قصص فينوس
فينوس وأدونيس
بطبيعة الحال، كان لفينوس كثير من المغامرات الغرامية، أشهرها ما حدث بينها وبين أدونيس، وهو شاب من منطقة في آسيا الصغرى، رائع الجمال الذي يُضرب به المثل، فنقول عن الرجل ذي الجمال الفذ «إنه أدونيس». فذات يوم كانت فينوس تعبث بسهام ابنها كيوبيد، فخدشت نفسها بسهمٍ منها، وقبل أن يلتئم الجرح، ويخرج السهم الخطر من عروقها، أبصرت أدونيس، وفي الحال تغلغل حبُّه في قلبها.
بعد ذلك أهملت فينوس كل غرامياتها العادية، وما عادت تُرى بعد ذلك في الأماكن التي كانت تزورها عادة، بل صارت بهجتها الوحيدة أن ترافق أدونيس أينما يذهب. ورغم جمال أدونيس كان يتصف بأخلاق الرجولة، فأُولع بالصيد أكثر من كل شيءٍ آخر. وعلى هذا كانت فينوس تصحبه في جميع المغامرات الخطرة. وكانا يجولان معًا وسط الغابات يوميًّا. وما عادت فينوس لتهتم بزينتها وتجميل مفاتنها، وما عادت تقضي الساعات كما اعتادت في إبراز سر جمالها، بل كانت تذهب معه في ثيابٍ عادية تحمل قوسًا وجَعبة سهام مثل الربة الصيادة ديانا، كما تعلمت هي أيضًا أن تطارد الغزلان وتقتلها، وتركت لأدونيس قتل الذئاب والخنازير البرية والفهود والدِّبَبة.
حذرت فينوس أدونيس من أن يكون كثير الجرأة، وكانت تخشى أن يهاجمه وَحشٌ مفترس في وقتٍ ما، إن عاجلًا أو آجلًا، فيؤذيه. وهذا ما حدث فعلًا؛ إذ تركت فينوس أدونيس في يوم ما، وطارت إلى أوليمبوس في عربتها التي يجرها اليمام. وكانت آخر كلماتها لأودنيس هي التحذير. غير أنه كان يصم أذنيه عن سماع نصائحها التي تزرع الجُبن، كما كان يعتقد. فكان الأول دائمًا في مطاردة الصيد، والأول دائمًا في مطاردة أيِّ حيوان يرغب في قتله، ويحتقر إلقاء عبء الخطر على غيره. في ذلك اليوم أثارت الكلاب خنزيرًا بريًّا ضخمًا ومتوحشًا ومفترسًا، فصار ذلك الخنزير يجري أمام الكلاب حتى انقضَّ عليه أدونيس والرمح في يديه، وقلبه توَّاق لأن يُغيب الرمح في جسم الخنزير، وفعلًا أفلح في جرح ذلك الوحش، ولكن سن الرمح لم تتعمق في جسمه، فاندفع الخنزير يهجم على أدونيس، وأنفذ نابَيْه كليهما في جنْبَي هذا الشاب الوسيم، فخر فوق السهل صريعًا.
حزنت فينوس على أودنيس حزنًا شديدًا، وبكته بكاءً مُرًّا، وظلت كاسفة البال مدة طويلة. وكان سكان تلك المنطقة يجددون الحداد عليه سنويًّا في عيد مقدس. ويقال إن الأقحوان خرج من دمه، كما قيل أيضًا إن جوبيتر أشفق على ابنته فينوس، فسمح لأدونيس بأن يصعد من العالم السفلي لمدة ستة شهور في كل عام، ويقيم مع فينوس كزوجها في تلك المدة، وعندئذٍ كان الصيف يعم الأرض.
كيوبيد وبسوخي
روى الكاتب اللاتيني أبوليوس قصة من أجمل القصص القديمة عن كيوبيد وبسوخي، فقال:
كان لأحد الملوك ثلاث بنات تُسمَّى صغراهن بسوخي (ومعنى اسمها بالإغريقية، إما «روح» أو «فراشة») وكانت أجملهن. ومن فرط جمالها كانت إذا سارت في الطريق نثر الناس الأزهار أمامها، ومن شدة إعجاب الناظرين بها، أهملوا مذابح فينوس.
غضبت ربة الحب إذ رأت أن بسوخي قد خلعتها من مركز محبة الناس لها. فصمَّمت على أن تعاقب تلك الفتاة ذات الجمال الخارق الساحر، فاستدعت ابنها كيوبيد، وأمرته بأن يُعِدَّ وسيلة لانتقامها. أمرته بأن يذهب إلى بسوخي، ومعه شيء من الماء من نافورة معينة في حديقة فينوس، فيوحي إلى تلك الفتاة بواسطة ذلك الماء بأن تحبَّ شخصًا وضيعًا. فطار كيوبيد لتنفيذ هذه المهمة، ولكنه ما إن أبصر بسوخي راقدة في نومٍ لذيذ، حتى ندم على قبوله ما كلفته به أمه. ومع ذلك فقد أخذ ينفذ رسالته، وعندما انحنى فوقها جرح نفسه بأحد سهامه، ولكنه لم يكترث لجرحه، وأخذ يعمل على إبطال مفعول المياه السحرية، فصب عليها عقارًا حلوًا من قارورة أخرى، وطار.
منذ ذلك الوقت لم يلتفت أحدٌ ما إلى بسوخي رغم جمالها، وتزوجت أختاها أميرَيْن عظيمَي السلطان، ولكن ما من أحدٍ جاء يطلب يد بسوخي. وأخيرًا استشار والداها وحيًا فأخبرهما بأن يرسلا ابنتهما إلى قمة جبل، حيث خُصِّص لها بيت يأتي إليها فيه وحش من مولد إلهي ويتزوجها. فبكى الوالدان بدموعٍ سخينة، ولكنهما ألبساها لباس العُرس، وصحباها إلى صخرةٍ منعزلةٍ، حيث يوجد بيت وضيع، وتركاها هناك لتلقى مصيرها.
هبت الريح الغربية فجأة، فحملت بسوخي برفقٍ إلى وادٍ عطر الأريج، حيث يوجد قصر عظيم وسط الزهور، ويرتكز سقفه على أعمدة من الذهب الخالص، فدخلت بسوخي القصر مدهوشة، فقد التقت عيناها في كل خطوة بأعجوبة جديدة. وبينما هي تسير وسط الأبهاء العالية، سمعت صوت فتاة تخبرها بأنه قد خُصِّص لخدمتها عدةُ خدم غير مرئيين، على استعدادٍ لتلبية أوامرها فورًا. وشاهدت مائدة زاخرة بكل ما لذَّ وطاب من صنوف الطعام مُعدَّة لها. وبينما هي تتناول الطعام، شنَّفتْ أذنيها نغمات موسيقية حلوة، وعندما ذهبت لتنام وجدت مخدعها حجرة فخمة الزخارف، تنتظم العديد من مناظر مغامرات الآلهة. وبينما هي في دهشةٍ بالغةٍ لكل ما شاهدته غلبها النعاس، فاستسلمت للنوم.
وفي منتصف الليل أيقظها صوت عذب.
قال ذلك الصوت: «إنني زوجك يا بسوخي. وهذا البيت وكل ما فيه مِلكٌ لك، ولكن على شرطٍ واحد: ألا تحاولي رؤية وجهي بحالٍ ما.»
وعلى هذا كان أثناء الليل فقط، تلتقي بسوخي مع زوجها. ورغم أنها سمعت صوته، فإنها لم تلمح وجهه إطلاقًا.
ظلت بسوخي سعيدة مدة طويلة، ولكنها مع مرور الشهور، اجتاحَتْها الرغبة الشديدة في أن ترى والديها وأختيها، وجعلتها تلك الرغبة تذوي. وأخيرًا لاحظ زوجها وجودَ شيء غير عادي يضايق زوجته، فسألها فأخبرته في تردُّدٍ بأنها تتحرق شوقًا إلى رؤية أُسرتها، ولو لمدةٍ قصيرة. بقي زوجها صامتًا بعض الوقت، وأخيرًا وافق على السماح لها بالذهاب إلى بيت أبيها لفترةٍ قصيرة.
استعدَّت بسوخي لرحلتها فَرِحةً جَذْلى، وأخذت معها كثيرًا من الهدايا الجميلة. ومرةً أخرى حملتها زفيروس برفق إلى الصخرة التي كان والداها قد تركاها عندها. فنزلت بسرعةٍ إلى أسفل الجبل، وبعد فترةٍ قصيرة بلغت قصر والدها، فرحب بمقدمها والداها مدهوشَيْن، وامتلئا بهجةً وسرورًا؛ لأن ابنتهما ما برحت على قيد الحياة، وسُرَّت أختاها لرؤيتها، فأخبرتهما بأن زوجها يزورها ليلًا، وأنها لم تبصر وجهه أبدًا. ووصفت لهما القصر الرائع الذي تعيش فيه، والخدمة السريعة التي تقوم بها حوريات القصر غير المرئيات.
وبينما هي تحكي لأختيها طريقة حياتها، اشتعلت نار الغيرة في قلبَيْهما وملأهما الحسد، وأبدتا شكهما في صحة روايتها، وحاولتا بكل ما لديهما من حولٍ وطَوْل وقوة إقناع، أن تُدخلا في روع شقيقتهما أن زوجها وحش حقًّا، ونصحتاها بأن تزود نفسها بمصباحٍ زيتي لترى في نوره منظر زوجها على حقيقته، كما أشارتا عليها بأن تُعِدَّ سكينًا حادةً لتذبحه بها إن كان وحشًا.
رفضت بسوخي في أول الأمر أن تهتم بارتيابهما، ولكنهما أفلحتا أخيرًا في التأثير عليها، واعتزمت أن تعمل بنصحهما. فلما عادت إلى قصرها حملت معها مصباحًا وسكينًا. وعاد زوجها إليها كالمعتاد، فلما عرفت أنه غارق في النوم، أضاءت المصباح في هُدوء، وانحنت فوقه. ولدهشتها وسرورها رأت أمامها شابًّا رائع الجمال. وفي الحال صارت محبتها له عظيمة جدًّا، ولكنها قبل أن تُبعِد المصباح عن وجهه سقطت نقطةُ زيت ساخنة من الآنية فوق كتفه، فأيقظت ذلك الإله النائم. فأدرك كيوبيد لتوِّه ما حدث، وبدون أن ينطق بكلمةٍ واحدةٍ نشر جناحيه الأبيضين، وطار من القصر.
عرفت بسوخي أن كيوبيد قد هجرها إلى غير رجعة، فامتلأت يأسًا، ولامت نفسها وندِمَت، حيث لا ينفع الندم على ارتيابها الدنيء، فألقت بنفسها في نهرٍ رغبةً في أن تموت، ولكن رب النهر أبى أن يقتل شيئًا جميلًا كهذا، فلفظها إلى الشاطئ. فظلت مدة طويلة هائمةً على وجهها تضرب في الفيافي والقفار غير عابئة بوعورة الطريق، ولا بما ينالها من تعبٍ، حتى وصلت أخيرًا إلى معبد لفينوس، فاعتزمت الدخول في خدمة تلك الربة. وكانت فينوس تعلم بزواج ابنها من بسوخي، وما برح الحقد يتأجَّج في قلبها ضدَّ هذه الفتاة، فأخبرتها بواسطة فم كاهنتها أنها إذا أرادت أن تكون محبوبة، فعليها القيام ببعض الأعمال الشاقة. وكانت فينوس تعتقد تمامًا أن بسوخي لن تستطيع إنجاز تلك الأعمال، إلا أن بسوخي وافقت في لهفةٍ على أن تقوم بأي عملٍ يُفرض عليها، وسألت عما يجب عليها أن تفعله.
فرضت عليها فينوس أول عمل: كان في مخزن واسع بالمعبد كومة كبيرة من الحبوب المختلفة مختلطة معًا: القمح والفول والعدس والخشخاش والشعير والذرة العويجة، وكثير من أنواع الحبوب الأخرى اللازمة لإطعام حراس المعبد ويمام فينوس.
قالت فينوس في صيغة الأمر: «افرزي هذه الحبوب، كل نوع في كومة منفصلة، على أن يتم هذا العمل عند مجيء الظلام.»
ما كان لبسوخي أن تستطيع إنجاز هذا العمل في عشرة أيام، ولكن كيوبيد الذي ما زال يراقب بسوخي سرًّا، كلف النمل بالقيام بذلك العمل، فأطاعته جميع أمة النمل، وشرعت على الفور تعمل دائبة. فلما بدأت جحافل الظلام تنتشر على الكون، كان كلُّ نوع من الحبوب كومةً مستقلة.
عادت فينوس لترى ماذا فعلت بسوخي، فإذا بها تجدها قد أنجزت أول أوامرها، فحنِقَت؛ لأنها أدركت أنها لم تفعل ذلك بمفردها، وفرضَتْ عليها العمل الثاني.
«أحضري لي ثلاث خصلات من صوف الأغنام ذوات البريق الذهبي الموجودة في ذلك الحقل.»
ذهبت بسوخي إلى الحقل تجر قدميها في بطءٍ، وهي تسير على جانب النهر، فهمست لها أعواد البوص النامية هناك، وأمرتها بالانتظار؛ لأن تلك الأغنام كانت بالغة التوحش.
ألحت أعواد البوص على بسوخي بقولها: «انتظري حتى ينتصف النهار، ثم انظري إلى الشُّجَيرات.»
أطاعت بسوخي النصيحة، وبعد الظهر وجدت خصلات من الصوف الذهبي مُعلَّقةً فوق الشجيرات التي احتكَّت بها الأغنام أثناء مرورها إلى جانبها. فأخذت هذه الخصلات، وعادت بها إلى فينوس.
وفي الصباح التالي أمرتها فينوس في خشونةٍ بالعمل الثالث: «اذهبي إلى بروسربينا ملكة هاديس، وأحضري لي عُلبة من المرهم الذي تستعمله للاحتفاظ بجمالها الإلهي.»
كان ذلك العمل فظيعًا ويبدو مستحيلًا، ولكنها قامت به، فدخلت إلى العالم السفلي من خلال كهف، وتوسلت إلى خارون أن ينقلها في قاربه عبر نهر ستوكس. فلما صارت هناك استمالت إليها بروسربينا بأن أخذت تستدرُّ عطفها، متضرعةً أن تعطيها علبة من ذلك المرهم الثمين. فلما أخذت العلبة اجتاحتها رغبةٌ ملحة في أن تفتح العلبة، وترى ما بداخلها، ولكنها ما إن فتحتها حتى وقعت على الأرض في نومٍ عميقٍ يشبه نوم الأموات. لم يقاوم كيوبيد لهفته إلى الطيران إليها على الفور وإنقاذها. فأيقظها من سُباتها، وتوسل إلى ملك السماء أن يساعده في قضيَّته. فتدخل جوف في الأمر، ورجا فينوس في أن تقبل تلك الفتاة زوجة لكيوبيد، بعد ذلك حمل ميركوري بسوخي إلى أوليمبوس، حيث أكلت تلك الفتاة من الأمبروسيا الإلهية، وصارت خالدة. ولما حان الوقت، ولدت للحب والروح ابنة سُميت «السرور».
التفاح الذهبي أتالانتا وهيبومينيس
عُقدت مسابقة من نوعٍ جديدٍ اشتركت فيها أتالانتا، وهي عذراء من بيوتيا، فعندما كانت أتالانتا طفلة، تُنُبِّئَ لها بأن زواجها سيكون خطرًا عليها. وبناء على تلك النبوءة عقدت العزم على ألا تتزوج إطلاقًا، وتحاشَتْ كل اتصال بالرجال، وعاشت في الغابات مكرسةً نفسها للربة ديانا، تقضي أيام حياتها في الصيد وغيره من رياضات الغابات. بيد أنه لما كانت أتالانتا على قدرٍ كبيرٍ من الجمال الساحر الفتَّان؛ ولأن حياة الخلاء وهبتها صحةً ونشاطًا، تقدم إليها الرجال كعُشَّاق يطلبون يدها، وأخذوا يضايقونها باستمرار، وألحوا عليها في عدم رفض طلبهم.
وأخيرًا، توصلت أتالانتا إلى حيلة تتخلَّص بها من أولئك الرجال، فاستدعتهم جميعًا، وأعلنت أمامهم أنها ستكون عروس مَن يتفوَّق عليها في سباق الجري، ومن هزمَتْه منهم كان مصيره الإعدام. عندئذٍ ساد السكون بين العشاق فترة من الوقت. وبعد ذلك أعلن عدد منهم استعداده لأن يستبق معها، ولكنهم أخفقوا جميعًا، فما من عذراء يمكنها أن تجري بمثل سرعة أتالانتا، وما من رجلٍ استطاع أن يصل إلى سرعتها. وعلى ذلك نُفِّذ حكم الإعدام القاسي في جميع من خسروا السباق.
وفي أحد أشواط السباق، اختير شاب اسمه هيبومينيس؛ ليكون حكمًا في المباراة، فأخذ يتحدث باحتقارٍ، ويسخر من أولئك الأغبياء الذين اشتركوا في السباق، وخاطروا بأرواحهم من أجل عذراء مهما يكن جمالها فتانًا.
غير أن ذلك الشاب، ما إن أبصر قوام أتالانتا الرشيق يثب بخفَّة فوق الأرض كأنه عصفور، وأحدق النظر إليها عندما لمست شريط نهاية السباق، فألفى وجهها ساحرًا فاتنًا، كأنه وجه إحدى الربات، ما إن شاهد كل ذلك حتى غيَّر رأيه على الفور، وتاق مثل الباقين إلى الفوز بيدها.
تقدمت أتالانتا وقد احمرَّ وجهها من الجري، فاقترب منها هيبومينيس، وأعلن تحديه إياها في مباراةٍ أخرى صباح اليوم التالي.
صاح هيبومينيس يقول: «ليس أولئك الشبان سوى حفنةٍ من الكسالى الخاملين. ستكون القصة مختلفة تمامًا معي. أنا المنحدر من نسل الآلهة، أنا أحد ذرية إله البحر نبتيون.»
نظرت أتالانتا إلى هذا الشاب الوسيم والحسرة تملأ نفسها. فما من شابٍّ ممن سابقوها قد أعجبها خيرًا من هيبومينيس، وأحست بوخزٍ يتغلغل في قلبها أن يموت مثل هذا الشاب المتوثب صحةً وقوة. أما هيبومينيس ففكر في أن يطلب مساعدة ربة من الممكن جدًّا أن تمدَّ له يد العون. فتوسل إلى فينوس، وطلب منها أن تفكر في مناقضة انتصار أتالانتا لقاعدتها الخاصة بالحب، فسمعته فينوس واستجابت إلى توسُّله، فذهبت إلى حديقة الهسبيريديات النائية إلى مسافةٍ بعيدةٍ في أقصى غرب الدنيا، حيث قطفت ثلاث تفاحات ذهبيات عجيبات من شجرةٍ ضخمةٍ تنمو بوسط تلك الحديقة، وقدمتها إلى هيبومينيس، وزودته بالتعليمات التي يجب عليه أن يتبعها ليهزم أتالانتا.
بدأ السباق في اليوم التالي أمام حشدٍ كبيرٍ من المشاهدين. فانطلق كِلا المتسابقَيْن من نقطة الابتداء، كأنهما سهمان أُطلقا من قوس، ولكن سرعان ما أدرك هيبومينيس، رغم أقصى جهوده وخير محاولاته، أن الفتاة سبقته، فقذف بيده إحدى التفاحات الذهبية، فانطلقت التفاحة تتدحرج متألقة في طريق أتالانتا مباشرةً، فبهر جمالها وبريقها عينَي الفتاة، وبدون أن تعي ما هي فاعلة، انحنت وخطفت التفاحة من فوق الأرض. وبينما هي تفعل ذلك لحِق بها هيبومينيس وتقدَّم عليها، ولكنها أسرعت ثانية وتقدمته مرةً أخرى. فما كان منه إلا أن أرسل تفاحة ثانية تتدحرج متلألئة في طريقها. ومرةً أخرى توقفت أتالانتا لتلتقط تلك التفاحة الذهبية البرَّاقة. وعندئذٍ تقدمها هيبومينيس، بيد أن سرعتها كانت عظيمة جدًّا لدرجة أن كل هذه العقبات لم تكن كافيةً ليتفوق عليها هيبومينيس. وفي بضع لحظاتٍ جاءت أتالانتا في المقدمة مرةً أخرى. وعندما اقتربت نهاية السباق، وقد دب اليأس في قلب هيبومينيس، فألقى بالتفاحة الذهبية الأخيرة، فتدحرجت لامعة إلى جانب الطريق، وترددت أتالانتا فيما إذا كان يصح لها أن تلتقطها أم تتركها، ولكن جمال التفاحة كان عظيمًا، فلم تستطع مقاومة إغرائه، فاتجهت جانبًا على الرغم منها، وانحنت لترفعها من على الأرض. وبينما هي تلتقطها، دوَّت صيحة هائلة ردَّد الجوُّ صداها في جميع الأرجاء: «لقد فاز هيبومينيس.»
لم تأسف أتالانتا بحالٍ ما على أن تكون زوجة هيبومينيس، غير أن قدرها لا بدَّ أن ينفذ؛ فقد نسِي كلا الحبيبين تقديم فروض الشكر لفينوس التي كانت السبب في انتصار هيبومينيس. ولذلك غضِبت هذه الربة؛ لنسيانهما فضلها، وحوَّلتهما إلى وحشين. حولت هيبومينيس إلى أسد، وأتالانتا إلى لبؤة، وجعلتهما يجران عربة الربة ريَّا (المسماة أيضًا كوبيلي).
جالاتيا وبيجماليون
كان يحكم جزيرة قبرص ملك اسمه بيجماليون، لم يكن حكيمًا فحسب، بل ونحَّاتًا بارعًا أيضًا. غير أن به رغم هذا طبعًا غريبًا؛ إذ كان لا يثق بالنساء إطلاقًا، وأعلن أنه يعتزم ألا يتزوج طول حياته.
وذات مرة كان بيجماليون ينحت تمثالًا من العاج في صورة عذراء، وظل يعمل فيه يومًا بعد يوم، والتمثال يزيد جمالًا فوق جمال. صب بيجماليون في ذلك التمثال كل أحلامه، وعبر فيه عن جميع مُثُله العليا، فأُعجب هو نفسه بذلك التمثال، واستمرَّ يضيف إليه اللمسات هنا وهناك؛ ليزيد في بهائه حتى آلمته عيناه، وخيَّم على مرسمه ظلامٌ حالك، فأطلق على هذا التمثال اسم «جالاتيا».
وأخيرًا تم التمثال، ولشد ما أدهش بيجماليون أنه هو نفسه لا يهدأ له بالٌ بعيدًا عن أروع ما نحتت يداه. وسواء رغب أو لم يرغب، كان يجد نفسه دائمًا في الحجرة الجميلة التي وضع بها ذلك التمثال، ويجد عينيه تديمان النظر إليه. وذات يوم، استيقظ بيجماليون ليدرك الحقيقة الواضحة؛ كان يعشق التمثال الذي صنعه.
بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ احتفلت قبرص كلها بعيد الربة فينوس، فوقف بيجماليون بخشوعٍ أمام مذبح هذه الربة، وخاطبها يذكرها باحترامه إياها وإخلاصه لمعبدها، وطلب منها أن تمنحه أمنية واحدة: أن يتخذَ التمثال جالاتيا لحمًا وحياة.
فلما رجع بيجماليون إلى بيته في تلك الليلة، سار بخُطًى وئيدة إلى الحجرة التي بها التمثال، وكم كانت دهشته بالغة عندما وجد إكليلًا من الزهور العطرة، حول عنق التمثال! فأدرك على الفور أن هذه بشرى طيبة؛ إذ لم يُسمح لأي فردٍ سواه بدخول تلك الحجرة. وبينما هو واقف مبهوتًا رأى مِسحة من الحمرة الرقيقة تنتشر في العاج الأبيض المصنوع منه ذلك التمثال، ثم بدا النبض الهادئ في جبهة التمثال ومِعصميه، وتحرُّك بطيء في الركبتين والرأس. فتقدم بيجماليون مترددًا يلمس يد جالاتيا، وبينما هو يفعل ذلك التفَّتْ أصابعها حول أصابعه، وتحركت إلى الأمام، ونزلت عن قاعدتها التي كانت واقفة عليها.
صاح بيجماليون يقول: «جالاتيا!» وهي تتقدم في نفس اللحظة نحوه مبتسمة، ليحتضنها بين ذراعيه.
باركت فينوس زواج بيجماليون وجالاتيا. ومن اتحادهما أنجبا طفلًا اسمه بافوس، أسَّس مدينة سُميت باسمه، تقع في أقصى نقطة غرب جزيرة قبرص، وكرَّسها لربة الحب.
هيرو ولياندر
كان يعيش في بوغاز الهلسبونت شابٌّ اسمه لياندر، يقع بيته في مدينة أبيدوس قبالة بيت فتاة تُدعى «هيرو» في مدينة سيستوس. وكانت هذه الفتاة بارعة الجمال، حتى قيل إن أبولو وكيوبيد أنفسهما طلبا يدها، ولكن أُجيب طلبهما بالرفض.
كانت هيرو تخدم فينوس ككاهنة، وحدث ذات يوم أن جاء لياندر إلى سيستوس؛ لتقديم فروض التعظيم للربة فينوس، فأبصر هيرو، كما وقع بصر هيرو عليه في نفس اللحظة، وعلى الفور، وقع كل منهما في غرام الآخر من أول نظرة. غير أن والدَيْ هيرو رفضا طلب لياندر يد هيرو، رفضًا باتًّا. ليس هذا فحسب، بل وحرَّمَا على هذَيْن الشابين أن يرى أيهما الآخر.
ورغم كل هذا، لم يكن من السهل منعُهما اللقاء، فاتفقا على إشارات سرية فيما بينهما تُيسِّر لهما أن يتقابلا في جنح الظلام بعيدًا عن عيون الرقباء. اتفقا على أنه عندما يكون الجو خاليًا أن تعلق هيرو، بالليل، فانوسًا فوق قمة برج المعبد، وعندئذٍ يسبح لياندر بوغاز الهلسبونت مهتديًا بنور الفانوس، ليلتقي بها مدة ساعة أو ساعتين قصيرتين، ثم يعود أدراجه إلى بيته، ولكن شاءت المقادير أن تهبَّ عاصفة هوجاء في إحدى الليالي، بعد أن خرج لياندر في رحلته الخطرة للقاء هيرو. وسرعان ما أطفأت الرياح الشديدة الفانوس الذي يقود لياندر إلى طريقه نحو المعبد، فضَلَّ لياندر وجهته، وبدلًا من أن يسبح إلى بر الأمان، استمر يعوم نحو عرض البحر المائج الهائج. كانت العاصفة أشدَّ مما يقوى على احتماله فهلَك. وفي الصباح التالي جرفت الأمواج جثةَ لياندر إلى الشاطئ أمام المعبد تمامًا، وتحت قدمَي هيرو التي كانت تنتظر حبيبها في لهفةٍ، وهي تتطلَّع إلى البحر في كل اتجاه؛ خشية أن يكون قد أصابه مكروه وسط البحر العاصف، ولكنها أبصرت الجثة أمامها مباشرة، فبخَعها الحُزن، فألقت بنفسها في اليم، فابتلعها وغرقت.
بيراموس وثيسبي
كان في بابل شاب اسمه بيراموس يشتهر بمنظره الوسيم. كما كانت بها فتاة تدعى ثيسبي، اعتبرها القوم هناك أجمل عذراء في المدينة كلها، وذلك في عهد الملكة سميراميس. أقام هذان الشخصان منذ طفولتهما في بيتين متجاورَين. ولما كَبِرا ودخلا في طور الشباب، تحولت صداقتهما إلى حبٍّ شديد.
غير أن والدَيْهما لم يوافقوا على زواجهما، وحرموا عليهما كل اتصال بينهما، فلم يتمكنا من التحدث معًا إلا بالإشارات واللحاظ فحسب. ولكنهما اكتشفا ذات يوم شقًّا في الحائط الفاصل بين بيتهما مكَّنهما من التحدُّث همسًا من خلاله كلما سنحت لهما فرصة، فيبثُّ كل منهما صاحبه ما يعتمل في قلبه من لواعج الحبِّ والوفاء المستديمين.
وأخيرًا لم يطيقا الانفصال أكثر من ذلك، فاتفقا على أن يلتقيا معًا في إحدى الأمسيات، عندما يخيم الظلام، تحت شجرة توت خارج سور المدينة مباشرةً. فذهبت ثيسبي إلى مكان اللقاء قبل حبيبها، فإذا بها، وهي تقترب من الشجرة، تجد أمامها لبؤة مفزعة تكشر عن أنيابها. فصرخت الفتاة، وأطلقت العنان لقدميها؛ فرارًا من تلك اللبؤة. وفي ارتباكها وعَجَلتها، سقط منها خمارها وهي تجري، غير أن اللبؤة لم تحاول مطاردتها، وإنما أمسكت بالخمار في فمها المضرَّج بالدم، ثم تركته. وبعد مدة غير طويلة غادرت المكان، وانطلقت نحو غابة مجاورة.
في تلك اللحظة نفسها أقبل بيراموس إلى الملتقى، فأبصر خمار حبيبتِه على الأرض ملوثًا بالدماء، فاستولى عليه خوف شديد، وصاح يقول: «لقد قُتلت ثيسبي، ولكنها لم تمت وحدها!» وبمجرد أن نطق بهذه الألفاظ، استلَّ حسامه وأغمده في جنبه، فسقط على الأرض يتخبَّط في دمائه. وبينما هو يلفظ آخر أنفاسه، جاءت ثيسبي وقد هزمت فزعها؛ لتحذِّر بيراموس من الخطر الذي ينتظره، ولكن سبق السيف العذل. فلما رأت ما حدث، بحثت عن مهرب من حياتها التي ما عادت لها قيمة، ولا فيها أية بهجة لها، فكان نفس الحسام الذي قتل حبيبَها هو وسيلة موتها. فصعد الدم المختلط من دميهما فوق جذع شجرة التوت، وخضَّب ثمارها باللون الأرجواني الداكن. وهكذا ظلت ثمار التوت مصبوغةً بذلك اللون، حتى يومنا هذا؛ تخليدًا لذكرى هذَيْن العاشقين.