إلهام … آخر المزيفين
حمل «عثمان» «أحمد» فوق كتفه ثم مدَّده في عشته … وقال للباقين: لا أظن أنه سيستيقظ قبل الصباح.
إلهام: هل تظنون أن هناك خطرًا يُهدِّدنا؟
عثمان: ولماذا تقولين ذلك؟
إلهام: وهل هناك معنى لمحاولة قتل «أحمد» غير ذلك … إن هذا الخطر المجهول يُهدِّدنا جميعًا بكل تأكيد.
قيس: لو كان ذلك صحيحًا ما سمح لنا أعداؤنا المجهولون بخروجنا من البحر أحياء ونحن بلا سلاح غير بنادق الصيد في الأعماق، لقد كان ما صادف «أحمد» من أخطار الليلة مجردَ سوء حظ.
وتثاءب وهو يُكمل: فلنذهب للنوم؛ فإنني أحسُّ بتعب شديد.
تساءلَت «إلهام»: و«أحمد»؟
أجابها «خالد»: لا تخشَين شيئًا … فلن يجرؤَ أحدٌ على الاقتراب منه ونحن بجواره.
وانصرف الشياطين، واتجه كلٌّ منهم إلى عشته … وفي نفس اللحظة اعتدل «أحمد» وفتح عينَيه … فلم يكن فاقدًا وعْيَه … كانت هناك خطة في ذهنه … وكان يريد تنفيذها بدون أن يحسَّ به باقي الشياطين … كان يريد الوصول إلى «إلهام» وحدَها … بدون أن يشعر الباقون … فقد كان متأكدًا من شيء واحد … شيء رهيب لم يخطر بباله … أن الشياطين الأربعة مزيفون … وليس شيطانًا واحدًا …
كانت حركاتُ «عثمان» المريبة وركوبُه الزورق وانطلاقُه إلى قلب البحر ثم إنكاره ذلك، وكذلك محاولةُ «قيس» و«خالد» و«بو عمير» قتْلَه … كان ذلك يعني أن الشياطين الأربعة مزيفون … وأنهم لا بد قد اكتشفوا أن «أحمد» يشكُّ فيهم … أو لعلهم استنتجوا اتصالَه برقم «صفر»؛ ولذلك قرروا التخلص منه … وكانت تلك نتيجةً مذهلة لم يتوقعها «أحمد» أبدًا … ولكن أحداث اليوم أكَّدَتها … وكان «أحمد» يريد أن يُخبر رقم «صفر» بذلك بواسطة الرسالة الضوئية … ولكنه خشيَ أن يُراقبَه أحد الشياطين الأربعة المزيفين أثناء الليل؛ ولذلك تظاهر بفقدان الوعي … وكان يريد أيضًا أن يُخبر «إلهام» بالنتيجة التي توصَّل إليها … ويُخبرها بكل التفاصيل، كانت هي الوحيدة التي يمكنه الوثوق بها … والوحيدة التي دلَّته مشاعرُه على أنها لا يمكن أن تكون مزيفةً أبدًا … ونهض «أحمد» في خفَّة النمر … وفتح بابَ عشته وأطلَّ في حذرٍ للخارج … كان المعسكر هادئًا ساكنًا لا حركةَ فيه … وغادر «أحمد» عشتَه، وأغلق بابَها، وسار في حذرٍ باتجاه عشة «إلهام»، وفي نفس اللحظة انفتح بابُ عشة «إلهام»، فقفز «أحمد» وتوارَى وراء إحدى الأشجار … وشاهد «إلهام» وهي تخرج من عشتها، فكاد يندفع إليها لولا أن أوقفه شيء عجيب شاهده في يد «إلهام» … كان في يدها مسدسٌ مزوَّد بكاتمٍ للصوت … وتعجَّب «أحمد» وتساءَل في نفسه، من أين أتَت «إلهام» بذلك المسدس، وقد جاء الشياطين الستة إلى هذا المكان بلا سلاح؟!
وتعجَّب أكثر، إلى أين ستمضي «إلهام» … وما الذي ستفعله بهذا المسدس، ولأول مرة بدأ يحس بالشك … في «إلهام» … وأصابه ذهولٌ قاتل وهو يسأل نفسَه: هل يمكن أن تكون «إلهام» أيضًا قد تمَّ تزييفُها؟ هل يكون الشياطين الخمسة مزيفين؟
كان ذلك الخاطر جنونيًّا … ولكن ما شاهده «أحمد» كان يؤكد ذلك تمامًا.
وحبس «أحمد» أنفاسَه وهو يشاهد «إلهام» تقترب من عشته … وتوقَّفَت «إلهام» لحظةً وهي تنظر حولها، ثم امتدَّت يدُها وصوَّبَت مسدسها نحو عشة «أحمد» عبر بابها الخوصي المغلق … وكان مسدسها مصوبًا باتجاه فراش «أحمد» … وأطلقت «إلهام» رصاصة … ثم رصاصة أخرى من مسدسها الكاتم للصوت.
وأحس «أحمد» بالعرق الغزير ينساب فوق وجهه … فلولا أنه غادر عشته لربما كان في عِداد الأموات … وبرصاصات «إلهام»!
دفعَت «إلهام» بابَ العشة بقدمها وهي تصوِّب بطاريةً صغيرة نحوها … وأصابها الذهولُ وهي تشاهد العشةَ خاليةً من «أحمد».
وعلى الفور انتفضَت إلى الخلف وهي تنظر حولها ولكنها لم تشاهد أحدًا … فأطفأَت بطاريتها ووقفَت في الظلام تفكِّر لحظات … ثم اتجهَت خارجة من المعسكر.
وفي حذر بدأ «أحمد» يتتبَّعها. سارَت «إلهام» باتجاه الشاطئ … ثم انحرفَت يمينًا نحو مدخله … وسار «أحمد» خلفها على مسافة والنخيل القصير بامتداد الشاطئ يمثِّل له أفضل حماية …
وصلَت «إلهام» إلى مدخل الشاطئ فتجاوزَته وهي تُلقي حولها نظراتٍ متشككة … كان من الواضح أنها تبحث عن «أحمد» ولا تدري أين اختفى.
واتجهَت نحو الصحراء الواقعة خلف الشاطئ … وكان الطريق مظلمًا ولكن «إلهام» أخذَت تسير بثقة عجيبة كأنها خبيرةٌ به وتحفظ كلَّ شبر فيه، وبدون أن تفكِّر حتى في إشعال بطاريتها اليدوية الصغيرة.
ومن قلب الظلام ظهر شبحٌ ملثَّمٌ يمتطي جملًا — وكان يبدو أحد البدو — واقترب الجمل براكبه البدوي من «إلهام» وتبادل معها حديثًا قصيرًا … ثم أشار جهة اليسار فهزَّت «إلهام» رأسَها وانطلقَت حيث أشار البدوي.
وابتعد البدويُّ بجمله … ومن قلب الظلام ظهرَت سيارةُ جيب صغيرة سوداء اللون، كانت تبدو كما لو أنها قطعةٌ من الظلام ذاته.
وقفزت «إلهام» إلى مقعد القيادة … وعلى الفور انطلق «أحمد» بأقصى سرعته … وفي اللحظة المناسبة تعلَّق بمؤخرة السيارة بدون أن تنتبهَ «إلهام» إليه … وانطلقَت السيارة تشقُّ قلب الرمال … والظلام … وفكَّر «أحمد» … كان من الواضح أن «إلهام» ذاهبةٌ لتُقابلَ رؤسائها … أو مَن خطَّطوا لتلك العملية الجهنمية.
فجأة طاف بذهن «أحمد» خاطرٌ مذهل … هل يمكن أن تكون «إلهام» هي الشيطان المزيف … الوحيد؟
فقد كان باستطاعتها وهي على الشاطئ أن تأتيَ بالدماء وتستقلَّ قاربًا في الظلام، ثم تقترب من تحت زورقه غوصًا فتُفرغ الدماء حوله وتنزع ذراع المحرك دون أن يُنتبهَ إليها وتعود من حيث أتَت … ويظن هو أن «قيس» و«خالد» و«بو عمير» هم الذين دبَّروا لقتله … أما «عثمان» فلعل هناك سببًا ما في انطلاقه بالزورق البخاري صباح اليوم السابق ثم إنكاره ذلك …
أصبحَت الحقيقة واضحة أمام «أحمد» … وكانت محاولتُها قتْلَه هي التي كشفَتْها له … وها هي تسعي في الظلام لمقابلة زعيم تلك العملية الجهنمية التي خطَّطَت لها في براعة … ولا شك أنه «إلهام» أفزعها عدمُ قتلها «أحمد» واختفاؤه العجيب، فقرَّرت الذهابَ إلى رأس العملية في مكان ما لتُخبرَه بما حدث … وبدون أن تنتبهَ إلى أن «أحمد» يختفي في نفس السيارة.
وبعد وقتٍ هدَّأَت السيارة من سرعتها وتوقَّفَت في الطريق … وغادرَت «إلهام» السيارة واتجهَت نحو خيمة واسعة أُقيمَت خلف بعض التلال القريبة.
وفي حذرٍ بدأ «أحمد» يتتبُّعها بلا صوت … وبدأت أضواء الفجر تظهر في الأفق … وعوى ذئب من مكان ما.
وما إن ظهرَت «إلهام» أمام مدخل الخيمة حتى خرج منها أربعةُ أشخاص أخفى الظلامُ ملامحَهم … وسأل أحدهم: هل تخلصتِ منه؟
أجابت «إلهام»: لا … يبدو أنه شكَّ بنا؛ ولذلك غادر عشتَه.
وفي نفس اللحظة غمر الفجرُ المكانَ بأنواره … وظهرَت وجوهُ الأشخاص الأربعة المحيطين ﺑ «إلهام» واضحةً تمامَ الوضوح.
وحملق «أحمد» في تلك الوجوه ذاهلًا … فلم تكن غير وجوه «عثمان» و«قيس» و«خالد» و«بو عمير»، وأحسَّ «أحمد» إنه لأول مرة لا يفهم شيئًا … كأنه يسبح في دوامة هائلة لا قرارَ لها … لا يعرف إن كانت «إلهام» هي الوحيدة المزيفة … أم أن بقية الشياطين كذلك … ولا يفهم معنى كلِّ ما يحدث حوله … ولا كيف استطاع الشياطين الأربعة الوصولَ إلى ذلك المكان!
ولم يكن أمامه غيرُ تصرف واحد وهو يحسُّ أن الوقت يمضي في غير صالحه … وفي حسمٍ قرر «أحمد» ما سيفعله، وأخرج مسدسًا سريعَ الطلقات من جيب سترته … واندفع مقتحمًا خيمةَ الشياطين الخمسة.