أبو العلاء المعري
لحضرة العالم الباحث الجليل محمد فريد وجدي بك:
الفكر الإنساني بصيص من النور الإلهي الفائض على الوجود، والمفكرون مصابيحه ينعكس منهم على من دونهم، فيهتدون به في سلوك دياجير هذه الحياة. فلولاهم لخبط السارون في متاهاتها، لا يهتدون إلى غاية، ولا ينتهون من وجودهم إلى نهاية، لذلك أُلقي في روع الناس — حتى وهُم في أحَطِّ درجات التعقل — إكبارُ المفكرين وتعظيمهم، وتَلَقُّف أقوالهم وآرائهم. ورُب أمة رُزقت واحدًا منهم فنقلها من الظلمات إلى النور، بعد أن عاشت قبله أجيالًا تتقلب في كسف من دونها كسف، ولا تعرف الوجود ولا يعرفها الوجود.
•••
أبو العلاء المعري واحد من أولئك المفكرين، عَرِفَهُ صاغةُ الكلام شاعرًا من المبرَّزين، وعَدَّهُ نَقَدةُ الأفهام حكيمًا من المقدَّمين، فوجد هؤلاء وهؤلاء منه ما يبلغ أقصى ما تتطلع إليه نفس من تصوير وإبداع، وخيال واختراع، وسريان في سرائر الكائنات، واستجلاء لحقائق الموجودات.
نعم، لقي أبو العلاء من الذين يصدهم ظواهر الألفاظ دون بواطنها، ما يلقاه كل مفكر خلص من أغلال التقليد، فاتهمه من لا يفهمه بالإلحاد والزندقة، وقوَّلوه ما لم يقله من الشعر المزري بالأديان، الحاطِّ من كرامة مؤسسيها. وتصدى كثيرٌ من أئمة المتأدبين لتبرئته مما نُسب إليه، فكان من أثر ذلك أن تكوَّن حول اسمه جو غريب حمل الكثيرين من أهل الورع على كراهية شعره، حتى إن مصحح المطبعة الأميرية تحرج منذ أربعين سنة من تصحيح لزوميات أبي العلاء، وكان ناشرها يطبعها هناك، فجاءت كثيرة الأخطاء من جراء ذلك! أين هذا من تزاحم الأدباء والمفكرين في أوروبا على ورود مناهل رجالاتهم الأعلام وعنايتهم بجمع كل شاردة وآبدة من أقوالهم وآرائهم.
لم يُعْنَ الغربيون بنبغائهم من أهل العبقرية هذه العناية باعتبار أنهم لا يخطئون ولا يخلطون، أو أنهم ملهَمون ومحدَّثون، بل باعتبار أنهم مفكرون أحرار، لا يتقيدون بالمذاهب، ولم يُخضعوا عقولهم لغاصب، فحلَّقوا من عالم المعاني في جو خلص من شوائب الحيوانية، فقطفوا من حقائقه أزاهرَ أودعوها نَظْمَهم ونَثْرَهم مختلطة بهنات مما يلازم الطبيعة الأرضية.
فالمُكبون على رشحات أقلامهم إنما يتنسمون من خلال أسطرها نسمات تلك الأزاهر، فتفعمهم برياها الشذي، وتحيي أنفسهم بروحها العلوي.
فلو أراد ناقد معاصر أن يجمع سخافات أمثال شيكسبير وداني وفولتير وفيكتور هوجو، لملأ منها أسفارًا. ولكن ليس هذا من العدل في شيء؛ إذ يكون هذا الناقد قد قصر نظره على ظاهر الكلام، ولم يتنور الروح المودعة فيه، فحرم نفسه أحوج ما يكون إليه.
•••
بهذه العين يجب أن يُنظر للنابغين والعبقريين، وبهذه النهمة يجب أن يعنى بما دونوه في الطروس من منثورهم ومنظومهم. وأبو العلاء واحد من هؤلاء، بل من أبعدهم غورًا، وأمثلهم سجلًا، وأعذبهم موردًا، وأعجبهم حالًا.
لسنا بسبيل إيراد تاريخ صاحب رسالة الغفران، غير أننا نقول: إنه كان كفيف البصر، ككثيرين قبله وبعده من النوابغ، وكان مع عراقته في الشعر، وتصرفه في فنونه، لم يَقُلْه مُتكسِّبًا، فلم يقبل جائزة عليه قط، وكان مكتفيًا بغلَّةِ وَقْفٍ له تبلغ ثلاثين دينارًا، كان يعطي خادمه منها نصفها، ويقنع بنصفها الآخر طول سنته.
أعجبُ من هذا كله وأدل على فضله ونزوعه عن قذر هذا العالَم ومظالمه، تَقَزُّزُ نفسه عن أكل اللحم، وتأثُّمه من قتل الحيوان بعد الأربعين من عمره، فعاش بعدها نيفًا وأربعين سنة لم تمس شفتاه جثة كائن حي، حتى إنه لما مرض المرضة التي مات فيها نصحه طبيبه بأكل فَرُّوج للتَّقوي به — في زعمه — فأبى أبو العلاء أن يستبقي حياته بإزهاق روح، فعمد أهله إلى فرُّوج فذبحوه دون أن يَعلم هو ذلك، ثم قدموه إليه، فلما تناوله أدركه نفور منه وألقاه من يده، فأخبروه بأنهم إنما فعلوا ذلك طلبًا لشفائه، فمد يده ثانية وأمسك الفروج وقال كأنه يخاطبه: مسكين أيها الفروج، أمِنوا شَرَّك فذبحوك، ولو كانوا خافوا بأسَكَ لهابوك. ثم رمى به ولم يتناول منه شيئًا.
مثل هذه النفس لا تُحرم نورًا علويًّا، ولا تُمنع عروجًا سماويًّا، فلا عجب أن عثرنا في شعر أبي العلاء ونثره على لطائف وجدانية، لا تتنزل على سواه من عبيد بطونهم وأسرى مشاعرهم. ولا غَرْوَ بعد هذا أن حَصَلَ له من الشهرة والإقبال في العصر الأخير — عصر النقد والتحليل — أكثرُ مما كان له وهو بين ظهراني معاصريه، والمحيطين به لالتقاط الدرر من فيه.
•••
وأن أجمل ما كتبه وأجمعه لآرائه في الدين والعلم والأخلاق، وفي أساليب الشعر وفنونه ورجاله وعيونه، آيته الموسومة برسالة الغفران؛ فقد صَورت من روحه ما لم يُصوره شعره للدهماء، ففي الشعر حوائل من الأوزان والقوافي ولزوم ما لا يلزم، تجعل معانيه بعيدة المنال، وتُنور الروح المودَعة فيه من أشق المحاولات. ولكن النثر لخُلُوِّه من هذه الحوائل، تتجلى فيه روح صاحبه بأجلى مظاهرها، وتتبين أغراضه بأقل كلفة، وإن كان دون الشعر من حيث التأثير في النفس، والسطوة بالعواطف — فرسالة الغفران من هذه الوجهة طلبة كل محب لاستشراق روح أبي العلاء. ولكن يحول دون هذه الفائدة العظمى أنه أَكْثَرَ من غريب اللغة، وأطال في سرد عبارات غامضة أو ضَرْب أمثال شاردة أو ذِكْر ما لا يَعني إلا العربيَّ القُح في ذلك العهد. ونحن نعطي قارأنا مثلًا من ذلك، قال: «قد علم الحبر الذي نسب إليه جبريل، وهو في كل الخيرات سبيل، أن في مسكني خماطة ما كانت قط أفانية، ولا الناكزة بها غانية.»
وقال: «وأن في طمري لحضبًا وكل بأذاتي، لو نَطَق لذَكَر شذاتي، ما هو بساكن في الشقاب، ولا بمتشرف على النقاب، ما ظهر في شتاء ولا صيف، ولا مر بجبل ولا خيف … إلخ إلخ.»
•••
فالرسالة في مثل هذا المعرض يصعب على الأكثرين قراءتُها ومزاولتها، والاستفادة ممَّا حوته من آراء مُسدَّدة، وأحكام عادلة، ونظرات ثاقبة. ولو أحصينا عدد من قرأ هذه الرسالة من جملة المتأدبين لَمَا ألفيناهم يجاوزون العشرة في المئة، وهذا حرمان يألَم منه طلاب الأدب العالي.
•••
فبتوفيق من الله ألهم الفاضل الألمعي كامل أفندي كيلاني أن يُلخص هذه الرسالة على أسلوب تَبْرُز به أغراض أبي العلاء كاملة، دون أن يَحُول بينها وبين القارئ ما أحيطت به من المترادفات الغامضة والشؤون المحلية الخاصة، مما جعل الرسالة عبئًا ثقيلًا على المعاصرين يكدُّ أذهانَهم ويكلُّ عزائمهم ويقف بهم عند حد منها لا يَتعَدَّوْنه. ومن محاسن هذا العمل المشكور الذي نُسجله لأديبنا الشاب بالإعجاب، أنه جاء من حُسن الاتساق، وتناسُب الأجزاء، وتوافر الأغراض، بحيث يُخيل للقارئ أنه يقرأ رسالة أبي العلاء قبل أن تتناولها يد التلخيص، وأعجب من هذا أنه لم يزِد فيها حرفًا، ولا من أغراضها غرضًا، فهي من هذه الوجهة أحسن ما رأينا في هذا الباب.
•••
أما فوائد هذا العمل فلا نَخالها تخفى على أحد، فمنها سهولة تداول هذه الرسالة، وعموم الانتفاع بها، وتيسُّر تكرارها. وهي فوائد لا أستطيع أن أحدَّ مداها من النفع العام، ولا أن أُوفي مسبِّبَها الشكر على جليل خدمته، فالله يتولى مثوبته، ويُجزل مكافأته، وينفع بعمله هذا طلابَ العربية وعشاق الفنون الأدبية، إنه أكرم مسؤول.