خطة جماعية … للقتل
وانقضى نهارُ ذلك اليوم في هدوء … ولم تغفل عينَا «أحمد» عن مراقبة «عثمان» لحظة واحدة … ولكن تصرفات «عثمان»، كانت طبيعيةً جدًّا بقية اليوم.
ولاحظَت «إلهام» شرودَ «أحمد» وصمْتَه، فسألَته: ماذا بك يا «أحمد»؟ … إنك تبدو اليوم لا رغبةَ لك في أي شيء … فلم تتناول في الإفطار إلا قليلًا من الطعام … وحتى الشهد اللذيذ الذي أحضره «عثمان» رفضتَ أن تأكل منه واكتفيتَ بالرقود على الشاطئ.
نظر «أحمد» إلى «إلهام» ولم ينطق … وكان يتمنَّى لو استطاع إخبارها بما يدور في عقله … كان بحاجة إلى إنسان يشاركه تلك المسئولية الضخمة. وكاد يفتح فمه بالكلام … ولكن الكلمات ماتَت على شفتَيه … وتجهَّم وجهُه وهو يسأل «إلهام»: ألم تأتِ رسائلُ جديدة من رقم «صفر»؟
هزَّت «إلهام» رأسَها نافيةً في صمت … ونهض «أحمد» وهو يقول: سأذهب للسباحة قليلًا في الماء.
وكان «عثمان» قد سبقه بإلقاء نفسه في الماء … ولاحظَت «إلهام» ذلك فاندهشَت قليلًا ولم تُعلِّق … كانت قد لاحظَت أن «أحمد» يكاد أن يتتبع «عثمان» في كلِّ حركاته … فإن ذهب للمعسكر ذهب خلفه … وإن تجوَّل على الشاطئ تَبِعه بعينَيه … وها هو يُلقي بنفسه في البحر خلفه.
وعاد «عثمان» بعد قليل وهو يقول لبقية رفاقه: إنني أحسُّ ببعض التعب والخمول … سأذهب لأنام قليلًا.
وكما توقَّعَت «إلهام» … فقد خرج «أحمد» من البحر … وظهر عليه بعضُ التردد في الذهاب خلف «عثمان» بعد أن لاحظَ نظراتِ «إلهام» إليه.
ونهض «قيس» وهو يقول: سأذهب للغوص قليلًا في البحر.
وابتسم إلى «أحمد»، قائلًا: لماذا لا تأتي معي؟
تردَّد «أحمد» لحظة، ولكن «قيس» جذبه من يده قائلًا: إنك تبدو كسولًا اليوم فتعالَ معي.
واتجه الاثنان إلى زورق بخاري سريع استأجره «قيس» … وكان هناك زورق آخر يركبه «خالد» و«بو عمير»، وقد ارتدوا ملابس الغوص أيضًا.
وانطلق الزورق إلى قلب البحر … واندهش أحمد … فإن مَن يرغب في الغوص يمارسه بالقرب من الشاطئ، وفي النواحي التي تكثر فيها الشعب المرجانية والأسماك الملونة النادرة … وليس في قلب البحر … ولكنه لم ينطق.
كان هناك شعورٌ خفيٌّ ينتابه … ذلك الشعور الذي أخبره عنه رقم «صفر» … فبرغمِ شكِّ «أحمد» في «عثمان» ومراقبته، فإن ذلك الشعور لم ينتابه تجاهه … وبالرغم من عدم شكِّه في «قيس» و«خالد» و«بو عمير» … فإن ذلك الشعور بالريبة كان يأكله.
وتساءل «أحمد» ذاهلًا في نفسه … هل يمكن أن يكون أحدهم هو الشيطان المزيف؟ ولكن كيف؟! … و«عثمان» مَن يكون؟
وكتم «أحمد» مشاعرَه واحتفظ بهدوئه … وكان يشعر أن إصرار «قيس» على مصاحبته لهم في رحلة الغوص لها سببٌ آخر … وتوقَّف الزورقان على مسافة كيلومتر من الشاطئ … ولم يكن حولهما غير الماء في كل اتجاه … وكانت الشمس تُوشك على الغروب وراء الجبال البعيدة.
واستعد الشياطين الثلاثة للغوص في الماء، فسألهم «أحمد»: أليس من الخطر غوصُكم في ذلك الوقت المتأخر؟! … سوف يُظلم الجو سريعًا وسيتحول قلب الماء إلى قطعة من الظلام.
ابتسم «خالد» وأخرج كشافًا كهربيًّا كبيرًا من زورقه وهو يقول: ولهذا أتينا بهذا الكشاف الكهربي الكبير.
أحمد: ولكن ماذا ستفعلون في قلب الماء؟ … ليس هناك ما يُغري بالغوص في قلب الماء على مسافة كيلومتر من الشاطئ!
أبرز «بو عمير» بندقيةَ صيد في الأعماق من زورقه وقال: لقد جئنا للصيد.
وناول كلًّا من «خالد» و«قيس» بندقية لكل منهما … وتساءل «أحمد» بدهشة: وماذا ستصيدون هنا؟
ضاقَت عينَا «قيس»، وقال: أسماك القرش.
وأخفى كلٌّ منهم وجهَه بقناع الغوص بعد أن ثبَّتوا أنابيب الأوكسجين فوق ظهورهم … ثم لوَّحوا ﻟ «أحمد» وألقَوا بأنفسهم في الماء … وبعدها غاصوا سريعًا في قلبه ولم يَعُد لهم أيُّ أثر غير فقاعات قليلة من الهواء كانت تصعد إلى سطح الماء ثم تتكسر سريعًا … وعاد السكون يشمل المكانَ حول «أحمد». سكون قاتل … يُشبه السكون الذي يسبق العاصفة.
كان شكُّ «أحمد» قد تصاعد إلى قمَّته … وكان يتساءل عن معنى غوص الشياطين الثلاثة في ذلك المكان العجيب … وهل ذهبوا حقًّا لصيد أسماك القرش ببنادق صيد تحت الماء؟ … ولماذا؟
لماذا تبدو تصرفاتهم عجيبة غريبة محيرة؟! … وتبدَّد النور تمامًا … وحلَّت العتمةُ بسرعة … ولم يَعُد هناك أيُّ أثر للشياطين الثلاثة، وحتى فقاعات الهواء اختفَت من سطح الماء، وكان من الواضح أنهم ذهبوا بعيدًا.
ونظر «أحمد» في ساعته بقلق … فقد انقضَت ساعتان منذ غوص الشياطين الثلاثة … ولم يَعُد باقيًا أمامهم على نفاد الأوكسجين في أسطواناتهم غير دقائق قليلة.
ولكن ربع ساعة أخرى مرَّت بدون أن يظهر أيٌّ من الشياطين الثلاثة.
وفجأة تلوَّن وجهُ الماء بلونٍ أحمرَ دامٍ … وبرغم الظلام فقد كان لون الماء الدموي القاتم واضحًا. وكأن هناك نهرًا من الدم قد انفجر في المكان … ودق قلب «أحمد» بعنف … من أين أتَت كلُّ تلك الدماء؟ … وما معنى ذلك؟! … ومن بعيد بدأ سطح البحر يتحرك … ويضطرب … وظهرَت زعانف سوداء مثلثة الشكل تشقُّ صفحة البحر باتجاه الدماء التي تحاصر زورق «أحمد». كانت هي أسماك القرش … ولقد أثارَتها رائحةُ الدماء وجذبَتها فانطلقَت نحوها بصورة جنونية.
واندفعَت أسماك القرش تضرب زورق «أحمد» بصورة عنيفة وقد أهاجَتها رائحة الدماء.
وعرف «أحمد» أنه ما لم يُسرع بالابتعاد عن المكان، فسوف تتمكن أسماك القرش الكبيرة من تحطيمِ الزورق بفكوكها الحادة، أو قلْبِه في الماء وإغراقه … وبلا تفكير اندفع نحو محرِّك الزورق وجذب ذراعَه … ولكن كأنَّ شيئًا لم يحدث … وانخلعَت الذراع في يد «أحمد» فنظر إليها ذاهلًا … كان من الواضح أن يدًا قد عبثَت بتلك الذراع وحطَّمَتها … حتى لا يدورَ المحرك واندفعَت أسماك القرش تُواصل ضرْبَها العنيف للزورق البخاري … وتحطَّم أكثرُ من جانب في الزورق، وبدأ الماء يتسرَّبُ بداخله … بعد أن غَرِق الزورق الثاني بالفعل.
وأصاب الذهولُ «أحمد» … كان من المؤكد أن واحدًا من الشياطين الثلاثة «قيس» و«خالد» و«بو عمیر» هو الشيطان المزيف، وهو الذي حطَّم ذراع المحرك قبل غوصه، وتمكَّن بطريقةٍ ما من جلب كمية ضخمة من الدماء وسكبها حول الزورق.
وكان اكتشاف «أحمد» متأخرًا … ولم يكن لديه أيُّ أمل على الإطلاق؛ فقد امتلأ الزورق بالماء وتأهَّبَت أسماك القرش المتوحشة على التهام فريستها الحية.