الكسوف
لم تتصوَّر أنَّ الكلام سيأخُذك. تروي تجربتك الأدبية، تُجيب عن أسئلة الأدباء المُلتفِّين حول المائدة المستطيلة الطويلة. تستدعي مدرسة البوصيري الأوليَّة ومكتبة أبيك وشاطئ الأنفوشي وميدان المساجد وصحن أبو العباس والموالد والأذكار وصيد العصاري وأهازيج السَّحر، وأول تعرُّفك إلى نجيب محفوظ في خان الخليلي، ونصائح يحيى حقي، وعشق الرحلات في المكان المصري.
هلَّل علي عُقلَة عَرسان رئيس اتحاد الكتاب العرب من وراء مكتبه: كنَّا نتوقَّع اعتذاركما بعد الرحلة المتعِبة إلى الجولان.
بدا كسوفُ الشمس مفاجأةً سخيفة، لم تتصوَّرها، ولا أعددتَ نفسك لها. هل تنفِّذ التعليمات فتلزم الفندقَ طيلةَ اليوم الوحيد في دمشق؟
موعد النَّدوة في الثامنة مساءً. تهيَّأتما للحياة — طيلةَ النهار — خارج الفندق. دارى عبد الله أبو هيف ابتسامةً مشفِقة: نصيحتي أن تلزما الفندق … كسوف الشمس من الظُّهر إلى العصر.
اجتذبك إليه تلقائيةٌ وبساطة، بما قد يخالف انشغاله بالنقد والتدريس في الجامعة. يتمازج في عينَيه المكر والطِّيبة، ووجهه مُضِيء بابتسامةٍ طفولية. يُحسن الإنصات. يُعطي انتباهه دون أن يقاطع بكلمةٍ أو إشارة. يُنصت فقط، لا يبدأ في الكلام إلا بعد أن ينتهي محدِّثه من كلامه.
أضاف في نبرةٍ تشي بالتأثُّر: الناس في إجازة.
قال أبو ضاحي: كلُّ الأماكن مُغلَقةٌ فترةَ الصَّباح ما عدا المستشفيات.
أبو ضاحي الصعيدي استقبَلَنا بسيارة الاتحاد خارجَ المطار. الصعيديُّ لقَبُ العائلة.
– هل أنت من الصعيد؟
– أجدادي رحلوا إلى فلسطين، ثم غادروها في التهجير.
في حوالي الخمسين. قامةٌ طويلة ممتلئة، وإن لم تخلُ حركات جسده من رشاقة. تتخلَّل الرأسَ شعيراتٌ بيضاء. ملامحه مألوفةٌ. يَهَبك إحساسًا بأنَّك الْتقيتَ به من قبل. وجهٌ مستدير، وعينان بُنِّيتان لامعتان تنظُران من تحت حاجبَين كثيفَين. اسودَّتْ أسنانه؛ فخمنت أنَّه يُكثر من شُرب الشاي. دائم المَسْح بأصابعه على طرفَي شاربه المُتهدِّل على الفم. يميل إلى عباراتِ التورية والكناية والإيماء، ويلجأ إلى إشاراتِ يدِيه وتعبيرات وجهه. ربما فهمتَ المعنى دون أن تصِلَك الكلماتُ واضحةً.
حدجتَه بنظرةٍ طويلة مُتسائلة: كسوفُ الشمس من الظُّهر حتى العصر … هل نخرُج في الصباح؟
ضرب أبو ضاحي على صدره: تؤمر سيدي.
قلت: ليتك تصحبنا إلى الجامع الأموي.
أضاف يوسف الشاروني وهو يحرِّك عصاه: ونتسوَّق في سُوق الحميدية.
مضَت السيارة في الشوارع الخالية. مساحاتٌ متقاطِعةٌ من الصمت. الأبواب والنوافذ مغلقة، والستائر مُسدَلة، والسيارات واقفة على جانبَي الطريق، والمارَّة قليلون. حتى الأصوات ذابت في الصمت، فهدير محرِّك السيارة يصكُّ الأذن.
طالت الوقفة أمام باب الجامع الأموي. الساحة الصغيرة المتفرِّعة إلى شوارع المدينة، تخلو من الباعة والواقفين والمارَّة. حتى سوق الحميدية؛ يبدو كنفقٍ هائل، تُحيط الرمادية بالمرئيات في داخله.
قال أبو ضاحي: الجامع لم يُغلِق أبوابه أبدًا.
ثم وهو يلجأ إلى يدَيه في التعبير عمَّا يقول: ربما تفتح الأبواب بعد قليل.
تحرَّكت أشعة الشمس على حوائط الجامع؛ فتذكرتُما موعدَ الكسوف.
– سوق الحميدية أمامنا.
وترنَّمت بالأغنية: م الموسكي لسوق الحميدية.
وضَعَ أبو ضاحي راحته على صدره. أحنى رأسه، ورفَعَها: ولو!
أعلَنَ أبو ضاحي استعداده للدخول بالسيارة إلى داخل السُّوق. تخلَّى الشاروني عن اعتذاره بالتعب.
المحالُّ مغلقة، وعربات اليد غُطيتْ بالأقمشة، والأضواء الشاحبة تفترش مساحاتٍ صغيرةً متناثرة، والكنَّاسون يكوِّمون مخلَّفات الليلة الماضية، وبائع جواربَ دسَّ بضاعته تحت رأسه، وأولى وجهه إلى الحائط، وثمَّة بخورٌ يتضوَّع في المكان، لا يبين مصدره.
– قال أبو ضاحي: لو أنَّكم أطلتُم الإقامة يومًا واحدًا …
ثم وهو يُشير إلى شارعٍ متفرِّع من السوق: هناك مقهًى يسهر فيه الناس مع الحكواتي، يروي كلَّ ليلة حكاية الظاهر بيبرس بلهجةِ المصريين.
زوى الشاروني حاجبَيه بالدَّهشة: الحكايةَ نفسها كلَّ ليلة؟
– ما يرويه في ليلةٍ، يختلف في بعض التفاصيل عن حكاية الليالي السابقة.
عَلَت الأسئلة، واختلطت، وتشابكت. قلت: ما أكتبه يجِدُ منابعه — أحيانًا — في ذكرياتِ الطفولة والصبا، بالذات أيام إقامتي في حيِّ بحري بالإسكندرية. قلت: أنا لا أتعمَّد أيَّ شيء، ولعلِّي ممَّن يفضِّلون أن يكتُب العملُ الإبداعي نَفْسه. وقلت: أنا أبدأ الكتابة وليس في الذهن سوى فكرةٍ قد تكون هُلامية، ثم يبدأ كلُّ شيءٍ في التخلُّق أثناء الكتابة. وقلت: إنَّ الفنَّ — مهمَا يُخلِص في تصوير الواقع — يظل أقلَّ واقعيةً من الواقع نفسه. وقلت: إني ممَّن يقدِّرون أن تكون للمبدع فلسفةُ حياة يعبِّر عنها في مجموعِ أعماله.
قال عبد الله أبو هيف: أذكُر أني تناولتُ هذه القضايا في كتبي … سأودعها الفندق.
الملل! … مللٌ قاتل يحيط بك في الفندق. ويصعب عليك الخروج إلى ما كنتَ تتمنَّى التعرُّف عليه.
قال يوسف الشاروني: أصبح لتعبير النجوم في عزِّ الظُّهر معنًى.
همَسَ موظَّف الاستقبال بتحذيرٍ من إزاحةِ الستائر عن الأبواب الزجاجية المطلَّة على الشارع: التعليماتُ صارمة.
أسدلوا الستائر. سدُّوا أيَّ منفذ قد تتسرَّب منه أشعَّة الشمس. اكتفيتُما بمشاهدة التليفزيون. القنوات تنتقل بين المناطق التي تنتظر الكسوف. ما بدا صعبًا ومحمَّلًا بالأرقام؛ عرفتَه في تعدُّد الشروح والتعليقات: الكسوف يحدث عندما يقَعُ القمر في دورته من الغرب إلى الشرق حول الأرض، يقع بين الأرض والشمس، وتكون الأجرام الثلاثة على استقامة واحدة. تصبح الأرض إمَّا في مسقط ظلِّ القمر تمامًا فيكون الكسوف كليًا. تلتقي الشمس والقمر، يتطابقان كأنهما قطعةٌ واحدة. يحجب ظلُّ القمر ضوءَ الشمس، يتحوَّل النهار إلى ليل، وإمَّا أن تقَعَ الأرضُ في منطقةِ الظِّل القمرية فيكون الكسوف جزئيًّا. تحدَّث الشيخ في برنامجه الديني عن صلاة الكسوف. فضَّل أن تصلي في جماعة، وتسبقها خطبةٌ قصيرة، ويكون أداؤها بلا جماعةٍ ولا خطبة. حدَّدها الإمام أبو حنيفة بركعتَين مثل صلاة الجمعة، ويجوز فيها السرُّ والجَهر، ويُستحبُّ الإكثار من الاستغفار والتصدق. نقَلَ العالَم الحديث: «إذا رأيتُم ذلك الكسوف؛ فادعوا الله تعالى وكبِّروا وتصدَّقوا وهلِّلوا.»
توالت البيانات تحذِّر من التعرُّض للشمس في أثناء الكسوف، وعدم النَّظر إلى قُرص الشمس. تعليقات المذيعين، وشرح العلماء، وأطبَّاء العيون وأطباء الأمراض الجِلدية، وحذر تليفزيون الإمارات مواطني البلاد من رحلات البَرِّ في فترة الكسوف، ربما خرَجَت الزواحف السامَّة من جُحورها نتيجةَ انقلابِ النهار إلى ليل. غابت التحذيرات في آلاف الواقفين على الشواطيء وفي الخَلاء، والتجمُّعات التي ترقُب الحدَثَ عن قُرب يحدِّقون بأعيُنِهم أو بنظَّارات اشترَوها للمُناسَبة. واختارت جماعاتٌ الوقوفَ تحت ظلِّ الأشجار ومتابعة تأثيرات الكسوف على أوراقها. تباينتْ تعبيراتُ الفضول والترقُّب والقلق والخوف. أُعلن عن مبيعاتٍ للخرائط وأجهزة التلسكوب والنظرات الخاصة والقبَّعات وأطباق الصيني والميداليات والتيشيرتات، وأعدَّ مُزارِع أمريكي مواقعَ في أرضه يؤجِّرها لمَن يريدون المشاهدة أفضل، وقال معلِّق صحفي: إنَّ ما يحدُث هو فرصةٌ طيِّبة للاحتفال بالألفية الثالثة، وقال عالِم دِين: على الناس أن يُراجعوا أنفُسهم وينتبهوا إلى أنَّ العالَم — ذات يوم — سينتهي، وقال المذيع كأنَّه لاحَظَ نظرتك المُتسائلة: هذه النظَّارات مخصَّصة لمشاهدة الكسوف … اشترى الناس منها عشرات الآلاف، وأعلن تليفزيون العراق أنَّ الطائرات الأمريكية والإنجليزية قذفتْ بقنابلها — في فترة الكسوف — أحياءَ بغداد.
نقل تليفزيون القاهرة بيانًا للمفتي؛ حرَّم فيه النَّظر إلى قُرص الشمس من الواحدة حتى الرابعة بعد الظُّهر. حذَّر العالِم ذو النَّظَّارة المقعَّرة من خطورة أشعَّة الشمس — في لحظاتِ الكسوف — على العين والجِلد، وقال: إنَّ الكسوف لا يؤذي مَن ينظر إلى الشمس إذا كانت إحدى العينَين مغلقة، أو أنَّ الشخص يعانِي الحَوَل. أمَّا مَن يعانون قِصَر النظر، وينزعون النظارة الطبيَّة، فلن يتأثروا كثيرًا. ضعف البصر يُتيح لهم قوةَ التركيز. ونصَحَ طبيبُ الأمراض الجلدية بعدم ترك أجزاء من الجسد مكشوفةً؛ فلا تتعرض للاحتراق. وقال أستاذ الفيزياء الشمسية وهو يقلِّب في يده نظَّارة مشابِهة لمَا يضعه الناس على عيونهم: هذه أشعَّة فوق بنفسجية. حتى النظَّارات الشمسية القائمة تخترق الشبكيَّة وتدمِّر مركزَ الإبصار ورجَّح خبراء الأرصاد الجوية أنْ تنخفض درجات الحرارة؛ لحجب أشعَّة الشمس عن الأرض.
شرَّقت الأسئلة وغرَّبت. قلت: الفنَّان غيرُ مطالَب — ومن السخف أن نُطالبه — بشرح أعماله. وقلت: في كلِّ عمل إبداعي ملمحٌ من شخصيةِ كاتبه. لا يتعمَّد إقحامه، لكنَّه يفرض نفسه — بصورةٍ أو بأُخرى — على المشهد الإبداعي. وقلتُ: إنِّي أجِدُ نفسي في الكثير ممَّا كتبت. وقلت: على الفنَّان أن يكون موصولًا بجذوره؛ لأنَّه لا حياةَ لشجرة بلا جذور؛ فهي محكومٌ عليها بالموت سلَفًا وقُلت: أنا لا أحصل من الإبداع على المتعة وحدها، وإنما أحصل — في الوقت نفسه — على معرفةٍ أعمق بالحياة الإنسانية. وقلت: على المثقَّف أن يضحِّي دون أن ينتظر المقابِل، ولعلَّ المقابل يكون سلبيًّا من الجماعة التي يبذل نفسه تضحيةً لها.
قاطَعَ علي عُقلَة عَرسان توالي الأسئلة: أكثرتُم من الأسئلة عن التجربة الأدبية. اسألوا عن انطباع الزيارة إلى القنيطرة.
يتأكَّد حسن حميد من الطعام والماء. في حوالي الأربعين. قامة طويلة أقرب إلى النحافة. بدا صلَعٌ خفيف يزحف في مقدمة رأسه. له وجهٌ مسحوب، ونظراتٌ حادَّة، ولحيةٌ قصيرة مقصوصة، مهذَّبة. يحرص على الجديَّة؛ فكلماته قليلة، وملامحه يغيب عنها الابتسام. يعتزُّ بحصوله على الجائزة الأولى في الرواية من مسابقة نجيب محفوظ. حتى المناديل الورقية، حرص حسن حميد أن تكون داخلَ الحقيبة. وضع الحقيبة بينه وبين أبو ضاحي؛ إذا احتجنا إلى ما فيها، لن نُضطر إلى إيقاف السيارة.
وشتْ لهجةُ الشاروني بسخرية: هل انتهى الخطر؟
أعاد روايته عن خوفٍ عاشه، منذ سنواتٍ بعيدة: في الخرطوم. لم تُغلق البيوت ولا المحالُّ، ونزل الناسُ إلى الشوارع …
حرَّك عصاه في الفراغ: لا أصدِّق هذه التحذيرات عن أضرار الكسوف.
قال حسن حميد: التلفزيون عاد إلى برامجه العادية.
انطلقت السيارة في الشارع العريض الطويل، ثم مالت إلى شوارع أضيقَ مساحةً، يتداخل فيها الأسفلت والأرض الرمليَّة. البيوت الواطئة، وإن بُنيت بالطوب؛ فإنَّها تذكِّرك بما يطلُّ على الطريق في المدن المصرية.
التركيز في العينَين؛ تستعيد في توالي المشاهد ما كنتَ استمعتَ إليه، أو قرأتَ عنه في الصحف. الأرض المُسَفلَتة، المشقَّقة. الأعشاب البريَّة، تتصاعد من اختلاط الرمال بقِطَع الحجارة. طلقات الرصاص، تثقب واجهاتِ البيوت المهجورة. الدانات أحالتْ مواضعَ النوافذ دوائرَ واسعةً من الفراغ. بيوتٌ على حالها منذ تهدُّمها في القتال. أسقُف وجدران، تهاوتْ على بعضها. كُتل خرسانية. اختلاط الأسياخ الحديدية بالحجارة ومساحات الأسمنت. لافتاتٌ بأسماء دكاكين وشركات وعيادات أطباء؛ تناثرتْ داخلَ الرُّكام وفوقه. بقايا كتُب وكراريس وأوراق ممزَّقة مُتهرِّئة. مصاريعُ وأبواب نُزعتْ أو طارتْ من الضَّرب. مآذن وأبراجٌ، مالتْ على بناياتِ المساجد والكنائس.
أبطأ السائقُ في اقترابه من كُشكٍ عليه شِعار قوَّات الطوارئ الدولية. أسلاكٌ شائكة، ومساحةٌ خالية إلا من ضابطٍ وثلاثةِ جنود أمام كشكٍ، يعلوه العَلَم السوري. وراديو ترانزستور علِّق على منشر الغسيل تعلو منه أغنيةٌ لشادية، ومعدَّات فوق الهضبة المحيطة بالوادي.
أظهَرَ يوسف الشاروني سعادةً لمَا ناداه الضابطُ الشابُّ باسمه. أطال النَّظر إليه. وضَعَ يده على كتفه في ودٍّ ظاهر: تعرفني؟
علا صوتُ الضابط بالتأثُّر: قرأتُ لك «العشَّاق الخمسة».
يقترب من الثلاثين. قامتُه متوسطة. يرتدي «ترننج سوت» أبيض بحوافَّ زرقاء. ثمَّة شُعيرات خشِنة نبتتْ في وجهه. دائمُ المسح على جبهته؛ كأنَّه يمسح عرَقًا.
أصختُما السمعَ لشرحِ الضابط عن معنى الهضبة. الوادي هو القنيطرة، وما يُحيط به من أراضٍ مرتفِعة هو هضبة الجولان. الصمت يعلو المكان، وإن خمَّنتَ صورةَ الحياة فوق الجبل من المعدَّات الهائلة المتشابِكة، والهوائيات يتخلَّلها أعمدةٌ كصواري السُّفن الشراعية، وما يبدو أنَّه أجهزةُ رادار وتنصُّت، وما يُشبه التلسكوبات.
قال الضابط: يمكنهم بهذه المعدَّات أن يروا ما يحدُث في شوارع الموصل.
وأنت تسحَقُ بحذائك خنفساء تتعثر في خطواتها: إسرائيل واجهةٌ لتقدُّم الغرب.
عاد الضابط من داخل الحُجرة الخشبية بكاميرا صغيرة. نادى على جنديٍّ ينشُر ملابسَ على حبلٍ بين شجرتَين. أمره أن يصوِّره إلى جانب الشاروني. لاحظ تحيُّرَ وقفتِك المُنفرِدة؛ فدعاك إلى الوقوف داخل الكادر.
قلتَ: هل رأيتُم الكسوف؟
تلوَّن صوتُه بحُزن: ربما شغلتْني ملاحظةُ هذا الكسوف فوق الجبل.
وأشار إلى المعدَّات الهائلة المثبتة فوق الهضبة.
أعدتَ تأمُّل المكان، تحاول اختزان الملامح والتفاصيل الصغيرة؛ البسمة الهادئة كأنَّما ألصَقَها الضابط وجنوده بوجوههم. الأسلاك الشائكة، والأعلام الإسرائيلية، والمعدَّات فوق الهضبة. تحذيرات: ممنوع الاقتراب. والأشجار والأعشاب البريَّة، وشقائق النعمان، ومساحات الخُضرة التي لا تدري مَن يرعاها، وقطع الحجارة، والدبابات المحترِقة، وثمَّة مزق من السُّحب البيضاء تتناثر في السماء، وطيور تنطلق في المدى، ونباح كلبٍ يترامى من مصدرٍ لا تتبينه.
لحق خطواتكما المتَّجهة نحو السيارة: لماذا لا تطيلون الزيارة؟
– تنتظرنا ندوةٌ في اتحاد الكتَّاب العرب.
الطوابق الستَّة يشغلها الاتحاد. في المدخل كاونتر للاستعلامات وحوامل كُتُب عليها مطبوعات، ولوحات على الجدران.
– هل كلها للاتحاد؟
– نحن نملك طابقَين، ونؤجِّر بقيَّة الطوابق.
السُّلَّم مزيَّن في جانبَيه بأُصصِ الورد والزهور وبالزخارف على الحائط. الطُّرقة الطويلة على جدرانها صورُ أدباء راحلين. الحجرات المفتوحة تشغي بالجالسين وراء المكاتب والمناقشات والنداءات. تجلسان وراء المائدة المستطيلة. الكتب متلاصقةٌ في أرفُف المكتبة التي تغطِّي جدران الحجرة الواسعة. وجوهٌ تعرفها، أو شاهدتَ صُوَرها، ووجوهٌ لا تعرفها. تلتقط طرَف الخيط، فلا تُفلته. ما يفِدُ إلى الخاطر ترويه أو تُبدي الرأي. ينتزعك السؤال عن انطباع الزيارة إلى القنيطرة. تختلط الصُّور المبعثَرة، بما شاهدتَه في التليفزيون من وقائع الكسوف. تفقد ترابطها واتصالها بوقائع أفضتْ إليها. ما يلتحم بها وينفصل عنها من حكاياتٍ ومعلومات وآراء، وما يسهل انتسابه إلى التجربة الأدبية. ثمَّة كلماتٌ تتخلَّق في أعماقك، تتشكَّل حروفها وملامحها، وإن بدَتْ غامضةً.