في العالم السفلي
مناطق العالم السفلي
تمتد مملكة العالم السفلي التي يحكمها بلوتو في جميع الاتجاهات، وتضم عددًا من المناطق المختلفة، فيُسمى المدخل أفيرنوس، ويصُب فيه خمسة أنهار، أولها نهر ستوكس، الذي تأتي إليه أشباح الموتى، ولونه ومنظره مُفزعان. ويُقسِم به الآلهة، واليمين التي تُحلَف بستوكس لا يمكن الحنث فيها، فكان الموتى ينتظرون على شاطئِه حتى يأتيهم المعداوي خارون، وهو رجل عجوز أشعثُ اللحية، يرتدي ثوبًا وضيعًا، فينقلهم إلى الشاطئ الآخر. وكان أجره أوبولا واحدًا، وهو قطعةُ نقود إغريقية كانت توضع في فم كل جُثة قبل الدفن. وما إن تصل الأشباح إلى الشاطئ الآخر، حتى تشرع في التَّجوال المستمر إلى أن تصل إلى نهر ليثي، وهو نهر النسيان. عندئذٍ تجثو تلك الأشباح على ركابها، وتشرَبُ من ماء ذلك النهر بحفنات أيديها، وعلى الفور تختفي جميع ذكرياتِ حياتها الماضية من عقولها. تجول جماعات الأشباح جيئةً وذهابًا، كأنها السحب المسرعة في مناطق هاديس الداجية. أما الأنهار الأخرى فهي أخيرون، نهر الويلات، وروافده، ونهر فليجيثون، الذي تجري بين ضفتَيْه النارُ بدلًا من المياه، ونهر كوكوتوس أو نهر العويل. وتتكون من هذه الأنهار حدود العالم السفلي الواقع «تحت الأماكن السرية للأرض».
ويقف على باب هاديس الحارس المخيف كربيروس، وهو كلبٌ متوحش ذو ثلاثة رءُوس، وله ذيل تنين. لا يحاول هذا الكلبُ إطلاقًا أن يتعرَّض للأشباح الداخلة إلى هاديس، ولكنه يهاجم بوحشيةٍ كلَّ من يحاول الخروج. وعندما زار أينياس هاديس، كما يخبرنا الشاعر اللاتيني فرجيل، صنعَ حبةً ملغومة تحتوي على عقارٍ منوِّم، فرماها إلى كربيروس الذي ما كاد يتناولها حتى سقطَ على الفور فاقدَ الوعي. وكان هذا البطل وقليلون آخرون ممن حَباهم الآلهة محاباةً خاصَّة، هم وحدهم الذين استطاعوا الإفلات من كربيروس.
أما قصر بلوتو فمظلمٌ قاتم، حيث يجلس بلوتو مرتديًا قُبَّعة الظلام، ويُمسك في إحدى يديه مفتاح العالم السفلي، وفي اليد الأخرى عصًا سحرية. وحول ذلك القصر أحراشٌ من الأشجار القاتمة، وتمتد بقُربه مراعي السرواس، وهو زنبق الموتى.
ينقسم هاديس، المسمى أحيانًا إريبوس، إلى عدد من المناطق، يسمى الجزء الأكبر منها أخيرون، باسم النهر المعروف، وتسير في هذه المناطق غالبية الموتى بوجوهٍ مكتئبة مهمومة، وعلى مسافة بعيدة إلى الغرب تقع مملكة إلوسيوم، التي تشبه فكرتَنا عن الجنة. ويأتي إلى هذه بعض المحظوظين والمحبوبين من الآلهة، ومنهم مشاهيرُ الشعراء وعظماء الأبطال، ويحكمهم كرونوس المنفيُّ بعد أن هزمه جوبيتر. هنا يعيشون ثانية عصرًا ذهبيًّا، وهناك منطقة تختلف عن هذه المنطقة تمامَ الاختلاف، وهي منطقة تارتاروس المقيتة المخصصة لمن تريد الآلهة عقابَهم. فيعيش هناك أمثال هؤلاء الأشخاص في بؤسٍ وعذاب.
أهم شخصيات هاديس
علاوةً على بلوتو وبروسربينا وخارون وكربيروس، هناك سكان آخرون في العالم السفلي. وعندما يراد تقديم أرواح الموتى إلى المحاكمة يقوم ملك هاديس وملكتُه بدور القضاة. ومن شخصيات هاديس الموحية بالفزع: الغوريات. وهن ثلاث مخلوقات يقمن بخدمة بروسربينا، وكنَّ عذارى مجنَّحات جُدلت شعورهن بالأفاعي، ويتساقط الدم من عيونهن، ويقوم هؤلاء بمطاردة من أفلتوا من العقاب عن الجرائم التي ارتكبوها، ويُنزلن بهم كل صنوف التعذيب، وأطلق الإغريق عليهن اسم «يومينيديس».
وأما هيكاتي فربة غريبة، هي تيتانة استعادت سلطتها بعد أن قبض جوبيتر على زمام حكم العالم، وكرَّمها جميع الآلهة. وقد ساعدت كيريس في البحث عن بروسربينا. وبقيت مع ملكه هاديس، وهي التي ترسل جميع الشياطين والأشباح المخيفة من العالم السفلي إلى أرض الأحياء. كانت ربة السحر والعرافة، ويُعلَن عن قدومها بنباح الكلاب أو هريرها، وهي تشخيص مرعبٌ لظلام الليل، كما كانت ديانا ربة نور القمر المتألق الجميل.
وأما سومنوس (هوبنوس الإغريقي) الذي وصفنا قصرَه في الباب السابق فهو إله النوم، ويمسك في يده ثمرةَ خشخاش النسيان، أو بوقًا تتساقط منه قطرات النوم، وأخوه التوءَم هومورس (ثاناتوس الإغريقي) أو الموت. وكثيرًا ما يُصوَّر هذا هيئة شاب هادئ مفكر ذي أجنحة، يقف إلى جانب قِدْر جنائزية مزينة بإكليل جنائزي، ويمسك في يده مشعلًا مطفأً. وأما مورفيوس فهو حارس الأحلام التي يحتفظ بها محبوسةً في قصره، كان يرسل الأحلام الخاملة والخداعة من الباب العاجي لقصره، وأما الأحلام التنبُّؤية وذوات المعنى فيرسلها من الباب القرني.
سكان تارتاروس
يقيم التيتان الذين شنوا الحرب ضد جوبيتر، وهزموا في خلجان تارتاروس البعيدة الغور، وفي أعمق مناطقِه، كما يعيش هناك في عذابٍ دائم أولئك الذين عاقبهم الآلهة، ومن بينهم تانتالوس، وإكسيون، وسيسيفوس، والداناييد.
كان تانتالوس إبان حياته ملكًا حبَتْه الآلهة بكثيرٍ من النعم، ولكنه رغم هذا اقترف كثيرًا من الجرائم، لدرجة أنه قتل ابنه هو نفسه. فلما مات حُكم عليه بعقابٍ لا ينتهي، وجد نفسه واقفًا وسط الماء الرائق الذي يكاد يصِلُ إلى ذقنه، وتتدلى فوق رأسه مباشرة أغصان جميع صنوف أشجار الفاكهة، ذوات الثمار الناضحة المغرية. ورغم هذا حُكم عليه بالجوع والعطش الدائمَيْن، يحاول دائمًا أن يرتشف الماء، الذي ما إن يقرب فمه منه، حتى يَنحسر، فلا يجد قطرة يروي بها شفتيه اللاهثتين، وإذا أراد أن يسدَّ جوعه ومد يده إلى تلك القطوف الدانية، ابتعدت الأغصان عن متناول يده، وهكذا يظل ظمآنَ جائعًا.
قتل إكسيون حماه؛ كيلا يقدم هدايا الزواج التي جرَت العادة على تقديمها في ذلك العصر. وعلاوةً على ذلك أبدى احتقارًا للآلهة، فرُبِط بالسلاسل في تارتاروس إلى عجلة تتدحرج إلى الأبد في طريقٍ غير منتهية.
شجع سيسيفوس ملك كورنثة التجارة والملاحة، ولكنه اتصف بالجشع والغش. فعُوقب عند موته بأن يُدحرِج كتلة ضخمة من الرخام إلى أعلى تل، فإذا ما بلغ بها القمة بعد تعبٍ مرير، تدحرجت ثانيةً إلى أسفل عند سفح التل، وعندئذٍ يعود ليدحرجها إلى أعلى من جديد، وهكذا دواليك.
أما الداناييد؛ فهن بنات داناوس ملك أرجوس اللواتي قَتلت كلٌّ منهن زوجها في ليلة العرس بتحريضٍ من داناوس. فلما ماتت أولئك النسوة، عُوقبن في هاديس بأن يحملن الماء في غربال، وبذا يكون عملُهن عديمَ الجدوى ومستمرًّا إلى الأبد.
جزر المباركين
كانت إلوسيوم نوعًا من الفردوس جاء إليها نوع من البشر المحظوظين، فهي أرضُ ضوء الشمس الدائم والمريح «لا يسقط فيها بردٌ ولا مطر أو ثلج، ولا تهب الرياح عليها بصوتٍ مرتفع». يرقد الأبطال والشعراء المنشدون في مراعيها الدائمة الإزهار والأريج العطِر، في هناءٍ تام، أو يتجوَّلون في سعادةٍ دائمة.
عندما جاء أينياس إلى جُزر السعادة، أثناء رحلته إلى هاديس، كما وصفها فرجيل، وجد سكانها يتنفسون هواء أنقى من هواء العالم العلوي، ورأى كلَّ شيءٍ يغمره ضوء أرجواني، وأن لأرضهم شمسًا ونجومًا خاصة بها. كما رأى بعض السكان يشتركون في الألعاب الرياضية فوق المروج المعشوشبة، بينما ينهمك آخرون في الرقص والعناء. ويمسك الشعراء المنشدون قيثاراتهم يعزفون عليها ألحانًا حُلوة. وفي مكانٍ آخر يستريح المحاربون في سَلام، وقد صدِئَت أسلحتهم، ووقفت عرباتهم بغير عمل، ويُقيم في هذه الجزر أيضًا جميع الشعراء والفنانين الذين باركوا ذاكرتهم بخدمة الجنس البشري.
أورفيوس ويوريديكي
من الشعراء المنشدين الذين تُمكن رؤيتهم في إلوسيوم، شاعرٌ ابن أبولو نفسه، كان له مع الموت قصة فذة؛ إذ كان من بين القليلين الذين زاروا هاديس وهم أحياء.
هذا الشاعر هو أورفيوس، الذي ولدته الموزية كاليوبي لإله الشمس. أهداه أبولو القيثارة ولقَّنه كيفيةَ استعمالها، وسرعان ما برَع في العزف عليها، حتى طار صيتُه، واشتهر بأنه واحد من عظماء شعراء الإغريق المنشدين. سُحِر بموسيقاه ليس البشر وحدَهم، بل ووحوش الحقول المفترسة أيضًا، تلك التي لانت أثداؤها بالنغمات التي وقَّعها على قيثارته. ومما يقال عن عزفه إن الأشجار والصخور تأثَّرت بها، وحاولت أن تتحرك من مواضعها، وتسير خلف صوتِ أنغامه الشجية.
كانت يوريديكي فتاة حسناء فاتنة تعيش في تراقيا، أحبَّها أورفيوس، فوافق الجميع على زواجهما، فعاشا في سعادةٍ عظمى مدة سنة أو سنتين، وبينما كانا يسيران في أحد المراعي لدَغَ ثعبانٌ يوريديكي. وقبل إمكان إسعافها ماتت بين يدي زوجها، فبخَعه الحزن وحطَّم قلبه، فصار يعبر عن حزنه بالبكاء الحار، والعويل المر، والرثاء المستمر. وأخيرًا قرر أن يتبع زوجته إلى مناطق بلوتو المفزعة. فوجد مغارة في أحد أركان بركان، فدخل إليها، ومر خلال عدة ممرات مظلمة وحُفَر وَعْرة، إلى أن وصل أخيرًا إلى مملكة هاديس. وكان قد أخذ معه إلى هناك قيثارته الإلهية، فشرع يعزف عليها. فلما رنَّتْ موسيقاه العجيبة خلال جنبات تارتاروس، توقف سيسيفوس وإكسيون، ولم يشعرا بعذابهما المستمر، ولمدة لحظة خفَّتْ حدة ظمأ تانتالوس وجوعه.
مر أورفيوس خلال سُحب الأشباح التي تبعته في هدوءٍ ساحر، ولما وصل إلى عرش بلوتو وبروسربينا، انحنى أمامهما، وبمهارةٍ سحريةٍ قدم طلبَه بمصاحبة موسيقى قيثارته. وانحدرت الدموع على خدي بلوتو، وتذكرت بروسربينا، وهي تبكي حقول صقلية المليئة بالأزهار.
توسل أورفيوس إلى بلوتو، قائلًا: «امنحني أن تعود زوجتي معي ثانية.» وتساقطت دموع الحزن ساخنةً على وجنتَيْه، وهو يتضرع بقوله هذا.
لم يستطع بلوتو نفسه أن يقاوم مثل هذا التوسل، فاستجاب لتضرع أورفيوس. غير أنه صَحِب هذه الاستجابة السخية شرطٌ أُعلن عندما مثَلَتْ يوريديكي أمام بلوتو، وأعيدت إلى ذراعي أورفيوس.
قال بلوتو بلهجة الأمر: «لا تنظر خلفك أثناء مغادرتك هاديس، فإن خالفت هذا الأمر خطفت يوريديكي منك ثانية، وصارت من رعيتي مرةً أخرى.»
وعَدَ الزوجان بلوتو بالطاعة، وخرجا في رحلتهما السعيدة إلى أرض الأحياء من جديد. فقاد أورفيوس زوجته بمحبة خلال الطريق الخطر، قادها خلال الكهوف المظلمة والطرق غير المنتهية، وبجانب هُوَّات سحيقة وأمواهٍ خطرة. وأوشكت هذه الرحلة المليئة بالأخطار أن تنتهي عندما وصلا إلى ممرٍّ طويلٍ لا يمكنهما السير خلاله إلا واحدًا واحدًا. فسار أورفيوس في المقدمة يتعثر فوق الصخور التي في طريقه، وبدَتْ نهاية الطريق أمامه، وكان بوسعهما أن يُبْصِرا ضوء الشمس المبارك.
في تلك اللحظة المشئومة تغلب القلق على أورفيوس، وتملكه الخوف من أن تكون يوريديكي قد سقطت أثناء تعثُّرها في الطريق، أو أن أحد مخلوقات العالم السفلي المفزعة قد أمسك بها واحتجزها، فألقى نظرة خاطفة وراءه، فألفى يوريديكي خلفه تسير في أمان، ولكنها بمجرد هذه النظرة، اختفتْ وسُحبت ثانيةً إلى مملكة بلوتو، وهي تصيح صيحاتٍ مفزعة. كما حاول أورفيوس أن يرجع، ولكنه وجد الطريق خلفه مسدودًا بصخرةٍ صلبةٍ ضخمة. لم يعُدْ يجد طريقًا بعد ذلك إلى العالم السفلي.
صارت الحياة عديمة القيمة لأورفيوس بعد ذلك، فطفِقَ يجول وهو في أشد حالات الاكتئاب من بلدٍ إلى آخر، ومن دولةٍ إلى أخرى ينتظر أن يموت، وذات مرةٍ حاولتْ إحدى فرق المايناد التابعة لباخوص أن تغريه على الاشتراك معهن في العربدة المخمورة، فرفض رفضًا باتًّا، فغضبن وقذَفْن الحجارة على رأسه، ولكن موسيقى قيثارته سحرت الحجارة، فسقطت إلى جانبه مبتعدة عن رأسه، فلم يصبه منها أيُّ أذى. فلما رأت المايناد ذلك، أخذن يصرخن بأعلى أصواتهن المرعبة التي طغَتْ على صوت موسيقاه، فأصابته الحجارة من كل جانب، فسقط جريحًا ومات متأثرًا بجراحه البالغة، ومرة أخرى ذهب إلى هاديس، حيث انضم إلى يوريديكي. فوضع جوبيتر قيثارته بين النجوم.