مذكِّرة عن مركز الإنجليز في السودان
أُرسلت إلى جريدة التيمس ولم تنشرها، فنُشرِت في جرائد مصر في ٢ سبتمبر سنة ١٩٢٤م.
***
لمَّا رأينا صحف إنجلترا تتعمَّد تشويه الحقائق فيما تكتبه عن السودان، وعن مركز الإنجليز في ذلك القطر من وادي النيل؛ كتبنا إلى جريدة التيمس رسالة نبسط فيها للرأي العام البريطاني حقائق المسألة السودانيَّة، كما يسجلها التاريخ الصحيح ويعرفها ذوو الاطِّلاع.
ولقد تلقَّينا من رئيس تحرير تلك الجريدة كتابًا يقول فيه إنه سيحتفظ بمقالنا بقصد الرجوع إليه عند الكتابة في مسألة السودان. وهذا بالطبع معناه عدم الرغبة في نشر ذلك المقال.
وحيث إنَّ أحوال السودان لا تزال تشغل الأفكار في هذا القطر، فقد رأينا أنْ نرسل ترجمة المقال المذكور إلى الصحف المصريَّة، وهذا مُعرَّبه بعد الديباجة.
(١) المقال
لمناسبة الأحوال السياسيَّة الحاضرة في وادي النيل، وما تُبديه صحف لندن من مختلف الآراء بشأن السودان، أودُّ أنْ أَلفتَ الرأي العام البريطاني — بواسطة جريدتكم إذا أَذِنتم — إلى الوقائع الآتية: لما وقعت حادثة مارشان الشهيرة في السودان، كان الإنجليز يقولون إنَّ السودان لمصر ومن مصر، ثم ادَّعَوا أنهم شركاء فيه بإرادة مصر، فلمَّا أعلنت مصر بُطلان هذه الشركة قالوا إنهم ساعدوا على استرجاعه، ولولاهم لمَا تمَّ هذا الاسترجاع.
- (١)
أنَّ مصر فتحت السودان وحدها سنة ١٨٢٠م، وبقيت سلطتها فيه قائمة لم يعتورها ضَعف ولا وهنٌ إلى سنة ١٨٨١م، والسودان يومئذٍ آهِل بسكانه زاخر برؤسائه وملوكه، فمن قدر على فتحه في هذه الحال، وعلى حفظ نفوذه وسلطانه عليه ٦٢ سنة، فلا شك أنه يكون قادرًا على استرجاعه بدون مساعد.
- (٢)
أنَّ الثورة العُرابية ابتدأت في مصر في ٦ فبراير سنة ١٨٨١م، وابتدأت الثورة المهدية في السودان في ١٢ أغسطس سنة ١٨٨١م أيضًا، كأنما الثورتان كانتا على ميعاد، فلمَّا اختلَّ الأصل — وهو مصر — اختلَّ الفرع — وهو السودان — ومن سوء الحظ أنَّ حكمدار السودان وقتئذٍ كان رءوفًا باشا، وهو رجل خلْو من الكفاءة والتدبير؛ إذ لو كان على شيء منهما لقضى على ثورة المهدي في السودان في إبانها. فقد أبلغه رئيس كبير موثوق به — وهو السيد محمد الشريف أكبر مشايخ الطرق في السودان — أمر هذا المدَّعي، وحذَّره عاقبة الإهمال، فلم يأبَهْ لقوله، ولم يستيقظ من سُباته! حتى أرسل إليه هذا المَفتون كتابًا يدعوه فيه إلى الدخول في شيعته والإيمان به، وبدلًا من أنْ يرسل إليه عقب ذلك من يقبض عليه في الحال، أرسل من ينصح له، فردَّه خائبًا، ثم بعد لأْيٍ وتردُّد أرسل إليه تجريدة صغيرة أوقع بها المهدي، وهزمها شر هزيمة، فكان هذا أول وهنٍ أصاب هيبة الحكومة في السودان؛ فقد انتشر خبر هذه الواقعة في جميع أنحائه، وتناقل الرواة حديثها بغلوٍّ كبير، وعدَّتها العامة من المعجزات التي تدل على صدق محمد أحمد في دعوى المهدية، ثم جرَّد عليه تجريدات أخرى كان نصيبها نصيب الأولى، فانحطت كرامة الحكومة في عيون أهل السودان، وصدَّقوا دعوى المهدي.
ولمَّا بلغت هذه الأخبار السيئة الحكومة عيَّنت عبد القادر حلمي باشا بدلًا من رءوف باشا، وحسنًا فعلتْ؛ فإن هذا الحكمدار الجديد أظهر هِمة عالية وكفاءة نادرة في قمع الثورة بعدما استطار شرارها واستفحل أمرها، وكان قد طلب من الحكومة عشرة آلاف جندي، ولمَّا لم تُجِبْه إلى طلبه لارتباكها بالثورة العُرابية، جنَّد من أهالي السودان جيشًا صغيرًا درَّبه بنفسه، وضمَّ إليه سِتَّ أورط كانت في السودان الشرقي، وحمل بهذا الجيش الصغير على الثوار، فقهرهم وشتَّت شملهم، ورفع الحصار عن حامية سنار، فهدأت الحال، وخمدت جذوة الثورة، ولم يبقَ في يد المهدي سوى مديرية واحدة هي مديرية كردفان، ولا من أتباعه العصاة في النواحي سوى نفر قليل في الجزيرة بقيادة زعيم لهم يُدعى أحمد المكاشف.
فأنت ترى أنَّ عبد القادر حلمي باشا بجيشه الصغير استرجع السودان أو كاد، ولو أُرسل إليه الجيش الذي أُرسل إلى هكس، لتمَّ على يديه استرجاع السودان بدون عَناء، ولكن عندما وصلت هذه الأخبار السارَّة إلى مصر، وكان ذلك في أوائل سنة ١٨٨٣م وقد احتلها الإنجليز، وأصبح في يدهم تصريف أمورها؛ صدرت الأوامر بعزل عبد القادر باشا لهذا السبب المقلوب، في الوقت الذي قال في حقه المهدي في إحدى خطبه: ليس بين رجال الحكومة التي أناوئها رجل كعبد القادر، كثير الدهاء والحيل مع الشجاعة؛ مما يجعلني أضرع إلى الله أنْ يكفيني وأصحابي شرَّه. وإنني أحتم على كل المؤمنين الذين دخلوا في دعوتي أنْ يجتنبوا القيام في الجزيرة بأي مشاغبة تضطرهم إلى الوقوف في ساحات الحرب مع عبد القادر باشا، وأوصيهم بكتمان دعوتي وعدم الظهور بها في الجزيرة ما دام عبد القادر باشا متولِّيًا على السودان، وليواظبْ كل أصحابي على رفع أصواتهم بعد كل صلاة بهذه الدعوة: «اللهم يا قوي يا قادر، اكفنا شر عبد القادر.»
وقد كتب عبد القادر باشا بعد عودته من الخرطوم تقريرًا وافيًا للحكومة بما يجب عليها عملُه، وملخصه: عدم تسيير حملة على المهدي في كردفان، والاكتفاء بإقامة الحصون على حدودها، وحصر المهدي فيها حتى تنضب منها موارد اليسار القليلة التي لا يمكن أن تقوم بنفقات الملتفِّين حوله، فلا يمضي زمن حتى يشعروا بالضِّيق، فيطلبوا الخلاص من جور المهدية، ولا سبيل لهم إلى نيل هذا الغرض إلَّا بمظاهرة الحكومة وموالاتها، فيسهل عليها حينئذٍ قهر المهدي بقوة يسيرة.
هذا كان رأي عبد القادر باشا، ولكنَّ حكومة ذلك الوقت التي عزلته بسبب ما أظهره من الكفاءة وأحرز من الانتصار، ليس من المعقول أنْ تعمل برأيه، فضربت بتقريره عُرض الحائط، وعيَّنت بدلًا منه علاء الدين باشا، فتولَّى علاء الدين باشا ولكنْ حُصرت سلطته في الإدارة الملكية، وجُعل سليمان نيازي باشا قائدًا عامًّا، وهكس باشا رئيسًا لأركان حربه، وأُرسل إلى السودان بقيادته جيش وصل إلى الخرطوم في مارس سنة ١٨٨٣م، وهو مؤلَّف مما يأتي:
المجموع ١٢٩٠٠ ألاي رقم ١ مشاة تحت قيادة الميرلاي سليم عوني بك عدده ٢٤٠٠ ألاي رقم ٢ مشاة تحت قيادة الميرلاي السيد عبد القادر عدده ٢٥٠٠ ألاي رقم ٣ مشاة تحت قيادة الميرلاي إبراهيم حيدر بك عدده ٢٦٠٠ ألاي رقم ٤ مشاة تحت قيادة الميرلاي رجب صديق بك عدده ٣٠٠٠ الفرسان والمدفعية تحت قيادة الميرلاي عباس وهبي بك عدده ٢٤٠٠ وفي إبريل سنة ١٨٨٣م خرج نيازي باشا وأركان حربه هكس باشا ومعهما ٦٥٠٠ جندي للإيقاع بمن بقي من العصاة مع أحمد المكاشف بالجزيرة، وكان عددهم قد تكاثف بعد عبد القادر باشا، فلاقوهم في المرابيع وكسروهم شرَّ كسرة، وقتلوا زعماءهم، فانمحى بهذه الواقعة أثر الثورة من الجزيرة كما انمحى من عموم السودان، ولم يبقَ للمهدي شوكة خارج كردفان.
وقد ألحَّ عبد القادر باشا ثانيًا على الحكومة — وهو في مصر عقب هذه الواقعة — بترك المهدي وشأنه في كردفان إلى أنْ يظهر للناس كذبه، أو تضيق به البلاد فيضمحلَّ من نفسه، فقوبل إلحاحه بالإعراض أيضًا، وأُذِن لهكس باشا بالزحف على المهدي في كردفان، فردَّ بأنه لا يتحمل مسئولية الحملة حتى تكون له القيادة العامة عليها.
ولمَّا تباطأت الحكومة المصرية في إجابته إلى طلبه هدَّدها بالاستعفاء، فأذعنت وجعلته القائد العام على الحملة، ونقلت نيازي باشا محافظًا على السودان الشرقي، فخلا الجو لهكس باشا، وتوغَّل بهذا الجيش الكبير في صحاري كردفان حتى ضلُّوا الطريق ووقعوا في مخالب المهدي، فأفناهم ذبحًا وقتلًا في ساعات معدودة.
وبهذا الانتصار الكبير رجع للمهدي شأنه الأول، فانتقضت أطراف السودان وعاد شعلة نار، وعلى أثر ذلك قررت الحكومة الإنجليزية إخلاءه، ولمَّا لم تُصادِق وزارة شريف باشا على هذا الإخلاء، حملتها على الاستعفاء، وجاءت وزارة نوبار فصادقت عليه، وعُيِّن غوردون باشا لإخلائه وإخراج الجيوش المصرية منه، وكان فيه نحو الثلاثين ألفًا، وحوصر غوردون باشا في الخرطوم إلى أنْ قُتل، وكان ما كان مما هو معروف ومشهور. فمن هو المسئول عن هذه النتائج السيئة؟ ومن الذي أضاع السودان؟ أمصر التي أضاعته أم السياسة الإنجليزية التي كانت مُشرِفة على مصر في هذا الحين؟
- (٣)
ثم تُرك السودان تفتك بأهله الفوضى والجهل والظلم والأوباء والحروب، فحصدتهم هذه الأدواء حصدًا، واصطلحت عليهم، وتركت البقية الباقية من أهله في جوع وعُري.
وهذه العاقبة هي التي توقَّعها عبد القادر باشا حلمي لأهل كردفان لو بقي المهدي محصورًا فيه. وعند ذلك جاءت أوامر إنجلترا بتجهيز حملة لاسترجاع السودان، وصدَر القرار الوزاري بذلك في ١٣ مارس سنة ١٨٩٦م، فاسترجع السودان بثلاث وقعات كبرى وبجيش يبلغ نيفًا وعشرين ألفًا تقريبًا، ولم يُقتل منه إلَّا القليل. وكانت الخسارة في الواقعة الفاصلة — وهي واقعة أم درمان — من القتلى ثلاثة ضباط إنجليز، واثنين من المصريين، وأربعة وعشرين عسكريًّا إنجليزيًّا، وسبعة وعشرين عسكريًّا مصريًّا، ولم تبلغ النفقات التي صُرفت في هذا الفتح مليونًا من الجنيهات، فهل كان يُعجِز مصر أنْ تقوم بذلك وحدها؟