمنهم
مَن قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبَق في علمه من
توفيقه لرضاه؛ أن يَسُن فيما ليس فيه نصُّ كتاب، ومنهم من قال: لم
يَسُن سنةً قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد
الصلاة وعملها، على أصل جملة فروض الصلاة، وكذلك ما سن من
البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال
لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ (النساء: ٢٩)، وقال:
وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
(البقرة: ٢٧٥)، فما أحل وحرَّم فإنما بيَّن فيه عن الله، كما بيَّن
الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتَت سُنَّتَه
بفرض الله، ومنهم من قال ألقى في روعه كل ما سن، وسُنَّته الحكمة:
الذي ألقى في روعه، فكان ما ألْقَى في روعه سُنَّتَه.
٢
وإذا كان الوجهان الأوَّلَان لَيسَا مَحل خلاف، فإن الوجه الثالث محل
الخلاف — وهو استقلال السُّنة بالتشريع — يكشف عن طبيعة الموقف الذي
أُهِيل عليه تراب النسيان في ثقافتنا وفِكْرِنا الديني، وطَبقًا لهذا
الموقف ليستِ السُّنة مصدرًا للتشريع، وليست وحيًا، بل هي تفسير وبيان
لما أجملَه الكتاب، وحتى مع التسليم بحجية السُّنة، فإنها لا تستقل
بالتشريع، ولا تضيف إلى النص الأصلي شيئًا لا يتضمنه على وجه
الإجمال أو الإشارة، ولا شك أن ذلك الموقف يختلف إلى حدٍّ كبير عن
الموقف الذي جعله الشافعي يَسود، وهو اعتبار السُّنة «وحيًا» من نمطٍ
مُغايِر عن وحي الكتاب. إن وحي السُّنة هو «الإلقاء في الروع»؛ أي
«الوحي بالمعنى اللغوي الذي هو الإلهام، وليس بالمعنى الاصطلاحي؛
أي عن طريق وساطة الملك «جبريل»»،
٣ وللشافعي يرجع الفضل في إيجاد الرابطة بين دلالتي
«الوحي» وذلك بتأويله للحكمة التي يَرِد ذكرها في القرآن كثيرًا
مُصاحِبة للكتاب:
كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كَتبْنا في كتابنا
هذا، مِن ذكر ما منَّ الله به على العباد من تعلم الكتاب
والحكمة دليلٌ على أن الحكمة سنة رسول الله.
٤
وإذا كانت الحكمة هي السُّنة، فإن طاعة الرسول — المُقترِنة دائمًا
بطاعة الله في القرآن — تعني اتباع السُّنة،
٥ ولا يمكن الاعتراض على الشافعي بأن المقصود بطاعة
الرسول طاعته فيما يبلغه من الوحي الإلهي، القرآن؛ لأنه قد جعل
السُّنة وحيًا من الله يتمتع بنفس القوة التشريعية والإلزام، ولا
يمكن الاعتراض أيضًا بأن الفَرْق بين سنة العادات والتقاليد فرْق غير
واضح، خاصة مع اتساع مفهوم السُّنة ليشمل الأقوال والأفعال
والموافَقات؛ إذ يلجأ الشافعي إلى فكرة «العصمة» التي تمتع بها
الأنبياء جميعًا ومحمد خاصة لِيُزيل مثل هذا الاعتراض.
٦
هكذا يكاد الشافعي يتجاهل «بشرية» الرسول تجاهلًا شِبه تام، وتكاد
تختفي من نَسقِه الفكري «أنتم أعلم بشئون دنياكم.» حتى إنه يجعل من
مُواضَعات النظام الاجتماعي السائد، والذي لم يُقِمْه الإسلام، سُنَّة
واجبة الاتباع، يجري عليها القياس، فالشافعي يرى «العبد» لا يرث،
وذلك قياسًا على حديثٍ يرويه منطوقُه: «من باع عبدًا وله مال (أي
للعبد) فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع.» وإدخال هذا القول في
إطار سنَّة الوحي يَتعارَض مع المقاصِد الكلية للشريعة، والتي تَعتبِر
«الحرية» أصلًا، والعبودية أمرًا طارئًا، والأقرب إلى الإسلام أن
يكون للقول سياق خاص أفتَى فيه الرسول برأيه بوصفه كان تاجرًا يدرك
شروط المعامَلات وأعراف البيع والشراء المُتَّفَق عليها. لكن الشافعي
يعتبر القول حديثًا ينتمي إلى مجال السُّنة/الوحي فيُجْرِي عليه القياس
على النحو التالي:
«فلما كان بَيِّنًا في سنة رسول الله أن العبد لا يملك مالًا،
وأن ما ملك العبد فإنما يملكه سيده، وأن اسم المال له إنما هو
إضافة إليه؛ لأنه في يديه، لا أنه مالِك له، ولا يكون مالكًا له
وهو لا يملك نفسه، وهو مملوك يُباع ويُوهب ويُورث، وكان الله
إنما نقل مَلك الموتى إلى الأحياء، فملَكوا ما كان الموتى
مالكِين، وإن كان العبد أبًا أو غيره ممن سُمِّيَت لهم فريضة فكان
لو أُعْطِيها مَلكَها سيِّدُه عليه، لم يكن السِّيد بأبِي الميت ولا
وارثًا سُمِّيَت له الفريضة:
– فكنا لو أَعطَيْنا العبد بأنه أبٌ إنما أعطَينا السَّيدَ الذي لا
فريضة له، فورَّثْنا غير مَن ورَّثَه الله، فلم نُورِّث عبدًا لما وصفت،
ولا أحدًا لم تجتمع فيه الحرية والإسلام والبراءة من القتل،
حتى لا يكون قاتلًا.»
٧
وهذا موقف يُخالِف موقف أبي حنيفة الذي يرى الحرية في الإنسان هي
الأصل، والعبودية شيئًا طارئًا لا يُقاس على أحكامها شيء؛ لذلك يذهب
إلى جواز الاستسعاء؛ أي جواز أن يسعى العبد لتعويض سيده كي يعتقه،
كما يذهب إلى عدم جواز استرقاق الأقارب، فمن أُعْتِق بَعْضُه أُعْتِق كُلُّه،
فإذا اشترى شخص مع شريك له قريبًا له فإنه بِمجرَّد الشراء يعتق العبد
كله، يُعْتَق نصيبُ القريب بسبب القرابة، ويُعْتَق نصيب الشريك بسبب أن
العتق لا يَتجزَّأ، هذا قدرٌ مُتَّفَق عليه بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه
— محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف — ولكن موضع الخلاف بينهما أن
أبا حنيفة قال إن القريب لا يَضمَن لشريكه شيئًا، بل على المعتَق —
بالتاء المفتوحة — أن يَسْعَى في قيمة نصيب الشريك؛ إذ تكون دَينًا عليه.
٨
ومعنى ذلك أن تأسيس مشروعية السنة بناء على تأويل بعض نصوص
الكتاب — مثل تأويل الحكمة بأنها السُّنة، وتأويل العصمة بأنها
انعدام الخطأ مطلقًا — لم يكن يتم بمعزلٍ عن الموقف الأيديولوجي
المشار إليه، ولا يتبين هذا بشكلٍ واضح إلا ببيان الكيفية التي
يُساجِل بها الشافعي مَن لا يَقبلون من السُّنة إلا ما وافَق الكتاب،
جنبًا إلى جنب من يُنكرِون كَوْن السُّنة وحيًا من عند الله، يقول
الشافعي ردًّا على الفريق الأول:
«أخبرنا ابن عُيَيْنَة بإسناده عن رسول الله
ﷺ أنه قال:
لا يُمْسِكَن الناس عليَّ بشيء، فإني لا أُحِل لهم إلا ما أَحَل الله،
ولا أُحَرِّم إلا ما حَرَّم الله عليهم … هذا منقطع ونحن نعرف فِقْه
طاووس، ولو ثبَت عن رسول الله
ﷺ فبَيَّن فيه أنه على ما
وصفتُ إن شاء الله تعالى، قال لا يُمْسِكَن الناس عليَّ بشيء، ولم يَقُل
لا تُمسِكوا عَنِّي، بل أَمَر أن يمسك عنه، وبأمر الله عز وجل بذلك …
أخبرنا ابن عيينة عن أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن
أبيه أن رسول الله
ﷺ قال: لا ألفين أحدكم متكئًا على
أريكته يأتيه الأمر مما أمرتُ أو نهيتُ فيقول: لا أدري، ما وجَدْنا
في كتاب الله عز وجل اتبعناه، وقد أُمِرْنا باتباع ما أُمَرنا
واجتناب ما نهى عنه، وفرض الله ذلك في كتابه على خليقته، وما
في أيدي الناس مِن هذا تَمسَّكوا به عن الله تبارك وتعالى، ثم عن
رسول الله
ﷺ ثم عن دلالته، ولكن قوله — إن كان قاله — لا يُمْسِكَن الناس عليَّ بشيءٍ يدل على أن
رسول الله
ﷺ إذ
كان بموضع القدوة فقد كانتْ له خواص أُبِيح له فيها ما لم يُبَح
للناس، وحُرِّم عليه منها ما لم يُحَرَّم على الناس، فقال لا يُمْسِكَن
الناس عليَّ بشيءٍ من الذي لي أو عليَّ دونهم، فإن كان لي أو عليَّ
دونهم لا يُمْسِكن به. وذلك مثل أن الله عز وجل أحلَّ له من النساء
ما شاء، وأن ينكح المرأة إذا وهبَت نفسها له قال الله تعالى
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ، فلم يكن لأحدٍ أن يقول قد جمَع رسول
الله
ﷺ امرأة بغير مَهْر … وهذا معنى قول النبي
ﷺ
— وإن كان قاله — لا يُمْسِكن الناس عليَّ بشيء، فإني لا أحل لهم
إلا ما أحل الله ولا أحرِّم عليهم إلا ما حرَّم الله، وكذلك
صنع رسول الله
ﷺ، وبذلك أمَرَه وافتَرَض عليه أن يتبع ما
أوحَى إليه، ونشهد أنه اتبعه، فما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله
عز وجل في الوحي اتباع سُنَّته فيه، فمن قَبل عنها فإنما قبل بفرض
الله عز وجل.»
٩
فالشافعي هنا يعتمد آلِيَّتين شائعتين من آليات السِّجال الأيديولوجي
بين الفِرَق الإسلامية خاصَّة المُتكلِّمِين، وذلك رغم كراهيته المُشار
إليها سابقًا لعلم الكلام وللمشتغلِين به. الآلية الأولى هي مجابَهة
النص بنصٍّ مثله، وفي حالة نصوص الأحاديث يتم الحكم بضعف الحديث
الذي يستشهد به الخصم قبل إيراد الحديث الآخَر الذي يُعزِّز موقف
المُساجل، لكن الحكم على مستوى مصداقية الحديث يظل دائمًا أمرًا
خلافيًّا؛ لذلك يلجأ المساجل إلى الآلية الثانية وهي آلية التأويل
— تأويل النص الخلافي — لينطق بما يراد به، وفي النص السابق يلجأ
الشافعي إلى كلتا الآلِيَّتين، فيؤوِّل الحديث ليجعله ناطقًا بأن
النهي قاصرٌ على الأحكام الخاصة بالنبي وحده، وللرد على مَن ينكرون
أن السُّنةَّ وحيٌ يقول:
«وما فرض رسول الله
ﷺ شيئًا قط إلا بوحي، فمن الوحي
ما يُتلى، ومنه ما يكون وحيًا إلى رسول الله
ﷺ فيُسْتَن
به، أخبرنا عبد العزيز بن محمد بن أبي عمرو عن المطلب بن حَنْطَب
أن رسول الله
ﷺ قال: «ما تركتُ شيئًا مما نهاكم عنه إلا
وقد نَهيتُكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت
نفس حتى تَستوفِي رِزْقها فأجْمِلوا في الطلب …» وقد قيل: ما لم يتلُ
قرآنًا إنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله، فكان وحيًا إليه،
وقد جعل الله إليه لِمَا شهد له به من أنه يَهدِي إلى صراطٍ مستقيم
أن يَسُن، وأيهما كان فقد ألزمهما الله تعالى خَلْقَه، ولم يجعل لهم
الخِيَرة مِن أمْرِهم فيما سَنَّ لهم، وفَرض عليهم اتباع سُنَّته.»
١٠
لكن توحيد الشافعي بين وحي القرآن ووحي السنة لا يستقيم له، خاصة
وقد جعلهما على درجةٍ واحدة من حيث قوة الإلزام؛ لأن النتيجة
النهائية لمثل ذلك التوحيد مُشارَفة أفاق التوحيد بين الإلهي
والبشري، بما يستتبعه ذلك من إهدار خصوصية الرسول وبشريته بوصفه
مُبلِّغًا للوحي وشارحًا له، إنَّ التعامل مع شخص الرسول بوصفه «مُشرِّعًا»
مستقِلًّا عن المشرع المُوحَى يستند في فكر الشافعي إلى وجود نَمَطين
من الوحي كما سبق القول هما الوحيُ القرآني ووحيُ السُّنة، أو الإلقاء
في الروع، لكن هذا التأسيس للنمط الثاني على النمط الأول لا يعني
أن كل ما صدر عن الرسول من أقوالٍ وأفعال وتقريرات — وهو مفهوم
السُّنة — صدر عن وحي، فكثيرٌ من الشواهد تدلُّنا على أنه كان يرى
الرأي ثم يستشير أصحابه ويتبع رأيهم، والمرويات في ذلك أكثر من أن
تُحصَى؛ لذلك يحس الشافعي أحيانًا أن تأويل الحكمة بالسنة — سعيًا
إلى تأسيس الترابط العضوي بين النصين — تأويلٌ يحتاج إلى تأويلٍ
آخَر، خاصةً إزاء من يرى أن الحكمة هي الكتاب نفسه، وأن منطوق
الآية:
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي
بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ
لَطِيفًا خَبِيرًا (الأحزاب: ٣٤)، يؤكد أن المَتلُو هو
القرآن وهو الحكمة أيضًا، وهنا يَلجأ الشافعي إلى تأويل القراءة
بأنها مُجرَّد «النطق»، حتى تدل الحكمة على السُّنة التي ينطق بها كما
ينطق بالقرآن.
١١
(٢) الكِتاب والسُّنة: نصَّان أم نص واحد
وما دام القرآن والسُّنة بمثابة نص واحد — كما ذهب الشافعي — فقد
كان من المتوقَّع أن يجعلهما مُتناسِخَين؛ أي ينسخ أحدهما الآخر، فتنسخ
السُّنة القرآن كما ينسخ القرآنُ السُّنة، لكن الإمام لا يذهب هذا
المذهب ويتمسك في قضية النسخ باستقلال كل من النصين، ويكاد في
تقريره لعدم جواز أن تَنْسَخ السُّنة القرآن أن يطرح مبدأ الفصل بين
النصين استنادًا إلى نسبة كل منهما من حيث المصدر.
أن ما صدر عن الله في كتابه لا ينسخه إلا مثله؛ لأن ما افترضه
الله على عباده لا يجوز لأحدٍ غيره أن يبدله أو يغيره، وفي هذا
يستند الشافعي إلى النص القرآني الذي يأمر النبي أن يعلن أنه لا
يجوز له تغيير شيء من الوحي من تلقاء نفسه، ولا يَتنبَّه الشافعي إلى
أن مثل هذا الاستناد يعني أن السُّنة ليست وحيًا، وإنما هي اجتهادات
النبي لفهم الوحي، وهي اجتهادات لا يصح أن تتناقض مع منطوق الوحي،
ناهيك بأحكامه:
«وأنزل عليهم الكتاب تبيانًا لكل شيءٍ وهُدًى ورحمة، وفرض فيه
فرائض أثبتها، وأخرى نَسخَها: رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم،
وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه، وأبان لهم
أنه إنما نَسَخ ما نَسَخ من الكتاب بالكتاب، وأن السُّنَّة لا ناسخة
للكتاب، وإنما هي تبع الكتاب بمثل ما نزل نصًّا، ومفسِّرَة معنى
ما أنزل جملًا … وفي قوله
مَا يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي (يونس: ١٥)،
بيان ما وصفت، من أنه لا يَنسخ كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان
المبتدى لفرضه فهو المُزِيل لما شاء منه، جل ثناؤه، لا يكون ذلك
لأحدٍ من خلقه.»
١٢
وهكذا يَتحدَّد دور السُّنة في أنها تابعة للكتاب، إما بالتكرار، أو
بالشرح والتفسير والبيان ويكاد يختفي دورها التشريعي المستقِل
بوصفها وحيًا، وإن يكن من نمطٍ مُغايِر، ويكون من المنطقي — بناء على
هذا الفصل — ألا تنسخ القرآنَ السُّنة، فالأصل لا يمكن أن يُغيِّره فرعُه
الشارِح المفسِّر، بل تتولى السُّنة نَسْخَ السنة ويكون هذا من قبيل
المَزيد من الشرح والبيان، وإذا كانت السُّنة هي المُبيِّنة والشارحة
للكتاب، فهي بالتالي الكاشِفة عن الناسِخ فيه والمنسوخ، من هنا لا
يصح أن تُنْسَخ السُّنة بالكتاب، ولو نُسخِت السُّنة بالكِتاب لاضطربَت
دلالتها على الناسخ والمنسوخ في الكتاب، ولاضطربَت دلالة الكتاب
ذاته، واضطربَت معها دلالة السُّنة بالتبعية:
«إن النبي
ﷺ إذا سن سُنَّة حوَّله الله عنها إلى غيرها:
سن أخرى يصير إليها الناس بعد التي حُوِّل عنها لئلا يذهَب على
عامتهم الناسخ، فيَثبتون على المنسوخ، ولئلا يُشَبَّه على أحدٍ بأن
رسول الله يَسن فيكون في الكتاب شيء يرى مَن جَهِل لسان العرب أو
العلم لمَوقع السُّنة مع الكتاب وإبانتها مَعانيه أن الكتاب ينسخ
السُّنَّة … فلا يجوز أن يَسُنَّ رسول الله سُنَّة لازمة فتُنْسَخ فلا يَسُنَّ ما
نَسخَها، وإنما يُعْرَف الناسِخ بالآخِر مِن الأمْرَين، وأكثر الناسخ في
كتاب الله إنما عرف بدلالة سنن رسول الله، فإذا كانت السُّنة تدل
على ناسخ القرآن وتُفرِّق بينه وبين مَنسوخه لم يكن أن تُنْسَخ السُّنة
بالقرآن إلا أحَدَث الله مع القرآن سُنَّة تَنسَخ سُنَّته الأولى، لتذهب
الشُّبْهَة عن مَن أقام اللهُ الحجةَ عليه مِن خلقه،
١٣ ولو جاز أن يقالَ قد سَن رسول الله ثم نَسخَ سُنَّته
بالقرآن ولا يُؤْثَر عن رسول الله السُّنَّة الناسخة — جاز أن يقال
فيما حرم رسول الله مِن البيوع كلها: قد يحتمل أن يكون حرَّمَها
قبل أن ينزل عليه
وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (البقرة: ٢٧٥)، وفيمن
رُجِم من الزناة: قد يُحتمَل أن يكون الرَّجم منسوخًا: لقول الله
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (النور: ٢)،
وفي المَسْح على الخُفَّين: نَسخَت آيةُ الوضوء المَسحَ، وجاز أن يقال:
لا يُدرَأ عن سارقٍ سَرَق من غير حِرزٍ وسَرِقتُه أقلُّ مِن رُبع دينار،
لقول الله
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (المائدة: ٣٨)؛ لأن اسم
السرقة يلزم مَن سرق قليلًا وكثيرًا، ومِن حِرزٍ ومن غير حِرز،
ولجازَ ردُّ كل حديثٍ عن رسول الله، بأن يقال: لم يَقلْه، إذا لم
يَجِدْه مثل التنزيل، وجاز ردُّ السنن بهذين الوجهين، فتركت كل سُنة
معها كتاب جملة تحتمل سُنَّته أن توافقه.»
١٤
ويبدو أن حرص الشافعي على التمييز بين القرآن والسُّنة — في مسألة
الناسخ والمنسوخ — كان نابعًا من حرصه على سحب البساط من تحت أقدام
الذين يردون الأحاديث إذا تعارضت مع القرآن رغم تعارُض ذلك مع
التوحيد السابق الإشارة إليه بينهما، وهذا التردُّد في الموقِف بين
توحيد النَّصين والعَزْل بينهما لا يكفي فيه القول إن الشافعي يتوسط
بين أهل الرأي وأهل الحديث، ذلك أن الخلاف بين الاتجاهين لم يكن
خلافًا حول مشروعية السُّنة كما سبقَت الإشارة،
١٥ والحقيقة أن التردُّد سِمة لَصِيقة بالفكر التَّلفِيقي، وهو
الفكر الذي يحاوِل التوفيق بين نَهجَين على أساسٍ أيديولوجي لا على
أساسٍ عقلي يَتلمَّس جوانب الأصالة والإبداع في كل من الاتجاهين
المتعارضَين، ويصل بينهما في مركبٍ جديد، لا ينتمي لأيٍّ منهما في
نهاية الأمر، ولقد انتهى الشافعي إلى الانتماء إلى مدرسة أهل
الحديث، رغم اعترافه بمشروعية «القياس»، ذلك أنه كبَّل القياس — كما
سنرى فيما بعدُ — بمجموعةٍ من القيود أدَّت به في النهاية إلى أن يكون
مجرَّد استناد غير مباشر إلى النصوص؛ لذلك كان لا بد من توسيع دائرة
النصوص لتشمل السُّنة والإجماع، من هنا كان الحرص على توسيع نطاق
السُّنة من جانب، والحرص على تأكيد أنها وحيٌ من جانبٍ آخَر، لكن تَصوُّر
علاقة السُّنة بالقرآن عند الأحناف، الذين اشتهروا بأنهم أهل الرأي،
لا يتجاوز كَونَها نصًّا شارحًا لا يَستقِل بالتشريع، فهي إما أن تُقرِّر
ما قرَّره القرآن، وتكون دلالتها دلالة التأكيد وفضْل البيان، وإما أن
تكون مفسِّرة لما ورد مُجملًا في القرآن، وهذا بيان التفسير، والقِسم
الثالث من بيان السُّنة للقرآن هو بيان الناسخ من المنسوخ، وهو بيان التبديل.
١٦
هذا التصور للعلاقة بين السُّنة والقرآن لا يَستبعِد «تخصيص العام»
من مجال دلالة السُّنة، وذلك خلافًا للشافعي الذي يعتبره دلالتها
الأساسية من حيث علاقتها بالقرآن. ولقد ألْمحْنَا إلى هذا الخلاف في
فقرة «الدلالة بين الوضوح والغموض»، حين ذكَرْنا أن دلالة العام على
العموم في رأي الشافعي دلالة ظنية؛ لأن احتمال التخصيص واردٌ
دائمًا، والأحناف لا يذهبون هذا المذهب؛ فدلالة العام على العموم
عندهم دلالة قطعية، وذلك استنادًا إلى أن كل ما ورد في القرآن قطعي
وأن كل ما ورد في السُّنة ظني، عدا السنن المتواتِرة المشهورة، هذه
التفرقة بين دلالة القرآن ودلالة السُّنة تُفرِّق بين مستويات التحليل
ومستويات التحريم في كلٍّ من النَّصين، فالثابت بالقرآن من الأوامر
فرض، والثابت بالسُّنة الظنية من الأوامر واجب، وكذلك النهي، فالمنهِيُّ
عنه في القرآن حرام إذا لم يكن ثَمَّة ظنٌّ في الدلالة، والثابت بالسُّنة
الظنِّية مكروه كراهة تحريمية مَهمَا تكن الدلالة، وذلك لتأخُّر مَرتبة
السُّنة الظنِّية عن القرآن الكريم من حيث الثبوت من جهة، والاستدلال
بها على الأحكام من جهةٍ أخرى.
١٧ وهنا نلاحظ أن الأحناف قد ربطوا بين ثبوت النص من حيث
طُرق التحمُّل والأداء وبين قطعية الدلالة، فأصبحَت النصوص المتواتِرة
المشهورة — والقرآن أعلاها في درجة الثبوت — قطعية الدلالة على
خلاف النصوص الظنية الثبوت التي تكون دلالتها ظنية أيضًا.
إن دلالة العام على العموم دلالة قطعية لا التباس فيها ولا
احتمال عند الأحناف، إنها مثل دلالة اللفظ على مدلوله دلالة
حقيقية، لا تحتاج لقرينةٍ أو لدلالةٍ مُتصِلة أو مُنفصِلة؛ أي لا تحتاج
للتأويل، وذلك على عكس الدلالة المَجازية، التي هي احتمالية
بطبيعتها، ولا تدل مِن ثَمَّ إلا بالقرينة التي تنقل اللفظ عن إرادة
معناه الحقيقي من جانب المتكلِّم، ولم تكن هذه النظرة لدلالة العام
على عمومه، وعدم دلالته على الخاص، قياسًا على الدلالة الحقيقية،
معزولة عن سياق البحث الدلالي من جانب المتكلِّمِين، حيث أدخل بعضهم
«العام الدَّال على الخاص» داخل دائرة المَجاز،
١٨ ومعنى ذلك أن العام الدَّال على العموم هو الاستعمال
الحقيقي للألفاظ؛ أي استعمالها في دلالتها الحقيقية، وهو أمرٌ حرص
الأحناف على تأكيده لتثبيت دلالة النص القرآني، وللمُحافَظة على
التمايُز بين القرآن والسُّنة، وليس معنى القول بقطعية دلالة العام
عند الأحناف أنها لا تحتمل التخصيص أبدًا، بل التخصيص جائز ممكن
إذا كان ثمة دليل عليه، فإذا لم يوجد الدليل ظلَّت الدلالة عامة لا
خصوص فيها، ولا بد في المُخصِّص من شروط؛ أهمها أن يكون مقترنًا
بالخطاب؛ أي متزامنًا معه، الشرط الثاني أن يكون مستقلًّا عنه،
بمعنى ألا يكون دليلُ التخصيص جزءًا من بِنية الخِطاب ذاته،
كالاستثناء والصفة والشرط؛ لأن هذه كلها أدوات في البِنية الدلالية
للخطاب ذاته. أما شرط الاقتران؛ فلأن التراخي لا يكون تخصيصًا، بل
هو من قَبِيل النَّسْخ؛ إذ التخصيص بيان للخِطاب، ولا يصح أن يتأخر
البيان عن الحكم، وإلا كان ذلك من قَبِيل تكليف ما لا يُطاق. يقول
صاحب كشف الأسرار في بيان قيود تعريف دليل التخصيص أو
المخصص:
احترَزْنا بقولنا مستقِل عن الصفة والاستثناء، ونحوهما؛ إذ لا
بد عندنا للتخصيص من معنى المعارَضة، وليس في الصفة ذلك، ولا في
الاستثناء؛ لأنه لبيان أنه لم يدخل تحت الصدر، وبقولنا مُقترِن،
عن الناسخ، فإنه إذا تراخى دليل التخصيص يكون نسخًا لا تخصيصًا.
١٩
وليس تخصيص العام عند الأحناف من قَبيل بيان المُجمَل؛ إذ المُجمَل
محتمل الدلالة يحتاج إلى البيان، وليس كذلك العامُّ فإنه في دلالته
قطعي، وإن كان احتمال تخصيصه واردًا. وبعبارةٍ أخرى يمكن القول إن
التخصيص بيان من وجهٍ واحد، وذلك من حيث إنه يكشف عن دلالة العام،
والفارِق بينه وبين المُجمَل أن هذا الأخير بيان من كل وجه، إنه
الفارق بين البيان الضروري اللازم من كل وجه وبين البيان غير
الضروري وغير اللازم، فغياب المخصِّص لا يؤثر في دلالة العام، وليس
كذلك غياب بيان المُجمَل حيث يبقى المُجمَل على احتماليته، يقول شمس
الأئمة ما نصه:
«بيان المُجمَل بيان مَحضٌّ لوجود شَرْطِه، وهو كون اللفظ محتملًا
غير موجِب للعمل بنفسه، واحتمال كون البيان الملتحِق به تفسيرًا
أو إعلامًا لما هو المراد منه، فيكون بيانًا من كل وجه، بل هو
بيان من حيث احتمال الصيغة للخصوص، وهو ابتداء دليل مُعارِض من
حيث كون العام موجبًا للعمل بنفسه فيما تناوله، فيكون بمنزلة
الاستثناء والشرط، فيصبح موصولًا على أنه بيان، ويكون معارضًا
ناسخًا للحكم الأول إذا كان مفصولًا.»
٢٠
هكذا ينتهي الأحناف إلى حصْر أوجُه البيان في نمطين: بيان المُجمَل،
وهو بيان ضروري لازم لإزالة احتماليته، وبدون هذا البيان يكون
المُجمَل غير موجب للعمل بنفسه، والنمط الثاني هو بيان التخصيص، وهو
بيان غير لازم؛ إذ العام موجِب للعمل بنفسه، ويشترط في التخصيص أن
يكون متزامنًا مع الخِطاب من جهة، وأن يكون منفصلًا عنه من جهةٍ
أخرى، وفي حالة عدم التزامن — الاقتران — لا يكون البيان تخصيصًا
بل يكون نسخًا، وينتهي الأحناف من ذلك كله إلى اعتبار «النسخ»
نوعًا من البيان يختلف عن النوعين السابقين بأنه بيانٌ مُعارَض يبدل
الحكم؛ لذلك يُشترَط فيه أن يكون متراخيًا عن الخِطاب بالزمان، وإذا
كان الفارِق بين النَّسخ والتخصيص فارقًا بين التراخي والاقتران،
فالسُّنة — وهي النص المفسِّر والشارح للكتاب — يمكن أن تَنسَخ الكتاب،
هكذا تتحدَّد علاقة السُّنة بالكتاب عند الأحناف في البيان الذي ينقسم
إلى ثلاثة أقسام يبينها الشكل التالي:
٢١
ويكون الخلاف بين الشافعي — ناصِر السُّنة — وبين الأحناف — أهل
الرأي — هو في حقيقته خلاف حول انفراد السُّنة بالتشريع، وإذا كان
الشافعي قد تناقَض مع نفسه حين أسَّس السُّنة وحيًا، وفصَل بينها وبين
القرآن على مستوى الناسخ والمنسوخ، فإن تناقُضَه في الحقيقة تناقُض
ظاهري. إن تأسيس السنة وحيًا لم يكن يتم بمعزلٍ عن الموقف
الأيديولوجي الذي أسهبنا في شرحه وتحليله، موقف العصبية العربية
القرشية، التي كانت حريصة على نزع صفات البَشرية عن محمد وإلباسه
صفات قدسية إلهية تجعل منه مشرِّعًا، أما الأحناف فقد انطلق إمامهم
من موقفٍ مُغايِر، الأمر الذي مكَّنَهم من وضع السُّنة موضعها الصحيح،
بوصفها نصًّا شارحًا مبيِّنًا للنص الأصلي؛ لذلك وضعوا النَّسْخ في إطار
«البيان» لا في إطار «التشريع».
والحقيقة أن تناقُض الشافعي المشار إليه نابعٌ من سيطرة
الأيديولوجيا، تلك التي كانت تدفعه في اتجاه تأكيد استقلالية النص
الثانوي — نص السُّنة — في التشريع، الأمر الذي جعله يفصل بين النَّصين
على مستوى إشكالية «الناسخ والمنسوخ»، وفي هذا الفصل يَتناسَى ما سبق
أن قرَّره وأكده من استناد السنة نصًّا في مشروعيتها على الكتاب،
بالإضافة إلى علاقتها الشارحة المفسِّرة أساسًا، الأمر الذي لا يمنع
— من منظور رؤيته العامة — من تناسخهما، فإذا أضفنا إلى ذلك اتساع
مفهوم السُّنة عند الشافعي — حتى أضاف إليها العادات والتقاليد كما
سبقت الإشارة — أدركْنَا أن أبا حنيفة ربما كان أكثر استحقاقًا للقب
— ناصر السُّنة — الذي لُقِّب به الشافعي؛ لأنه وضع السُّنة نصًّا
ثانويًّا شارحًا ومفسِّرًا ومبينًا للنص الأصلي «القرآن».
(٣) حدود السُّنة بين أهل الرأي وأهل الحديث:
تنتشر في أدبيات البحث في تاريخ الفكر الإسلامي العربي — وفي
مجال الفقه والتشريع خاصة — مقولة إن الشافعي قد حسَم الخلاف الذي
كان قائمًا بين أهل الرأي وأهل الحديث عن طريق اتخاذ موقف وسطي
توفيقي يَعتمِد على الأحاديث كما يَعتمِد «القياس»، وقد تبَيَّن لنا مما
سبق أن الشافعي كان في الواقع يخوض مع أهل الحديث معركتهم ضد أهل
الرأي، وهي معركة لم تكن محصورة في الخلاف حول السُّنة، أو حول
مصداقية بعض المروِيَّات، ولم يكن الأمر يتعلق فقط بتضخم «وضع»
الأحاديث تحت ضغط الحاجة إلى تغطية المسائل المستجِدَّة واقعيًّا،
والتي كانت تُغذِّي الفروض النظرية عند أهل الرأي وتُبرِّرها، ولم يكن
يتعلق كذلك بتضخُّم الرأي هو الآخَر بالذهاب بعيدًا مع الفروض النظرية
تلك، والعدول أحيانًا كثيرة عن استحياء النصوص وسيرة السلف إلى «الاستحسان»،
٢٢ ولم يكن الشافعي هو الوسط الذي التقى فيه أهل الرأي
وأهل الحديث معًا، بعد أن جُمِعت الأحاديث وصُحِّحت، وبعد أن تبادَل
الفريقان التأثير والتأثُّر عبْر علاقات الجدل والسجال،
٢٣ كان تزايُد وضْع الأحاديث وتضخُّم الرأي — ذهابًا وراء
الفروض النظرية — مجرَّد ظواهر لصراعٍ أعمق يدور على مستوَيات الواقع
المتعدِّدة، هو الصرع بين قوى التغيير والتقدُّم وبين قوى التثبيت
والهيمنة، وتاريخ هذا الصراع يرتد في الزمان إلى ما قبل عصر
الشافعي الذي يُعَد بمعنًى من المعاني «عصر التدوين»، ولعله يعود إلى
بداية الخلاف حول مسألة الخلافة في اجتماع «السقيفة» بين المهاجرين
والأنصار؛ حيث تم في هذا الاجتماع تدشين السيطرة القرشية على
الإسلام والمسلمين، ولعل الخلاف حول شروط اختيار الخليفة في لجنة
السِّتَّة التي عينها عمر بن الخطاب، الانتهاء إلى اختيار الشخص الذي
تعهد متابعة سيرة الخليفتين السابقَين عليه دون أي تغيير، أن يكون
أحد مظاهر التعبير عن الصراع المذكور، ثم كانت أحداث الفتنة التي
أدَّت إلى مقتل الخليفة الثالث، وما استتبع ذلك من صراعٍ بين فرسَي
رهان قريش: بني هاشم وبني أمية، حتى تم رفع المصاحف على أَسِنَّة
السيوف طلبًا لتحكيم النص الديني في صراعٍ اجتماعي سياسي.
على المستوى الفكري كان الصراع يصوغ نفسه أيديولوجيًّا في الخلاف
بين أهل الرأي وأهل الحديث حول مجال فعالية النصوص الدينية، وبينما
كان أهل الحديث يُدافِعون عن حاكمية النصوص وعن شموليتها لكل مجالات
النشاط البشري، كان أهل الرأي يدافعون عن «العقل» متمثلًا في إدراك
«المصالح المرسَلة»، وفي «الاستحسان»، و«الاستصلاح». وفي عصر الإمام
الشافعي، وهو عصر التدوين، يبدو أن الصراع بدأ يأخذ شكل محاولة
السيطرة على الذاكرة الجمعية، وذلك من خلال صياغة قوانين الشفرة
التي تُصاغ على أساسها الذاكرة: هل تعتمد هذه الشفرة على مرجعية
النصوص، فتتحوَّل الذاكرة إلى ما يُشبه القوة الحافظة، والتي تعتمد
على قانون الاستدعاء أم تعتمد على مرجعية «العقل» فتتحوَّل الذاكرة
إلى ما يُشبِه القوة المُفكِّرة، التي تعتمد على فعالية قوة الاستنباط
والاستدلال؟! في ظل هذا الصراع الفكري يكون الخلاف بين أهل الحديث
وأهل الرأي أحد مظاهر الصراع العام بين «النقل» و«العقل» أو بين
الفلسفة والدين، أو بين «التقليد» و«الإبداع».
ولقد وصل الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي إلى حدود التشنيع
والاتهامات المبالَغ فيها من جانب الفريق الأول ضد الفريق الثاني،
فيُروَى — مثلًا — أن الشعبي (ت: ١٠٩ﻫ) كان يُوصِي تلاميذه فيقول:
«احفظ عني ثلاثًا: إذا سُئلتَ في مسألةٍ فأجبتَ فيها فلا تتبع
مسألتك، أرأيت أن الله تعالى قال في كتابه الكريم:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ،
والثانية: إذا سُئلتَ عن مسألةٍ فلا تَقِس شيئًا بشيء فربما حرَّمتَ
حلالًا أو حللتَ حرامًا، والثالثة: إذا سُئلتَ عمَّا لا تعلم فقُل لا
أعلم.» وكان يهاجم أهل الرأي – الذين أُطلق عليهم اسم «الأرأَيتيُّون»
من باب السخرية – قائلًا: «والله لقد بَغَّض هؤلاء القوم إليَّ المسجد،
فهو أبغض إليَّ من كناسة داري، قيل: مَن هم يا أبا عمر؟ قال: الأرأَيتيُّون.»
٢٤ هذا رغم أن الخلاف كان حول توسُّع أهل الرأي في استخدام
آلية «القياس» الفقهي لمواجهة الوقائع المستجدة، والتي لم تتناولها
النصوص، والحوار الذي يُحكى أنه دار بين الإمام أبي حنيفة وبين
الإمام محمد الباقر بن زين العابدين (ت: ١١٤ﻫ) في أول لقاءٍ لهما
شديد الدلالة في الكشف عن حدود الخلاف. يُروى أن الإمام الشيعي
بادَر أبا حنيفة قائلًا: أنت الذي حوَّلتَ دِين جدي وأحاديثه بالقياس،
فقال أبو حنيفة: معاذ الله! ثم تمضي الرواية لتُبيِّن كيف استطاع أبو
حنيفة أن يقنع محمدًا الباقر ببراءته من ذلك الاتهام بتغيير دين
الله: «ثم جَثا أبو حنيفة بين يديه، ثم قال: إني سائِلكَ عن ثلاث
كلماتٍ فأجِبْنِي: الرجل أضعفُ أم المرأة؟ فقال محمد: المرأة، فقال أبو
حنيفة: كم سهم المرأة؟ فقال للرجل سهمان وللمرأة سهم، فقال أبو
حنيفة: هذا قول جَدِّك، ولو حوَّلتُ دِين جدك لكان ينبغي في القياس أن
يكون للرجل سهم وللمرأة سهمان (= في الميراث كما هو واضح) لأن
المرأة أضعفُ من الرجل، ثم قال: الصلاة أفضل أم الصوم؟ فقال: الصلاة
أفضل، قال: هذا قول جدك، ولو حوَّلت قول جدك لكان القياس أن المرأة
إذا طهرت من الحيض أمرْتُها أن تقضي الصلاة ولا تَقضِي الصوم، ثم قال:
البَولُ أنجسُ أم النطفة (= مَنِي الرجل)؟ قال: البول أنجس، قال: فلو
كنتُ حوَّلتُ دِين جدك بالقياس لكنتُ أمرتُ أن يُغتسل من البول ويُتوضَّأ من
النُّطفة، ولكن معاذ الله أن أُحوِّل دين جدك بالقياس.»
٢٥
يتبين من دفاع أبي حنيفة أن الخلاف كان حول حدود القياس ومجالات
استخدامه، ومن المتَّفق عليه بين كل المدارس والاتجاهات الفقهية أن
القياس يُستخدَم حين لا يتوفَّر النص الذي يُمكِن تطبيقه بشكلٍ مباشر على
واقعةٍ بعينها، ومعنى ذلك أن الخلاف يكاد يكون منحصرًا في تحديد ما
يندرج من المرويات تحت مفهوم «النصوص» الدينية. ومن الواضح أن أهل
الحديث كانوا يُفضِّلون الاستناد إلى النصوص، ولو كانت ظنية، على
القياس، في حين أن أهل الرأي كانوا يُفضِّلون القياس على النصوص
الظنية، وقد قسم الفقهاء مرويات السُّنة إلى نصوصٍ قطعية هي
المتواتِرات والمشهورات، وهي التي تناقَلها الجمع الكثير الذين يُؤمَن
تواطؤهم على الكذب، وهذه هي المتواتِرات، وأقلُّ من ذلك المشهورات
التي لم تبلغ درجة التواتُر، ولكنها بلغَت بقبول الأمة لها درجة
عالية من القبول، والقسم الثاني من المرويات هي النصوص الظنية، وهي
أحاديث الآحاد، وهو كل خبرٍ يرويه الواحد أو الاثنان أو الأكثر من
ذلك، ولا يتوافر فيه سبب الشهرة، وقد كان موقف أهل الرأي بصفةٍ
عامَّة عدم الاعتداد بأحاديث الآحاد، وتقديم القياس عليها، حتى مع
افتراض أن دلالة القياس دلالة ظنية احتمالية؛ وذلك لأن القياس
يعتمد عندهم على القرائن والأحكام الكلية، التي أطلق عليها فيما
بَعدُ اسم «المقاصد الكلية، للشريعة»، ولقد مرَّ بنا موقف الإمام أبي
حنيفة من قضية العبودية، وكيف أنه يعتبر أن الحرية في الإنسان هي
الأصل، واعتبر ذلك من المبادئ الكلية التي يُقاس عليها، وانطلاقًا
من هذا المبدأ القطعي الدلالة — لأنها دلالة مُستنبَطة من كثيرٍ من
الأحكام الشرعية الجزئية — يَردُّ الإمام أبو حنيفة بعض أحاديث الآحاد
التي تُخالف دلالته. من هذه الأحاديث ما يُروَى من أن النبي
ﷺ أقرع بين ستة من المماليك الذين كان قد أعتقهم سيدهم
قبل موته، ولم يكن له مال سواهم، فأعتق اثنين منهم وردَّ الأربعة
الباقين إلى العبودية، رد الإمام أبو حنيفة ذلك الخبر؛ لأنه مخالفٌ
للأصول: «لأن الأصول قطعية وخبر الواحد ظني، والعتق حل في هؤلاء
العبيد، والإجماع مُنعقِد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده.»
٢٦
وإذا كان الإمام الشافعي يتمسك بالنصوص حتى لو كانت ظنية الدلالة، مثل أحاديث الآحاد
التي يُفرِد لها فصلًا طويلًا في رسالته لإثبات حجيتها،
٢٧ فما ذلك إلا لأنه يحطب في حبل أهل الحديث، وذلك خلافًا
لما يَشيع عنه في الكتابات التي تمتَدِح وسطِيَّته وتوفيقِيَّته. لكن الأخطر
من ذلك أنه يَعتبِر حجية القياس أضعفَ من حجية حديث الآحاد، رغم أن
القياس يعتمد على كليات الشريعة ومقاصدها العامة.
إن النصوص، ولو كانت ظنية في دلالتها، عند مقارنتها بالقياس،
تكون بمثابة «حضور الماء» الذي جعل «التيمم» — الذي ماثل القياس —
غير جائز، هكذا تترتب الأدلة على النحو التالي:
يُحكَم بالكِتاب والسُّنة المجتمَع عليها، الذي لا اختلاف فيها،
فنقول لهذا: حكَمْنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم بالسُّنة قد
رُوِيَت عن طريق الانفراد، ولا يَجتمِع الناس عليها، فنقول: حكَمْنا
بالحق في الظاهر؛ لأنه يُمكِن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم
بالإجماع ثم القياس، وهو أضعفُ مِن هذا، ولكنها منزلة ضرورة؛
لأنه لا يَحِل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في
السَّفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وُجِد الماء،
إنما يكون طهارة في الإعواز.
٢٨
ومعنى ذلك أن القياس بمثابة المحظورات التي تُجيزها الضرورات فقط،
وهي الضرورات التي لا تُوجَد مع تواجُد النصوص، ولو كانت ظنية «يمكن
الغلط فيمن رواها.» هذا الحرص من جانب الشافعي على إثبات حجية نصوص
السُّنة لا يجب النظر إليه معزولًا عن سياق فكر الشافعي بوجهٍ عام،
السياق الذي يسعى جاهدًا لتوسيع مجال فعالية النصوص الدينية، وما
ترتَّب على هذا السعي من توسيع ما يندرج تحت مفهوم «السُّنة»، وحتى
أدخل فيها سنن العادات كما سبقَت الإشارة.
وليس معنى ما سبق أن الشافعي يُوحِّد بين مستويات الدلالة في السنن
والأحاديث؛ إذ يظل حديث الآحاد — أو خبر الخاصَّة كما يطلق عليه — في
مرتبةٍ أدنى من المتواتِرات والمشهورات، وإن كان يتمتَّع بمرتبةٍ أعلى
في علاقته بالقياس، وهكذا لا يُستتاب من يَرُد أحاديث الآحاد، في حين
أنه لا بد من استتابة مَن يتشكك في المروِيَّات المُجمَع على صدقها، ولعل
هذا الموقف الذي يتسم بالتساهل إزاء الحكم على أهل الرأي — الذين
يردُّون أحاديث الآحاد إذا تعارضتْ مع القياس — هو الذي أوهم الباحِثين
بوسطية موقف الشافعي بين الفريقين المتنازِعَين، يقول:
«أمَّا ما كان نص كتاب أو سُنة مجتمَعٌ عليها فالعذر فيها
مقطوع، ولا يسعُ الشك في واحدٍ منهما، ومَن امتنع من قبوله
اسْتُتِيب، فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة، الذي قد يختلف الخبر
فيه، فيكون الخبر محتملًا للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق
الانفراد فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين، حتى لا يكون لهم
رد ما كان منصوصًا عليه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول؛
لأن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة (= المتواتِرات)
عن رسول الله، ولو شك في هذا شاكٌّ لم نَقُل له: تُب، وقلنا: ليس لك
— إن كنتَ عالِمًا — أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة
الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على
الظاهِر من صِدقهم، والله وليُّ ما غاب عنك منهم.»
٢٩
وهذه التفرقة التي يضعها الشافعي بين ما يطلق عليه «الحكم
بإحاطة» وما يطلق عليه الحكم بغير إحاطة، تَنقِلنا إلى مناقشة
مستويات دلالة السُّنة عنده.
(٤) مستويات الدلالة
المشكلات التي تثيرها السُّنة على مستوى الدلالة مشكلات أكثر
تعقيدًا من تلك التي يثيرها القرآن، فالقرآن نصٌّ متواتر نقله
الكافة الذين يُؤمَن تواطؤهم على الكذب، وليس كذلك أكثر السنن.
والقرآن — من ناحيةٍ أخرى — تَمَّ تدوينه — كتابة — منذ مرحلةٍ باكرة
في تاريخ الدعوة ولم تُدوَّن السنن تدوينًا منظمًا إلا متأخِّرة مع
نهاية القرن الأول الهجري تقريبًا وبداية القرن الثاني، وقد أدى
هذا إلى ضرورة الحاجة إلى «التوثيق»، إن على مستوى السند — كيفية
الانتقال — أو على مستوى المتن، أو تَحقُّق النص، وقد أدى اهتمام
المسلمين الأوائل بضبط طرائق تحمُّل القرآن — من جهةٍ ثالثة — إلى
نقْل الملابسات الخارجية التي أحاطت بتكوُّن القرآن وتشكُّله نصًّا —
مثل: أسباب النزول، والمكي، والمدني، والناسخ والمنسوخ، وغيرها مِمَّا عُرف
متأخرًا باسم «علوم القرآن» — الأمر الذي جعل استثمار الدلالة فيه
ممكنًا إلى حدٍّ كبير، لكن الملابسات الخارجية لتكوُّن السنن لم تَحظَ
بمثل ما حَظِيت به تلك التي أحاطت بالقرآن، مما جعل استثمار الدلالة
في السنن أمرًا أصعب من مثيله في القرآن.
لذلك لا تنقسم الدلالات التي تنتجها السُّنن نفس القسمة التي
وجدْنَاها لأنماط الدلالة في القرآن، بل تنقسم — استنادًا إلى كيفية
الانتقال — إلى ثلاثة أقسام: المتواتِر، والمشهور، والآحاد،
والدلالة في هذه الأقسام الثلاثة تكون — في نظر الشافعي — دلالة
قطعية تعلو على دلالة «القياس»، التي هي — في نظر الشافعي — دلالة
ظنية احتمالية دائمًا، ومن البديهي أن الدلالة القطعية لأنماط
التحمُّل الثلاث المشار إليها لا تكون كذلك — أي قطعية — إلا بشرطٍ
جوهري هو شرط اتصال سلسلة الإسناد من المصدر — الراوي الأول — إلى
المنبع، النبي
ﷺ، وإذا كان الأحناف يتفقون مع الشافعية في
قطعية دلالة المتواتِرات والمشهورات فإنهم يختلفون عنهم — كما سلفت
الإشارة — في دلالة الآحاد، ويَروْن أنها ظنية احتمالية، وهذا الخلاف
جعل الشافعي يضع شروطًا لقبول أحاديث الآحاد، بعد أن دافع عن حجيته
دفاعًا طويلًا، لكي يوسع من إطار السنة؛ أي من إطار النصوص، على
قدر ما يستطيع، تضييقًا لإطار الاجتهاد، وتتحدَّد هذه الشروط في
عدالة الراوي المتمثِّلة في الثقة في دينه وخُلقه من ناحية، وفي حفظه
ودِقَّته في الأداء والفهم من جهةٍ أخرى،
٣٠ وإذا كانت تلك الشروط يجب أن تتحقق في الرواة جميعًا —
أي في رواة الآحاد وغيرها — فإن الشافعي يضيف شروطًا أخرى من أهمها
ألا يكون للحديث — من جهة المتن — حديث مخالِف معنًى أو
تأويلًا.
«فلا يجوز عندي على عالِم أن يُثبِت خبرَ واحدٍ كثيرًا، ويُحل به
ويُحرِّم، ويردَّ مثله إلا مِن جهة أن يكون عنده حديث يخالِفه، وأن
يكون ما سمع ومَن سمع منه أوثق عنده ممَّن حدَّثه خلافه، أو يكون مَن
حدثه ليس بحافظ، أو يكون متَّهمًا عنده، أو يتهم مَن فوقه ممن
حدثه، أو يكون الحديث محتملًا معنيين، فيتأوَّل فيذهب إلى أحدهما
دون الآخر.
فأما أن يتوهَّم متوهمٌ أن فقيهًا عاقلًا يثبت سُنَّة بخبرِ واحدٍ
مرة ومرارًا، ثم يدعها بخبرِ مِثْلِه وأوثق، بلا واحدٍ من هذه
الوجوه التي تُشبِه التأويل، كما شُبِّه على المتأوِّلين في القرآن …
فلا يجوز إن شاء الله.»
٣١
لكن هذا الدفاع عن حجية أحاديث الآحاد لا يرفع دلالتها إلى مستوى
دلالة المتواتِرات والمشهورات، بل يضعها في منطقةٍ وسطى بين السُّنة
وبين القياس، ويجعلها كما سبقت الإشارة – كالتَّوضُّؤ بالماء، إذا قيس
بالتيمم، وكما لا يصح التيمم مع حضور الماء، كذلك لا يصح الاعتماد
على القياس في حضور حديث الآحاد. وأما عن علاقته بغيره من السنن
فالحكم به — حديث الآحاد — هو بمثابة الحكم على أمرٍ من الأمور
بالشواهد الظاهرة مع جهلنا بالباطن.
في حين أن الحكم بالقرآن وبالسنن العامة المتواتِرة والمشهورة، هو
بمثابة الحكم الصحيح المعتمد على شواهد كل من الظاهر
والباطن:
العلم من وجوه: منها إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في
الظاهر، فالإحاطة منه ما كان نص حكم لله، أو سنة لرسول الله
نقَلها العامَّة عن العامة، فهذان السبيلان اللذان يُشهَد بهما فيما
أُحلَّ أنه حلال، وفيما حُرِّم أنه حرام وهذا الذي لا يسع أحدًا
عندنا جهلُه ولا الشك فيه، وعلم الخاصَّة سنَّةً من خبر الخاصة
يعرفها العلماء، ولم يُكلَّفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو بعضهم،
بصدق المُخبِر عن رسول الله بها، وهذا اللازم لأهل العلم أن
يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر، كما نَقتُل بشاهدين، وذلك حقٌّ
في الظاهر، وقد يمكن في الشاهِدَين الغلط. وعلم إجماع، وعلم
اجتهاد بقياس، على طلب إصابة الحق، فذلك حقٌّ في الظاهر عند
قايِسه، لا عند العامَّة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله.
٣٢
وهكذا يتحدَّد الفارق بين العام (= المتواتِرات والمشهورات) والخاص
(= الآحاد) في السُّنن بوصفه فارقًا دلاليًّا على مستوى درجة الحجية،
فبينما يقع العامُّ في دائرة الحكم على الظاهر والباطن — مثل القرآن
— يقع الخاصُّ في دائرة الحكم بالظاهر دون الباطن، والفارِق بين خاص
السُّنة والقياس يكمُن في موضوعية الأول وفي ذاتية الثاني، ذلك أن
الأول لازِم لأهل العلم «أن يصيروا إليه» فهو حقٌّ متفقٌ عليه، في
حين أن القياس حق في حق القائس/المجتهِد فقط، فهو حقٌّ ذاتي محض،
وهذه التفرقة التي يصطنعها الشافعي في نمطٍ واحد من الأحكام — الذي
هو في الظاهر دون الباطن — تكشف عن البعد الأيديولوجي لمفهوم
الاجتهاد عنده، وذلك بحصره في دائرة الذاتي الذي لا ينهض من حيث قوة
الإلزام أمام الموضوعي، ووصف دلالة أحاديث الآحاد بأنها من
الموضوعي كاشف بنفس الدرجة عن الهاجس الأساسي في مشروع الشافعي:
هاجس القياس/الاجتهاد في دائرة الذاتي ليس إلا إنكار غير مباشر
لموضوعية العقل، واتهامٌ له بالعجز عن إنتاج معرفة مشتركة؛ لذلك لا
نستطيع أن نتفق مع أبي زهرة فيما ذهب إليه من أن الشافعي وضع
القرآن والسُّنن المتواتِرة والمشهورة في جانِب، ووضع خبَر الآحاد مع
الإجماع والقياس في جانبٍ آخر، فالتردُّد الذي كشفْنَا عنه في تصنيف
الشافعي لأحاديث الآحاد ينفي ذلك.
٣٣
والحقيقة أن الخلاف لم يكن حول حجية أحاديث الآحاد وحدها، بل
هناك من قلَّل من درجة حجية المتواتِرات كذلك، وذلك على أساس أن
التواتُر ليس إلا الاجتماع على رواية بعينها، ولمَّا كان التواتُر جمع
آحاد، وكانت شُبهة الكذب يمكن أن تلحق الأفراد، فإن نفي الكذب عن
مجموعة الأفراد مستحيل، وعلى ذلك ينكر أصحاب هذا الرأي أن يكون
العلم الناشئ عن التواتُر مساويًا للعلم الناشئ عن العيان، كما يذهب
الكثرة، ويكتفون بالقول: «إن المتواتِر من الأخبار يُوجِب علم طمأنينة
ويقين، ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شكٌّ أو يعتريه وهم.»
٣٤ وإذا كان لنا أن نشارك أبَا زهرة تعليقه الدَّال على
الرأسي السابق حيث يقول:
«ولقد يؤيد ذلك التفكير المنطقي الواقع العملي، فقد وجدْنا
أممًا تتفق على وجود أخبار غير صادقة، وتتواتَر بين جموعها،
ويتلقاها الخلَف عن السَّلف، مع بطلانها وقيام الدليل على كذبها.»
٣٥
فإننا يمكن أن نضيف إليه أن «التواتُر» ظاهرةٌ تستحق دراسة أعمق
من زوايا متعدِّدة، تختلف عن تلك التي نُوقِشت من خلالها في التراث، من
هذه الزوايا مثلًا زاوية الاصطناع، فإذا كانت قوة السُّلطة السياسية
وقدرتها على القهر قد استطاعت أن تفرض لنفسها الإجماع بالبيعة،
فليس ثَمَّة ما يمنع من فرض التواتُر على مستوى الأخبار والمرويات
بمحاربة الأخبار والمرويات المضادة لتوجهاتها، والمعارِضة لسياستها،
واختلاق مرويات أخرى وإذاعتها ونشرها، حدث ذلك في العصور الإسلامية
المختلفة، تمامًا كما يحدث اليوم في عالمنا، مع اختلاف وسائل
الإعلام وتعقُّدها في عصرنا، واختلاف وسائل التوجيه وطرائقه في صنع
«الرأي العام»، الذي يقترب إلى حدٍّ كبير من مفهوم
«التواتُر».
إذا تجاوَزْنا السنن على أساس طرق التَّحمُّل والأداء، فإننا أمام
تقسيم آخَر يعتمد على مدى الاتصال — أو الانقطاع — في سلسلة الرواة
الذين حَملوا الحديث، وللاتصال شروط أسهب الشافعي في ذكرها، وذكَرْنا
طرفًا منها — خاصًّا بتوثيق الراوي عند حديثنا عن شروطه لقبول
الآحاد من الأحاديث. ويشترط الشافعي لصحة الحديث لا مجرَّد الاتصال،
بل عدْل الرواة جميعًا واحدًا واحدًا، ويرى أن الثقة بعدالة الراوي
— لا تعني بالضرورة الثقة فيمن يَروِي عنهم، أو فيمن يَروُون عنه؛ لأن
عدالة الراوي إنما تكون عدالة له في نفسه، ولا تتجاوزها إلى غيره،
كالشهادة في القضايا، حيث تُقبَل شهادة الشاهد على ما شاهده هو نفسه،
ولا تُقبل على ما شاهدَه غيره.
٣٦
ويكاد الشافعي أن يجعل المتصل — بالشروط السابقة التي توحد بينه
وبين مدلول الصحيح في علم الحديث بعد استقرار مصطلحاته
٣٧ — أعلى درجات الحديث، سواء من حيث السند أو من حيث
حُجِّية المتن والدلالة، فعن صحة السند وعدالة الرواة يقول:
«ولا يستدل على أكثر صِدق الحديث وكذبه إلا بصدق المُخبِر وكذبه، إلا
في الخاص القليل، وذلك أن يُستدَل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث
المحدِّث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر
دلالات بالصدق منه.»
٣٨
ومعنى ذلك أن صدق المتن يرتبط أولًا بصدق السند، عدالة الرواة
واتصال السند، لكن الشافعي يضيف هنا احتمالَين بهما يكون المتن هو
المعيار، بعد صحة السند بالطبع، الاحتمال الأول: عدم معقولية
الدلالة، وإن لم يُحدِّد الشافعي مرجعية المعقولية أو عدمها، ولكنا
يمكن أن نستشِفَّ من سياق المشروع كله أن كليات «القرآن» تُمثِّل تلك
المرجعية، وهذا ما يقرره عند مناقشة اختلاف المرويات. والاحتمال
الثاني: أن يُخالِف المتن متنًا آخرَ أثبتَ منه، والمقصود بالأثبت فيما
يبدو «الأوضح دلالة»، وهو ما عبَّر عنه الشافعي في النص السابق
بالأكثر دلالات، وهو مصطلَح سبق أن مرَرْنا به عند الحديث عن دلالات
القرآن، ومعنى ذلك أن صحة الحديث تقوم على ثلاثة معايير: أولها
وأهمُّها أن يكون مُتَّصل السَّند، مع تحقُّق عدالة رُواته جميعًا، الثاني:
أن يكون متن الحديث غير مخالِف للمعقول، والثالث أن يكون المتن غير
مخالِف لمتن حديثٍ آخر مُشابِه له، وأوضح منه دلالة وإذا تحقَّقَت هذه
الشروط الثلاثة في الحديث، أو السُّنة — والشافعي يُوحِّد بين المصطلَحين
— استحال في نظر الشافعي أن يكون هناك إجماع على خلافها، قد يوجد
الاختلاف حولها، بمعنى أن البعض قد يعتد بها، بينما قد يعتد البعض
الآخَر بخلافها، أما أن يجتمع العلماء على خلاف ما تحقَّق فيه الشروط
السابقة فهذا هو المستحيل في نظر الشافعي:
«قال (= السائل المفترض): فهل تَجِد لرسول الله سُنة ثابتة من
جهة الاتصال خالَفها الناس كلهم؟ قلتُ: لا، ولكن قد أجد الناس
مختلِفين فيها: منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها، فأما
سُنة يكونون مجتمعِين على القول بخلافها فلم أجدها قط، كما وجدتُ
المرسَل عن رسول الله.»
٣٩
واللافت هنا أن الشافعي يقوم بعملية تبرير واضحة، فالواقع يؤكد
له أنه ليس ثمة إجماع على قبول السنن الصحيحة — بالشروط السابقة —
إلا أنه يفترض — وهنا يكمن التبرير والمغالَطة — أن مجرَّد عدم
الإجماع على خلاف السُّنة/الحديث يؤكِّد حجيتها، ومعنى ذلك أن الصحيح
يتمتَّع بالمرتبة الثالثة من حيث الحُجِّية، بعد المتواتِر والمشهور،
ومعنى ذلك أيضًا أن التقسيم إلى مُتَّصل، ومرسَل، أو منقطِع — والشافعي يستخدم المصطلحَين
بمعنًى واحد — تقسيمٌ يدور في فلك روايات الآحاد،
لكن هذا الاستنتاج الأخير يعتمد على خلْط المفاهيم واضطراب المصطلَح
عند الشافعي، وربما كان ذلك راجعًا إلى طبيعة المشروع واتِّساع
جوانبه، لكننا لا نستطيع في النهاية أن نتقبل تبرير الواقع الخلافي
بالقول الذي يذهب إليه الشافعي، إن عدم الإجماع على الخلاف درجة من
درجات الحجية.
ويلي المتصل في درجة الحجية «المراسيل»، وهي المرويات التي
يرويها التابعي مُسنِدًا إياها مباشرة إلى الرسول
ﷺ دون
ذكر اسم الصحابي الذي سَمِع منه أو أخَذ عنه الحديث، والشافعي يضع
شروطًا كثيرة لقبول المراسيل، لكن أهم تلك الشروط في تقديرنا
موافَقة ذلك المرسَل لروايةٍ أخرى مُتصِلة، ثم تتدرج الشروط بعد ذلك من
القوة إلى الضَّعف على النحو التالي: موافَقة مرسَل آخَر؛ أي ورد من
طريق رواية أخرى، فإن لم يكن ثمة مرسَل آخر يوافقه، فلا أقل من أن
يوافِق بعض ما يُروى عن الصحابة، فإن لم يتحقَّق ذلك، فلا بأس بأن
يكون معنى المرسَل متفقًا مع فتاوى عامة العلماء، وهكذا لا يألُو
الشافعي جهدًا في الحرص على إدراج المراسيل في إطار السُّنة، توسيعًا
لمجال فعالية النصوص:
«فمن شاهَد أصحاب رسول الله من التابِعين، فحدَّث حديثًا منقطعًا
عن النبي اعتبر عليه بأمورٍ: منها: أن يُنظَر إلى ما أَرْسَل من
الحديث، فإن شَرِكه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله
بمثل معنى ما روى؛ كانت هذه دلالة على صحة مَن قَبل عنه
وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث لم يَشْرَكه فيه مَن يسنده قبل ما ينفرد
به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مُرسل غيره ممن
قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجِد ذلك كانت
دلالة يقوى له مرسله، وهي أضعف من الأولى.
وإن لم يُوجَد ذلك نظر إلى بعض ما يُروَى عن بعض أصحاب رسول الله
قولًا له، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله كانت في هذه
دلالة على أنه لم يأخذ مُرسله إلا عن أصلٍ يصح إن شاء الله،
وكذلك إن وُجد عوام من أهل العلم يُفتُون بمثل معنى ما روي عن
النبي … ثم يُعتَبر عليه بأن يكون إذا سَمَّى مَن روى عنه لم يُسمِّ
مجهولًا، ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيُستَدل بذلك على صحته
فيما روى عنه، ويكون إذا شَرِك أحدًا من الحفاظ في حديثٍ لم
يُخالفه، فإن خالَفه وُجِد حديثه أنقص؛ كانت في هذه دلائل على صحة
مخرج حديثه، ومتى خالَف ما وصفتُ أضرَّ بحديثه، حتى لا يَسع أحدًا
منهم قبولُ مرسلَه … ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تَثبتُ به ثبوتَها
بالمتصل، وذلك أن معنى المنقطع مُغيَّب، يَحتمِل أن يكون حمل عن من
يُرغَب عن الرواية عنه إذا ما سُمِّي، وإن بعض المنقطِعات، وإن وافقَه
مرسَل مثله، فقد يحتمل أن يكون مَخْرجها واحدًا من حيث لو سُمِّي لم
يُقبل، وإن قول بعض أصحاب النبي — إذا قال برأيه لو وافقه —
يدل على صحة الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها ويمكن أن يكون
إنما غَلط حين سمع قول بعض أصحاب النبي يوافقه، ويحتمل مثل هذا
فيمن وافقه من الفقهاء.»
٤٠
ولا شك أن قبول الشافعي للمراسيل رغم احتمالات الخطأ التي صوَّرها
تصويرًا قويًّا — على حد تعبير أحمد شاكر — كاشِف عن طبيعة المشروع
الذي يريد أن يَصوغ الذاكرة على أساس الحفظ، ومرجعية النصوص، حصرًا
لدور العقل والاجتهاد وحرية الفكر، ولعلَّنا قد لاحظْنا كيف تترتب
الحجية بناء على معايير التواتُر والإجماع، فالكتاب أولًا، ثم تترتَّب
حجة السُّنة ودلالتها على الكتاب الذي انتقل بالتواتُر والإجماع، وبعد
تدشين السُّنة نصًّا لا يقل في قوة إلزامه عن نص الكتاب، تترتَّب حجية
السُّنة ومستويات دلالتها على أساس الإجماع أيضًا، فتكتَسب المتواتِرات
درجة الحجية الأولى، ثم تليها المشهورات — مستوى أقل من الإجماع —
فالمُتَّصل، وهو نمطٌ من الإجماع، مبنِي على عدم الإجماع على خلافه كما
سبقت الإشارة، وتأتي المراسيل في المستوى الأخير، حيث تترتب درجة
حجيتها — أو قبولها — على مدى اقترابها من أحد مستويات الإجماع
السابقة.
وإذا كان هذا التصور لمستويات الحجية في دلالة السُّنة يكاد يجعل
من السُّنة إجماعًا ومن الإجماع سُنة، فإن مناقَشة الشافعي لمشكلات
الاختلاف في السنن، ومُقترحاته لكيفية حلها، قد تساعدنا على الكشف
عن حدود هذا التداخل ومداه حين نناقش في «ثالثًا» مفهومه
للإجماع.
(٥) اختلاف السنن: مصدره وكيفية حله
يناقش الشافعي هذه القضية من جانبين: الجانب الأول اختلاف
المرويات في دلالتها، والثاني الاختلاف الذي نُقل عن جيل الصحابة
في العمل، ومعنى ذلك أن الشافعي يَعتبِر عمل الصحابة من السنن
الواجبة الاتباع؛ ولذلك يحاول جاهدًا إزالة الاختلافات التي نُقِلت
عنهم، إما بِردِّها إلى عدم سماع السبب الموجِب للأمر أو للنهي، فيظن
السامع أن الأمر عام، أو أن تكون السُّنة لم تبلغ الصحابي فعمل على
خلافها. وثَمَّة سبب ثالث يطرحه الشافعي وإن كان لا يتوقف أمامه
طويلًا محللًا أو كاشفًا عن أبعاده، وهو اختلاف الصحابة في تأويل
معنى الحديث وفي فهمه؛ ولأن الاختلاف بين الصحابة أوسع من مجرَّد
اختلاف سماع أو اختلاف تأويل، فإن الوقوف عند تلك المستويات وحدْها
لا يخلو بالنسبة للباحث المعاصر من مغزًى ودلالة، فحواه النظر إلى
ذلك الجيل الأول بوصفه جيلًا خاليًا من كل شروط الضعف الإنساني،
جيلًا من الأبرار الأطهار الأخيار، الذين مَحى الإسلام من جِيناتهم
كل أثر من آثار الوراثة أو الوجود الاجتماعي، وهي نظرة مستقِرة
وسائدة في الخِطاب الديني المعاصر،
٤١ يُروى عن الشافعي أنه كان يقول: «رأيهم (= الصحابة)
خيرٌ من رأينا لأنفسنا … هم فوقنا في كل علمٍ واجتهاد وورَع وعقل
… وآراؤهم لنا أحمَدُ وأولى بنا من رأينا.»
٤٢
وإذا كان إجماع الصحابة «سُنة» فإن اختلافهم هو من قبيل اختلاف
السنن، بمعنى أنه يردنا إلى آليات التصحيح السابق ذكرها، فإن لم
يمكن ذلك نعمد إلى اختيار «ما وافق الكتاب، أو السُّنة، أو الإجماع،
أو كان أصح في القياس.»
٤٣ وإذا كان اختلاف الصحابة لا يمكن ردُّه — بفعل الهاجس
الأيديولوجي عند الشافعي — إلى أسبابه الحقيقية، فإن التبرير يحل
محل التفسير على النحو التالي:
«فأما المختلفة التي لا دلالة على أيها ناسخ وأيها منسوخ:
فكل أمره مُوتَفِق صحيح لا اختلاف فيه، ورسول الله عربي اللسان
والدار، فقد يقول القول عامًّا يريد به العام، وعامًّا يريد به
الخاص، كما وصفتُ لك في كتاب الله وسُنن رسول الله قبل هذا،
ويُسأَل عن الشيء فيجيب على قدر المسألة، ويؤدِّي عنه المخبِر عنه
الخبر مُتقصى، والخبر مختصرًا، والخبر فيأتي ببعض معناه دون
بعض، ويُحدِّث عنه الرجل الحديث قد أدرك جوابه ولم يُدرِك المسألة
فيدله على حقيقة الجواب، بمعرفته السبب الذي يخرج عليه الجواب،
ويسن في الشيء سنة وفيما يخالفه آخَر، فلا يخلص بعض السامِعين
بين اختلاف الحالَين اللتين سَنَّ فيهما، ويَسن سُنة في نص معناه،
فيحفظها حافظ، ويسن في معنى يُخالِفه في معنًى ويُجامعه في معنًى؛ سُنة غيرها لاختلاف
الحالين، فيحفظ غيرُه تلك السُّنة، فإذا أدَّى كلٌّ
ما حفظ رآه بعضُ السامِعين اختلافًا، وليس منه سيئ مختلف، ويسن
بلفظ مَخرجُه عام جملة بتحريم شيء أو بتحليله، ويَسُن في غيره خلاف
الجملة، فيستدل على أنه لم يُرِد بما حرَّم ما أَحل، ولا بما أَحلَّ ما
حَرَّم، ويَسن السُّنة ثم ينسخها بِسنَّته، ولم يَدعْ أن يُبيِّن كلما نسخ من
سنته بسنته، ولكن ربما ذهب على الذي سمع من رسول الله بعض علم
الناسخ، أو علم المنسوخ، فحفظ أحدهما دون الذي سمع من رسول الله
الآخَر، وليس يذهب ذلك على عامتهم، حتى لا يكون فيهم موجودًا
إذا طُلب.»
٤٤
وإذا كان يمكن أن نجمع الأسباب السابقة كلها تقريبًا تحت علةٍ
واحدة، فلا شك أن هذه العلة هي غياب سياق القول — الحديث — عن
الراوي أو عن الرواة وهو السياق المساوي لمعرفة أسباب النزول
بالنسبة لدلالة القرآن، ولا شك أن هذا الغياب يؤثر تأثيرًا سلبيًّا
على إدراك دلالة السنن، فلا يمكن تمييز الناسخ من المنسوخ، ولا
التفرقة بين العامِّ والخاص، أو المُطلَق والمقيد … إلخ. وليس معنى ذلك
من منظور الشافعي استغلاق فهم دلالات السنن والأحاديث، فما غاب عن
بعض الصحابة موجودٌ عند بعضهم الآخر، وليس على عالِم الحديث إلا أن
يستقصي المرويات ويعيد بناءها للكشف عن الدلالات الحقيقية الصحيحة،
وهكذا يَرُد الشافعي الاختلاف إلى مجرَّد عدم الاستقصاء وتحرِّي
المرويات، ويغيب عنه أن معيار التحرِّي والاستقصاء ذاته معيارٌ
خلافي؛ لأن للخلافات أسبابًا أخرى أعمق من نقص المعلومات. والمشكلة
الحقيقية التي لم ينتبِه لها الشافعي تلك التسوية التي أقامها بين
القرآن والسُّنة من حيث استقلال السنة بالتشريع، حتى غدَت السنة نصًّا
يحتاج بدوره إلى نصٍّ شارح، وذلك بدلًا من أن تكون نصًّا شارحًا
فقط للقرآن. ومعنى ذلك أن توسيع نطاق النصوص الدينية يضم الأحاديث
والسنن؛ أدى بدروه إلى توسيع نطاق الأحاديث والسنن حتى احتاجت إلى
الاستقصاء والتحرِّي، من أجْل الكشف عن دلالة المختلفات فيها. وبدلًا
من مُقيِّدة لِمطلَقِه، صارت هي بذاتها مركَّبَة من ناسخٍ ومنسوخ، من خاصٍّ
وعام، ومطلَق ومقيَّد … إلخ، إن حل اختلافات السنن لكشف دلالاتها
الحقَّة يدور بنا داخل دائرةٍ مغلَقة، فالمختلَف فيه لا بد أن يُستقصى
أولًا، ثم يُردُّ المجهول منه إلى المعلوم، وتكون الخطوة الأخيرة قياس
الدلالة على دلالة القرآن، التي لا تستغني عن السُّنة للكشف عنها في
ذاتها، كما سبقت الإشارة.
وما لم يوجد فيه إلا الاختلاف؛ فلا يعدو أن يكون لم يُحفظ
مستقصًى، كما وصفتُ قبل هذا، فيُعد مختلفًا، ويغيب عنا من سبب
تَبيينه ما علمنا في غيره، أو وهمًا من مُحدِّث، ولم نجد عنه شيئًا
مختلفًا فكشفناه إلا وجَدْنا له وجهًا يحتمل به ألا يكون
مختلفًا، وأن يكون داخلًا في الوجوه التي وصفتُ لك، أو نجد
الدلالة على الثابت منه دون غيره، بثبوت الحديث، فلا يكون
الحديثان اللذان نُسِبا إلى الاختلاف متكافيين، فنصير إلى الأثبت
من الحديثين، أو يكون على الأثبت منهما دلالةٌ من كتاب الله
وسُنة نبيه أو الشواهد التي وصفناها قبل هذا، فنصير إلى الذي هو
أقوى وأولى أن يثبت بالدلائل، ولم تَجِد عنه حديثين مختلِفين إلا
ولهما مَخرَج، أو على أحدهما دلالة بأحد ما وصفت، إما بموافقة
كتاب أو غيرها من سُنَّته، أو بعض الدلائل.
٤٥
ولا يدخل الأحناف الذين نظروا لدلالة السنة — في علاقتها بالقرآن
— بوصفها نصًّا شارحًا، في مثل هذه الدوائر المغلَقة، ناهيك عن
توسيع مفهومها فتدخل فيها أحاديث الآحاد وإجماع الصحابة. إن أبَا
حنيفة لا يعتبر إجماع الصحابة سُنة واجبة الاتباع، بل يختار من
أقوال الصحابة وأفعالهم — بحريةٍ تامة — ما يهديه إليه العقل
والقياس، لكن هذا الاختيار مشروط بما لم يَرِد فيه حكم في الكتاب أو
السنة:
«إذا لم أجد في كتاب الله، ولا سُنة رسول الله
ﷺ أخذتُ
بقول الصحابة مَن شئت، وأدع قول مَن شئت، ثم لا أخرج من قولهم
إلى قول غيرهم. فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن
سيرين، وسعيد بن المسيب، فلِي أن أجتهد كما اجتهدوا.»
٤٦
وإذا كان الشافعي يحكم على اختلافات الصحابة بما وافَق الكتاب أو
السنة أو الإجماع أو القياس، فإن أبا حنيفة يجعل القياس العقلي
حاكمًا على صحة المرويات — خاصة روايات الآحاد — ذاتها، فليست
الأدلة القطيعة عنده قاصرة على الكِتاب والسُّنة، ولكنه يُدخل فيها
القياس، خاصة ما بُنِي منه على الأصول التي تضافَرت في تكوينها
الأحكام الثابتة في الدين:
«مثل قاعدة: «لا حرج في الدين»، وقاعدة: «سد الذرائع»،
وقاعدة: «ألا تَزِر وازرة وِزْر أخرى»، وغير ذلك من القواعد
المنصوص عليها في القرآن الكريم، المصدر الأول لهذه الشريعة،
أو الأقيسة المنصوص على عِللها بأصلٍ قطعي. إن الأقيسة القطعية
التي تُبنَى على هذه النصوص، أو تَعتمِد على هذه الأصول يُرَد بها
خبر الواحد، ويُطعَن بها في نسبته إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه.»
٤٧
لكننا نحتاج قبل الانتقال إلى أهمية القياس وحدود توظيفه
ومجالاته، بين الشافعية والأحناف، إلى مناقَشة مفهوم «الإجماع»،
المصدر الثالث من مصادر التشريع عند الشافعي.