مغامرات ثلاثة أبطال وصديقين
تجارب برسيوس
كانت داناي فتاة جميلة، أُولع بها والدها أكريسيوس ملك أرجوس، ولعًا شديدًا، وذات يومٍ استشار وحيًا للآلهة، فقيل له: إن حفيده من ابنته سوف يقتله في يومٍ ما. فلكي يتحاشى أكريسيوس ذلك المصير، حبس ابنته داناي في برجٍ، وحرَّم على أي إنسان يتصل بها، فيما عدا خدمها المختارين. بيد أن أكريسيوس ما كان ليفلت بهذه الطريقة من المصير الذي قدَّرَتْه له الآلهة، فأبصر جوبيتر نفسه تلك العذراء وأحبها. وتقول الأسطورة إنه ظهر لها أولًا في صورة مطرٍ من الذهب، فلما أكملت مدةَ حملها، ولدت ابنًا اسمه برسيوس.
لما علم أكريسيوس بما حدث، غضب وثار وأربد، وأمر بوضع الأم وطفلها في صندوق خشبي كبير، أحكم إقفال غطائه، وألقى هذا الصندوق بمن فيه في البحر. لم يغُصِ الصندوق، ولكنه ظل طافيًا فوق الأمواج يسير في اليم قُدمًا، كما لو أن ربانًا غيرَ مرئي يقوده وسط البحر.
وبعد مدة وصل القارب الغريب إلى جزيرة، حيث استقر على شاطئها، فرآه أحد صيادي السمك. ولما فتح غطاءه دُهش؛ إذ وجد بداخله الأم وابنها نائمين، وكلاهما في جمالٍ منقطع النظير، فأخذهما إلى بوليدكتيس ملك الجزيرة، الذي رحَّب بهما وأولاهما كل عنايةٍ ورعاية.
رغم هذا، لم تنتهِ متاعبهما بحالٍ ما، فقد وقع بوليدكتيس أسير هو داناي، وألح عليها في أن تتزوجه، ولكنها ظلت ترفض سنة بعد أخرى؛ إذ انحصر كل همها في تربية ابنها ورعايته. وأخيرًا عندما اقترب برسيوس من طور الرجولة، اعتزم بوليدكتيس أن يتخلص منه، أملًا في أن تغير أمه رأيها إذا ما أزاح ابنها من الطريق، فأمر ذلك الغلامَ بأن يحضر له رأس الجورجونة ميدوسا.
كانت ميدوسا مخلوقة فظيعة مرعبة، هي إحدى ثلاث شقيقات، خصلات شعرهن من الأفاعي الدائمة الفحيح، ولهن أجنحة، ومخالب من البرنز، وأنياب ضخمة بارزة، ونظرات تُحوِّل كل من ينظر إليهن إلى حجر، ولم يكن بوسع برسيوس أن يتغلَّب على ميدوسا بمفرده. وعلى ذلك سعى إلى معونة مينيرفا وميركوري، فنصحَتْه مينيرفا بأن يذهب إلى الشقيقات الثلاث ذوات الشعر الأشيب، اللواتي لن يخبرنه بمكان إقامة الجورجونة فحَسْب، بل ويزودْنه بثلاثة أشياء بدونها يكون من العبث محاولةُ الوصول إلى بغيته. كما أخبرته بالكيفية التي يتسنَّى له بها أن يسيطر على الشقيقات الثلاث، ويرغمهن على إجابة طلبه؛ إذ لن يخبرنه بشيءٍ من تلقاء أنفسهن.
رحل برسيوس وظل يضرب في الأرض مسافاتٍ بعيدة، حتى وصل إلى منطقةٍ منعزلةٍ تعيش فيها الشقيقات الثلاث. فتسلل في هدوءٍ إلى الكهف الذي اعتَدْن المجيء إليه في وقت الظهر عند اشتداد القَيْظ، وتختص أولئك الشقيقات بأمرٍ غريبٍ منذ ولادتهن، فلهن عين واحدة يتناوبن النظر بها فيما بينهن، يمرِّرْنها من أختٍ إلى أخرى لترى بها مدةٍ معينة. وفي الوقت الذي تمرر فيه إحداهن العينَ إلى أختها، يكون الجميع عمياوات.
كمَنَ برسيوس في ركنٍ من ذلك الكهف ينتظر مجيئهن، فلما جئن واسترحن، قالت إحداهن: «هيا يا أختاه، لقد انتهت مدتُك، فأعطني العين.»
نزعت الأخت العين من رأسها، وأمسكتها بيدها؛ لتقدمها إلى أختها. في تلك اللحظة مد برسيوس يده، وخطف العين من يدها.
فصاحب الأخت الثانية: «أين العين؟»
عندئذٍ تكلم برسيوس وقال: «العين معي.»
ارتجفت الشقيقات الثلاث عند سماع صوته، وتوسَّلن إليه أن يعيد العين إليهن. فأخبرهن بأنه سيُعيد العين إليهن عن طيب خاطرٍ إن منَحْنه أمنية، فرفضن إجابة رغبته في بادئ الأمر، ولكنه هددهن بالانصراف، وتركهن عمياوات إلى الأبد. فأدركن أنه لا خيار لهنَّ، وعلى ذلك كشفن لبرسيوس عن مخبأ الجورجونات، وأخبرنه بموضع حوريات البحر اللائي سيعطينه الأشياء الثلاثة التي يحتاج إليها، وهي خوذة بلوتو التي تجعله غيرَ مرئي، فتحجبه عن الأنظار، وزوج من النعال المجنَّحة تمكنه من الطيران بسرعة الريح، ومخلاة ليضعَ فيها رأس ميدوسا بعد قطعه، وزوَّدَتْه حوريات البحر بنصائح أخرى عظيمة النفع.
بعد ذلك قدَّم إليه ميركوري مساعدة قيمة، فأعطاه منجلًا حادًّا جدًّا؛ ليحز به رأس ميدوسا. وهكذا تزود برسيوس بكل ما يلزمه لمعركته المقبلة. فطار بسرعة حتى بلغ جزيرة صخرية في وسط مجرى أوقيانوس، أرضُها مغطاة بأعشابٍ كثيفة كريهة الرائحة، ضارة وعفِنة، بينما تسعى الأفاعي القاتلة في كل مكانٍ فوق أرضها. أما الجورجونات فيُقِمْن في مغارة بوسط تلك الجزيرة، وعندما وصل إليهن برسيوس كنَّ نائمات، لم يجرؤ على النظر إليهنَّ مباشرة، بل نظر إلى صورتهن المنعكِسة في الدرع المصقولة التي كان يحملها. أمكنه التعرف على ميدوسا؛ لأنها أصغر حجمًا من شقيقتَيْها. فأمسك الدرع أمامها، وفصَل رأسها بضربةٍ واحدةٍ من المنجل، ووضعه في المخلاة، وطار في سُرعة البرق. ما كاد يفعل ذلك حتى استيقظت الجورجونتان الأخريان، فأدركتا مقتل شقيقتَيْهما. فصرختا غاضبتَيْن، وخرجتا تبحثان عن قاتلها، فلم تبصراه؛ لأن خوذة بلوتو جعلته غير مرئي وهو طائر، وبذا وصل إلى بر الأمان.
إنقاذ أندروميدا
ظل برسيوس يطير لعدة أيام، حتى وصل أخيرًا إلى دولة في أثيوبيا يحكمها الملك كيفيوس، وتصادف في ذلك الوقت أن كانت البلاد كلها في حزنٍ بالغ. فقُبيل ذلك أخذت كاسيوبيا ملكة كيفيوس تزهو بجمالها، وتمادت في غُرورها بأن قالت إنها أعظم جمالًا من النيريديات، فغضبت أولئك الحوريات، وطلَبْن من نبتيون أن يعاقبها، فأجاب نبتيون طلبهن، وأرسل وحشًا بحريًّا ضخمًا اجتاح البلاد، وعاثَ فيها تدميرًا وتقتيلًا، ملتهمًا كُلًّا من الناس والماشية.
لما يئس الملك استشار وحيًا عما يجب عليه أن يفعله؛ لدرء ذلك الخطر، فقيل له إنه لا شيءَ يزيل غضب الحوريات اللاتي أُهينت كرامتهن سوى التضحية بابنته أندروميدا لذلك الوحش.
كانت أندروميدا تفوق أمَّها جمالًا، وعزَّ على أبيها أن يضحي بها، رغم أن الوحش ينزل إلى الشاطئ يومًا بعد يوم، يُحدث الدمار بالبلاد، ويفتك بالأهلين ومواشيهم، حتى طفَح الكيل. فثار الشعب، واتجهت جموعٌ غفيرة نحو القصر، واقتحمت أبوابه، وصاحت تقول: «ضحٍّ بأندروميدا يا كيفيوس، لا بدَّ من التكفير عن ضلالكما!»
إزاء ذلك حدَّد الملك يومًا، تُربط فيه أندروميدا بالسلاسل إلى صخرة على الشاطئ انتظارًا لمجيء الوحش، كي تخلص البلاد من ذلك الدَّمار. وفي اليوم المحدد اقتِيدت أندروميدا إلى حتفها وهي تبكي، رغم أنها كانت تسير بشجاعة، وبعد أن ربطت إلى الصخرة تركها أهلها وخدمها، والحزن يقطع أفئدتهم؛ لتلقى حتفها على يد ذلك الوحش.
تضرعت أندروميدا إلى الآلهة، وهي تنتظر فوق الشاطئ، أن يأتي حتفُها بسرعة. غير أن خلاصها هو الذي كان يُسرع إليها عند ذاك، ففي أثناء طيران برسيوس فوق أفريقيا أبصر على الأرض تحته هرجًا ومرجًا عظيمين، فانقضَّ منخفضًا، فشاهد من كثب فتاةٍ جميلةٍ مربوطةٍ بالسلاسل إلى صخرة، فهبط إلى الأرض عند قدميها مباشرة، وخلع قبعةَ بلوتو؛ كي تستطيع الفتاة رؤيته. فلما رأت شبحًا يظهر أمامها فجأة، ارتعدتْ ولكنه طمأنها وسألها عن خبرها، وعن سبب ربطها بالسلاسل إلى تلك الصخرة. فما إن سمع قصتها حتى اجتاحَتْه رغبة ملحة لينقذها، وانتظر كلاهما مجيء الوحش في سكون.
وفجأة انشقت المياه عن جبال من الزبد، وخرج من وسطها وحش في ضخامة الحوت، شق طريقه مباشرةً نحو الصخرة التي رُبطت إليها أندروميدا. بيد أنه وجد شابًّا يمتشق سلاحًا براقًا يقف في طريقِه، فانتحى الوحش جانبًا لينقض على برسيوس، ويسحق عظامه بين فكَّيْه الضخمين بمضغةٍ واحدة، ولكنه قبل أن يهمَّ بذلك تلقى طعنة نجلاء في قلبه، جعلت الدم يتدفق منه في نوافير عظيمة، ويصبغ الماء بلونٍ قرمزي في كل ناحية، وعندما استدار الوحش ليبحث ثانيةً عن برسيوس أصابَتْه ضربة أخرى من أعلى. وعبثًا حاول الوحش الهجوم على هذا البطل المجنَّح، فصار يتلقى الضربة تلو الضربة، حتى خارت قواه فمات، وطفَتْ جثته الضخمة فوق الأمواج.
شاهد الأثيوبيون المعركة، وهم واقفون على مسافةٍ بعيدة، فأقبلوا مبتهجين، وخلصوا أندروميدا من الصخرة. ولما طلب برسيوس يد أندروميدا، وافق أبواها مسرورَيْن على زواجهما، غير أن عمها فينيوس كان قد وُعِد بها منذ مدة، فجاء يطلبها الآن رغم أنه لم يحرك ساكنًا؛ لتخليصها من ذلك الخطر القاتل. فلم يهتم والداها بطلبه، إلا أنه ظهر فجأة عند وليمة العرس، ومعه جيش ضخم من الأتباع، وحاول خطفَها بالقوة. ولما بدا أن برسيوس سيُهزم أخرج هذا رأس ميدوسا بسرعة، فتحول فينيوس وأتباعه إلى حجارة.
عودة برسيوس
زود كيفيوس برسيوس وزوجته بسفينة جميلة انطلقت بهما نحو الجزيرة التي تقيم فيها داناي، فوجد برسيوس أن أمَّه اضطرت إلى الالتجاء إلى معبد للآلهة؛ فرارًا من مغازلات بوليدكتيس الذي حاول تجويعها كي تخضع إليه. فلما علم بوليدكتيس بعودة برسيوس جمع جيشًا هاجمه به، ولكن برسيوس أظهر رأس ميدوسا مرةً ثانية، فحوَّل أعداءَه إلى أحجار، وهكذا أطلق سراح أمه، وأقام شقيق بوليدكتيس ملكًا على الجزيرة، وأعاد إلى الشقيقات الثلاث ذوات الشعر الأشيب الأشياءَ التي استعارها منهن. وقدم رأس ميدوسا إلى مينيرفا، ومنذ ذلك الحين تضع هذه الربة رأس الجورجونة على درعها المعروفة بالأيجيس.
بقي لنا من قصة برسيوس أن نوضح الكيفية التي قتلَ بها جدَّه أكريسيوس، محققًا بذلك نبوءة وحي الآلهة. والآن رغم الطريقة التي عامل أكريسيوس ابنته داناي، فإنها ما زالت تحبه. وبما أن برسيوس رغِب أيضًا في رؤية جده، أبحر الاثنان لزيارته في السفينة التي أهداهما إياها كيفيوس.
علم أكريسيوس أن ابنته داناي وحفيده لم يموتا وما برِحا على قيد الحياة، وأنهما في طريقهما إليه لزيارته. فامتلأ خوفًا؛ خشيةً أن تتحقق نبوءة الوحي أخيرًا، فأسرع بمغادرة البلاد. ولما وصل برسيوس وأمه إلى أرجوس وسألا عن الملك، لم يعرفْ أحد إلى أين ذهب.
أراد برسيوس أن يقطع الوقت ريثما يعود جده، فعزم على مشاهدة مباراة في الألعاب الرياضية في دولةٍ مجاورة. واشترك هو نفسه هناك في كثير من المباريات، ونال عدة جوائز. لم يعرفه أحد، وأُعجب الجميع ببراعته وكفاءته وقوته، وقُبيل نهاية المباريات أقيمت مباراة قذف الجلة، فتقدم برسيوس؛ ليختبر مهارته في تلك اللعبة، ولكنه عندما رفع القرص الحجري الثقيل، وهمَّ بقذفه، انزلق من يدِه وطاش جانبًا، فقتل رجلًا عجوزًا جاء ليشاهد المباريات. وعلِم من أتباع ذلك الرجل أنه أكريسيوس ملك أرجوس الذي لقِيَ حتفه المقدر له رغم فراره منه.
حزن برسيوس حزنًا شديدًا لوقوع ذلك الحادث، ونقل الجثة إلى أرجوس، حيث دفنت هناك في جنازةٍ لائقةٍ بها. وبعد انتهاء مراسم الحداد تبوأ برسيوس عرشَ أرجوس، حيث عاش في سعادة عدة سنوات يحكم خلالَها بالحكمة والعدل.
أوليات مغامرات ثيسيوس
لما سئم أيجيوس ملك أثينا هموم الحكم وأعبائه، ذهب لقضاء بعض الوقت في بلاط صديقه بيتثيوس ملك ترويزن. فالتقى هناك بابنة ذلك الملك الحسناء، الأميرة أيثرا، فأحبها على الفور، وطلب يدها من أبيها، وهكذا تزوج أيجيوس أيثرا، فأنجبت له ابنًا سمياه ثيسيوس ليكون وارث عرش أثينا.
وأخيرًا وجد أيجيوس لزامًا عليه أن يعود إلى أثينا، ويستأنف مسئولياته. وعندئذٍ قرر أنه من الأفضل أن يترك ثيسيوس في قصر جده، بدلًا من أن يأخذه إلى مدينة أثينا الصاخبة، وزيادةً على ذلك سيكون عند جده بمأمن أكثر من متناول يد أعداء الملك الكثيرين.
قال أيجيوس لأيثرا: «عندما يستطيع هذا الغلام أن يرفع ذلك الحجر الضخم القائم عند مدخل الغابة، ويجد السيف الموضوع تحته، أرسليه إليَّ.»
انتظر ثيسيوس على أحرَّ من الجمر، حتى يأتي الوقت الذي يستطيع فيه أن يختبر قوته. وأخيرًا جاء يوم ذهب فيه ثيسيوس إلى الغابة، واختبر قوته، وناضل بعنف مع ذلك الحجر، فزحزحه قليلًا. وحاول مرةً أخرى فدحرج الحجر بعيدًا، في بطء، فوجد تحته سيفًا جميل النقش، وزوجًا من النعال.
فقالت أيثرا لابنها: «ترك لك أبوك هذه الأشياء. إنه ملك أثينا، وبينه وبين أخيه عداوة؛ لذا خشي عليك القتل إن ذهبت إليه قبل أن تنضج قوتك، وتكفي لأن تساعدك على أن تأخذ ما هو لك. اذهب إليه الآن، وعسى أن تحافظ عليك الآلهة.»
عندما أراد ثيسيوس السفر، نصحه جده بأن يأخذ الطريق الأقصر والأكثر أمنًا في ذهابه إلى أثينا. غير أن ذلك الصبي كان يتلهف إلى إثبات رجولته، فاختار طريقًا مليئًا بكثيرٍ من الأخطار. وقد التقى بهذه الأخطار، بمجرد أن بدأ السير في ذلك الطريق، فالتقى أولًا بقاطع طريق أعرج عظيم القوة اسمه بريفتيس، يقال إنه ابن فولكان، فما إن أبصر ذلك اللص ثيسيوس يسير في الطريق، حتى انقضَّ عليه في وحشيةٍ بالغة، وهوى عليه بهراوة حديدية ضخمة. بيد أن ثيسيوس انتحى جانبًا ليتحاشى الضربة، وفي لمح البصر هجم على ذلك اللص وقتله.
التقى ثيسيوس، بعد ذلك، بلصٍّ آخر يُدعى بروكروستبس، وكان ضخم الجسم كأنه عملاق، وشرس الأخلاق. فإذا ما قبض على عابر سبيل سيئ الحظ، حمله على كتفه وذهب به إلى وكره، حيث يوجد سرير حديدي يضع فوقه المسافر المسكين، فإن كان السرير أقصر منه، بتر أعضاءه؛ ليلائم طول السير. وإن كان السرير هو الأطول، شدَّ أعضاءه حتى يصبح ذلك المنحوس الطالع، بطول السرير، ولكن ثيسيوس برهن على أنه أكثر من ندٍّ له. وبعد أن هزم بطلنا ذلك العملاق، عاقبه بمثل عمله، فساواه بطول سريره.
ثيسيوس والمينوطور
لما وصل ثيسيوس إلى أثينا، وذهب إلى الملك، تعرَّف هذا الملك على السيف الذي تركه لابنه، فرحب به مسرورًا، وأعلن في الحال أنه وارث العرش.
في ذلك الوقت كانت أثينا في حزنٍ بالغ؛ إذ تضطر هذه المدينة في كل سنة إلى أن ترسل جزية إلى كريت، عبارة عن سبعة شبان وسبع فتيات من الشباب الفائق الجمال والقوة؛ كي يكونوا طعامًا للمينوطور، ذلك الوحش الغريب الذي نصفُه لثور ونصفه الآخر لرجل.
يعيش ذلك المينوطور في وسط متاهة لا يمكن أن يخرج منها من يدخلها، دون أن يعرف سر بنائها.
فلما سمع ثيسيوس قصة هذه الجزية، طلب اختياره واحدًا من الشبان السبعة، وعبثًا توسل والده أيجيوس لكي يثنيه عن عزمه. أصرَّ ثيسيوس على أنه إما أن يقتل المينوطور، أو يموت في محاولته، ولكن أيجيوس طلب منه معروفًا واحدًا.
«إن عدت سالمًا فاستبدل الأشرعة السود لسفينتك بأشرعة بِيض؛ كي أعرف أنك انتصرت على المينوطور.»
وعد ثيسيوس أباه بذلك، وأبحر إلى كريت، حيث مثَلَ جميع الشبان والفتيات أمام الملك مينوس، الذي أدهشته جرأة ثيسيوس وتطوعه مختارًا أن يكون من بين أفراد الجزية، ولكنه أكد له أنه لن يقدِّم له أيَّ عطف زيادة على ما يقدم لزملائه.
قال مينوس: «يجب أن تقابلوا حتفَكم غدًا.»
شاءت الظروف أن تكون أريادني ابنة مينوس جالسة إلى جانبه، فامتلأت إشفاقًا على هذا البطل الصغير الجميل، وعقدت عزمها على أن تنقذَه رغم قرار أبيها. فلما أقبل الليل، تسللت سرًّا إلى الحجرة التي حُبس فيها الأسرى الأثينيوس، وكشفت لثيسيوس عن شخصيتها، وهربت إليه شيئين دون أن يعلم بهما أحد. أمدته بسيف باتر وكُرة من الخيط، وطلبت منه أن يكون بالغ الجرأة.
وفي الصباح التالي، قاد الحراس ثيسيوس وزملاءَه إلى المتاهة حيث أدخلوهم إليها، وأقفلوا الباب وراءهم. غير أنهم لم يلاحظوا ثيسيوس، وهو يربط أحد طرفي الخيط بقائم الباب الخارجي، فسار الأثينيون ببطء في طرقات المتاهة، وهم يبكون آملين ألا يلتقي بهم المينوطور. أما ثيسيوس فكان وحده هو المحتفظ برباطة جأشه ومرحه، غير خائف ولا وَجِل. وأخيرًا سمعوا الصوت المدوي لتنفس ذلك الوحش الذي ما إن شم رائحة الدم البشري، حتى جاء يسعى مقتربًا أكثر فأكثر، وانقضَّ إلى داخل الحجرة التي يقبع فيها الأسرى الأثينيون يرتجفون ذعرًا ويبكون.
كان ثيسيوس واقفًا بالمرصاد، شاهرًا سيفه استعدادًا للقتال حتى الموت. فلما أبصره الوحش وثَبَ ليهجم عليه، ويرفعه فوق قرنيه، ولكن ثيسيوس تحاشى تلك الهجمة، وانتحى جانبًا يضرب الوحش بسيفه، ففصل إحدى أرجله. فارتمى الوحش على الأرض كأنه البناء المشمخر، وعندئذٍ عاجله ثيسيوس بطعنة من حُسامه، فغيَّب النصل في قلبه.
أسرع ثيسيوس يتبعه الأسرى وهم ما زالوا يرتجفون، يقتفي طريق الخيط، حتى وصل إلى الباب، فوجد أريادني واقفة تنتظر لترحب به، وقد امتُقع وجهها من طول الانتظار. فصاحت تستقبله فرِحَة مغتبطة، وأسرعت به وبزملائه إلى السفينة التي أحضرَتْهم، وكانت لا تزال راسية هناك تنتظر، وما إن ركبوها جميعًا حتى رُفعت مراسيها على الفور، وأسرعت إلى عرض البحر فرارًا من ساحل كريت، قبل أن يدرك مينوس ورجاله ما حدث.
مغامرات ثيسيوس الأخرى
شاء سوء الحظ ألا يقدم ثيسيوس الشكر لأريادني التي كانت السبب في نجاته هو وأصحابه، وإنما تركها في جزيرة ناكسوس، وهو في طريق عودته إلى وطنه. ويقال إنه فعل هذا بأمر من باخوص، الذي ظهر في تلك الجزيرة، بعد ذلك بوقتٍ قصير، وأخذ أريادني زوجة له. وزيادةً على ذلك، فلما اقترب ثيسيوس من أثينا، نسي وصية والده، فلم يستبدلِ بالأشرعة السود بأخرى بيض. وكان الملك العجوز واقفًا على الشاطئ يراقب الأُفق يومًا بعد يوم؛ أملًا في أن يكون ثيسيوس قد هزم المينوطور بطريقةٍ ما. وأخيرًا، لمح الأشرعة من مكانه على الشاطئ، فوجد أنها ما زالت سوداء، فأحزنه ذلك المنظر حزنًا شديدًا أفقده صوابه، فألقى بنفسه في البحر.
ندم ثيسيوس على سهوه هذا، حيث لا ينفع الندم، ولكن الأهلين رحبوا به ملكًا على أثينا، فحكم هناك عدة سنوات. وكانت حياته زاخرة بالمغامرات، ففي إحدى المرات مثلًا قبَض على إحدى الأمازونات، وهن أُمَّة من النساء المحاربات، فجعلها ملكته. فشنت زميلاتها الحرب عليه شعواء، ولكنهن لما شاهدن زوجته تساعده في المعركة، غضبن وقتلنها. وبعد أن مضى على هذا زمنٌ ما، تزوج شقيقة أريادني المسماة فايدرا.
مغامرات بلليروفون
كانت الخيمايرا وحشًا مفزعًا، إنها مخلوق غريب يلقي الرعب في القلوب؛ إذ كان خليطًا من عدة وحوش. كان جزء من جسمه لأسد، وجزء آخر لعنزة، وأرجله الخلفية لتنين وأنفاسه من النار. كان يعيش في لوكيا مُحدِثًا أضرارًا جسيمة. فبحث ملك البلاد المسمى أيوباتيس في جميع بلاد الإغريق عن بطل يمكنه الفتك بهذا الوحش. وأخيرًا، جاء بلليروفون ابن ملك كورنثة لزيارته، فلما سمع عن الخيمايرا تطوع بأن يحاول قتلها، فقبل أيوباتيس عرضه واستعد بلليروفون للمعركة.
رغم ذلك، فقبل أن يخرج بلليروفون لقتل الخيمايرا، استشار وحيًا للآلهة، فقيل له أن يضمن أولًا أن يساعده في المعركة جواد مجنَّح اسمه بيجاسوس، نشأ من دم الجورجونة ميدوسا. وفي وقتٍ لاحق قبضت مينبرفا على ذلك الجواد، وقدمته إلى الموزيات. فطلب بلليروفون معاونة مينبرفا، فأهدته اللجام الذهبي، وقادته إلى الينبوع الذي اعتاد بيجاسوس أن يذهب إليه في كل ليلة ليشرب من مائه. وبمساعدة ذلك اللجام، استطاع بلليروفون أن يقبض على الجواد، ويخشعه لسيطرته. فامتطى هذا البطل صهوته فصعِد به في الجو، ولما أبصر الخيمايرا أمكنه أن يمطرها بوابلٍ من سهامه من كل جانب؛ وذلك ليتجنب الاحتراق بأنفاسها النارية. وهكذا تغلب عليها وقتلها.
ويُحكى أن بلليروفون أخذ يملأ شدقيه زهوًا بسيطرته على ذلك الجواد المجنَّح، وركب رأسه لدرجة أنه حاول أن يطير به إلى أوليمبوس، لولا أن جوبيتر أرسل ذبابة خَيْل لدغت بيجاسوس، وهو طائر في أعالي الجو، فجفل بعنفٍ وأوقع بلليروفون من فوق السرج، فمات هذا البطل الشاب، وعاد الجواد إلى خدمة الموزيات.
دامون وبوثياس
من أشهر أبطال العصور القديمة صديقان حميمان نالا إعجاب الناس، وصارا مضرب الأمثال في الوفاء. إنهما دامون وبوثياس.
من المعقول جدًّا أن يكون هذان الرجلان حقيقيين وعاشا في عصرٍ واحد. تقول القصة إنهما كانا من رعايا الطاغية ديونيسيوس حاكم سيراكوز بصقلية إبَّان القرن الخامس قبل بداية عصرنا. اشتهر دامون وبوثياس بالحكمة ودماثة الخلق، غير أنه لا توجد سجلات تؤكد ذلك. وذات يومٍ أثار بوثياس غضب ذلك الطاغية، فحكم عليه بالإعدام. فقبل الحكم بشجاعة، ولكنه طلب من ديونيسيوس أن يسمح له بمهلة يذهب فيها إلى بلده؛ ليسوي أموره. فأجابه الطاغية إلى طلبه على شرط أن يضمنه شخص ما، فإن لم يحضر في الموعد المحدَّد قتل ذلك الشخص بدلًا منه. فتطوع دامون بأن يبقى رهينة حتى يعود بوثياس، وبذا يضمن الطاغية عودته.
سمح الطاغية لبوثياس بالانصراف، ولكنه حذَّره مغبة عدم عودته بقوله: «سمحت لك بهذه المهلة، ولكن يجب أن تعود في الساعة كذا يوم كذا، وإلا أُعدم صاحبك مكانك.»
رحل بوثياس إلى بلده الواقع على مسافة بعيدة، وسوى أموره هناك، وقسَّم ممتلكاته بين أقاربه، وخرج من هناك عائدًا إلى سيراكوز، ولكن لسوء الحظ تأخَّر في الطريق أثناء عودته لأسباب خارجة عن إرادته. لقد فاض نهر وامتلأ حتى حافته بالماء، وكان على بوثياس أن يعبره. فناضل بجِدٍّ حتى عبره. كما هبت عاصفة عاتية جعلت السير في الطريق متعذرًا، فطفِق يشق طريقه بصعوبة وهو يجاهد بأقصى ما في مكنته. وأخيرًا بعد كل هذه المشاق، وصل إلى سيراكوز في اللحظة الأخيرة من المهلة المحددة. وبينما كان السيَّاف يرفع يده بالسيف ليهوي به على عنق دامون، فيفصل رأسه عن جسده؛ إذ ببوثياس يشق طريقه وسط الجموع، وهو يلهث من كثرة الجري، وصاح يقول: «أوقف سيفك! ها أنا ذا قد حضرت!» وركع أمام السياف مكان دامون ليتلقى الضربة القاضية، ولكن ديونيسيوس امتلأ دهشةً وإعجابًا لوفاء هذين الصديقين، فصفح عن بوثياس، وطلب أن يكونا من أصدقائه.