رحلة في الفجر!
لم ينطق «أحمد» … ونظر إلى عينَي «إلهام» الواسعتَين … العسليَّتَين … ثم إلى شعرها الأسود الطويل وأنفها الدقيق … كان يسأل نفسَه بلا وعْيٍ … هل يمكن أن تكون هي؟
وسألَته «إلهام» بدهشة: «أحمد» … لماذا تُحدِّق فيَّ بمثل هذه الصورة … ماذا حدث؟
قال «أحمد» بتردد: لا شيءَ يا «إلهام» … إنني أشعرُ فقط ببعض التعب.
سألَته بدهشة: أَلِأجلِ هذا ذهبتَ للسباحة في منتصف الليل؟
وكان في سؤالها مزيجٌ من الشك والحيرة … وأجابها «أحمد»: لقد رأيت أن السباحة في الماء البارد قد يُنعشني قليلًا، خاصة عندما جافاني النوم … سأذهب إلى فراشي.
واتجه إلى عشته البوصية في صمت … وراقبَته «إلهام» بعينَين مليئتَين بالدهشة، وهي تسأل نفسها: تُرى ماذا حدث ﻟ «أحمد»؟ … ولماذا يبدو مضطربًا مرتبكًا بمثل هذه الطريقة؟ ولماذا حملق فيها بتلك الطريقة العجيبة كأنه يريد أن يتأكد من شيء ما؟! … ولكن ما الذي أراد أن يتأكد منه؟!
وبخطوات بطيئة اتجهَت «إلهام» إلى فراشها …
ولم يَنَم «أحمد» تلك الليلة … وبقيَ مسهَّدًا يتقلَّب فوق فراشه … وأخذ يسترجع كلَّ ما مرَّ به من أحداث مع بقية الشياطين خلال أيام الإجازة الماضية … كان يريد أن يكتشف شيئًا ما قد غاب من ذهنه وقتَها … شيءٌ ما قد يكون له صلة بشخصية الشيطان المزيف … ولكن كل التصرفات السابقة كانت عادية بالنسبة للشياطين … حقيقةً إن «إلهام» كانت أكثرَ انطلاقًا ومرحًا عن طبيعتها … ولكن هذا لا يدعو للشك فيها؟
«عثمان» أيضًا كان يبدو أقلَّ مرحًا من المعتاد … ولم يذكر اسم «بطة» — كرته الجهنمية — أبدًا خلال الأيام السابقة … ولكن هل يدعو ذلك إلى الشك فيه؟
«قيس»، و«خالد»، و«بو عمير» كانوا يبدون على سجيَّتهم … غير أنهم كانوا يتواجدون أغلب الوقت معًا … فيسبحون معًا ويصيدون معًا … ولكن هل يدعو ذلك للشك في أحدهم؟
وأحسَّ «أحمد» أن رأسَه سينفجر … وتذكَّر سؤال «إلهام» عندما صادفَته أثناء خروجِه من الماء … وسأل نفسه … هل كان يبدو عليه شيءٌ ما يَشِي بما يدور في عقله؟
وكان عليه أن يضعَ تصرفاتِه ومشاعرَه في ثلاجة حتى لا يشكَّ أحدٌ في مهمته السرية … إن مجردَ الشك فيه قد يعني قتْلَ الشيطان الأسير … وقرابة الفجر استطاع النومَ بمشقة … واستيقظ بعد ساعة بالضبط.
كانت حاستُه قد أيقظَته بطريقة عجيبة، ونهض بسرعة وارتدى ملابسه، وأطلَّ برأسه من باب العشة … كان الوقت لا يزال مبكرًا، وأضواء الفجر تفرش المكان بستائر فضية … والسكون يخيِّم على المعسكر والشاطئ … لم يكن هناك أحدٌ مستيقظًا غيره … فلماذا أيقظَته غريزتُه فجأة بلا سبب … هل يمكن أن يكون قد أصابها اضطرابٌ أيضًا؟
وفجأة، سَمِع صوتًا ضعيفًا في الخلف … وبسرعة قفز داخل عشته وأغلق بابها … ومن بين فتحاتها الصغيرة أطلَّ إلى الخارج … ولم يصدِّق «أحمد» ما تُشاهده عيناه … فقد فُتح بابُ عشة «عثمان» … وأطل منها بوجهه الأسمر وبملابس الاستحمام.
وكان في الوجه الأسمر ملامحُ عجيبة … من الشك والريبة والحذر … وعندما اطمأنَّ إلى أن المكانَ خالٍ، وأن أحدًا لم يستيقظ بعد، أغلق بابَ عشتِه بهدوء، واتجه خارجًا من المعسكر في خطوات خفيفة … سريعة.
وما كاد «عثمان» يبتعد قليلًا حتى قفز «أحمد» خارجًا من عشته كالفهد في أثر «عثمان».
وسأل «أحمد» نفسَه في توتُّر شديد … هل يمكن أن يكون «عثمان» هو الشيطان المزيف؟ ولكن إجابة السؤال كانت سابقة لأوانها … سار الشيطان الأسمر فوق الشاطئ الخالي متجهًا ناحيةَ الصخور في نهاية الشاطئ، وتوقف لحظة، ونظر خلفَه، فأسرع «أحمد» يتوارَى خلف بعض النخيل القصير، وقد خشيَ أن يكون «عثمان» قد سَمِع خطواتِه الخفيفةَ على الرمال … توقَّف «عثمان» لحظات وهو ينظر حوله … وعندما اطمأنَّ واصلَ سيْرَه باتجاه الصخور الحادة … ثم بدأ في تسلُّقها حتى اختفى خلفها.
وتردَّد «أحمد» هل يواصل مطاردته ﻟ «عثمان» أم لا … وكان تسلُّقُه الصخورَ كفيلًا بكشفه لمن يكون وراءَها … ولأول مرة يحس «أحمد» بتردد شديد يكاد يشلُّه. وكان أسوأ ما في الموقف أنه يراقب أحدَ الشياطين، رفاق مئات المهمات السابقة التي تعرَّضوا فيها للموت معًا.
كم من مرة أنقذ «عثمان» من الموت … وكم مرة أنقذه «عثمان»، من هلاك محقق.
لَكَمْ يحبُّ هذا الشيطانَ الأسمر … ولكن لم يكن هناك مفرٌّ من استمرار المطاردة.
وحسم «أحمد» تردُّدَه، وبدأ في تسلُّقِ الصخور الحادة … وما كاد يعتليها حتى سَمِع صوتَ زورقٍ بخاريٍّ، وشاهد «أحمد» «عثمان» وهو ينطلق في عرض البحر بزورق بخاري سريع، وظهر الغضبُ الشديد على وجه «أحمد» … لقد خدعه «عثمان» … وكانت كلُّ الظروف تؤكِّد أنه الشيطان المزيف … أولًا: استيقاظه المبكر المريب … ثم ذلك الزورق العجيب الذي لا يدري متى حصل «عثمان» عليه، ولا كيف أخفاه خلف تلك الصخور … كان «أحمد» متأكدًا أنه لم يلمح ذلك الزورق مساءَ أمس عندما كان يسير في نفس المكان وشاهد رسالة رقم «صفر» الضوئية … ومن المؤكد أيضًا أن شخصًا ما قد أتى بذلك الزورق إلى «عثمان» منذ وقت قليل، وكان واضحًا أن عثمان قد استقل الزورق واتجه به إلى قلب البحر لمقابلة شخص ما.
شخص قد يكون له علاقة باختطاف الشيطان الأسمر … ومن المؤكد أن «عثمان» هذا مزيف … وارتعد «أحمد» من الغضب … ولم يكن حوله أيُّ زورق لمطاردة «عثمان» … ولم يكن هناك وقتٌ للحصول على ذلك الزورق.
وبلا ترددٍ ألقى «أحمد» بنفسه في الماء وشرع يسبح في قوة خارقة كأنه يسابق الزمن.
كان يريد أن يتأكد بنسبة مائة في المائة … وظهر زورق «عثمان» كنقطة بعيدة فوق وجه الماء، وواصل «أحمد» سباحتَه الشاقة وتتبَّعَه … وبعد نصف ساعة أصاب «أحمد» الإرهاقُ بسبب سرعته البالغة في السباحة … فتوقَّف لاهثًا وهو ينظر حوله … لم يكن ﻟ «عثمان» أو زورقه أيُّ أثر … وكان البقاء في مكانه … أو مواصلة البحث عن «عثمان» مهمة فاشلة.
لم يكن أمام «أحمد» غير العودة مرة أخرى إلى الشاطئ … وعندما وصل إلى منطقة الصخور كان الإجهاد قد أخذ منه بشدة … وكان إحساسه بالجوع قد تضاعف؛ فهو لم يأكل منذ ظُهْر الأمس … وتحامل «أحمد» على نفسه ونهض … ولم يكن الزورق البخاري في مكانه خلف الصخور، وكان هذا معناه أن «عثمان» لم يَعُد من مهمته بعد … وسار «أحمد» باتجاه الشاطئ … ولمح بقيةَ رفاقه جالسين أسفل بعض النخيل القصير وقد ظهر في عيونهم القلق، وهم يمسحون الشاطئ بعيونهم بحثًا عنه.
واتجه «أحمد» إليهم … ولم يكن «عثمان» بينهم، وأسرعَت «إلهام» نحوه في قلق شديد وهي تقول: أين كنتَ يا «أحمد» … لقد قلقنا عليك بشدة عندما وجدنا بابَ عشتك مفتوحًا ولا أحدَ بداخلها.
قال «أحمد» مقطِّبًا: لقد نهضتُ مبكرًا وذهبتُ للسباحة.
سأله «قيس» بدهشة: ولماذا سبحتَ في اتجاه الصخور؟
وتأملَت «إلهام» «أحمد» بدهشةٍ أكبر وسألَته: وما الذي جعلك تستيقظ مبكرًا للسباحة … بالرغم من أنك سبحتَ عند منتصف الليل … إن الإجهاد يبدو واضحًا عليك … ولا بد أنك سبحتَ مسافة طويلة …
تجاهل «أحمد» سؤالَ «إلهام»، ونظر حولَه وقال متسائلًا: أين «عثمان»، إنني لا أره؟
قال «بو عمير»: لقد استيقظنا ولم نجده.
أين يمكن أن يكون قد ذهب في هذا الوقت المبكر؟!
وفجأة أشار «خالد» إلى مدخل الشاطئ قائلًا: ها هو «عثمان».
ونظر «أحمد» بسرعة حيث أشار «خالد» … وشاهد «عثمان» آتيًا وهو يحمل عددًا من ثمرات الشهد بين يدَيه بوجهه الأسمر اللامع … وأقبل «عثمان» نحوهم ضاحكًا وهو يقول: هل استيقظتم جميعًا مبكرين؟ … كنت أريد أن أجعلها مفاجأة لكم.
سأله «أحمد» في خشونة: أين كنت يا «عثمان»؟
هتف «عثمان»: ألَا ترى … لقد ذهبتُ لشراء بعض الشهد لنفطرَ به؛ فطعمُه لذيذٌ جدًّا.
قالت «إلهام» في دهشة: هل ذهبتَ لشراء شهد … قبل شروق الشمس؟!
شقَّ «عثمان» إحدى الثمرات وبدأ يتذوقها في تلذُّذٍ وهو يقول: إن البدو الذين يبيعونه يأتون به مبكرًا … ولو انتظرتُ قليلًا لباعوا كلَّ ما عندهم.
ومدَّ نصفَ ثمرة طازجة إلى «أحمد»، وهو يقول له: تذوَّقها يا «أحمد» … إنها رائعة.
وتلاقَت عينَا الشيطانَين … وكانت نظرات «أحمد» قاسية … باردة … متجهمة … أما عينَا «عثمان» فكانت تبتسم في براءة طفولية … تناول «أحمد» قطعة الشهد وبدأ يأكلها في صمت … وكانت شهيةً رائعةَ المذاق، ولكن «أحمد» لم يحسَّ لها بأية حلاوة … ولم يستطع كتمانَ سؤاله أكثر من ذلك، فقال ﻟ «عثمان»: لقد لمحتُ شخصًا يركب زورقًا بخاريًّا وينطلق به إلى قلب البحر في الصباح الباكر.
ضحك «عثمان»، وهو يقول: وهل ظننتَه أنا … ومن أين سأحصل على زورق بخاري؟ … ولماذا أنطلق به إلى قلب البحر في الصباح المبكر؟!
وفي نفس اللحظة أطل فأرٌ كبير من جحرِه بالقرب من الشاطئ أمام العشش البوصية، وفي سرعة البرق أخرج «عثمان» من جيبه كُرتَه المطاطية السوداء وصوَّبها نحو الفأر فأصابَته كالقذيفة … وسقط الفار قتيلًا بلا حَراك.
واستعاد «عثمان» كرتَه المطاطية وأعادها إلى جيبه … وكان في عينَيه نظرةٌ سوداء متوحشة.