ثالثًا: الإجماع
مفهوم الإجماع عند الشافعي مفهومٌ على درجةٍ عالية من الالتباس، وليس
منشأ الالتباس فقط الخلط بينه وبين مفهوم التواتُر، بل يرتدُّ بالإضافة
إلى ذلك إلى اتساع مفهوم السُّنة عنده اتساعًا يكاد يشمل إجماع الجيل
الأول من المسلمين، جيل الصحابة.
١ وكأنَّ الشافعي كان مشدودًا بين خيطين: أولهما خيط توسيع
نطاق النصوص، وثانيهما حقيقة الاختلاف الذي كان منتشرًا في عصره بين
علماء الأمصار المختلفة؛ لذلك نجده في الرسالة يفرِّق بين الإجماع في
الرواية عن النبي
ﷺ وبين «الإجماع» على العمل بالاجتهاد، أي
أنه يُفرِّق بين «التواتُر» و«الإجماع»، لكنه في هذه التفرقة يرجع «حجة»
الإجماع إلى استبعاد أن يكون فيه ما يخالِف سنة من سنن النبي، ذلك أن
السُّنن لا تغيب على عامة العلماء — جماعتهم — وإن غاب بعضها عن خاصتهم.
ومن اللافت للانتباه أن هذه الطريقة في الدفاع عن حجية الإجماع تشبه
إلى حد التماثُل طريقة الشافعي في الدفاع عن «عُروبة» القرآن، ونفى أن
يتضمن كلمات ذات أصول أعجمية، فقد ذهب إلى أن اللغة العربية من الاتساع
والشمول بحيث لا يحيط بمفرداتها إلا نبي، وذهب إلى أن الألفاظ التي زعم
البعض أنها غير عربية قطعًا، وإن جهل ذلك مَن جهله، وتَماثُل طريقَتِي
الدفاع يؤكِّد طبيعة الجِذر الأيديولوجي الذي تنتمي إليه المَقولتان
السالفتان، فإجماع الأمة لا بد أن يكون أساسه نصًّا غاب منطوقه عن
البعض، وإن لم يغب مفهومه — محتواه ومضمونه — عن الكل، وفي هذا ما فيه
من إهدارٍ لدور الخبرة الجماعية المنتزَعة من جدل الجماعة مع واقعها
الاجتماعي التاريخي، وذلك بإلغاء تاريخيتها، وتحويلها إلى نصٍّ ديني
ثابت المعنى والدلالة، يقول الشافعي مستخدمًا أسلوب السجال بتوهم سائل
معترض:
«فقال لي قائل: قد فهمتُ مذهبك في أحكام الله، ثم أحكام رسوله،
وأن مَن قَبِل عن رسول الله فَعَن الله قَبِل، بأن الله افترض طاعة رسوله،
وقامت الحجة بما قلتُ بأن لا يحل لمسلمٍ عَلِم كتابًا ولا سُنة أن يقول
بخلاف واحد منهما، وعلمتُ أن هذا فرضُ الله، فما حُجتُك في أن تَتَّبِع ما
اجتمع الناس عليه، مما ليس فيه نص حكم لله، ولم يحكوه عن النبي؟
أتزعم ما يقول غيرُك أن إجماعهم لا يكون أبدًا إلا على سنةٍ ثابتة
وإن لم يحكوها؟!
قال: فقلتُ له: أما ما اجتمعوا عليه فذَكروا أنه حكاية عن رسول
الله فكما قالوا إن شاء الله، وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون
قالوا حكاية عن رسول الله، واحتمل غيره، ولا يجوز أن نَعدَّه له
حكاية؛ لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعًا، ولا يجوز أن يحكي شيئًا
يُتوَهَّم، يمكن فيه غير ما قال، فكنَّا نقول بما قالوا اتباعًا
لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم، وقد
تعزب عن بعضهم، ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلافٍ لسُنة رسول
الله، ولا على خطأ إن شاء الله.»
٢
وإذا كان الشافعي في قوله ذاك يكاد يعيد إنتاج مقولة أستاذه الإمام
مالك في اعتماده «عمل أهل المدينة» مصدرًا فقهيًّا، فإنه يكاد أيضًا أن
يجعل الإجماع سُنة واجبة الاتباع، كل الفارِق بينها وبين السنن المروية
عن النبي، أن الإجماع حكاية غير مسموعة، لا تَقلُّ في حجيتها عن تلك
المسموعة، لكن الاختلاف الذي كان واضحًا في عصر الشافعي، والذي عاينه
الشافعي بعد انتقاله إلى مجتمعٍ ذي طبيعة مغايرة — المجتمع المصري —
شوَّش على الشافعي حجية الإجماع، بل شككه في وجوده على مستوى الأمة. يعدد
الشافعي بعض الاختلافات، ثم يعلق عليها قائلًا:
فدلَّ ذلك على أن قائل السلف يقول برأيه، ويخالفه غيره ويقول برأيه
… وفي هذا دليل على أن بعضهم لا يرى قول بعض حجة تلزمه إذا رأى
خلافها، وأنهم لا يَرون اللازم إلا الكتاب أو السنة، وأنهم لم
يذهبوا قط إن شاء الله إلى أن يكون خاصُّ الأحكام كلها إجماعًا
كإجماعهم على الكِتاب والسُّنة، وجعل الفرائض، وأنهم كانوا إذا وجدوا
كتابًا أو سنة اتبعوا كل واحدٍ منهما، وإذا تأوَّلوا ما يُحتمل فقد
يختلفون، وكذلك إذا قالوا فيما لم يعلموا فيه سنة اختلفوا … وكفى
حجة أن دعوى الإجماع في كل الأحكام ليس كما ادعى مَن ادعى … وجملته
أنه لم يَدَّعِ الإجماع فيما سوى جمل الفرائض التي كلفتها العامة أحدٌ
من أصحاب رسول الله، ولا التابعين، ولا عالم عَلمتُه على ظهر الأرض،
ولا أحد نَسبتْه العامة إلى علم إلا حينًا من الزمان.
٣
لكن هذا الإدراك لزمانية الإجماع، بل ولإقليميته أيضًا، لا يمنع
الشافعي من الإصرار على كونه مرادفًا للسُّنة، ويتمتع بقوة إلزامها
وحجيتها، ففي تحديده لوجوه العلم يحصرها في خمسة أوجه: أولها
المتواتِرات، وثانيها ما يحتمل التأويل من النصوص، ولا ينقل عن ظاهرها
إلا بإجماع، فإن لم يكن ثَمَّة إجماع فهي على ظاهرها، والوجه الثالث من
وجوه العلم هو «الإجماع»، وهو: «ما اجتمع المسلمون عليه، وحكوا عمَّن
قبلهم الاجتماع عليه، وإن لم يقولوا هذا بكتابٍ ولا سُنة، فقد يَقوم عندي
مَقام السُّنة المجتمع عليها، وذلك أن اجتماعهم لا يكون عن رأي؛ لأن الرأي
إذا كان تفرق فيه … والإجماع حجة على شيء؛ لأنه لا يمكن فيه الخطأ.»
٤ والرابع من وجوه العلم هو: علم الخاصة، الذي هو أحاديث
الآحاد، أما الوجه الخامس والأخير فهو «القياس»، ومرة أخرى فرَض الواقع
الموضوعي نفسه على الشافعي، الذي لا يستطيع أن يزعم دعوى الإجماع
زمانًا ومكانًا، فيعود ليأخذ باليمين ما سبق أن أعطاه بالشمال، ويحصر
مفهوم «الإجماع» في السنن المتواتِرة:
فذلك الإجماع هو الذي لو قلتَ أجمعَ الناس لم تَجِد حولك أحدًا يعرف
شيئًا يقول ليس هذا بإجماع. فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى
الإجماع فيها، وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه ودون الأصول
غيرها. فأما ما ادعيت من الإجماع حيث أدركت التفرق في دهرك، وتحكي
عن أهل كل قرن، فانظره: أيجوز أن يكون هذا إجماعًا؟!
٥
وهكذا ينتهي مفهوم «الإجماع» إلى الاندراج في مفهوم «السُّنة»، وهو
المفهوم الذي يتسع لدى الشافعي لسنن الأعراف والعادات والتقاليد، ولا
يقتصر — كما سلفَت الإشارة — على المروي عن الرسول
ﷺ وحيًا
وتشريعًا. ومعنى إدراج «الإجماع» في السنن، أن مفهوم السُّنة ذاته يتسع —
مرة أخرى — بإضافة إجماع الأجيال التالية — التي هِي سُنن تاريخية —
إليها. وإذا يتسع نطاق السُّنة، يتسع مجال النصوص، وتَضيق نتيجة لذلك
مساحة الاجتهاد؛ ولأن تلك الغاية الأساسية لمشروع الشافعي، اضطرب مفهوم
الإجماع عنده ذلك الاضطراب الملحوظ.
وإذا كنا لا نختلف كثيرًا مع مَن يذهب إلى أن هاجس الشافعي الأساسي في
منظومته الفكرية هو البحث عن مصدرٍ لليقين والحجة، فإننا لا نستطيع
الاتفاق مع ما انتهى إليه هذا الرأي من نفي لتوفيقية الشافعي، أو نفي
لتلفيقيته بالأحرى.
٦ ذلك أن جعل «النصوص الدينية» هي مصدر اليقين ومرجعيته
الأصلية، بما استتبع ذلك من توسيع لمفهوم النصوص، حتى اندرج فيها سنن
العادات والإجماع، كان موقفًا أيديولوجيًّا يتصدَّى لموقفٍ آخر يجعل من
العقل الحُر مرجعية اليقين. لكنَّ تَصدِّي الشافعي لم يكن دائمًا تصدِّيًا
صريحًا مباشرًا، بل حاوَل استخدام بعض آليات التفكير العقلي ليُبرِّر نفي
العقل، وحبسه في دائرة النصوص، بحيث لا يتجاوز دوره استكشاف دلالتها،
والعكوف على تأويلها وتفسيرها، ولعل هذه النقطة الجوهرية تنكشف بمناقشة
الوجه الأخير من أوجه العلم عند الشافعي وهو القياس.