أمرٌ من رقم «صفر»!
أطلَّ قرصُ الشمس الأصفر من وراء صفحة البحر … وأخذ ينمو ببطء، وهو يُرسل خيوطًا من الذهب فوق صفحة البحر الزرقاء الصافية حتى تحوَّل سطحُ البحر المصقول إلى مرآة ذات مزيج من اللون الذهبي والأزرق … وقفَت «إلهام» أمام شاطئ البحر تُشاهد شروقَ الشمس في ذلك الوقت المبكر من الصباح.
كان الشاطئ لايزال هادئًا … ولا يُسمَع فوقه غيرُ صوتِ اصطدامِ الماء فوق بعضِ صخورِ الشاطئ القليلة والزَّبَد الأبيض يمسح الرمال تحت قدمَيها. ومن أعلى حلَّقَت بعضُ الطيور البحرية فوق الشاطئ ثم طارَت مُبتعدةً، وهي تُطلق صيحاتِها المبتهجة.
وبامتدادِ الأفق ظهرَت بعضُ قمم جبال مدينة «تبوك» السعودية للجانب الآخر من الشاطئ على مسافةٍ ليست بعيدة … وبامتدادِ الأفق يمينًا ويسارًا لم يكن هناك غيرُ الرمال الصفراء الذهبية الناعمة لشاطئ «العصلة» بجنوب سيناء، أو «العسلة» — كما ينطقُها أهلُها من البدو — وإلى الوراء ظهر عددٌ كبير من المعسكرات المصنوعة من البوص في شكل بدائي جميل … وقد أضفى وجودُ عددٍ كبير من النخيل القصير التي تفرش الشاطئ بفروعها العريضة كأنها شموس طبيعية ساحرة … وتزيد المكان جمالًا … وحتى يكتمل المشهد إثارةً وجاذبية؛ ظهر بعضُ البدو الذين يركبون جِمالَهم وهي تسير متهاديةً فوق الشاطئ … كان المنظر يبدو ساحرًا … فاتنًا … كأنما هو قطعةٌ من العشرينيات أو الثلاثينيات من هذا القرن … فلا شيءَ في المكان يدل على أنه يعيش في نهاية القرن العشرين.
كانت الأكواخ البوصية … وشجيرات النخيل القصيرة … والبدو … والجمال … والشاطئ الناعس … كانت كلُّها أشياء تُوحي بالبدائية والطبيعة النقية.
وتنهَّدَت «إلهام» في راحة … وعندما تذكَّرَت أن هذا اليوم هو آخر أيام الشياطين الستة فوق الشاطئ أصابَها شيءٌ من الكَدَر … فقد انقضَت أيام الإجازة القصيرة فوق الشاطئ كأنها حلم … وها هي «إلهام» يُصيبها الحزن لمجرد التفكير في أنها ستُغادر ذلك الشاطئ الممتع.
ومن الخلف أطلَّ «أحمد» وهو يقول باسمًا: هل تُخاطبين البحر؟
ابتسمَت «إلهام» قائلةً: إنني أخاطب المكانَ كلَّه … البحر والشاطئ والنخيل والصخور. إن مَن أطلق اسمَ «العسلة» على هذا الشاطئ كان على حقٍّ … فهو كالعسل فعلًا.
ضحك «أحمد» قائلًا: يبدو أنكِ بعد قليل سوف تكتبين شعرًا وغزلًا في هذا الشاطئ.
قالت «إلهام» باسمةً: إنه يستحق ديوان شعر كامل … فبقدر ما شاهدتُ من شواطئ في كلِّ أركان العالم، فلم أشاهد شاطئًا في مثل روعة هذا الشاطئ.
أحمد: إن شواطئ سيناء كلها رائعة … فقط تتطلَّب منَّا الاهتمام بها.
ومن الخلف ظهر «عثمان» و«خالد» و«قيس» و«بو عمير» … ولوَّحوا ﻟ «أحمد» و«إلهام»، ثم انطلقوا نحو الماء وألقَوا بأنفسهم فيه، وراحوا يسبحون بقوة، وراقب «أحمد» الشياطين الأربعة، وقال ﻟ «إلهام»: ألَا ترغبين في السباحة؟
إلهام: أريد أن أبقى قليلًا على الشاطئ.
والتفتَت نحو «أحمد» قائلةً: هل استمتعتَ بهذه الإجازة القصيرة؟
أحمد: هذا مؤكَّد … وأنتِ؟
إلهام: بلا شك … وإن كان يُدهشني أن هذه الإجازة لم تكن في حسباننا.
أحمد: هل تقصدين أنها قد جاءَت كمفاجأةٍ من رقم «صفر».
إلهام: فعلًا … إنه من النادر ما يسمح لنا بإجازات نقضيها بعيدًا … وبدلًا من أن نطلب منه نحن إجازة قصيرة بعد مهمتنا الأخيرة، فهو الذي طلب منَّا أن نقوم بتلك الإجازة، بل وحدَّد المكان لنا … أليس هذا مدهشًا؟
ابتسم أحمد قائلًا: بل إنه شيء ممتع … أتمنَّى لو حصلنا على إجازة كهذه بعد كلِّ مهمة نقوم بها!
ونهض بجسده القوي الذي اكتسى بلونٍ برونزيٍّ من الشمس، واندفع إلى الماء فألقى بنفسه فيه، وأخذ يسبح بضربات سريعة قوية حتى لَحِق ببقية الشياطين.
وتأمَّلَت «إلهام» المكانَ حولها … كان الشاطئ قد بدأ يمتلئ برُوَّاده الذين جاءوا من مختلف أنحاء العالم للتمتُّع به … وسارَت «إلهام» قليلًا على الشاطئ … وكانت هناك بعضُ المقاهي المصنوعة من خشب النخيل والأشجار، وقد ارتصَّت فيها سجاجيدُ يدويةٌ على الطراز العربي، وقد جلس بعضُ السياح لشربِ الشاي أو للإفطار فوق موائد قصيرة مستديرة تُشبه «الطبلية» في جوٍّ عربيٍّ أصيل، على حين انطلقَت بعضُ أغاني «أم كلثوم» و«فیروز» من بعض المقاهي الأخرى.
ومن الخلف وقف بعضُ السياح الأجانب وقد ارتدوا الملابس البدوية الأصيلة وهم يلتقطون الصور لبعضهم … وتنهَّدَت «إلهام» مرة أخرى … كان المكان فاتنًا بحق.
وبعد قليل سبح الشياطين الخمسة عائدين إلى الشاطئ … وكان في انتظارهم قاربُ صيدٍ بخاري وعددٌ من الصنانير القوية … وانطلق الزورقُ البخاري ﺑ «أحمد» و«عثمان» و«خالد» في قلب الماء، وهم يُلوِّحون لبقية الشياطين. وقال «قيس» باسمًا: يبدو أن الغذاء سيكون سمكًا طازجًا اليوم.
بو عمير: هذا إذا لم يصطَدِ الشياطين حوتًا من الحيتان.
تأمَّلَت «إلهام» الشاطئَ، وقالت: لا توجد حيتان هنا … توجد أسماك القرش فقط … هناك حوالي ثلاثين نوعًا من أسماك القرش تعيش في البحر الأحمر.
بو عمير: سأجهز الحطب لشِواء السمك؛ فأنا أشعر أن صيد الشياطين سيكون وفيرًا.
ومضَت أكثرُ من ساعتين … ثم ظهر زورقُ الشياطين … وكانت هناك مفاجأة في انتظار «إلهام» و«بو عمير» و«خالد» … فلم يصطَدْ بقيةُ الشياطين غيرَ سمكة واحدة … سمكة قرش طولُها متر ونصف … وبالصنارة.
تجمَّع رُوَّاد الشاطئ بأكمله حول سمكة القرش ذات الجسد اللامع المتناسق … القوي … والأسنان الحادة كالمنشار. قال «أحمد» وهو يمسح حبَّات العرق اللامعة فوق جبهته: لقد بذلتُ مجهودًا خرافيًّا لاصطيادها، فقد كادَت تقلب الزورق بنا.
قال «عثمان» ضاحكًا: تقصد أننا بذلنا مجهودًا خرافيًّا معًا لاصطيادها؛ فقد قاومَت هذه السمكة صنارتَنا وكادَت تُغرقنا جميعًا … إنها تُذكِّرني بسمكة القرش التي اصطادها الصياد العجوز في شواطئ كوبا برواية «أرنست هيمنجواي» «العجوز والبحر».
خالد: ولكن مع الفارق في أننا عُدْنا بسمكتنا سليمة وليست هيكلًا عظميًّا كما حدث لذلك العجوز المسكين.
وكان غذاءً فاخرًا … فقد تم تقطيعُ السمكة الكبيرة إلى أجزاء صغيرة بعد سلخِ جلدِها ورأسِها … وتم شواءُ أجزاءِ السمكة فوق نار كبيرة … وفي النهاية تناول أغلبُ روَّادِ الشاطئ لحمَ السمكة اللذيذ بلا مقابل.
وانقضى بقيةُ النهار سريعًا … وانحدرَت الشمسُ نحو الأفقِ البعيد فوق رمال الصحراء والجبال البعيدة … كأنما تُوشك الشمس أن تُلقيَ بنفسها خلفها … ونظر «أحمد» في ساعته، وقال: لم يبقَ غيرُ ساعة واحدة على مجيء سيارة الشياطين لتأخذَنا إلى القاهرة.
عثمان: سيكفي هذا الوقت لنأخذ حمامًا نُزيل به آثار ملح البحر من فوق أجسامنا، ثم نرتدي ملابسنا ونجمِّع أشياءَنا.
واتجهوا نحو مؤخرة المعسكر الذي يقيمون فيه … وكانت هناك بئرٌ صغيرة يتدلَّى فيها دلوٌ كبيرٌ تولَّى «قيس» إسقاطَه في البئر ورفعه ممتلئًا بالماء ليغتسل به الشياطين.
وفي أقل من ساعة كانوا يقفون أمام مدخل الشاطئ يحملون الحقائب الصغيرة التي يحملونها في أيديهم وبداخلها ملابسُهم وأشياؤهم الصغيرة … وكانوا يبدون كما لو كانوا مجموعةً من الزائرين العرب القادمين من أقطارهم لتمضيةِ وقتٍ ممتع على الشاطئ المصري.
وحلَّ الظلام تمامًا على المكان … وأُضيئَت بعضُ اللمبات الكهربائية القليلة في محلات البازارات والمقاهي المنتشرة في مدخل الشاطئ. نظرَت «إلهام» في ساعتها بشيء من الدهشة … الثامنة وتسع دقائق. وألقَت نظرةً إلى بقيةِ رفاقِها … وكانت الدهشةُ تعلو وجوهَهم جميعًا.
وقال «بو عمير»: لقد تأخَّرَت سيارتُنا.
خالد: لعل عطلًا قد أصابها في الطريق.
إلهام: لو كان هذا قد حدث لجاءَتنا رسالةٌ من رقم «صفر» بذلك.
عثمان: إن رقم «صفر» لم يتصل بنا ولا مرة واحدة خلال مدة إجازتنا هنا … أليس هذا شيئًا عجيبًا؟
أحمد: لعله أراد ألَّا يُشغلَنا ويقطعَ علينا الاستمتاع بإجازاتنا.
قيس: ليست هذه عادة رقم «صفر».
وضاقَت عيناه وهو يُكمل: لقد طلب منَّا عدمَ الاتصال به أيضًا خلال المدة السابقة … تُرى لماذا؟
ومرَّت لحظات من الصمت … كانت الحيرة والقلق ظاهرةً على ملامح وجوه الشياطين الستة، وكان تصرُّفُ رقم «صفر» بالفعل عجيبًا … وغير مفهوم … ومرَّت الدقائق بطيئة … وأشارَت عقاربُ الساعة إلى التاسعة … وتبادل الشياطين نظرةً صامتة … قالت «إلهام»: أظن أن شيئًا ما قد حدث، ربما أن سفرَنا قد أُلغيَ.
بو عمير: هذا مستحيل … إن رقم «صفر» لا يُقرِّر ذلك إلا إذا أخبرنا مقدَّمًا.
قال «أحمد» في قلق: لن يمكننا البقاء هنا وإلا سنلفت النظر إلينا … فلنَعُد إلى عششنا داخل المعسكر قبل أن يؤجرَها صاحبُها لآخرين … ومن المؤكد أن رقم «صفر» سيحاول الاتصال بنا هنا.
أومأ الشياطين برءوسهم بالموافقة واتجهوا عائدين إلى المعسكر … وكانت عشتُهم البوصية لا تزال خالية لحسن حظهم، فوضع الشياطين أشياءهم بها وجلسوا على الشاطئ في قلق.
وتساءل «قيس»: وماذا سنفعل إذا لم يتصل بنا رقم «صفر» … هل سنبقى هنا طويلًا؟
أحمد: لا أظن … إذا لم تأتِنا رسالةٌ حتى الصباح فسنسافر إلى القاهرة ومنها إلى مقرِّنا السري.
بو عمير: لماذا لا تُرسل رسالة إلى رقم «صفر»؟
هتفَت «إلهام» بسرعة: لا … إن تعليمات رقم «صفر» واضحة … لا رسائل من جانبنا.
وببطءٍ أكملَت: ولا يجب علينا مغادرة المكان والسفر إلى المقر السري … ما دامت الأوامر لم تجئْ بذلك.
عثمان: إنني قلق. من المؤكد أن شيئًا ما قد حدث … هل يمكن أن يكون شيءٌ ما قد أصاب رقم «صفر» ولذلك لم يستطع الاتصال بنا؟
ظهر الذهولُ في عيون بقية الشياطين، وهتفَت «إلهام»: ماذا تقول يا «عثمان» … هذا مستحيل!
قال «عثمان» ببطء: ولمَ لا … إن رقم «صفر» إنسانٌ مثلنا، وهو معرَّض للمرض والإصابة أو …
وتوقَّف «عثمان» عن الحديث … وكان ما يقصده واضحًا … وتلاقَت نظراتُ الشياطين؛ احتمالات عديدة سيئة أمام وجوههم، وفي نفس اللحظة أحسَّت «إلهام» بدفءِ جهاز الإرسال الصغير الذي وضعَته في جيبها، ولم تتمالك نفسَها فصرخَت: هناك رسالة من رقم «صفر».
واختطفَت الجهاز من جيبها، واستمعَت إلى دقَّات الرسالة الخافتة … وبعد قليل صمتَ الجهاز وعاد إلى بروده … ولم يكن الشياطين بحاجة لأن تفسِّر لهم «إلهام» معنى دقَّات الرسالة التي جاءَتها توًّا … وكانت الرسالة تقول في كلمات مختصرة مقتضبة: «تأجَّلَت عودتكم … ابقَوا في مكانكم لحين وصول تعليمات أخرى … ولا تحاولوا الاتصال بالمقر السري بأية وسيلة … انتهى.»
تبادل الشياطين النظرات المتعجبة … وقال «عثمان»: هذا مذهل … إنها رسالة عجيبة لم توضِّح لنا شيئًا … بل لعلها زادَت من حيرتنا.
قالت «إلهام»: هناك شيء ما لا أفهمه … لماذا حذَّرنا رقم «صفر» أكثر من مرة من محاولة الاتصال به داخل المقر السري؟!
ولم يكن لدى أيٍّ من الشياطين إجابةٌ على سؤالها.