البيرق
احتشدت الجموع أسفلَ القلعة، يرفعون الرايات الملوَّنة والبيارق وأضواء الشموع والقناديل والنفط، وتعلو أصواتهم بالنداءات والصيحات والأدعية. تدفَّق الخلق على ميدان الرميلة؛ أرباب المعايش وأهل الصنائع والحِرَف والعوام. نفذوا إليه من باب الخلق وبركة الفيل والمحجر وسوق السلاح والشيخونية. هبطوا من أعلى المقطم. زادت الأعداد؛ فتلاصقوا، وتشابكوا، وعلت الأصوات في انتظار البيرق النبوي. يتطلَّعون إلى الصاري الخشبي في زاوية ساحة الميدان، يتصوَّرون البيرقَ يخفُق من فوقه.
شقَّ لنفسه طريقًا بين الأجساد المتلاصقة والدفوف والطبول والصاجات والبيارق والأعلام والجلابيب والخرق الملونة والصياح والنداءات والصراخ والتوسلات والأدعية والتواشيح والتسابيح والمدائح والابتهالات الدينية. ثبتت خطواته في أول الدحديرة المُفضية إلى القلعة. لم يعُد أمامه إلا أن يواصل طريقه.
قُرعت الطبول، ونُفخ في الأبواق، وتلكَّأت المواكب أمام الجوامع والمساجد، وعلَت الأصوات بالاستغاثات، وكثُر الهرج والمرج والضجيج والبكاء والتضرع إلى الله بالدعاء، وامتلأت الجوامع والساحات بالمئات من أهل المَرقعة والذِّكر والدَّروشة ومُريدي الصوفية والجعيدية والذعر. عكفوا على تلاوة آيات القرآن والأوراد وقراءة البخاري على الغزاة، وذاعت تجارة الأحجبة والتمائم، ولجأ الناس إلى المنجِّمين، يحاولون معرفة الغيب وكشْفَ المحجوب!
لمَّا طالَبَ الباشا بالإعداد لأسبابِ الحرب، وبالاستعداد؛ أذهَلَه ما رواه قائدُ الجُند: فرغتْ خزائنُ السلاح ممَّا كان يملؤها من الخُوَذ والدروع، والتجافيف والجواشن والسيوف، وصناديق النصول، وحباب السِّهام الخلنج، وصناديق القِسي، ورِزَم الرِّماح وشدَّات القسي.
قال قائد الجُند: مولانا الباشا، لم يبخل على قوَّاته بالسلاح ولا بالمال.
أضاف في صوتٍ هامس: لكنَّ الأعداء يملكون من القوة ما لا نستطيع مواجهته!
أضاف: مسئوليتي أمام الباشا، تفرض عليَّ أن أصارحه بحقيقة الأوضاع.
قال الباشا: ماذا تقصد؟
– إنما أردتُ أن أوضِّح ما نحن فيه.
وعلا صوته: لكنَّ جنودنا، لن يسمحوا لهم بالدخول.
نقل الباشا إلى قائد الجُند شكوى الناس من مشاركة الجُند لأرباب الحِرَف والتُّجار في أرزاقهم. عاب عليه معاركَ فرقتَي الإنكشارية والعزبان. تجاوز حرَمِ القلعة إلى الأحياء المجاورة؛ فيعاني أبناءُ البلد ويلاتها. حتى يستميل الناس؛ فقَدْ ألغى الكثير من الضرائب والمكوس، وصادَرَ ثرواتِ أمراءِ المماليك الذين اختفوا من قُصورهم، ومن كلِّ القاهرة.
صَعدَ إلى القلعة الأمراءُ، وأربابُ العكاكيز والمناصب، والأشراف والأعيان، والاختيارية والوجاقلية، وكبار التجَّار والمباشرين. لحق بهم مشايخ البلد، ومقادم الأقاليم، وأكابر العُربان، ثم فُتحت أبواب القلعة على مصاريعها، لا تُغلق في ليلٍ ولا نهار. يصعد إليها أصنافُ الناس على اختلاف المكانة والطبقة.
ضُربت المدافع من الأبراج، ونزل الباشا إلى الكُشك المعدِّ له في ساحة القلعة، هُيِّئ المجلس بالفرش الفاخر، والمساند، والستائر الفاخرة. واصطفَّ الخدَم والجاويشية والسُّعاة والمُلازمون.
تقدَّم شيخ الأزهر، يحيط به ويتبعه المجاورون. يطلبون وضوحَ الأمر، وعمليات التدبير والتجهيز. سبَقَ الوالي شيخَ الأزهر إلى حُجرةٍ خلتْ إلا منهما. أمَرَ الوالي؛ فأغلَقَ الجُند البابَ.
قال شيخ الأزهر: نصيحتي أن توزِّعوا السِّلاح على الناس.
– أيُّ ناس؟
– حتى الزعر والحرافيش. الدِّفاع عن البلاد مسئوليةُ الجميع!
الْتمعت عينا الباشا بالغضب: لم يعُد في المخازن شيءٌ ممَّا يُستعمل في المعارك!
فيصبح الأمر فوضى.
– إنْ خِفتُم؛ فاعملوا على تقوية الجيش.
– هل نطلُب من الأعداء أن يُوقفوا هجومهم حتى نعدَّ أنفُسنا للقائهم؟
فكَّر الشيخ طويلًا: ضع السلاح في أيدي الناس.
أهمَلَ الباشا نصيحة وزرائه بأن يستدعي شيخَ مشايخ الصوفية إلى قلعة الجبل. مضى إليه في بيته القريب من ساحة الجامع العتيق بالفسطاط. بدا الموكب مخالفًا ما اعتاده الناس من أنواع الملاعيب والبهلوانات والطُّبول، وجواد الباشا يسبقه ويُحيط به الملازمون والطبالون وغيرُهم من المُقدمين والخدَم والجاويشية والركبدارية. يرتدون الزرد والخُوَذ واللثامات الكشميري، ويتقلَّدون القِسي والنُّشَّاب، وفي أيديهم المزاريق الطِّوال، وثمَّة النوبة التركية والنفيرات تترامى من أعلى القلعة. شقَّ الموكب طريقه، أمامه السُّعاة والجاويشية والمُلازِمون، ومن الخلف النوبة التركية، وفي الأمام جميع الأمراء بالشِّعار والبلشانات بزينتهم. اجتمع الناس للفُرجة، وإنْ وَشَت النظراتُ بالقلَق والخوف.
استقبله شيخُ مشايخ الصوفية على رأسِ أرباب السجاجيد والخِرَق. سأله النَّصيحة في الأخطار المُحدقة بالمدن والثغور؛ لم يفُه الشيخُ بالنصيحة في ذات اللحظة؛ أسلَمَ نفسه لشرودٍ وتأمُّل، وتمتَمَ بما لم يتبيَّنه الوالي، ثم اتَّجه ناحيته بأعلى صدْرِه: نحن في حاجةٍ إلى البيرق.
– أي بيرق؟
– البيرق النبوي.
– وأين نجِدُه؟
– في دارِ الخلافة … في الآستانة.
ثم قال في لهجةِ تأكيد: ما دُمنا نحتفظ بالبيرق؛ فنحن نحتفظ باستقلال البلاد.
قال الشيخ: إنَّ ردَّ الغُزاة ميسورٌ إذا اطمأنَّ الجُند إلى وجود البيرق النبوي في المقدِّمة؛ له من قوة التأثير والكرامة ما لا تُخطِئ به ضرباتُ السيوفِ أعناقَ الغُزاة. أخَذَ الشيخ على الشائعات التي وَجَدتْ في الغزو ما يُصعِّب مقاومته، أو التصدِّي له، وأن الخطر الماثل على الحدود هو خطرٌ لا يردُّ. ألِفَت قوات المسلمين تقديم البيرق — منذ عهد الرسول — وألِفَت جني ثمار النصر.
عيِّن الحاجبُ موضعَ البيرق منذ بعثتْ به الآستانة، وصعد به الجُند — للمرَّة الأُولى — إلى أعلى الجبل.
ركِبَ المنادي حمارًا يخترق شوارعَ القاهرة. يُعلِم الناسَ بالخطر الذي اشتدَّ اقترابه. ذكَرَ الناسُ في مناقشاتهم وأسئلتهم عن حكاية البيرق الذي أقام أوَدَ قلعةِ الجبل نصرةً للإسلام والمسلمين في أيام الخطر.
إن لم يكُن هذا أوان ظهور البيرق؛ فمتى يكون أوانه؟!
كان قد صحا على طَرَقاتٍ لم يألفها في هذا الوقت؛ الليلُ انتصف، واختفَت الأصوات، الظُّلمة في ميدان الرميلة تماوجتْ بالأنوار والظِّلال والبيارق والسيوف ومجامر البخور. وعَلَت أصواتُ الأذكار والابتهالات والأدعية.
تبيَّن وجهَ الخادم في ضوء الفانوس الصغير: الباشا يسأل عن البيرق؟!
– أي بيرق؟
– البيرق النبوي.
في عفويَّة: ما الذي ذكَّره به؟
– إنه يريده.
– أذكُر أنه في مخازن القلعة.
واستطرد: سأبحث عنه في الصباح.
– الباشا يريد البيرق الآن!
استأذن في ارتداء ما يصعد به إلى القلعة. الأعوام بعيدة منذ تسلم البيرق النبوي بطلَبٍ من الباشا أن يودعه، فلا تصل إليه يد. عُني الوالي بالفِرَق الصوفية؛ أقام لأفرادها الخوانق والتَّكايا والرُّبُط والزَّوايا، وأنشأ لأقطابها الأضرحة والمقامات والقِباب. وحبَسَ على طعامهم وملبسهم وخلواتهم الحُبُوس والأوقاف، وكان ينزل من قلعةِ الجبل إلى حيث يُقيمون؛ يلتمس البَرَكة والقُربَى، ويسأل المَشُورة. حمل شيوخ الصوفية البيرقَ النبوي من الآستانة إلى مصر المحروسة. وضَعَ في موضعه — تُحفة حِراسة الجُند — بنصيحةِ خليفة الطريقة الأحمدية.
حين أبلَغَ الأرصادَ باقتراب الأعداء؛ صام آلافٌ من المتصوِّفة في أوقات الليل، يتوقَّعون الخطر من ناحية الشرق. سبَقَه أفرادٌ وجماعات يتكلَّمون لغةَ المصريين، ويرتدون أزياءهم، ويتصرَّفون بما ألِفَه أهلُ البلاد من العادات؛ فأَنسَ الناسِ إليهم.
سرَتْ شائعاتٌ أنَّ الأعداء قَدِموا بالآلات العجيبة، والصنائع التي لا قِبَل للجيوش على مغالبتها: المنجنيق يُلقي بالأحجار والرُّعب والموت والنفط المشتعِل، والدَّبَّابات تثقُب الجدران والحوائط؛ فيسهل النَّفاذ منها، والبنادق لا تنفد طلقاتها.
كثُرَ ابتياع الناس لكلِّ ما يدافع به المرءُ عن نفسه: السيوف والسكاكين والشُّوم. حمَلَ السلاحَ مَن لم يكُن يحمله قَط من أهل البلد، وتعاوَنَ الأُمراء والقُضاة والصوفيَّة والزُّهَّاد وأولاد الناس والزعر في حفر الخنادق، وحمْلِ الحجارة لبناء التحصينات.
حين هاجَمَ الجُند جامعَ الأنور، أهمل الناس ما رأوا: دفَعَ الجندُ الشيخَ الحبيبي إمامَ الجامع إلى الطريق. مضوا وراءه بالسِّياط والهراوات، وهو يصرُخ ويستغيث بأتباعه ومُريدِيه، وبالمارَّة والمُطلِّين من النوافذ، والواقفين على أبواب البيوت والدكاكين، والمُقعَدين. بدا الخطرُ أكبرَ من حياة فرد، حتى لو كان الشيخَ نفسه. اكتفوا بالنظرات المتابِعة لمَا يجري، أو إبداء التأثُّر بهزَّة الرأس أو مصمصة الشفتَين. شغَلَهم التفكيرُ في دفْعِ البلاء الذي اقتربتْ أنفاسه.
تناوَبَ الجند الضربَ على جسد الشيخ: الرأس، والعنق، والصدر، والظهر، والبطن، والساقَين، وكعبَي الرِّجلَين. لم يعُد للضربِ في جسده موضعٌ، ولم يتركوا فيه عضوًا سليمًا.
همس الشيخ في تذلُّل: اشتروا حياتي يا ناس.
قال قائد المئين: إنهم مشغولون بخطرِ الأعداء … لا تَشغَلهم حياتُك أو موتك.
ظلَّت الجثَّة معلَّقة — ثلاثةَ أيام — على باب زويلة. بدَّلت رائحةُ الموت من مشاعر الناس المُشفِقة؛ فطالبوا بدفنها. لم ينتظروا موافقة قائد الشرطة. أنزلوا الجثَّة، وواروها الترابَ بالقرب من تِلال الدرَّاسة.
البيرق هو الأمل المُرتجى إن واجهَت البلادُ الخطَرَ. موضعه — في الحجرة العُلوية — للوالي — وسلالته؛ يتوارثونه إلى غير نهاية، لا شأن للصفوة ولا للعوام به. إذا نُشِر، فعلى كلِّ المسلمين الخروج إلى الجهاد، وبيع الأرواح بيعَ السَّماح. لم تعُد الأمور مثلما كانت عليه في الماضي … لكنَّ الخَلق ألِفُوا الأوضاعَ القائمة المستمرَّة. ولم يجِد الباشا فيما يحدُث داعيًا للُّجوء إلى البيرق؛ أتى به أعوانُه ذات ليلة ليصبح من مقتنياته الخاصة، لكنَّ أكبر أبنائه خرَجَ به في رحلة — دون أن يُخبره — ولم يعُد به. هل يكون للأمر صِلة بالشائعات التي تهامَسَ بها المصلُّون في جامع الأزهر أنَّ البيرق ظهَرَ في بلد الأعداء؟
قال قطب الشاذلية: ليس أنسبَ من هذا الوقت لإخراج البيرق النبوي؛ فيلتفَّ الخَلق حوله.
استطرد شيخ التيجانية: ويتحقق النصرُ بإذن الله!
أُحيطت القلعة بأعدادٍ من الجنود، وصَفَت أكياس الرمل أمام الأسوار والأبواب، لم يكُن السادن الموكَّل بحِراسة المخازن في موضعه أمام الباب المُفضي إلى أعلى القصر؛ هو وحده الذي يعرف موضع البيرق في الحجرة السريَّة الخفيَّة، لا يعرفها أحد غيره، ولا يطَّلع على ما بها سواه.
مضى من باب الوزير إلى الديوان العالي؛ الطريق منحوتة في الصخر، وعلى الجانبَين حُجرات صخريَّة؛ أبوابُها من الحديد المُغلَق على الحيوانات المفترسة، فيُلجم الخوف مَن تأذن له نفسه بالصعود إلى حيث يوجد البيرق.
اخترَقَ القبو الخلفي للباب العالي. مضى منه إلى سِرداب مفعم بالظُّلمة. أبطأ من خطواته وهو يمضي — بحذَرٍ — في داخله. تحسَّس بمقدمه درجات السُّلَّم. اطمأن إلى موضع السُّلَّمة الأولى؛ فواصَلَ الصعود. أسرَعَ الخطوات عند رؤيته لأضواءٍ خافتةٍ بعيدة في نهاية السرداب.
أطال التحديق في الحُجرة الرَّمادية الضوء. علا بالقنديل فوق رأسه.
لامستْ أصابعه في موضع البيرق خشونةَ تسوُّس العصا والفجوات الصغيرة؛ تشابك فيها العلَمُ والحبل المهترئ.