طَقسُ الذَّنَب
في هذه المرة قالت أمي لأبي بالحرف الواحد: الوَلَد دا ما ولدك.
بالتأكيد كانت تشير إليَّ، وأنا بدوري أخذت أبتعد تدريجيًّا عن أبي وألتصق بأمي أكثر وأكثر حتى أصبحت ما بين رجليها، وحجبني ثوبُها تمامًا عن الرؤية، كان عُمري في ذلك الوقت سبع سنوات، ما زلت أرى نفسي الآن قصيرًا ألبس جلبابًا من التيترون، كان في السابق أبيض اللون، صار فيما بعد بُنِّيًّا أو رماديًّا أو ما بين هذين اللونين، لم أدخل المدرسة بعد؛ لأنني في ذلك الحين لم أكن أستطيع أن أنطق بعض الحروف بالصورة السليمة أو الطبيعية، فكنتُ أنطق حرفَي الراء والياء ياءً، والسين والذال والزاي والصاد شِينًا، وحرف الألف عينًا، أما الألف الممدودة فما كنت أنطقها أصلًا، مما جعل كلامي مُضحكًا وغريبًا، ولأن الأطفال الآخرين والكبار أيضًا يهزءون مني ويضحكون عليَّ حينما أتكلم؛ رأت والدتي أنه إلى أن أتمم الثامنة ويتم خنقي بمصران خروف الأضحية لكي تزول عني اللَّجَنَة، فإنها تفضل بقائي في البيت قربها؛ حفاظًا على سلامتي وسلامة الآخرين؛ لأنني كنت لا أتردد في ضرب كل من يضحك على أحرفي العجيبة بأقرب حجر أصادفه، والأرض عندنا كلها حجارة.
قال أبي لأمي وهو ينظر إليها في احتقار: كذابة، الولد دا ولدي أنا، وإذا طَلعتِ من البيت دا حتسلميني ولدي وتمشي بيت أبوكِ وحدك زي ما جبتك هنا وحدك.
على الرغم من أن أبي كان منفعلًا وتفوح من فمه وعرقه رائحة الخمر، إلا أن أمي كانت تتحدث في هدوء، كانت تشرح له كيف أن الجد برمبجيل، الأب الأكبر المؤسس لعشيرتها، جاء إليها قبل أن تحبل بي، وأنه وضعني في رحمها وأعطاني الاسم الذي أُسَمى به الآن وذهب، حدث ذلك قبل أن تتزوج أمي من أبي، وأكدت له أنني كنت أنتظر في بطنها إلى أن تزوجتْه، بالتالي أنا ملكها هي فقط.
عبر صَريفِ القَصب نادى أبي صديقه جارنا الأستاذ حسن دوكة، وهو رجل طيب سمين له بشرة سوداء لامعة وعينان كبيرتان حمراوان، ذو شارب كث وشعر قصير، هو من الأشخاص الذين يتحدثون بسرعة تجعلني في الغالب لا أفهم ما يقولون، إلا أن الناس يقولون إن في كلامه حكمة، ثم نادى أبي جارتنا الداية نفيسة بت الميرم، وجاءت سِتنا بِت الجاويش دون دعوى، فاليوم كان جمعة والجميع بمنازلهم، قالت أمي لهم ما قالته لأبي، لم يهتم الناس كثيرًا بدعوى أمي، ولكنهم عملوا على أن يصلحوا بينهما، وفعلًا نجحوا في ذلك، وهكذا هم دائمًا ينجحون، ولكن أبي في اليوم التالي أخذني وأمي في رحلة طويلة استغرقت أسبوعًا كاملًا، انتهت في قرية صغيرة ترقد تحت حضن جبل تغطيه الأشجار الكثيفة، هي قرية عشيرة أبي، كنت أول مرة أراها في حياتي، وهي أيضًا المرة الأخيرة، استقبلنا أهل أبي بالسلام والطعام والشراب، بالحب، كان جدي والد أبي رجلًا مُسنًّا قويًّا يلبس جلبابًا كبيرًا متسعًا أسود، يبدو أوفر صحة من أبي وأكثر شبابًا، حملني بكفيه ورفعني عاليًا وأطلقني في الهواء ثم قبل أن أسقط أمسك بي، فعل ذلك مرارًا وتَكرارًا وهو يضحك في بهجة ويضحك الناس من حوله، كانوا يتحدثون بلغة لا أفهمها وأنا أتحدث بلغة لا يفهمونها، ولأن أمي ليست من قبيلة أبي فكانوا يتحدثون إليَّ وأمي بلغة عربية خاصة بسكان تلك المناطق، وعندما سألني جدَّي عن اسمي قلت له: يييش.
ضحك جدي وضحك كل من كان حوله، وانطلقت أنا أفتش عن حجر، ولحسن حظنا جميعًا أن الحجارة التي كانت متاحة هي حجارة كبيرة، وحاولت حمل أحدها ولكني فشلت، فسأل جدي عما أريد أن أفعل، قالت له أمي أنني أبحث عن حجر لكي أقاتل به، فاعتذر جدي لي، سالت أدمعي غضبًا.
علَّق جدي على أنني مثله ألثق في طفولته، وأن وجهي كوجه أبيه، ثم تحدث أبي لجدي حديثًا طويلًا بلغة عشيرتهم، كان جدي يسمع في اهتمام، ترتسم في وجهه ملامح الغضب حينًا، وحينًا آخر يبدو عليه ملمح غريب، لم يترك فيَّ انطباعًا ما، ولكنه لا يُنسى، شيء مثل الخوف أو الألم، يردد جدي بين الفينة والأخرى: آآآآها.
إلى أن وصل حدًّا قاطع عنده أبي قائلًا كلامًا مختصرًا انتهى في صوت مبحوح لا يُشبه الصوت الذي كان يتحدث به عندما استقبلنا، وباللغة العربية: نَشُوف.
همس أبي لأمي طالبًا منها شيئًا، ولكنها قالت بوضوح وبصورة قاطعة: لأ، حأمشي مع ولدي أي مكان، سَوَا سَوَا.
قال الجد: أرح نمشوا قريب، تعالي معانا، ما في مشكلة.
مضينا عبر طريق عُشْبي، صعدنا الجبل، كان أبي يُمسك بيدي وهو يهرول بي خلف جدي، أمي وجدَّتي تمشيان في الخلف صامتتين، في الحقيقة كلنا صامتون، الصوت الوحيد الذي يصدر منا هو وقع أحذيتنا على العُشب والحجارة، إلى أن توقف جدِّي أمام قُطِّيةٍ كبيرة خلفها قطيتان، أتى نحونا صبي في عمري تقريبًا، تحدث إليه الجد فجرى نحو قطية صغيرة، جاء في معيته رجل عجوز صافحنا جميعًا في أكفنا، سأل أبي أسئلة كثيرة عن العمل والصحة والحياة، هي طريقتنا في السلام، ولكن بعد أن قدَّم لنا شرابًا وطعامًا تحدث إليه جدي بصوت خفيض ولو أن التوتر الذي به لا يخفى، كانت أمي تُحَملق فيَّ وهي تريد أن تقول لي شيئًا بعينيها فشلتُ أنا في فهمه تمامًا.
أراد أبي خلع ملابسي، وعندما قاومتُ قال لي: ما تخاف، جدك عايز يشوفك.
نظرتُ إلى أمي، أشارت إليَّ بأن أقبل، ولأن أبي وأمي كانا يتحدثان عن خِتاني؛ ظننت أنهما سوف يفعلان، مما جعلني أخاف مرة أخرى، وسألتُ أمي ما إذا كانوا سيختنونني، فأكدتْ لي أمي أنني سوف أُختن في العيد وليس الآن، وعن طريق الطبيب، خلع أبي ملابسي كُلها، جاء الرجل العجوز بزيت في إناء زجاجي متسخ الجنبات، قالت لي أمي فيما بعد أنه زيت من شًحوم المرفعين، جلس القرفصاء أمامي على فراء من جلد أظنه لعجلٍ أو حيوان كبير.
قال أبي لأمي في تحدٍّ وهو ينظر إليَّ: حَنشوف الولد دا ولدي أنا ولَّا لا.
أمي لم ترد، ظلَّت هادئة، طلب مني والدي أن أقف منتصبًا وأنظر إلى الرجل العجوز في عينيه، فعلتُ، أمسك الرجل العجوز بِعضوي وسحبه إلى الأمام بيده اليسرى بِشدة، ثم أدخل كفه مبسوطة في إناء الزيت، أخرجها، قال شيئًا لم أفهمه، صفعني فجأة بكفه في سُرَّتي فأحسست أن شيئًا ما قد برز فجأة متزامنًا مع الصفعة من نهاية سلسلتي الفقرية، هنا هتف أبي فرحًا، أما جدي فبكى من الفرح، قالت جدتي بصوت مرح: ما شاء الله.
أخذ الرجلُ العجوز يدي مبتسمًا، جعلني أتحسس ذَنَبِي القصير الصغير بأنامل كفي، كان شيئًا أملس قصيرًا دافئًا قبل أن يصفعني العجوزُ مرة أخرى ويختفي الذَّنب، ظلَّت أمي الشخص الوحيد الذي لم يكن سعيدًا وهي تبتسمُ في ألم.