قصص آلهة الطبيعة
كيريس وبروسربينا وبلوتر
لما قسم جوبيتر مملكة العالم، عند بداية حكمه، عهد إلى أخيه بلوتو (الذي يُسمى أحيانًا ديس، وأحيانًا أخرى هاديس) بإدارة العالم السُّفلي وظلال الموتى. وفي الأيام اللاحقة سُميت أرض الموتى نفسها باسم هاديس.
لم يكن بلوتو راضيًا تمامًا عن إعطائه مملكة مظلمة ليَحكمها، ولكن احتجاجه لقي آذانًا صماء.
فقال جوبيتر: «ارضَ بنصيبك! فرغم أنه لا يوجد سكان في مملكتك الآن، فبِمُضي الوقت ستمتلئ بالناس؛ فكل من يعيشون فوق سطح الأرض الآن سوف يموتون عند نهاية آجالهم، وعندما يذهبون تحت سلطانك، وزيادة على ذلك فلديك جميع الثروات المُخبَّأة في باطن الأرض، ستكون إله الثروة، وستكون بلوتو الغني.»
بعد هذا، رضِي بلوتو مكرهًا، وبمرور الزمن صار قانعًا بنصيبه، ولكنه تاق إلى زوجة تشاطره مصيره، فوعده جوبيتر بأن يعطيه بروسربينا ابنة كيريس، الفتاة الفاتنة. غير أنه خافَ أن يخبر والدتها بخطته، ولم تكفِ جميع إلحاحات بلوتو لأن تجعله يبر بوعده، ويعلن قراره. فصمم بلوتو على أن يتناول الأمر بطريقته هو نفسه.
فذات يوم كانت بروسربينا مع خادماتها العذارى يجمعن الأزهار من حقل مشمس في صقلية. وبينما هن يتحدثن عن الأيام السعيدة التي سيتمخض عنها المستقبل، اهتزَّت الأرض فجأة، وانشقت تحت أقدامهن مباشرة، وخرجت من الشق الحادث عربة يقودها رجل أسمر البشرة، بغيض الخلقة. قفز ذلك الرجل من العربة بسرعة، وبغير أن ينطق بكلمةٍ واحدة، أمسك بروسربينا بين ذراعيه، وحملها إلى العربة أمام صُوَيحباتها، وعبثًا صرخت وناضلت. فقد اختفت العربة مرة ثانية داخل الشق.
لما افتقدت كيريس ابنتها علمت بما حدث، فثارت ثائرتها يأسًا. ما من أحدٍ أمكنه أن يخبرها بشخصية ذلك الذي خطف ابنتها، فشرعت تبحث عنها في جميع بقاع الدنيا، ولكن دون جدوى. وإذ استسلمت للحزن الشديد، أهملت واجباتها. فذبلت المحاصيل وماتت، وهددت المجاعة الجنس البشري، وحاول جوبيتر أن يحثَّ ربة المحاصيل على أن تستأنف عنايتها بثمار الأرض، ولكنها أرسلت له بدورها تخبره بأن قدمها لن تطأ بيت جوبيتر مرة أخرى، ولن تنتج حقول الأرض محاصيلها وثمارها مرة ثانية، إلا إذا عادت إليها ابنتها.
عندئذٍ قال جوبيتر: «إذا كانت الفتاة قد ذاقت طعامًا خلال الأيام التي قضَتْها في هاديس فسيطلق سراحها ثانية، ولن تكون زوجة لبلوتو.»
وبناءً على ذلك، أرسل ميركوري ذلك الرسول المجنَّح الأقدام إلى قصر العالم السفلي المظلم، ليأمر بلوتو بإخلاء سبيل الفتاة وإعادتها. فأطاع بلوتو الأمر، غير أن بروسربينا قبل أن تغادر العالم السفلي، وضع بلوتو أمامها طعامًا وشرابًا، ولم تكن بروسربينا حتى تلك الساعة قد وضعت لقمة طعام واحدة في فمها، بل صامت تمامًا عن الطعام والشراب؛ إذ كانت تعلم أن من يأكل طعام هاديس يصبح عبدَه، ولكنها في غمرة فرحها خرقت الوعد الذي قطعته على نفسها، فكسرت رمانة نصفين، وأكلت منها ست حبات.
انصرفت بروسربينا بصحبة ميركوري، وعادت إلى أمها العزيزة، ولكن بسبب إفطارها من صيامها وتناوُلها ست حبات من الرومان، تحتم عليها أن ترجع إلى هاديس ستة شهور في كل عام. وعلى هذا تختفي بروسربينا ربة الربيع عندما ينتهي فصل الصيف. وإذ تحزن كيريس ثانية، تهمل واجباتها من جديد، ويسود الشتاء الأرض إلى أن تعودَ بروسربينا ثانية.
تجولات باخوص
اتصف باخوص إبان طفولته بالبراءة والمرح، وكانت تُعنى به حوريات نوسا ورعاة مواشيها. وعندما كبر أخذت جونو تطارده بدافع الغيرة، فلجأ إلى الترحال إلى الكثير من بلاد الدنيا، ينشر زراعة الكروم، ويعلِّم الناس فائدتها. وزيادةً على ذلك كان يعلمهم فنون السلم والعدل والمعاملات الشريفة. وقام بعدة مغامرات، وعاقب من تدخل في طقوسه، ومن أشهر أعماله تلك التي قام بها عندما استأجر سفينة؛ لتنقله من إيكاريا إلى ناكسوس. وكان بحارة تلك السفينة، في الحقيقة، قراصنة، فتآمروا فيما بينهم على أن يبيعوا هذا الشاب الجميل عبدًا. وعلى ذلك اتجهوا بسفينتهم شطر آسيا الصغرى. فلما رأى باخوص هذا أدرك قصدهم، فحوَّل صاري السفينة ومجاذيفها إلى ثعابين ضخمة، واتخذ هو صورة أسد غضنفر، وجعل اللبلاب ينمو ويلتف حول السفينة، وانبعث من الجو أصوات النايات الحلوة ترن عند كل جانب. فلما أبصر البحارة ما حدث من معجزات، ذهلوا وأصابهم الجنون، فقفزوا إلى البحر حيث تحولوا إلى دلافين.
قصة ميداس
كان بان يفخر كثيرًا بمعرفته فن الموسيقى، حتى إنه، في ذات يوم، تحدى أبولو في مباراة موسيقية. فوافق أبولو على أن يباريه، واختاروا ميداس ملك فروجيا أن يكون حكمًا بينهما. بدأ أبولو فعزف ألحانًا جميلة على القيثارة، فرد عليه بان بنغمات عذبة على الناي. ودون أن يفكر ميداس كثيرًا، حكم لصالح بان، فاستاء أبولو استياءً بالغًا، وبروح غير رياضية صمم على أن يعاقب ميداس على إبدائه مثل هذا الذوق الرديء، الرديء في رأي أبولو. فحوَّل أذنَي ميداس إلى أذني حمار. فخجل ميداس كثيرًا من ذلك التحول الغريب. ومع ذلك، فقد أخفى أذني الحمار تحت قبعته الفروجية. وتقول الأسطورة إن حلاق ميداس اكتشف السر عندما قص شعره، ولكن ميداس هدَّده بالعقاب الصارم الرادع إن هو أخبر أي إنسان بعيب الملك. ولمدة طويلة ظل الحلاق كاتمًا ذلك السر، ولكنه في يومٍ ما لم يُطِق الاحتفاظ بالسر أكثر من ذلك. فخرج إلى حقل وحفر فيه حفرة، ثم همس داخل الحفرة يقول: «لميداس أذنا حمار!»
نمت أعواد البوص، بعد ذلك في نفس تلك البقعة، فأفشَتْ السر إلى العالم كله بهمساتها.
وحدث مكروه آخر لميداس هذا نفسه. فذات مرة قدم خدمة إلى سيلينوس معلم باخوص، فأراد هذا الأخير أن يكافئه على صنيعه، فأخبره بأنه سيمنحه أمنية مهما يكن نوعها. وفي غباء ودون تفكير، طلب ميداس أمنيته بقوله: «دع كل شيءٍ ألمسه يتحول إلى ذهب!» وكان ميداس غنيًّا من قبل غِنًى عظيمًا، ولكنه أراد المزيد. وبوسعنا أن نتخيل نتيجة هذه الأمنية، فكل ما لمسه ميداس تحول إلى ذهب، حتى طعامه والماء وابنه المحبوب. وأخيرًا ثارت ثائرته وأدرك خطأه، فتوسل إلى باخوص أن يسحب منه هديته، فأمره باخوص بأن يغتسل في منابع نهر باكتولوس. فأطاع ميداس واستحمَّ في ذلك النهر، فذهبت عنه اللعنة، ما في هذا شك، ولكن رمال نهر باكتولوس ما زالت منذ ذلك الحين تحتوي على الكثير من التبر.
قصة إيو
تُروى قصص كثيرة عن الحوريات الجميلات الفاتنات، وكثيرًا ما نزل آلهة أوليمبوس إلى الأرض من أجل جاذبية ربة أرضية رائعة السحر والجمال. وقد وقع جوبيتر نفسه في غرام إيو، ابنة رب النهر إناخوس، الذي كان هو بدوره ابن أوقيانوس العتيد. وذات مرة، بينما كان جوبيتر يتحدث إلى تلك الحورية، لاحظ فجأةً أن عيني جونو تراقبانه، فنشر من فوره سحابة حول نفسه هو وإيو، ولكن جونو ارتابت في أمر هذه السحابة فأزاحتها، والغيرة تتأجَّج في فؤادها، فإذا بها ترى جوبيتر واقفًا وإلى جواره عجلة جميلة؛ إذ أسرع جوبيتر على الفور فحول إيو إلى تلك الصورة؛ ليتحاشى تقريع جونو.
امتدحت جونو جمال هذه العجلة، وطلبت من جوبيتر أن يعطيها إياها، فأجابها إلى ما طلبت وهو متردد. فسلمت جونو هذه العجلة إلى خادمها الأمين أرجوس ليحرسها. وكان أرجوس هذا حارسًا بالغ اليقظة؛ إذ له مائة عين تتناوب النوم فيما بينها. وعلى ذلك ما من شيءٍ يمكن أن يشغله عن الحراسة، أو يعمل على شرود انتباهه على الإطلاق. وكما هو جليٌّ قاست هذه العجلة المسكينة كثيرًا من الصعاب في صورتها الجديدة، ولم يكن بوسعها أن تعبر عن محنتها إلا بطريقة لا يفهمها أي فرد، ولكن جوبيتر تذكرها، فأرسل ميركوري ليبعد أرجوس عن طريقه.
تقدم ميركوري من الحارس ذي المائة عين في صورة راعٍ، فجلس إلى جانبه، وأخذ يحكي له القصص، ويعزف على مزاميره. فسُرَّ أرجوس لاهتمام هذا الراعي به، وفي أغلب الأحوال كان على وَشكِ أن ينام، غير أن بعض عيونه يظل دائمًا يقظًا، وأخيرًا شرع ميركوري يقص على مسامع أرجوس قصة اختراع مزامير بان، التي كان يعزف عليها.
قال ميركوري في لهجة رقيقة: «منذ زمن بعيد غابر، أحب الإله بان الحورية سورنكس، ولكنها كانت تابعة وفية للربة ديانا، ولا يمكن أن تنمو بينه وبينها أية علاقة غرامية.» فقالت له: «لقد نذرت حياتي للربة ديانا، فأبقى عذراء ولن أتزوج إطلاقًا.» فلم يُلق بان أي بال إلى حديثها، وحاول أن يطوقها بذراعَيْه، ويضمها إلى صدره اللهيف. فأسرعت تجري صوب نهر قريب، ولكنه جرى وراءها واقترب منها أكثر فأكثر، وكاد يمسك بها، فاستغاثت برب ذلك النهر، وطلبت مساعدته؛ كيلا يغتصبها بان، فهبَّ إلى نجدتها. وبينما كان بان يضمها بين ذراعيه، وجد نفسه لا يحتضن الحورية، بل حزمة من البوص الطويل، فتنهد بان متحسرًا، وفي أثناء تنهده تحركت أنفاسه خلال أعواد البوص في نغمة موسيقية. فعندما لمس الهواء جذوع البوص الجوفاء أحدث نغمة رقيقة عذبة. فلما سَرَّت تلك النغمات بان كسر أعواد البوص، وصنع منها لنفسه مزمارًا، ثم جلس بان على جانب النهر، واستمر مدة طويلة يعزف أناشيد شجية حلوة، استمع إليها الرعاة مبتهجين. وهكذا كان مولد مزامير بان المعروفة باسم «السورنكس».
عندما ختم ميركوري قصته رأى جميع عيون أرجوس نائمة، فقفز على الفور في خِفَّةٍ وقتله، وأطلق سراح إيو، ولكي تكافئ جونو خادمها الأمين أخذت عيونه ونثرتها على ذيل الطاووس، وما زال من الممكن رؤيتها.
ورغم هذا استمرت جونو تطارد إيو. فأرسلت ذبابة من ذباب الخيل؛ لتعذب العجلة المسكينة، ولما برح بهذه العجلة العذاب هربت إلى البحر وسبحت فيه. وما برح ذلك البحر يسمى باسمها «البحر الأيوني». وبعد عدة تجوالات وصلت إيو إلى مصر. ولما وعد جوبيتر زوجته جونو بألا يهتم بعد ذلك بإيو، وافقت جونو على تخليصها من صورتها الحيوانية، وهكذا عادت إيو حورية كما كانت.
أبولو ودافني
لا شك في أن اسم الإله الجميل الصورة والماجد أبولو يقترن بأسماء كثير من الحوريات. غير أنه ليس دائمًا أن تقابل أولئك الحوريات عواطفه الغرامية بالقبول.
فهذه دافني ابنة رب النهر بينيوس الذي يجري في تساليا، أحبها أبولو بخدعةٍ من كيوبيد. فذات يوم عندما كان أبولو عائدًا من الصيد شاهد كيوبيد بن فينوس يلعبُ بقوسه وسهامه. فعير ذلك الإله الصغير بقوله: «اترك أمثال هذه الأسلحة لمن يمكنهم فهمها واستخدامها.»
فأجابه كيوبيد قائلًا: «ستعرف تمامًا كيف أنني أجيد استخدام أسلحتي، وأنني أفهمها حق الفهم.»
بعد ذلك بوقتٍ قصير، كان أبولو يسير مع الحورية الجميلة دافني، فأبصرهما كيوبيد، وفي الحال، أمسك كيوبيد قوسه، وأطلق منها سهمين: سهمًا رصاصيًّا نحو دافني؛ ليثير بغضها لأبولو، وسهمًا ذهبيًّا نحو أبولو ليولد الحب في قلبه.
منذ تلك اللحظة صارت حياة أبولو عذابًا لا ينتهي، وجحيمًا لا يُطاق. فكلما استخدم فنون الاستمالة في مغازلة دافني، وتوسَّل إليها بشتى طرق الإغراء، زادت هي جفاء، وغدت عاطفتها نحوه أكثر برودًا، وأخبرته بأنها تمقت كل فكرة عن الحب، وأن متعتها لا تكمن إلا في الصيد وممارسة رياضات الغابات. وإذ ثارت ثائرة أبولو صمم أخيرًا على أن يخطفها، ويجعلها زوجته رغمًا منها، ورغم برود عاطفتها. فقبض عليها، ولكنها أفلتت من قبضته، وهربت داخل الأحراش والغابة. وكلما أسرعت دافني في فرارها، بدت أكثر جمالًا في عيني ذلك الإله، فزاد من سرعته وهو يطاردها، وبذا زادت صعوبة فرارها منه أكثر فأكثر. وأخيرًا خارت قواها فارتمت على الأرض، وبينما هي تسقط تلَتْ صلاة تتضرع بها إلى أبيها.
صاحت دافني تقول: «ساعدني يا أبت! أنقذني من أبولو!»
سمع بينيوس تضرع ابنته دافني، ونظرًا لضيق الوقت لجأ إلى طريقةٍ عاجلةٍ؛ لينقذ بها ابنته. فما إن انتهت دافني من كلامها، حتى بدأت تتحول. وفي تلك اللحظة عينها، كان أبولو قد أدركها وطوَّقها بذراعيه، فإذا به يجد أنه يطوِّق شجرة غار جميلة، وليس الحورية دافني، وحتى وهي على هذه الصورة، ما فتئ يحبُّها. وهكذا صارت شجرة الغار هي الشجرة المحبَّبة إلى أبولو أكثر من غيرها. ومنذ ذلك الوقت يُتوَّج كل من يكسب عطف أبولو بأكاليل من أغصان الغار وأوراقه، ولا سيما الشعراء، الذين اعتبروا دائمًا أن إكليل الغار دليل شرف خاص.
أبولو وكلوتي
كان موضوع كلوتي عكس موضوع دافني تمامًا. فكان أبولو هو صاحب العاطفة الباردة نحو حب هذه الحورية التي كانت إحدى بنات أوقيانوس.
أبدت كلوتي غرامها بذلك الإله في خفَرٍ وخجل، ولكنه كان يصدها دائمًا، ويزيد عدم اهتمامه بها؛ ولذلك بدأت تذوي. كان كل تفكيرها في إله الشمس، وكل نظرها يتجه نحوه، أهملت نفسها، لا تتناول طعامًا ولا شرابًا، ولا تهتم بملبسها ولا بمنظرها، وعلى ذلك ماتت بعد فترةٍ وجيزة، وحتى وهي ميتة ظلت على وفائها لمعبودها. فانغرست أعضاؤها في الأرض، وتحول جسمها إلى جذعٍ رفيع، وغدا رأسها زهرة تختلف عن سائر الأزهار. يتحرك رأس كلوتي فوق عوده متجهًا دائمًا نحو الشمس، ينظر إلى الشرق صباحًا، وإلى جهة الغرب مساء؛ إذ صارت كلوتي زهرة عباد الشمس التي تتجه نحو إلهها عندما يغرب.
وبنفس هذه النظرة عندما يشرق.
إيخو وناركيسوس
إيخو حورية جبل فاتنة من أشهر الحوريات، ومن أقرب المقرَّبات إلى ديانا، كما أولعت بها جونو أيضًا، ولكن ذات يوم وجدت جونو أن إيخو أخرتها عمدًا بحديثها الحلو، بينما كان جوبيتر يلهو مع حوريات أخريات. فغضبت جونو وعاقبت إيخو بأن سلبتها كل قوة لأن تبدأ الكلام، لا تستطيع إيخو إلا أن تجيب عندما يخاطبها شخص ما.
ضايق هذا العقاب إيخو أي مضايقة، حتى تَصادَفَ مرورُ شاب جميل اسمه ناركيسوس في الغابة التي بها إيخو، فأحبته إيخو بمجرد أن أبصرته، ولكنه عندما تحدث إليها، كان كل ما أمكنها قوله هي أن تكرر ألفاظه، فظنها تسخر منه، وعمل كل ما في وسعه؛ لكي يتجنبها. غير أن إيخو كانت تتبعه أينما سار، وحيثما توجه، لم يمكنها الرد على تأنيب ناركيسوس إلا بتكرار الألفاظ التي ينطق بها. وإذ يئست إيخو أخذت تذوي حتى صارت مجرد صوت فحسب، صوت يؤم الكهوف والصخور والأماكن المنعزلة والمهجورة، حيث تكرر كل ما تسمعه.
ومع ذلك، فلم ينفر ناركيسوس من إيخو وحدها، بل نفر من سائر الحوريات الأخريات؛ إذ ركب الغرور رأسه، فكان يعتقد أنه ما من فتاةٍ تصلح له مهما بلغتْ من الحسن والملاحة. وأخيرًا تمنت إحدى العذارى أن يعرف ناركيسوس معنى أن يحب ولا يقابل بحبٍّ متبادل. فمنحت هذه الفتاة أمنيتها بطريقةٍ بالغة الغرابة، فذات يوم انحنى ناركيسوس على بركة ماءٍ عذب في الجبل؛ لينهل من مائها البارد الرائق، فلمح صورة وجهه في مائها بين الأمواج، فظنها حورية ماء خجلَى تتدارى من نظراته الغرامية. فأخذ يتحدث إليها ويبثها لواعج غرامه، وأخيرًا مد يديه ليعانقها، ولكن عبثًا حاول، ومثلما حدث لإيخو ذوَى هو أيضًا ومات. فخرجت من جسمه زهرة ما زالت تحمل اسمه، هي زهرة النرجس.
أورورا وتيثونوس
تقترن عدة أساطير باسم أورورا (ربة الفجر)، أشهرها قصة تيثونوس ابن ملك طروادة، فلما أبصرته أورورا لأول مرة، أحبته من فورها، فخطفته وجعلَتْه زوجها. وقد تعمق حبه في قلبها، وتغلغل، لدرجة أنها رغبت في أن تستبقيه معها إلى الأبد. فذهبت إلى جوبيتر، وتوسلت إليه أن يحقق لها أمنية واحدة.
قالت: «امنح تيثونوس حياة خالدة.»
ابتسم جوبيتر وهو يخبرها بأنه استجاب لطلبها؛ لأنها نسيت أن تضمِّن كلامها أن يمنح في الوقت نفسه، الشباب الخالد. وعلى ذلك أخذ تيثونوس يشيخ شيئًا فشيئًا، بدأ الشيب في شعره، وأنشأت التجاعيد تتعمَّق في وجهه، ويطرد تعمقها أكثر فأكثر، وصار شيخًا واهنًا تمامًا. وأخيرًا وضعته أورورا في حجرة لا يُسمع فيها غير صوته الخافت الضعيف في توسلات لا تنتهي، وفي النهاية حوَّلَتْه إلى حشرة، هي جندب الحقل المعروف باسم «النطاط».
كيكس وهالكيوني
تزوج كيكس ملك تراخيس في تساليا (وهو من ذرية أورورا) بهالكيوني ابنة الملك أيولوس حاكم الرياح. وقد ظل الزوجان عدة سنوات يحكمان في سعادة إلى أن مات شقيق كيكس، فصحِبَت موتَه عدةُ أحداث غريبة، فهبَّت عواصف هوجاء استمرت أمدًا طويلًا، وساد الشمسَ والقمر ظلامٌ حالك، واجتاحت البلادَ وحوشٌ ضارية مفزعة. فاعتقد كيكس أنه من الأفضل أن يستشير الآلهة. وعلى ذلك أعلن عزمَه على الإبحار إلى كلاروس في أيونيا؛ لاستشارة وحي أبولو بها، وحاولت زوجته أن تُثنيه عن عزمه؛ لأن ذلك الوقت كان موسم الزوابع والأعاصير، ولكنه لم يستمع لنصحها وصمم على الإبحار. فخرج في سفينة سارت به في عرض البحر نحو هدفه، غير أنه لما أوشك على الوصول إلى آخر رحلته هبَّت عاصفة عاتية حطَّمت سفينته فغرق، ولكنه، وهو يغوص تحت الماء نحو الأعماق، تلا صلاة نبتيون، طالبًا أن تحمل الأمواج جُثَّتَه حتى توصلها إلى وطنه، كي تدفنها هالكيوني.
مرت الشهور وتعاقبت وهالكيوني تنتظر عودةَ زوجها في قلقٍ بالغ، فقدمت الصلوات والبخور والذبائح للآلهة، وعلى الأخص إلى جونو، وتوسَّلت إليها أن يعود زوجها سالمًا. وأخيرًا تأثرت جونو بتضرُّعاتها، ولكنها كيف يتسنى لها أن تفعل شيئًا لرجلٍ مات منذ مدةٍ طويلة؟ فاعتزمت أن تُعلِم هالكيوني بأنه ما عاد هناك أملٌ في عودته.
استدعت جونو رسولتها إيريس، وأمرَتْها بأن تحمل رسالتها إلى سومنوس إله النوم، فأسرعت إيريس فوق قوسها المتعددةِ الألوان إلى أرض الظلام، حيث يقيم إله النوم النعسان، فوجدته يغط في سباتٍ عميقٍ داخل مغارة ليس بها أيُّ شعاع من ضوء، وتتسرب إليها جميع الأصوات التي في العالم، إما بحالتها كما هي أو مكتومة قليلًا. ويحوم حول تلك المغارة الداجية كثيرٌ من الأحلام، بعضها يجثم فوق رأس سومنوس نفسه، وهو راقد على سرير من الريش غارقًا في نومٍ دونه نوم الموت. فلقيَتْ إيريس مشقة كبيرة في إيقاظه، وأخيرًا وبعد لَأْي أمكنها إبلاغه برسالة جونو في وضوح. فلما علم ذلك الإله الثقيلُ الأجفانِ بما تطلبه جونو، نادى ابنه مورفيوس، وأمره بأن يرسل حلمًا إلى هالكيوني. وما كادت هذه الألفاظ تخرج من فمِ سومنوس حتى غلبه الكَرَى ثانية، فراح في سُباتٍ طويل، عندئذٍ أسرعت إيريس بالخروج من المغارة، وهي تذبُّ الأحلام بعيدًا عن وجهها، بينما تجد صعوبة بالغة في الاحتفاظ بيقظتِها.
في تلك الأثناء طار مورفيوس نفسه إلى قصر كيكس، متخذًا صورة سيَّدِ ذلك البيت، وظهر للملكة هالكيوني، إلا أن صورته في الحلم كانت متغيرة تمامًا، تعلو وجهَه صفرةُ الموت، ويتساقط الماء من ثيابه المبتلَّة، فأخبر زوجته بأن عاصفة هبَّت على بحر إيجه، فأغرقت سفينته، وبأنه مات.
وعندما اختفى الحلم، صحَتْ هالكيوني من نومها مذعورة، والدموع تنهمر من مآقيها منحدرةً على خدَّيْها. وما إن أقبل الصباح الباكر حتى انطلقت من فورها إلى البحر، وبينما هي تسير على الشاطئ أبصرت جسمًا غير واضح طافيًا على سطح الماء ويتجه نحوها، فلما اقترب ولمس الشاطئ عَرَفت أنه جثةُ زوجها. فلم تُطِقْ رؤية تلك الجثة التعيسة، وألقت بنفسها في الماء، ولكن جوبيتر أشفق عليها وهي تقفز وسط الأمواج، فحوَّلها إلى طائر يغرد حزينًا أثناء طيرانه فوق الماء، كما حول كيكس إلى طائر، فانضم ثانيةً إلى زوجته، وانحدرت منهما طيور القاوند.
تأثر الملك أيولوس بوفاتهما، فمنح البحارة ميزة خاصة، فمنع هبوبَ الرياح قبل أن يبدأ الانقلاب الشتوي بسبعة أيام، وبعد نهايته بسبعةِ أيام. وبذا جعله موسمَ الهدوء والسلام، وعندئذٍ تجلس هالكيوني في عُشِّها الطافي على سطح الماء في هدوء. ويطلق البحارة على هذه المدة «أيام الهدوء»؛ إذ يُحرِّم ملك الرياح على جميع العواصف أن تهب، كي يولد أحفاده في هدوء.