الأم
مثله مثل كثير من أبطال القصص التي أكتبها، كان الرجل لصيق الصلة بأمه، ليس لأنه وحيد أو أنه أصبح كذلك فيما بعد، ولكنه هكذا وجد نفسه وبقي على هذه الحال، هذا اليوم سوف يصبح نقطة تحول في حياته، هو يعرف ذلك ويعيه جيدًا، سوف يفقدها فيه، وهذا ليس من علم الغيب بالنسبة لطبيب متمرِّس وخبير في مسألة الموت والحياة، أمه تحتضر الآن، وستموت في ساعة ما في اليوم، كما مات في يديه مئات الأشخاص رجال ونساء وأطفال، لم يخطئ قط في تقدير وقت وفاتهم، ولكن احتضار الأم ليس كاحتضار الآخرين، كان حزينًا جدًّا وبائسًا جدًّا، ولم يستطع أن يبقى معها لِلَّحظة الحاسمة التي تحتاج فيها إلى من يقبض على يدها ويهمس في أذنها بكلمة قد لا تسمعها، ولكنها تجعلها تغادر هذا العالم في سلام، طلب من أخوته أن يقوموا بهذه المهمَّة وهرب هو بعيدًا لا يدري إلى أين، ركب عربته ومضى في الطريق الذي صادفه في الاتجاه بالسرعة، ومضى، ولكنه في وقت لاحق من سفره قرر أن يذهب إلى مدينة تقع على بُعد خمسمائة ميلٍ في الاتجاه الذي تسير فيه العربة، أغلق موبايله، انطلق لا يلوي على شيء.
وصل في منتصف الليل، لم يذهب إلى منزل أقاربه أو أصدقائه، إنما ارتكن إلى فندق عجوز وحشر نفسه في قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام، كانت تطوف بذهنه أفكارٌ كثيرة متضاربة، ولكن سيطرت عليه فكرةُ أنَّ أمه سوف لا تموت، وأنها قد احتضرت عدة مرات من قبل واستطاعت أن تبقى حية وتمارس حياتها وحبها له لسنوات، لكن تلك ليست كهذه؛ فهي ما فوق الثمانين، وليس للمرأة كُلية عاملة على الإطلاق، وإنها لم تستجب لعملية غسيل الكلية بصورة مطلوبة، بل إن عقلها قد بدأ يموت تدريجيًّا، ولكنه استطاع أن يصبر على هذه الأفكار ليوم، ثم ليومين ثم لثلاثة ثم لأربعة، ثم رضخ أخيرًا إلى فكرة أن يفتح موبايله وينتظر مكالمة من أحد أصدقائه أو أسرته ليبلغه بأنهم قد حضروا الدفن، وأنهم افتقدوه وأن أسرته كلها كانت هنالك ما عدا هو، كانت ترعبه فكرة الوداع، ولكن قد يتقبل مسألة الموت.
الساعة تشير إلى الخامسة مساء، عندما فتح موبايله لم تمض دقيقة واحدة حتى رَنَّ جرس الموبايل، كان رقم البيت، قبل أن يفتح الخط هيأ نفسه لأحد الأمرين: إما أن يبشروه بحياة أمه أو يخبروه بموتها، وهو مستعد للاثنين معًا.
في الطرف الآخر كانت هي نفسها، بدا صوتها ضعيفًا، ولكنه ينضح بقوة الحياة وجمالها ببحته الحلوة، قالت له أنها تعرف أنه هرب حتى لا تموت بين يديه، فهي تقدر ذلك، وطمأنته بأنها سوف لا تموت قريبًا، وما أصابها ليست سوى إغماءة وفاقت منها، وأنها عادت من غسيل لكليتها ناجح قبل قليل، وختمت مكالمتها قائلة: تعالَ، الناس في انتظارك.
انطلق بسرعة البرق نحو المدينة، كان الطريق جميلًا وساحرًا، والعالم كله يغني حوله مع إيقاع ماكينة العربة، هو نفسه يغني ألحانًا لا يدري لها كنهًا فنان أو ملحن، تلك التي يسمونها هبة الطبيعة، اشترى خروفًا من البدو الذين يرعون أغنامهم حول المكان، وضعه في الدرج الخلفي، «كرامة وسلامة» لأمه التي قال عنها في سرِّه: طالما نجت من هذه الميتة فسوف لا تموت مرة أخرى أبدًا، وأنه سوف يعطيها إحدى كُليتيه، سوف تعيش مثل جدها الذي ناهز المائة والأربعين ولم يمت لولا أن سقط من على ظهر حماره وكُسر عنقه.
كان البيت كما تركه هادئًا، بعض الصبية يلعبون بعربات من الصفيح صنعوها بأنفسهم، عندما دخل الحوش الكبير كان إخوته الصبيان هنالك تحت راكوبة كبيرة، نهضوا جميعًا في آن واحد يعزونه في وفاة والدتهم التي هرب منها يوم موتها، وقالوا له فيما بعد أنها سألت عنه قبل أن تطلق زفيرها الأخير.