مصر والسودان والمفاوضات
في السودان منابع النيل والجزء الأكبر من مجراه، وقد عاشت مصر بدون السودان أيام أنْ كان المتحكِّمون فيه قومًا من الهمج، ليس عندهم معارف أوروبة ولا أغراضها الاستعماريَّة، ولا في إمكانهم حرمان مصر، أو نقص حظها من هذا النهر الذي كان يجري على طبيعته، فيفيض على هذا الوادي الخصب والخير. فمصر — كما قال هيرودوت — هبة النيل، ولولاه لكانت هي وصحراء لوبية في القحولة والجدب سواء.
وقد دام الاتصال بينها وبين السودان منذ أقدم عصور التاريخ إلى زمن محمد علي. فلمَّا أحسَّ — رحمه الله — مطامع الأوروبيين وتطلُّعَهم إلى استعمار القارة السوداء، خاف أنْ يكون من وراء ذلك ضرر يلحق بلاده، فصمَّم على فتح السودان؛ حتى لا تتحكَّم في منابع النيل يد أجنبية يكون في قبضتها موت مصر وحياتها، بعدما علم أنَّ مصر من السودان والسودان من مصر جزء لا يتجزَّأ.
قضى ساكن الجِنان محمد علي باشا محيي الديار المصرية لُبانَتَيْن من فتح السودان، بل تخلص من ورطتين كبيرتين؛ فقد علمت من شيخ ذي منصب معاصر لمحمد علي باشا، أنَّ دولة أوروبية كانت تسعى لمعارضته باحتلال منابع النيل، فاهتم لهذا الخبر أكبر اهتمام، واستشار كثيرًا من المهندسين الأوروبيين الذين جاء بهم من بلادهم إلى هذا القطر، فأقروا بالإجماع على أنَّ وقوع منابع النيل تحت براثن هذه الدولة ممَّا لا تُحمَد مغبَّته، حيث تصير حياة مصر في يدها، فصمَّم على إنفاذ حملة إلى السودان إلخ … ا.ﻫ.
فإن تركنا السودان أو تهاوَنَّا في أمره، وقعنا في المحظور الذي فرَّ منه محمد علي، وألقينا بأيدينا إلى التهلكة.
والضرر من التهاون في السودان محقَّق لا ريب فيه؛ إذ ليس لاستقلالنا داخلًا وخارجًا أدنى قيمة في المستقبل إذا كان زمام النيل في قبضة يد غير مصرية، فالسودان هو الرأس الذي إذا بُتِرَ تكون مصر بعده جثة هامدة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه ألزم لنا من نفس مصر، حتى إننا لنرضى أنْ يحكمنا السودانيون ولا ينفصلوا عنَّا.
وحدود السودان جنوبًا وصلت في زمن الخديوِ إسماعيل إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا؛ ففي سنة ١٨٧٠م أرسل حملة عسكريَّة لفتح مديرية خط الاستواء تحت قيادة السير صمويل بيكر، فقامت بمهمتها ووضعت نقَطًا عسكريَّة على مجرى النيل، كانت آخر نقطة منها جهة فويره بين بحيرتي ألبيرت نيانزا وفيكتوريا نيانزا.
وفي سنة ١٨٧٤م أرسل الجنرال غوردون مديرًا لمديرية خط الاستواء خلفًا للسير صمويل بيكر، فأوصل النقَط العسكريَّة إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا، حتى كانت آخر نقطة عسكريَّة مصريَّة جنوبًا شلالات ريبون عند منبع النيل من تلك البحيرة، فخفق العلم المصري هناك، وكان أول علمٍ رسمي لحكومة منتظمة خفق على هذه الأنحاء القَصِيَّة منذ خُلقتْ، ودخل النيل فعلًا من منبعه إلى مَصَبِّه في حوزة مصر.
ولمَّا ثبتت قدم غوردون في تلك الأنحاء، أرسل رئيس أركان حربه الكولونيل شاليه لونج الأمريكي إلى أمتيسه ملك أوغانده، فعقد معه اتفاقًا في أواخر سنة ١٨٧٤م، دخلت به هذه المملكة تحت حماية الحكومة المصريَّة، وكان شريف باشا وقتئذ ناظرًا للخارجيَّة المصريَّة، فأرسل في سنة ١٨٧٥م إلى عموم الوكلاء السياسيين للدول الأجنبية في القطر المصري، بلاغًا يعلنهم فيه بانضمام تلك النواحي إلى الحكومة المصريَّة، وكان من بينهم طبعًا وكيل إنجلترا السياسي. وبقيت هذه البلاد معدودة من توابع مصر إلى سنة ١٨٨٩م، حيث أمر استانلي باسم الحكومة المصريَّة مديرَ خط الاستواء وقتئذٍ — وهو أمين باشا — بالجلاء عن المديرية المذكورة والتخلي عنها. فتخلَّى عنها هو وجنوده بإرغام الحكومة الإنجليزيَّة للحكومة المصريَّة ليصفوَ الجوُّ لها هناك، وبالفعل لم تلبث إنجلترا حتى أعلنت حمايتها على أوغانده في سنة ١٨٩٠م.
فحُكْمُ الجلاء عن هذه البقعة كحُكم جلاء المصريين عن باقي السودان، عملٌ تمَّ تحت ضغط الحكومة الإنجليزيَّة، وهي قابضة على أزِمَّة الأحكام في القطر المصري لمآربَ لها ظهرت بعد هذا الجلاء بسنة واحدة، حيث احتلت تلك البلاد وأعلنت حمايتها عليها.
وليس لعمل إنجلترا قيمة بجانب حقوق الفتح التي لمصر على هذه البلاد، ومع هذا فلا تزال هذه المنطقة من اللادو جنوبًا إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا، تحت إدارة وزارة المستعمرات الإنجليزية مباشرة، وليست داخلة حتى ضمن حكومة السودان المشتركة اسمًا بينهم وبين مصر.
وإذا أدرك المصريون القيمة التي لهذه النقطة وارتباطها بحياتهم، علموا أنها أهم من الدلتا وفضَّلوها عليها، ولم يسعهم أنْ يَغفُلوا عن المطالبة بحقوقهم فيها، واعتبارها جزءًا غير قابل للانفصال عن السودان المصري، الذي هو جزء من الديار المصرية لا يتجزَّأ.
(١) بطلان حجة تأجيل المفاوضة في شأن السودان
- الأول: اتفاقية سنة ١٨٩٩م.
- الثاني: اعتراف تركيا بتلك الاتفاقية.
(١-١) أمَّا اتفاقية سنة ١٨٩٩م
- (١)
لأنها مبنية على الفتح، وهذا أساس غير صحيح؛ لأن الفتح لم يحصل إلَّا باسم مصر فقط، والدليل على ذلك أنَّ مارشان عندما احتل فاشودة وتوجَّه كتشنر إليها، واحتل نقطة أمام النقطة المحتلة من الفرنسيين، لم يرفع إلَّا العلم المصري فقط أمام العلم الفرنسي، وفي هذه الحالة كان ﻟ كتشنر صفتان: إحداهما أنه قائد مصري، وثانيتهما أنه قائد إنجليزي؛ لأن الحامية الإنجليزيَّة التي في السودان كانت تحت قيادته، وجزء من تلك الحامية كان في فاشودة، وقد أدَّى التعظيم الواجب عندما رُفع العلم المصري وحده أمام العلم الفرنسي.
وحيث أنَّ هذه الحادثة كانت خاتمة الأعمال الحربيَّة في تلك البلاد، وتُعتَبَر تتويجًا لها، فرفْع العلم المصري وحده وتأدية الجنود الإنجليزيَّة له التحيَّة العسكريَّة، هو اعتراف صريح من إنجلترا أمام دولة أجنبية بأن الفتح لم يحصل إلَّا باسم مصر فقط، وإلَّا فلو كان بالاشتراك لرُفع العلم الإنجليزي بجانب العلم المصري.
وأمَّا مساعدة الحامية الإنجليزيَّة في فتح السودان، فلا يعتبر إلَّا من باب مساعدة الوصيِّ لمَحجُوره في رد جزء من أملاكه فُقِد بسوء تصرفاته؛ إذ لو اتبع رأي عبد القادر باشا ولم يرسل الجيش المصري في داخل كردفان كما رأى هكس باشا، لمَا هلك الجيش ولمَا ضاع السودان.
- (٢)
لأنها تشبِه العقد الذي يُعقَد بين الوصيِّ ومحجوره، ويجرُّ منفعة لهذا الوصيِّ.
(١-٢) وأمَّا اعتراف تركيا
- (١)
أنَّ إعلان الحماية على مصر أزال السيادة التركية عنها، ابتداءً من ديسمبر سنة ١٩١٤م، وتُعتَبر غير موجودة في وقت عمل التنازل.
- (٢)
أنَّ الحكومة التركيَّة اعترفت باستقلال مصر استقلالًا تامًّا، وجعلت لها حرية تقرير مصيرها السياسي، وهذا القرار صُدِّق عليه من مجلس المبعوثين قبل إمضاء معاهدة سيفر.
- (٣)
أنَّ معاهدة سيفر التي اعترفت فيها تركيا بحماية الإنجليز لمصر، إنما وقَّعها ممثلو الحكومة التركيَّة مُرغَمين، وفضلًا عن هذا فإن الشعب العثماني مُعارِض فيها أشد المعارضة، وهي مع هذا لم تحُزْ تصديق مجلس المبعوثين، ولم تعترف بها بعض الدول إلى الآن.
وحيث إنَّ السيادة لا وجود لها، فإن الاعتراف من تركيا لا قيمة له أبدًا؛ لأنها بذلك تقرر حقًّا لغيرها في بلد لا تملكه، ولم نفهم معنى السكوت عن المسألة السودانيَّة بمجرد إظهار إنجلترا لهذا الاعتراف من الحكومة التركيَّة؛ لأن تركيا اعترفت أيضًا بالحماية الإنجليزيَّة على مصر، وهذا لم يمنع المعارضة لها والمفاوضة في المسألة المصريَّة.