قصص أبولو
تجوالات لاتونا
من بنات التيتان ربة الظلام المسماة لاتونا. وكانت رائعة الجمال لدرجة أن جوبيتر نفسه وقع في هواها، وبذا أثارت غضب جونو، التي لم تصفح عنها قط. وكلما سنحت لها فرصة لعقابها، أنزلت بها صورة من صور العقاب.
ولدت لاتونا لجوبيتر توءَمين هما: أبولو إله الشمس وديانا ربة القمر، فأخذت لاتونا طفليها بين ذراعيها، وهامت على وجهها تجوب البلاد متنقلة من مدينة إلى مدينة، تلاحقها باستمرار غيرة جونو التي كانت تعلم بالعظمة المستقبلة لطفلَي لاتونا. وأثار حفيظتها وحقدها أن طفلي منافستها سيَحصُلان على مثل هذه العظمة.
تحملت لاتونا كثيرًا من المشاقِّ أثناء تجوالاتها الطويلة؛ فذات مرة، وهي في لوكيا أبصرت أمامها بركة جميلة من الماء الزلال، تظللها الأشجار. فأسرعت إليها والفرح يملأ قلبها، وهي تحمل طفلَيْها؛ إذ أنهكها التعب وجفَّ حلقها من شدة الظمأ، إلا أنها ما كادت تنحني نحو الماء البارد لتعُبَّ منه ما يروي أُوار ظمئها، حتى التفَّ حولها عدد كبير من الأهلين، ودفعوها بعيدًا عن الماء، ومنعوها الشرب. فأشارت إلى الطفلين اللذين معها، وذكرتهم باسم جوف بأن إكرام الضيف وابن السبيل واجب مقدَّس للآلهة، ولكنهم سخروا منها، ولم يدعوها تقترب من البركة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما شرع بعضهم يخوض البركة ليعكر ماءها؛ كي يصير غير صالح للشرب.
كان هذا أكثر مما تطيق لاتونا احتماله، فاستشاطت غضبًا، وتذكرت أنها ربة هي نفسها، فأشارت بيدها غاضبة، وصاحت تقول: «لن تتركوا البركة طول حياتكم، أيها القوم! ولتسكن البرك مساكنكم إلى الأبد!» وما إن انتهت من قولها هذا، حتى تحول أولئك الريفيون إلى صورةٍ غريبة. فصارت أيديهم وأجسامهم خضراء، وتفلطحت رءُوسهم، وغدت أصواتهم نقيقًا، ولا يزال نسلهم «الضفادع» يعيش حتى اليوم في البرك الموحلة والعَكِرة المياه.
عاشت لاتونا مع طفليها مدة ما في أودية جبال بيريا، مأوى الموزيات المحبوب، حيث قامت تسع شقيقات بتعليم أبولو فن الموسيقى والغناء إلى أن صار، في الوقت المناسب، ليس تلميذهن، بل أستاذهن، ولكنه لم يحصل بعدُ على القيثارة التي قدَّمها إليه ميركوري فيما بعد. أما ديانا فرُبِّيت في كهف بجبل كونثوس (ولذا أطلق عليها أحيانًا لقب كونثيا). ووكلت حراستها إلى هيكاتي ملكة الساحرات، وكانت ديانا تتجول بحُرِّية في أودية ذلك الجبل، غير هيَّابة ولا خائفة. وتعلمت هناك معرفة وفهم المخلوقات البرية، وعندما اكتمل نمو أبولو وديانا، ذهبا إلى جبل أوليمبوس، واتخذا مكانيهما بين آلهة السماء.
زهرة الخزامى أو السوسن
أحب الأغارقة الإله أبولو أكثر من غيره من الآلهة الآخرين، فنسجوا حوله كثيرًا من الأساطير. كان حامي الرجال، ولا سيما عندما يكونون في شرخ الشباب، وعندما يشتركون في الألعاب الرياضية والمباريات. فتُروى عنه قصة تقول إنه صادَقَ غلامًا اسمه هواكنثوس ابن ملك إسبرطة، وكان هذا الصبي يهوى جميع صنوف الألعاب والرياضيات، فكان أبولو يصحبه في رحلات صيد السمك وصيد الحيوان، ويشترك في جميع الألعاب التي يشترك فيها هواكنثوس. وكان زفيروس، إله الريح الغربية، مولعًا أيضًا بذلك الغلام، وكثيرًا ما حاول كسب عطفه، بيدَ أن الصبي لم يكن ليهتم بأحد غير أبولو.
وذات يوم أخذ أبولو وهواكنثوس يمارسان لعبة قذف الجلة، وكان كل منهما يلعبها ببراعةٍ ومهارة، فكان هذا يقذف الجلة إلى مسافةٍ بعيدة، فيأتي الآخر فيقذفها إلى مسافة أبعد من السابقة، فيعود الأول فيقذفها … وهكذا. غير أن زفيروس تسلل إلى حيث يلعبان، وشرع يراقبهما، وغضَب الغيرة يَستَعِر في نفسه ويملأ قلبه؛ إذ فضَّل هواكنثوس أبولو عليه. وفجأة بلغ غضب زفيروس ذروته، فلم يعد يحتمل تلك الإهانة أكثر من ذلك، فانتظر حتى جاء دور أبولو ليقذف الجلة. وبينما هي تخترق الهواء أمسك بها إله الريح الغربية بقبضته غير المرئية وغيَّر اتجاهها، وأرسلها بقوةٍ قاتلةٍ شطر هواكنثوس. فأصابت القذيفة الثقيلة الصبي في رأسه، فسقط على الأرض فاقدَ الوعي. وعبثًا ضاعت كل جهود أبولو في إعادة الحياة إليه، فحزن عليه أبولو أبلغ الحزن وأَمَرَّه وهو راقد يحتضر. ولما لفَظَ روحه أخذ أبولو جثته بين ذراعيه، ووعده بحياة خالدة.
صاح أبولو يقول للغلام: «ها أنت قد مِتَّ، ولكن ستخرج من دمك زهرة يحبها الجميع.»
ما إن أتم أبولو كلامه، حتى انبثقت من الأرض زهرة رقيقة أرجوانية اللون تشبه الزنبق، وقد نُقش على وريقاتها التويجية الكلمتان «الويل، الويل»، فأطلق الإغريق على هذه الزهرة اسم هواكنث، وهي زهرة الخزامي، ولكنها تسمى اليوم «إيريس» أي زهرة السوسن؛ تكريمًا لإيريس ربة قوس قزح.
أبولو وماربيسا
رفضت الفتاة ماربيسا، ابنة الملك إيفينوس، «حب أبولو»، وقد اتَّصف أبوها بالأنانية، فأراد أن يُبقيها معه طول حياته دون أن يزوِّجها لأي رجل، رغم أنها كانت على قدرٍ عظيمٍ من الفتنة والجمال، ولها كثير من العشاق. وأخيرًا ضاقت حلقة المنافسة بين أولئك المعجبين بها إلى اثنين فقط هما: إيداس، ذلك الشاب النبيل والشجاع، ذو القسمات الحلوة، والرب العظيم أبولو. وكانت ماربيسا تفضِّل منهما إيداس، الذي ألحَّ على والدها في أن يزوجه إياها، بيد أن إيفينوس رفض طلبه في غضب، وهدده بالقتل إن عاد إليه مرةً أخرى.
يئس إيداس من الحصول على ماربيسا كزوجة، إلا أن نبتيون هبَّ إلى نجدته في تلك اللحظة. فقدم إله البحر إلى إيداس عربة عجيبة شدت إليها، ليس أسرع الجياد الموجود على سطح الأرض فحسب، بل وزودها بزوج من الأجنحة لتزيد في سرعتها أيضًا. انتظر إيداس في تلك العربة بجانب البئر التي اعتادت ماربيسا أن تأخذ منها الماء لأسرتها، فلما جاءت أغراها على أن تهرب معه. وما إن صعدت إلى جانبه، حتى انطلقت العربة تسابق الريح، فطار النبأ إلى إيفينوس بما حدث، فركب عربته وهو غاضب أشدَّ الغضب، وخرج من فوره يطاردهما، ولكن عبثًا حاول؛ إذ كان إيداس وماربيسا بعيدَيْن عن متناول يده.
غير أن أبولو لم يقبل أن يحظى إيداس بيدِ ماربيسا بمثل هذه السهولة، فظهر أمام العربة المسرعة، وأمسك بأعنَّة الخيل، وأمر إيداس في غطرسة بأن يتنازل له عن هذه الفتاة. ورغم أن إيداس كان يعلم يقينًا أن حتفه مؤكد، فقد استعدَّ لأن يقاتل من أجلها حتى الموت. ومرةً ثانية خف نبتيون إلى مساعدته، فبينما كان جالسًا إلى جانب جوبيتر في أوليمبوس الشاهق، توسَّل إلى ملك الآلهة والبشر أن يقيم العدل في تلك المنافسة غير المتعادلة. وعلى هذا سمع قصف الرعد يزلزل الجو في نفس اللحظة التي تكلم فيها أبولو.
سمع أبولو هزيمَ الرعد، فانحنى إلى الأرض، وارتجف ذعرًا ووَجَلًا؛ لأنه أدرك علامة جوبيتر. وبعدها جاء صوت جوبيتر نفسه يأمره بقوله: «دع الفتاة تقرر بنفسها بمن تتزوج.»
وهكذا ترافع العاشقان أمام الفتاة: العاشق البشري والإله. فوعدها أبولو بالسعادة الدائمة والعلم بالماضي والحاضر والمستقبل، وأن يكون بمقدورها منح البركة أو اللعنة للبشر، وأن ترفع من تشاء وتسقط من تريد. ثم جاء دور إيداس، فقال في ذلةٍ بالغةٍ إنه لا يستطيع أن يقدم لها أيَّ شيء غير الحب، ولا يمكنه أن يطلب شيئًا سوى الشفقة على شخص يعتبر جمالَها بالنسبة له نورَ الدنيا كلها.
وبينما كان إيداس يتكلم، مدت ماربيسا إليه يدها، وقالت: «وقع اختياري على إيداس؛ لأنني وإياه سنشيخ معًا، وسأظل أحبه ويحبني حتى نبلغ من الكبر عتيًّا. أما أبولو فسيأتي وقت يملني فيه، أنا الإنسانة الذابلة.»
أحنى أبولو رأسه احترامًا لقرارها، ورجع إلى مساكن أوليمبوس غير غاضب، بل حزينًا. بينما سار إيداس وماربيسا معًا ترافقهما السعادة والفرحة.
فايثون وأيسكولابيوس
كان لأبولو ولدان أهلكهما جوف بصواعقه، أولهما فايثون ابن أبولو والحورية كلوميني. رُبِّي كإنسان، ولكن أمه كانت تشير دائمًا نحو السماء، وتقول له إن والده إله الشمس. وعندما أخبر فايثون زملاءَه في اللعب، بهذا سخروا منه، ولم يصدقوا أنه من نسل إلهي، فكان يذهب إلى أمه باكيًا، ويخبرها بما حدث، فتُهدئ من روعه، وتخبره بأنه إذا زار إله الشمس أبولو، فإنه سيعترف بأنه ابنه، ويثبت للعالم طرًّا أنه من ذرية إله.
وبناءً على هذا، خرج فايثون مُيممًا قصر أبولو الكائن على مسافة بعيدة، حيث يلتف مجرى أوقيانوس حول حافة الأرض. فوصل إلى بيت والده، فوجد أباه الإله واقفًا هناك في أثوابه المتلألئة العَطِرة، تحوم حوله الأيام والساعات والفصول والسنون. فدبت الرهبة في قلب ذلك الشاب؛ لما شاهده من عظمة، وأخرس لسانه فلم يستطع الكلام، ولكن إله الشمس أمره بعبارات رقيقة بأن يخبره بما يدور في خلَده.
فقال الغلام متلعثمًا: «هل أنا ابنك حقًّا؟» عندئذٍ أحدق أبولو النظر إلى الغلام، وتعرف على ابنه، فقبَّله واحتفى به كثيرًا.
سأله أبولو ابنه يقول: «ولكن ماذا جاء بك في مثل هذه الرحلة البعيدة؟»
فقص فايثون قصته على أبيه، وطلب منه أن يهبه أمنية.
توسل فايثون إلى أبيه بقوله: «امنحني أن تحقق لي أمنية، وسأكون راضيًا كل الرضا مجرد أمنية واحدة.»
فلما أبصر أبولو الدموع تترقرق في عيني ابنه، وشاهد أمارات المحنة بادية في وجهه، أجابه في الحال إلى ما طلب.
أقسم أبولو هكذا: «ورأس جوبيتر، ستنال أي شيءٍ تطلبه.»
سر فايثون سرورًا عظيمًا، وصاح بسرعةٍ يقول: «دعني أقود عربة الشمس في السماء يومًا واحدًا فحسب.»
فلما سمع أبولو ما قاله ابنه، فزع من فرط جُرأته. وعبثًا حذَّره من الأخطار الجسام التي سيتعرَّض لها، ومن المخاطر المريعة التي تنطوي عليها مثل هذه الرحلة، ومن شراسة الجياد التي عليه أن يسوقها ووحشيتها، ومن الحرارة الشديدة التي ستحيط به، ولكن على الرغم من كل ذلك، ما من شيءٍ أمكن أن يثني فايثون عن عزمه، طالما وعده والدُه.
وهكذا أحضرت الجياد العظيمة في صباح اليوم التالي، وهي تنفثُ اللهب من خياشيمها، وتعض على اللُّجُم في وحشية، فشدت إلى العربة. وعندئذٍ ودع أبولو ابنَه متحسرًا حزينًا، وساعده في الجلوس داخل العربة. وما إن أمسك الغلام بالأعنَّة، حتى انطلقت الجياد تقفز خلال السماء. وعلى الفور تقريبًا أحست تلك الخيول بيدٍ ضعيفةٍ غير مألوفةٍ لها تمسك بالأعنة. وبعد فترةٍ قصيرةٍ جمحت، ولم يستطع فايثون أن يسيطر عليها، وصار مَنْظَر الشمس غريبًا في ذلك اليوم؛ إذ ترتفع العربة أحيانًا إلى علوٍّ بالغٍ وسط السماء، فيشتد البرد على سكان المعمورة أسفلها. وعند مرور العربة فوق أفريقيا انخفضت إلى درجةٍ كبيرةٍ، فاحترقَ كل شخص بتلك القارة.
وأخيرًا بدا كما لو أن الأرض كلها ستتجعَّد وتتحطَّم بواسطة الحرارة الشديدة، فتوسل البشر جميعًا إلى جوبيتر أن يساعدهم. فوضع يده مترددًا على صاعقة، وقذف بها في ترددٍ أيضًا، فاحترق فايثون، وسقطت كتلة من اللهب، كأنه نجم يهوي على الأرض مباشرة. وإذ صارت جياد الشمس بغير قائد، عادت تلهث إلى حظائرها. فحزن أبولو على ابنه حزنًا ما بعده حزن، ورفض الظهور محتجبًا عدة أيام، تاركًا السماء تكسوها السحب السوداء، كما حزنت شقيقات فايثون عليه حزنًا شديدًا، فتحولن إلى أشجار حور.
هذا ما كان من أمر فايثون، أما كيف لقي أيسكولابيوس حتفه، فشيء آخر يختلف عن هذا. كان أيسكولابيوس ابن أبولو والأميرة التسالية كورونيس، التي ماتت أثناء ولادته. فعهد أبولو إلى خيرون، وهو واحد من جنسٍ غريب الشكل من الآلهة يطلق عليهم اسم قنطور، صُوروا على هيئة مخلوقات كل منها نصفه لحصان ونصفه الآخر لرجل، ويقال إنهم كانوا نسل رجل من البشر اسمه إكسيون وإحدى السحب، عُهد إليه بتعليم أيسكولابيوس. وقد حدث في إحدى المناسبات أن أقامت قبيلة اللابيثيين وليمة عرسٍ فخمة دُعي إليها القنطور، فأحدث هؤلاء شغبًا وعاثوا في الحفل فسادًا، فهاجمهم المدعوون الآخرون وطردوهم من وطنهم تساليا. وقد شُغف قدامى المصورين بتصوير هذه المعركة.
كان خيرون هذا أكثر القنطور حكمة وعقلًا ونبلًا، تلقى علومه على يد أبولو وديانا، فبرع في الصيد والطب والموسيقى وفن التنبؤ. وكان معلم كثير من عظماء الأبطال الأغارقة، وحتى في عصورٍ لاحقة، صار ليوناردو دافنشي الذي كان حتى ذلك الوقت من أعظم العباقرة في العالم كله، صار يهذي في بعض الأوقات، ويقول إنه رأى خيرون وتحدث إليه.
لم يبذل خيرون جهدًا لأحدٍ ما أكثر مما بذل لأيسكولابيوس؛ إذ صار ذلك الطفل يزيد عقلًا وحكمةً يومًا بعد يوم. وعندما كبر وبلغ مبالغ الرجال أصبح طبيبًا عظيمًا. ولم يقتصر طبه على شفاء المرضى فحسب، بل رد الحياة إلى رجلٍ ميت ذات مرة. بعد ذلك خشي جوف أن يطرد نمو فن العلاج واتساع أفقه لدى أيسكولابيوس، فيساعد البشر على الإفلات تمامًا من الموت. وعلى ذلك قذفه بصاعقةٍ أردَتْه قتيلًا محترقًا. غير أنه وضعه بعد ذلك بين النجوم في السماء. وكان لأيسكولابيوس ولدان صارا طبيبين أيضًا، ولكنهما لم يبلغا عظمة أبيهما، الذي صار إله الطب، ويُصوَّر عادة يحمل عصا التفَّ حولها ثعبان.
راعي الملك أدميتوس
ملأ موت فايثون أبولو حنقًا ضد جوبيتر، وزاد في ذلك الحنق موت أيسكولابيوس. فلم يقنع أبولو في هذه المرة، بمجرد أفكار الغضب وألفاظه، وإنما أراد بطريقةٍ إلهيةٍ أن يصبَّ جام غضبه على صانعي صواعق جوف الأبرياء، وهم الكوكلوبس ذوو العين الواحدة، الذين يعملون في مصنع حدادة فولكان تحت بركان جبل إتنا. فما كان منه إلا أن أطلق عليهم سهامه القوية فأبادهم، فثارت ثائرة جوبيتر من أجل هذا العمل غير المتصف بالعدل، وصمم على أن ينفي أبولو في ديجور ظلام العالم السفلي، غير أن والدة أبولو تدخلت في الأمر. وأخيرًا اكتفى جوبيتر بأن يعاقبه على شروره، فحُكم عليه بأن يخدم رجلًا من البشر مدة عام كامل.
اختير أدميتوس ملك فيراي في تساليا لشرف أن يكون سيد إله الشمس أبولو. فكلف أدميتوس أبولو بأن يرعى قطعان أغنامه. فدأب أن يجول بالأغنام مدة الاثني عشر شهرًا، متنقلًا على طول شاطئ النهر، وعبر مراعي ذلك الملك. وتقول الأسطورة: إنه لكي يسلي أبولو نفسه تعلم العزف على القيثارة، فسحر بها ألباب جميع مَن سمعوه بموسيقاها العذبة.
وهكذا كان الملك أدميتوس رقيقًا في معاملة أبولو، فتولد عند أبولو شغَفٌ عظيم بسيده البشري أدميتوس، وعقد العزم على أن يساعده في كل أمر، وبكل الطرق الممكنة. فبينما كان أبولو يرعى قطعان أغنام أدميتوس، زاد نتاج هذه الأغنام وتكاثرت بصورةٍ غير عادية، وبلغت أعدادها فوق كل ما كان متوقَّعًا. كما ساعد أبولو أدميتوس في ناحيةٍ أخرى، أراد أدميتوس أن تكون عروسه عذراء فاتنة تدعى ألكستيس ابنة بيلياس أحد أبناء نبتيون. غير أن بيلياس أعلن أنه لن يزوج ابنه لأي رجلٍ إلا إذا جاء يطلب يدها في عربة تجرُّها السباع والخنازير البرية، فيئس أدميتوس؛ لاستحالة تنفيذ هذا المطلب. فلما علم أبولو بشروط بيلياس، خف إلى مساعدة أدميتوس، وجعله يشد إلى عربته الأُسود والخنازير البرية، وساقها إلى قصر بيلياس. وعندئذٍ اضطر هذا الأخير إلى تنفيذ وعده، فصارت ألكستيس زوجة أدميتوس السعيدة.
أدميتوس وألكستيس
وفيما يختص بحياة هذين الزوجين بعد ذلك، تُروَى أسطورة من أجمل الأساطير الإغريقية.
فبعد عدة سنوات من الحياة الزوجية السعيدة، مرض أدميتوس مرضًا خطيرًا ألزَمَه الفراش. وسرعان ما اتضح أن ساعة موته قد دنَتْ، وذهبت كافة جهود ومهارة أطبائه أدراج الرياح. وكذلك لم تُجدِ محاولات أبولو، الذي كان يتوق إلى ردِّ جميل أدميتوس عندما كان أبولو راعيًا عنده، ولكن أبولو ذهب إلى جوبيتر، وطلب منه أن يسدي إليه معروفًا من أجل أدميتوس.
فقال جوبيتر: «إذا كان هناك أي شخصٍ يرغب في أن يموت بدلًا من أدميتوس، يمكن استبدال حياة هذا بذاك، فيطول عمر أدميتوس بمقدار السنوات الباقية من عمر ذلك الذي سيموت مكانه.»
عاد أبولو إلى قصر أدميتوس مبتهجًا يحمل بشرى قرار ملك الآلهة والبشر. فلما دخل القصر وجد أهل أدميتوس وأصدقاءه وأتباعه وجنوده يذرفون الدموع مدرارًا حول الملك. فساد بينهم السكون عندما اقترب أبولو ورفع يده. أعلن إله الشمس الكيفية التي يمكن بها إنقاذ حياة الملك أدميتوس حسب قرار جوبيتر، وفكر أبولو في قرارة نفسه: «من المؤكد أن جميع هؤلاء المحزونين سيتقدمون عن طِيب خاطر للموت، بدلًا من الملك.»
غير أنه بعد أن انتهى أبولو من إعلان قرار جوبيتر، لم يرد أي صوتٍ على كلامه. فاستدار نحو والدي أدميتوس العجوزين، وتوسل إليهما بذل حياتهما من أجل حياة أدميتوس، فرفضا قائلَيْن إنهما يرغبان في التمتع بالأيام القليلة الباقية لهما. فاتجه بعد ذلك إلى أتباعه، الذين كثيرًا ما قادهم أدميتوس في القتال، ثم إلى حاشيته الذين كثيرًا ما أكدوا له في لهجة التملق بأنهم على استعداد لأن يموتوا بدلًا منه لو أصابه أقلُّ مكروه، ولكنهم جميعًا أصموا آذانهم عن توسلات أبولو.
وفي نفس الوقت الذي كان أبولو يناقش فيه أولئك المرائين، ارتفع صوت في وضوحٍ وشجاعة. إنه صوت ألكستيس زوجة الملك.
قالت: «سأموت مسرورة؛ من أجل إنقاذ حياة زوجي.»
ذُعر أبولو لذلك القول.
فصاح فيها أبولو يقول: «ماذا؟! تبذلين حياتك من أجل حياته! فكري كذلك في أطفالك الصغار، وفي أنك ستتركينهم بدونك وبدون أُم، تتركينهم لعناية عالم لا يرحم! من الأفضل أن يموت أدميتوس، من أن تقدمي حياتك فداء عن حياته.»
قال أبولو هذا، واستدار لينصرف، ولكن ألكستيس جرت خلفه، وأخبرته بأنه يجب عليه تنفيذ أمر جوبيتر. وعلى ذلك وافق والحزن يملأ فؤاده، فرقدت ألكستيس على سرير. وبالتدريج أخذ وجهها يمتقع، والقوة تغادر أعضاءها، وأنفاسها تضمحل وتضعف، إلا أنه بينما كانت الحياة تنحسر عن جسمها، عادت في قوة متزايدة إلى أدميتوس. عاد الدم إلى مُحيَّاه، وأحس بالنشاط يدب في أوصاله، وحيويته تتجدد وتسري في أحنائه من قمة رأسه إلى أخمص قدمه. وفي بضع دقائق قام من على السرير الذي كان راقدًا فوقه صحيحًا مُعافًى، وموفور الصحة كما كان أيام شبابه.
أما ألكستيس؛ فكانت راقدة على سريرها تحتضر.
في هذه اللحظة بالذات، حدث انقلاب غريب، فقد شاءت الصدفة أن يمر البطل العظيم هرقل (ستُروى عنه قصص كثيرة في بابٍ لاحق) خلال تساليا في ذلك الوقت، واتجه نحو قصر أدميتوس؛ ليقدم له فروض الاحترام. فلما اقترب من أبواب القصر، دُهش للسكون الغريب المخيم هناك، وأذهله أنه ما من حارس طلب منه أن يقف، وما من خادمٍ أقبل لتحيته، وعندما اقترب إلى مسافة أكثر، سمع البكاء والنحيب ينبعثان من الحجرة التي بها أدميتوس. فاتجه نحو تلك الحجرة، ووقف أمام بابها دون أن ينتبه إليه أحد، وسمع كل ما كان يجري بداخلها.
وبينما هو يصغي إلى عرض ألكستيس السامي، وبينما هو يلاحظ شُحوب الموت يدِب في جسمها، امتلأ إشفاقًا أن تموت مثل هذه المرأة الباسلة. وفي هذه اللحظة سمع حفيفًا، فاستدار حوله، فرأى الموت إلى جانبه تمامًا، وهو شبح يرتدي ثيابًا حالكة السواد، وتقدم الموت يتسلل خلسة يتأهَّب لأن يخطف ألكستيس في قبضته، إلا أن هرقل الذي لم يفزعه أي إرهاب، سواء أكان سماويًّا أو أرضيًّا، أو من الأعماق تحت الأرضية، اعتزم فجأة أن يعمل شيئًا.
صاح هرقل يقول لنفسه: «لن يحدث أبدًا أن يأخذ الموت هذه الروح النبيلة!»
وبينما هو يقول هذا، اندفع إلى الأمام فقبض على الموت، ذلك المادة غير المحسوسة والمشئوم الطالع. وعبثًا حاول الموت الإفلات من قبضة هذا البطل الحديدية، الذي استخدم جميع خداعات المصارعة. وأخيرًا وبعد لَأْيٍ كف الموت عن النضال، وأسلم ألكستيس إلى هرقل. فوضعها البطل بدوره بين ذراعَي زوجها. وعند ذلك تبدل حزن التساليين العميق إلى فرحٍ عظيم، واستحال عويل أطفال ألكستيس الصغار إلى بهجةٍ وجذل، وقدم الجميع الشكر للآلهة ولهرقل.
هكذا عادت الحياة إلى ألكستيس بمعجزة، فعاشت مع زوجها في سعادةٍ وعزٍّ سنواتٍ عديدة، وسُرَّ كل من البشر والآلهة. ولما بلغت سن الشيخوخة أخيرًا ماتت، أما أدميتوس فمات بعدها بوقتٍ غير طويل.
مقتل التنين بوثون
قتل أبولو وحشًا عملاقًا مفترسًا كان يُلقي الرعب في نفوس الأهلين، فوقره البشر وكرموه تكريمًا عظيمًا.
كان هناك تنِّين متوحش يعيش على جوانب جبل بارناسوس، اسمه بوثون لم يضايق البشر الذي يلتقي بهم في طريقه فحسب، بل وكان يعترض طريق الآلهة أيضًا. فذات مرة رفع هذا التنين رأسه في غضبٍ؛ ليهاجم لاتونا والدة أبولو وديانا. فنادت ابنها لنجدتها، فأسرع أبولو إلى ذلك الجبل، وبحث عن التنين حتى عثَر عليه، فدارت بينهما معركة مريرة، ولكن سرعان ما سقط هذا الثعبان قتيلًا يتلوى فوق الأرض، بعد أن اخترقت جسمه سهام أبولو.
أُولع الأغارقة بالمباريات، وأعجبوا بالبسالة الرياضيَّة أيَّما إعجاب. فبعد أن قتل أبولو التنين بوثون، أقاموا الألعاب البوثية، وصاروا يقيمونها في فتراتٍ منتظمة في مدينة دلفي؛ تكريمًا لذلك الإله، وتخليدًا لذكرى انتصاره على التنين العملاق. والألعاب الأكثر أهمية من هذه هي الألعاب الأوليمبية، التي كانوا يقيمونها تكريمًا لجوبيتر كل أربع سنوات؛ فقد اهتم الإغريق اهتمامًا بالغًا بهذه الألعاب، حتى إنهم صاروا يحسبون تقويمهم بناءً عليها، فيقولون إن ذلك الحادث وقع في الأوليمبياد (أي فترة أربع سنوات بين احتفالي ألعاب متعاقبين) السابع أو في الأوليمبياد التاسع والسبعين، كذلك احتفلوا بالألعاب النيمية تكريمًا لجوبيتر أيضًا.
وفي هذه الألعاب وغيرها من الألعاب الأخرى، كان الأغارقة، الذين يحارب بعضهم البعض الآخر، يشتركون معًا فيها بروح الود والصداقة، يتبارون في إخاءٍ، ويقدمون فروض الطاعة للآلهة مجتمعين معًا. فيخصصون يومًا لتقديم الذبائح والمواكب، وبعده تأتي ثلاثة أيام للمباريات، ومنها: سباق الجري الذي تختلف أشواطه ما بين مائتي ياردة إلى ثلاثة أميال، ومباريات الألعاب الخمس، وتشمل خمسة أنواع من المهارات، وقذف الجلة، وقذف الرمح، والعَدْو، والقفز والمصارعة، وسباق العربات المصحوب بكثيرٍ من الإثارة، والذي كثيرًا ما تغنى بوصفه الشعراء، والملاكمة وأشواط المصارعة. وإلى جانب هذه الألعاب يتبارى الشعراء والموسيقيون. وفي اليوم الأخير من العيد، تُمنح الجوائز للفائزين، وهي عبارة عن أكاليل جميلة تختلف تبعًا للإله صاحب العيد. وكانت أكاليل الألعاب الأوليمبية من أغصان الزيتون، وأكاليل الألعاب البوثية من أغصان الغار، وأكاليل الألعاب النيمية من المقدونس.
وعقب الألعاب تُقدم ذبائح جديدة، ويُقام الكثير من الولائم، ويُكرم الفائزون في شتى المباريات تكريمًا عظيمًا. ليس عندئذٍ فحسب، بل وبعد انصراف الحشود أيضًا. ويَنظم الشعراء القصائد عنهم، ويُصوِّرهم النحاتون بتماثيل من البرنز وأخرى من الرخام. كما تحتفل بهم مدنهم عند عودتهم إليها، فتستقبلهم الوفود بالترحيب والتهليل، وتنشد أناشيد الكوروس. هذا ويمنح اللاعب الذي يفوز في ثلاثة أعياد أوليمبية، شرف إقامة تمثاله في العراء أمام معبد جوبيتر.