القرصان
١
كنتُ واحدًا من ثلاثةٍ وقفوا على باب المطعم، قبل أن يدعوهم الشابُّ، ذو العِصابة السوداء على عينه، إلى الدخول. تظاهرتُ باللامبالاة وأنا أُتابع — بطرْف عيني — اتجاهكم إلى الطاولة التي أجلس فيها. سبق جلوسكم اعتذارَ القُرصان بشغْلِ كلِّ الطاولات.
حين أبديتُ الرغبة في التغيير؛ قال المهندس في قصر الجم: اذهبي إلى القُرصان.
أضاف للدهشة في ملامحي: إنَّه مجرَّد مطعم.
– في المهديَّة؟
– في المنستير … على بُعد كيلومترات قليلة.
تشاغلتُ بالنظر في الساحة الواسعة أمام المطعم، تحيط البيوت والأشجار بنهاياتها. وخلتْ إلا من سياراتٍ قليلة في الموقف، ومجموعات من السُّياح الأجانب جلسوا على المقاهي المتناثرة، أو افترشوا الأرصفة. أمام المدخل أشجارُ نخيلٍ قصيرة، وما يُشبه الأزيار الهائلة الحجم. الأبواب الزُّجاجية، ونقوش الموزاييك على الجدار، والنقوش على الخشب؛ تعبِّر عن الحياة في البحر. سُفنٌ وقراصنةٌ وصيَّادون وأسماكٌ وطيور. دفعتُ الباب. اخترقتُ الزِّحام إلى ترابيزةٍ في زاويةٍ بأقصى المكان. أدركتُ معنى التسمية، لمَّا رأيتُ عمَّال المطعم يرتدون زيَّ الصيَّادين، ويضعون على الأعيُن اليمنى عصاباتٍ سوداء. وكلُّ الطعام أسماكٌ على الطاولة الهائلة المستطيلة، أسماكٌ أعرفها ولا أعرفها، والظُّلمة الشفيفة يهَبُها الحياةَ أضواءٌ خافتة، وتنقُّل القراصنة بين طاولةِ الطعام والترابيزات، والأحاديث الهامسة، وأصوات اصطدام الأطباق بالملاعق والسكاكين والشِّوَك.
هدأت النظرات المتطلِّعة، وانشغلتُ بتناول السمك الذي اقترحه الولدُ القرصان، قبل أن تسبق إشارةُ الولد قدومَكم إلى الطاولة، التي كنتُ أجلس عليها وحدي.
رنوتُ إليك بجانب عيني: هل أنت …؟
الْتقينا في الصباح أمام كاونتر الاستعلامات في فندق توب كابي بيتش. تركتُ مفتاح حجرتي في الفندق، وكنتَ تملأ بطاقة الإقامة. شيءٌ ما اجتذبني في ملامحك، أو في نفاذ نظرةِ عينَيك.
تحدَّثتُم — باختلاطِ العامية المصرية والتونسية — عن محاضرةٍ في المكتبة العامة بالمهدية، وندوةٍ في المندوبية الجهوية للثقافة، وعن وسامٍ أهداه لك مُحافِظُ المدينة، وزحامِ الفنادق، وكُتبٍ تبادلتُم قراءتها، ورسائلَ تتوقَّع وصولها من القاهرة. حدستُ أنَّك أديبٌ مصري، تكتُب القصة أو الشعر. اسمك منير، اندغَمَتْ في سمعي بقيَّة الاسم. قدِمتَ إلى تونس والمنستير والمهدية لإلقاء محاضرة، والمشاركة في ندوات. تشاغلتُ بتناول الطعام، وإنْ أصختُ سمعي. أسمر البشرة ذو النظَّارة الشمسية — ناديتُماه باسمه مولدي — أظهَرَ التململ، وحرص على الهَمْس. أمَّا أنت والآخر ذو النظَّارة الطبيَّة والصَّلَع الزاحف على مقدمة الرأس والملامح الباسمة والحقيبة الجلدية التي لا تفارقه — تكرِّر قولَك له: يا دكتور بدوي — فقد انصرفتما إلى الكلام، كأني لا أشارككم الجلوس على الطاولة. أهديتَه ديوانًا شعريًّا أو رواية، وأهداك كتابًا عن رواية الأرض. أذكُر الاسم؛ لأنِّي شاهدتُ الفيلم المأخوذ عنها.
۲
تعدَّدت لقاءاتنا في مدخل الفندق، في الصالة الواسعة، في المطعم. ربما جلستَ في ركن الصالة تتصفَّح الجرائد، أو تقرأ كتابًا. نتبادل التحيَّة بهزَّة الرأس. أطمئنُّ إلى ابتسامتك الهادئة، لكنَّني أخمِّن انتظارَك لصديقَيك. أكتفي بإيماءةِ التحيَّة، وأتَّجه إلى المطعم، قبل أن أصعد إلى حُجرتي. أُغادرها — في الصباح — إلى ترميمات قصر الجم.
۳
– صباح الخير.
أربكتْني المفاجأة، فاكتفيتُ بهزَّةٍ من رأسي، حدستُ أنَّك سبقتَ صديقَيك في النزول إلى المطعم، أو أنَّهما لا يحتاجان إليه. وضعتَ الطبق، فوقه مكعب زُبد وقِطَع جبن وحبَّات زيتون وعسَل نحل وكرواسون وشطيرتا خبز. اتجهتَ ثانية إلى الطاولة الزجاجية المستطيلة. عدتَ بفنجان الشاي بالحليب.
كانت أول مرَّة نجلس فيها بعيدًا عن مطعم القرصان، أو الحديقة، أو صالة الاستقبال الواسعة؛ فنكتفي بإيماءة التحية. حاولتُ — أثِقُ أنَّ هذا ما كان يشغلك — أن أقول شيئًا، فاتحةً للحديث بيننا.
لاحظتَ كثرة تعاطيَّ للأدوية في أثناء تناول الطعام. أفتح حقيبةَ اليد الصغيرة. أفتِّش عن دواء بالذات. أنفض الحبَّة من الشريط ويدي تمتدُّ إلى كوبِ الماء.
قلتُ لنظرةِ الدَّهشة: مجرَّد أدويةٍ مهدِّئة.
نطقتْ ملامحك بالإشفاق: هل أشار بها الطبيب؟
– طبعًا … أُعاني تعبًا.
قلتَ في ملامح الإشفاق: تجنَّبي الإرهاق … تستغنين عن مشُورة الطبيب … وعن الدواء.
غالبتَ الارتباك: ربما لم أحسن التكلُّم.
بدا الْتقاط طرَف الخيط صعبًا. مجرَّد الإيماءة تُشير إلى معانٍ غير مقبولة. ما أحياه أُعانيه وحدي. حتى الطبيب قدَّم نصيحته دون أن يشغله ما قبل، ولا ما بعد.
كنتُ قد عانيتُ ما لا قِبَل لي على احتماله. لم أرفع إصبعي من فوق جرس العيادة؛ حتى لا أنكص عائدة. تداخلت الكلمات ومحاولة التعبير بيدي وملامح وجهي. ظلَّ الطبيب على صمته، حتى لم أعُد أجِدُ ما أقوله.
وهو يتَّجه ناحيتي بنظرةٍ متأمِّلة: هل أنت متزوجة؟
قاومتُ الانفعال: هل هذه مشكلة سيدة متزوجة؟
هزَّ رأسه دلالةَ الفهم. قال: لا بد إذن من تصحيح الأمور.
– ماذا تقصد؟
– الزواج!
أهملتُ — لتفاهة سبب الطلاق — فكرةَ الزواج ثانيةً. شغَلَني التنقُّل بين مناطق الآثار، وتأمُّل الحجارة المنقوشة والمقرنصات والمرمر المنحوت والنحاس والحديد المطروق والأجساد المبتورة وارتفاعات الرُّخام الأبيض والبازلت الأسود، والتأكُّد من التواريخ، والإشراف على عمليات الترميم، والنزول على السلالم الدائرية، والسَّير في موازاة السُّور القديم، وفي الأقبية والدهاليز والممرَّات، وفي الشوارع القديمة.
قلتُ: الزواجُ مشروعٌ قديم … مات!
– هذا ما تتصوَّرينه.
– جئتُ للعلاج وليس للنصائح الشخصية.
– نصيحتي هي العلاج.
قبل أن أُغادر العيادة، اتَّجهتُ إلى البهو المُفضي إلى المصعد. زادت الرعشة التي تملَّكتْ حتى أطراف أصابعي. ضاع السبب. تمنيتُ لو أني أعود إلى البيت. أهملتُ الاحتفاظ بالمنديل؛ فمسحت العرَق من جبهتي بظاهر كفِّي. توقعتُ — إن انتظرتُ المصعد — نظراتِ الفضول، فاتَّجهتُ إلى السُّلَّم. ترددتُ قليلًا على باب العمارة المطلَّة على شارع الحبيب بورقيبة. عدلتُ — بعفويَّة — ياقةَ التايير. تذكرتُ أنَّ النظارة الشمسية مُودعة في حقيبة يدي؛ فداريتُ تحيُّر نظرتي، ومِلتُ من الشارع المجاور للكاتدرائية، أختصر الطريقَ إلى نهج سيف الدولة.
قلتُ: هل أنت طبيب؟
هززتَ رأسك بالنفي.
– تصورتُ أنك كذلك.
تركنا أقدامنا تجول بنا شوارعَ المنستير. اخترقنا الأسواق؛ أُبطِئ من خطواتي، فتتأمَّلُ الزرابي والصناعات الخشبية والنحاسية، وصناعة الجلود ومنتجات الخزف، والآلات الموسيقية، والحرير، والتطريز. ألمح بجانب عيني تأمُّلَك للنساء يرتدين الجبَّة والحائك، والعباءة الصوف. مقبرة الحبيب بورقيبة في نهاية ساحةٍ هائلة مُبلَّطة بالرخام، على جانبَيها مئات القبور لمواطنين تونسيين، المبنى الرخامي، والقبَّة المُذهَّبة، والملاحظات الهامسة، وومضات عدسات التصوير، وتلاوة القرآن من المصحف الكبير المفتوح على حامل.
شدَّني اهتمامك بقراءات التاريخ والحكايات القديمة والسِّيَر والملاحم، وما جرى في البنايات المتهدِّمة، وحياة القصور قبل مئات السنين، ومحطات القوافل بين مصر والمغرب، والمعارك والدسائس والاغتيالات.
قلتَ ونحن ننزل من الدرجات الرخامية: أحبُّ المنستير فأشرف بنفسه على إقامة مقبرته فيها.
استوقفتك الكلمات: هو الذي أشرَفَ على بنائها.
– كما ترى فهي أفخم من قصور الدُّنيا.
أردفتَ في تنبُّه: ظلَّ يُختار الرئيسَ الأولَ من المنستير ثلاثين عامًا متوالية.
وأعدتَ القول: كان يحبُّها!
لمَا دعوتُك إلى زيارة مقابر المهدية؛ فلأني كنت أثِقُ أنَّك ستأتي وحدك. صديقاك من المهدية والمنستير. المواقع الأثرية: المقابر والقلاع والروابط والحصون والجوامع والقصور والبنايات القديمة، من مألوف حياتهم اليومية، يرونها، ويترددون عليها.
تنقَّلنا بين المقابر المطلَّة على البحر المتوسط. بقايا البوَّابة الحجرية القديمة كأنها المدخل إلى المدينة، أو المَعبر إلى الجانب الآخر من البحر. لم أتصوَّر انشغالك بالتفاصيل الصغيرة. هل للصلة — كما قلتَ — بين أول مدينةٍ فاطمية والغزو الفاطمي لمصر؟ … هذه المقابر أُقيمت — بالفعل — على أنقاضِ أول مدينة للفاطميين. مثَّلتْ — لأعوامٍ — خطَّ الدِّفاع الساحلي عن الإمبراطورية الناشئة.
اتجهتَ بنظرتك إلى أفق البحر: لو أنَّ جَدَّكِ رحَلَ مع حملة الفاطميين إلى مصر … ربما تزوَّج من مصريةٍ هي جدَّتي.
وضحكتَ: نحن أقاربُ إذن.
غالبتُ التردُّد: هل عملك أديب؟
– تقصدين: هل الأدب هو العمل الذي أحيا منه؟
أومأتُ برأسي.
– أنا مهندس كهرباء … لكنني أكتُب القصة.
ووشى صوتك بالضيق: من الصعب في وطننا العربي أن يحيا المرء من كتابة القصة.
حدَّثتَني عن صديقَيك: مولدي فروج، طبيب في المستشفى العام بالمهدية، وشاعر؛ ومحمد البدوي، أستاذ جامعي، وناقد. صداقةُ الزيارة الأولى كأنَّها امتدادٌ لصداقة زياراتٍ سابقة. أبديتَ التأثُّر لقول مولدي فروج، وهو يعتزُّ بقَطْع إجازته والعودة إلى المستشفى: أوحشني قولُ المرضى الله يرحم والديك! تكلَّمتَ عن إعجابِ البدوي بقراءاتِ المُصادفة من القاهرة: هي أفضل ممَّا تمتلئ به الدوريات والصُّحف. داريتَ ابتسامةً للرأي الذي نقلتَه عنه: ينبغي أن نستبدل بمواقع الخريطة الأدبية المصرية مواقعَ أهمَّ. كأنَّك تحدِّثني عن خرائط القِلاع والحصون والمقابر والروابط والقصور التاريخية. ما أراه، وأتحدَّث عنه، في عملي. ملأت البسمةُ وجهك؛ لقول الموظَّف وأنت توقِّع في دفتر الزيارات: أنت أول مصري يزور المتحف. زُرنا قصر عبيد الله، وشواهد قصر القائم بأمر الله، والرباط، والبرج الأثري، وقصر الجم، وحوض المرسى القديم، والجامع الكبير، ومقامات الأولياء، وبقايا السُّور البحري، والمدينة العتيقة.
أعدت التسميات: باب زويلة … باب النصر … السقيفة … تركت هذه الأماكن في القاهرة.
قلتُ لك: أعرف أن باب زويلة في القاهرة يقتصر على التسمية … باب زويلة عندنا يُفضي إلى مدينةٍ أكبرَ من المهدية.
وأشَحتُ بيدي إلى الوراء: المدينة القديمة، لم تعُد موجودةً … في موضعها الآن زويلتان حديثتان.
عندما أمسكتُ بالعدسة لألتقط لك صورةً أمام نافورة المياه في سقيفة الكحلاء، داخَلَني إحساس أنني أقِف إلى جانبك، في الصورة نفسها.
٥
كيف حدَثَ ما حدَثَ؟
تصورتُ — بعد عودتي إلى تونس — أنِّي نسيت المهدية وفندق توب كابي بيتش ومطعم القرصان والرباط وقصر عبيد الله والمتحف والسقيفة وقصر الجم، والمهندسين والعمَّال، وعمليات الترميم.
كالمفاجأة، كاللقاء المصادفة في انحناءة طريق؛ طالعتْني القامة الطويلة والعينان النفَّاذتا النظرة والصوت الهامس. أستعيد لقاءاتِ مقابر المهديَّة والرباط وقصر الجم والقرصان، ومولدي فروج ومحمد البدوي، وشوارع المنستير والأسواق القديمة والمقاهي، وتلاوة القرآن في مقبرة الحبيب بورقيبة. أسأل وتُجيب. تسأل وأُجيب. هذا هو ما أريده. لا صلةَ لنصيحةِ الطبيب بما أحياه. أرفض النصيحة؛ لأنِّي أحبُّ الوردة في غصن، ولا أحبُّها في صورة. أرفض السخف فيما قاله الطبيب. لا تشغلني الفكرة؛ تشغلني المشاعر التي تصخب في داخلي. أفكِّر فيك؛ لأنَّ هذا هو ما أريده. أحبُّك؛ لأنِّي أحبك. اختُزلت المواقف والأشياء والسِّحَن والتصرفات، في عينَيك الملتمعتَين الباسمتَين وأسئلتك وإنصاتك الملحِّ واهتمامك بتلك البدايات في المهدية؛ قبل أن تنتقل — بكلِّ حياتها — إلى القاهرة.