أنا، الأخرى، وأمي
عمري الآن خمسون عامًا، وهو نفس عمر أمي حينما توفاها الله منذ ثلاثين سنةً بالكمال والتمام، وأحكي الآن عنها ليس من أجل تخليد ذكراها الثلاثين، كما يفعل الناس؛ أن يحتفوا بذكرى وفاة أمهاتهم اللائي يحببن، ولو أنني أحبها أيضًا، إلا أنني أحكي الآن عنها تحت ضغط وإلحاح روحها الطاهرة، أقول ضغط وإلحاح، وأعني ذلك، على الرغم من أن أمي ماتت منذ أكثر من ربع قرن إلا أنني لم أحس بأنها ميتة؛ لأنها بالفعل لم تكُ كذلك، إنها أخذت إجازة طويلة ونهائية عن مشاغل الدنيا الكثيرة ومني أنا ابنها الوحيد بالذات، رفيق شقائها وسعادتها، ولكن أمي حالما تراجعت — مع مرور الزمن — عن فكرة الإجازة بعد ثلاثين عامًا فقط، وثلاثون سنةً في زمن الموتى — كما تعلمون — ليس بالكثير، يُقَال إن موتهم قد يطول إلى الأبد.
بالأمس القريب بعدما قضيت نهاري الطويل في المدرسة؛ حيث أعمل مديرًا في مرحلة الأساس، وأنفقت مسائي البائس في نادي المعلمين ألعب الورق وأثرثر، عُدتُ مرهقًا للبيت الذي أقيم فيه وحدي، بعد أن تزوجتْ أكبر بُنياتي في هذا الأسبوع وذهبت مع زوجها تدب في بلاد الله الواسعة، مثلما فعلت ابنتاي اللتان تصغرانها عمرًا في السنتين الماضيتين، وتزوجتْ زوجتي أيضًا قبل أكثر من عشر أعوام من رجل يقولون إنه حبيبها الأول، بالطبع بعد أن طلقتني عن طريق محكمة الأحوال الشخصية بدعوى أنني لا أنفع كزوج أو رجل وأنها كرهتني، ويعلم الله أنني لست بالشخص البغيض، والدليل على ذلك أن بناتي الثلاث اخترن أن يبقين معي في البيت ورفضن أن يذهبن معها إلى بيت والدها ثم إلى بيت زوجها الجديد، فمن منا البغيض والمكروه؟ هذا موضوع لا أحب أن أتطرق إليه إطلاقًا، فهي على أية حال أم بُنياتي الثلاث، كنت مرهقًا، زحفت إلى سريري زحفًا، رميت بجسدي على اللحاف الطيب الحنون، فهو آخر ما تبقَّى لي من أمٍّ وزوجةٍ وبنات، كان المصدر الوحيد الذي يمنحني الحنان باحتضانه لجسمي النحيل الهرِم، كعادتي أترك إضاءة خافتة فاترة تصدر من لمبة ترشيد استهلاك صينية صغيرة بخيلة إلى الصباح، وكدت أن أغمض عيني حينما سمعت كركرة كرسي على البلاط، ثم رأيت على ضوء النيون الترشيدي الصيني البخيل امرأةً شابة تسحبه نحوي ثم تجلس عليه، قرب رأسي مباشرة، تحملق في وجهي بحنِّيَّة لا تُخْطئ، ولو أنه كان لوحيدٍ مثلي أن يخاف، بل أن يُجَن من الخوف، إلا أنني صحت في دهشة وترحاب غريبين: الله! أمي آمنة!
ابتسمت المرأة الشابة الجميلة الحنون، وقد بدأت تتحدث في هدوء، حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة والثانية، حدثًا حدثًا، أخذتُ أستمع إليها في صمت وتعجُّب كأنما من يُحكى عنه ومن يُحكى له ليس سوى صنوين لي ضالين، كنت أكتشف تدريجيًّا أن حياتي كُلها معصية، وأنني كنت أجري وراء ملذات الدنيا وسقطاتها، ولو أن بعض الحوادث كانت تشير بوضوح إلى نُبلي ونقاء سريرتي إلا أن المحصلة النهائية تبدو كما ذكرتُ، لا أدري كم من الزمن مكثتْ تحكي قرب رأسي، ولكنها بلا شك بقيت هنالك زمنًا طويلًا، ولا أدري كم حكاية حكتْ، ولكنها بلا شك حكتْ حكايات شتى، ولا أعرف متى نِمْتُ ولكني بلا شك قد نمت متأخرًا جدًّا؛ لأنني لم أستيقظ كعادتي — مثلي في ذلك مثل كل مديري المدارس — عند الرابعة صباحًا، بل أيقظني خفير المدرسة مندهشًا في فسحة الفطور حوالي العاشرة والنصف صباحًا، وثأثأ فيما يعني أن الجميع افتقدني، لقد كان أخرس ذا لغةٍ ملتبثة، بقيتْ في رأسي جملة واحدة من كلامات أمي: أنا كل يوم معاك لحظة بلحظة.
لم أحكِ لأحد ما دار بيني وبين أمي خوفًا من السُّخرية والشماتة أو أن أُتهم بالجنون، وربما قد أفقد وظيفتي إذا تأكدتِ الإدارة من أنني جُنِنت، وخاصة أن للبعض مصلحة في أن أُبعد، بصراحة لدي أعداء كُثر، تكتمت على الأمر، اتصلتْ بي ابنتي الكبرى أمونة سميتها على أمي، سألتني عن صحتي وعن الوحدة ولمَّحت لي بأنه يجب عليَّ أن أتزوج ولو من امرأة كبيرة في العمر؛ لأنني — في تقديرها — أحتاج إلى رفيق في وحدتي، وأنها تعرف أربعينيةً جميلةً مطلقةً لها طفلان، ادعيتُ بأنني لم أفهم ما ترمي إليه، ربما لأنني لا أرغب في الزواج؛ فقد أصبحتِ المرأةُ عندي كائنًا جميلًا يَصْلُح لكل شيء ما عدا الزواج، في هذا المساء كنت مستعدًّا لمحاضرة أمي آمنة، جاءت وكانت في كامل شبابها وجمالها في أثواب نظيفةٍ ملوَّنةٍ زاهيةٍ تشع بهجةً، قالت لي: ظاهر عليك الليلة جاهز من بدري.
فجأة خطرتْ لي فكرة غريبة، وشرعت في تنفيذها مباشرة، هكذا أنا أفكاري في أصابعي، مَدَدتُ أصابعي نحوها متحسسًا أثوابها، فإذا بكفي تقبض الهواء، تمام الهواء، أما هي فقد اختفت، سمعت نداءها يأتي من أقاصي الغرفة قائلة بصوتها الذي لم يفقد حلاوته طوال السنوات التي قضتها تحت التراب: أنا صورة وصوت، صورة وصوت فقط.
قلت لها: أنا خايف تكون دي هلوسة، هلوسة ما أكتر؟
قالت لي بذات الصوت الذي أعرفه جيدًا وصاحبني طفولتي كلها: أنا كنت دائمًا قريبة منك.
أمي وأنا كنا صديقين حميمين، مرَّت بنا سنوات شدة عصيبة وسنوات فرح عظيمة أيضًا، أنا ابنها الوحيد ولا أب لي أعرفه إلى اليوم، منذ أن تفتحت عيناي على هذا المخلوق الرقيق النشط، الذي لا يستريح من العمل، الذي يسعي مثل نمل الأرض بحثًا عن حَبَّة عيش نطعمها معًا، كانت توفر لي كل شيء أطلبه، ومهما كان عصيًّا، وأذكر أنني طلبت منها ذات مرة أن تشتري لي دراجة هوائية مثلي مثل صديقي في المدرسة والصف والكنبة أبكَر إسحاق.
وأذكر إلى اليوم كيف أنها انتهرتني، بل قذفت في وجهي شيئًا كان بيدها في ثورة وغضب، وأنها صرخت فيَّ مؤنبة: إنت قايل نفسك ود مُنُو؟ ود الصادق المهدي؟
بالطبع ما كنت أعرف من هو الصادق المهدي، ولكن سؤالها أثار فيَّ سؤالًا آخر.
أنا ود مُنو؟
ولم أسألها؛ لأن السؤال نفسه لم يكن مُلحًّا بالنسبة لي؛ لأنني لم أعرف قيمة الأب ولا أهميته ولا وظيفته، بالتالي لم أفتقده، والآباء الكثر الذين في حَيِّنا لم يقم واحد منهم بعمل خارق تعجز أمي عن القيام به، بل إن أمي هي التي كانت تفعل ما لم يستطع الآباء فعله، فهي تبني وتصون بيتنا بيديها، وتصنع السدود التُّرابية لكي تمنع مياه الخريف من جرف قطيتنا؛ حيث إن بيتنا يقع على تخوم خور صغير، ولم أر أبًا فعل ذلك، كانوا يستأجرون العمال حتى لصنع لحافاتهم ومراتبهم وغسل ملابسهم، إنه لأمر أدهشني كثيرًا، أضف إلى ذلك أن أمي تعمل خارج المنزل في وظيفة مهمة، إنها تبيع الشاي والقهوة عند بوابة السجن ويستلف منها الجميع، حتى المأمور نفسه؛ لذا التبس علي الأمر، والآن ولأول مرة أعرف مِن أمي أن من وظائف أبٍ غامضٍ يُسمى الصادق المهدي تقديم الدرَّاجات الهوائية إلى من هم أطفاله، ولكن الشيء الذي أطاح بسؤال الأب نهائيًّا أن أمي آمنة بعد ثلاثة شهور أو أكثر اشترت لي دراجة هوائية، ولو أنها ليست جديدة تمامًا مثل دراجة أبكر إسحاق، وأنها مستعملة من قبل، إلا أنني فرحت بها جدًّا وخصوصًا بعد أن أكد لي أصدقائي أنها دراجة جميلة وهي أجود من دراجة أبكر.
أمي تعمل في صُنع الزلابية وأقوم أنا ببيعها للجيران في الصباح الباكر وتعمل فرَّاشة في السجن ما بعد بيع الزلابية وشُرب الشاي، وعندما تركتِ العمل في السجن عملت بائعة للشاي عند باب السجن كمحاولة منها لتحويل زملاء الأمس إلى زبائن اليوم، وبالفعل استطاعت أن تكون منافسًا حقيقيًّا لأم بخوت، وهي إحدى زبوناتها في الماضي عندما كانت أمي تعمل فرَّاشة، أما أنا فذلك الولد الذي يُطلق الناسُ عليه (وَدْ أُمُو) أعني: لا أبرح مجلسها أبدًا، بعد نهاية اليوم الدراسي أحضر إلى موقع عملها، أغسل لها أكواب الشاي الفارغة، أحمل الطلبات البعيدة إلى الزبائن، أشتري لها السُّكر والشاي الجيدين من الدكان، أحكي لها عن التلاميذ، الحصص والمعلمين، وعندما أنعس تفسح لي مرقَدًا خلفها فارشة لي برشًا من السَّعَف، متوسدًا حقيبة المدرسة، عجلتي الجميلة قرب رجلي تنتظرني، أنام.
قلت لها في جرأة: أنتِ وين الآن؟ في الجنة؟ في النار؟ في الدنيا؟ ووين كنت الزمن دا كله؟
قالت لي: أنا هنا.
كانت تجلس في الكرسي كما هو في اليوم الأول، سألتني عن مبررات كل ما قمت به في يومي هذا، وكنت أجيبها بصدق، تعلِّق أحيانًا أو تصمت في أحايين كثيرة، ولكنها بشكل عام كانت تؤكد على أنه ليس مهمًّا أن ما أقوم به مقبولًا خيرًا أم لا، لكن المهم هو: هل أنا أجد مبررًا لما أقوم به أم لا، هل أنا راضٍ عن نفسي أم لا.
سألتني: هل توافق على اقتراح بِتَّك أمونة؟
قلت: أنا ما أظنني بَقْدر على النساء، كبرتُ وفقدتُ الرغبة في المواضيع دي، وأنا الآن قادر أقوم بواجب نفسي بنفسي من طعام وشراب ونظافة، المرأة الحقيقية الوحيدة في حياتي هي أنتِ وكفاية.
ابتسمت أمي آمنة ابتسامة عميقة وحلوة، ثم تلاشت تدريجيًّا في فضاء الغرفة، في الصباح الباكر اتصلت بي ابنتي أمونة مرة أخرى وقالت لي بوضوح أنها سوف ترتِّب لي لقاءً مع أربعينيةٍ جميلةٍ مطلقةٍ لها طفلان، ومن ثَمَّ أنا حر في أن أرتبط بها أم لا، قلت لنفسي: ماذا ستخسر؟ فليكن.
كانت امرأة جميلة، لها ابتسامة دائمة في وجهها، لا تحتاج لسبب وجيه لكي تضحك، فهي تضحك باستمرار، وتستطيع أن تقنع أي إنسان مهما كان متشائمًا أن يردَّ على ابتسامتها بابتسامة أخرى حتى ولو كانت باهتة تعبة، ولكن الشيء الغريب فيها والمُدهش والمخيف أيضًا أنها ترتدي نفس الملابس التي كانت ترتديها أمي آمنة بالأمس، نفس الحذاء، نفس الصوت نفس الطريقة في الكلام، نفس الوجه، نفس الابتسامة، وأستطيع أن أقول إنها نفس المرأة.