الفردوس
وصلت الرسالة التي بَحرُها بالحِكَم مسجور،
١ ومَن قرأها لا شك مأجور،
٢ وغرقتُ في أمواج بدعها الزاخرة، وعجبتُ من اتساق عقودها الفاخرة، وفي قدرة
ربنا — جلت عظمتُه — أن يجعل كل حرف منها شبح نور لا يمتزج بمقال الزور. ولعله —
سبحانه
— قد نَصَبَ لسطورها المُنجية من اللهب معاريجَ
٣ من الفضة أو الذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض إلى السماء، بدليل الآية:
إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ.
وهذه الكلمة الطيبة كأنها المعنية بقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّهَا.
وفي تلك السطور كَلِم كثير، كله عند البارئ — تَقدَّسَ — أثير،
٤ وقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل — إن شاء الله — بذلك الثناء شجرٌ في الجنة
لذيذ اجتناء، كل شجرة منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظل غاط،
٥ والولدان المُخلَّدون في ظل تلك الشجر قيام وقعود، يقولون والله القادر على
كل شيء عزيز: «نحن وهذه الشجر صلة من الله لعلي بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصور.»
وتجرى في أصول ذلك الشجر أنهار تختلج
٦ من ماء الحيوان، والكوثر يمدها في كل أوان، مَن شَرِب منها النغبة
٧ فلا موت، قد أمن هنالك الفوت.
٨ وسُعُد من اللبن مختلفات لا تُغير بأن تطول الأوقات، وجعافر
٩ من الرحيق
١٠ المختوم، كما قال علقمة:
تشفي الصداع ولا يؤذيه صالبها
ولا يخالط منها الرأس تدويم
١١
ويَعمد إليها المغترِف بكؤوس من العسجد
١٢ وأباريق خُلقت من الزبرجد، لو رآها أبو زيد لعَلِم أنه ما تشبَّب بخير وهزئ
بقوله:
وأباريق مثل أعناق طير الـ
ولو نظر إليها علقمة لبرق
١٤ وفرق
١٥ وعلم أنه قد طرق،
١٦ ما ابن عبدة
١٧ وما فريقه؟ قد خسر وكسر إبريقه،
١٨ نظرة إلى تلك الأباريق خير من بنت الكرمة العاجلية، ومن كل ريق ضمنته هذه
الدار الخادعة. ولو بَصر بها عدي بن زيد، لشُغل عن المدام والصيد، واعتَرف بأن أباريق
مدامه أمرٌ هين لا يَعدل بنابت من حمصيص
١٩ أو ما حُقر من خرٍّ بصيص.
٢٠ فأما الأقيشر السعدي فإنه قال ولعله سيندم:
أفنى تلادي
٢١ وما جمعت من نشب
٢٢
قرع القوازيز
٢٣ أفواه الأباريق
٢٤
ما هو وما شرابه؟ تقضت في الخائنة آرابه.
٢٥
لو عاين تلك الأباريق لأيقن أنه فُتن بالغرور وسُر بغير مُوجِب للسرور. وكم على تلك
الأنهار من آنية زبرجد وياقوت بين أصفر وأحمر وأزرق، يخال أن لمس أحرق، كما قال
الصنوبري:
تخيله ساطعًا وهجُه
فتأبى الدنو إلى وهجه
وفي تلك الأنهار أوانٍ على هيئة الطير السابحة
٢٦ والغانية عن الماء،
٢٧ فمنها ما هو على صور الكراكي وأُخر تشاكل المكاكي، وعلى خلق طواويس وبط،
فبعض في الجارية وبعض في الشط، ينبع من أفواهها شراب لو جرع منه جرعة الحكمي
٢٨ لحكم بأنه الفوز، وشهد له كلُّ وصَّاف للخمر من محدث وعتيق أن أصناف
الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية كخمر عانة وأذرعات وغزة وبيت راس، وما جُلب من
بصرى
وما اعتصر بصرخد أو أرض شام، وما تردد ذكره من كميت بابل وصريفين، وما عُمل من أجناس
المسكرات وما وُلد من النخيل، إذا كانت تلك النطفة
٢٩ ملكة لا تصلح أن تكون برعاياها مشتبكة.
٣٠ ويعارض تلك المدامة أنهار من عسل مصفى ما كسبته النحل، ولكن قال له العزيز
القادر: «كُن»، فكان.
واهًا لذلك عسلًا لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قُدر له عارض
موم
٣١ ولا لَبس ثوب المحموم، وذلك كله بدليل الآية:
مَّثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ
آسِنٍ٣٢ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ
مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى
وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ. فليت شعري عن النمر بن تولب
العكلي، هل يقدر له أن يذوق ذلك الأرى
٣٣ فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس إليه وجد يشاكه
٣٤ الشرى،
٣٥ وهو لما وصف أم حصن ذكر حواري
٣٦ بسمن وعسل مصفى، قال:
ألمَّ بصحبتي وهم هجوع
خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي عسلًا مصفى
إذا شاءت وحواري بسمن
ولو خالط مَنٌّ
٣٧ من عسل الجنان ما خلقه الله سبحانه في هذه الدار الخادعة كالصاب
والمقر
٣٨ لعُدَّ من اللذائذ!
•••
وإذا مَنَّ الله — تبارك اسمه — بورود تلك الأنهار، صاد فيها الوارد سمك حلاوة لم
ير
مثله، لو بصر به أحمد بن الحسين
٣٩ لاحتقر الهدية التي أهديت إليه فقال فيها:
أقلُّ ما في أقلِّها سَمَكٌ
فأما الأنهار الخمرية، فتلعب فيها أسماك هي على صور السمك بحرية ونهرية، فإذا مَد
المؤمن يده إلى واحدة من ذلك السمك شَرِبَ مِن فيها عذبًا، لو وقعت الجرعة منه في
البحر
الذي لا يستطيع ماءه الشاربُ لحلَّت منه أسافل وغوارب.
٤١
ندامى الفردوس
وكأني به — وقد استحق تلك الرتبة — وقد اصطفي له ندامى من أدباء الفردوس كأخي
ثمالة
٤٢ وأخي دوس
٤٣ ويونس بن حبيب الضبي وابن مسعدة المجاشعي، فهم كما جاء في الكتاب
العزيز:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ
فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ. فصَدْرُ أحمد بن
يحيى
٤٤ هنالك قد غُسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان،
وأبو بشر عمرو بن عثمان سيبويه قد رُحضتْ
٤٥ سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه لما فعلوا به في
مجلس البرامكة، وأبو عبيدة صافي الطوية لعبد الملك بن قريب:
٤٦ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن
كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ
عُقْبَى الدَّارِ، وهو معهم كما قال البكري:
نازَعَتْهم قضب الريحان مرتفقًا
٤٧
لا يستفيقون منها وهي راهنة
إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطف
٥٢
مقلص أسفل السربال معتمل
٥٣
ومستجيب
٥٤ لصوت الصنج
٥٥ تسمعه
إذا ترجع
٥٦ فيه القينة الفضل
٥٧
وأبو عبيدة يذاكرهم بوقائع العرب ومقاتل الفرسان، والأصمعي ينشدهم ما أحسن قائله.
وتهش نفوسهم للعب، فيقذفون تلك الآنية في أنهار الرحيق، ويصفقها
٥٨ الماذيّ
٥٩ أي تصفيق، وتقترع
٦٠ تلك الآنية فيسمع لها أصوات تبعث
٦١ بمثلها الأموات، فيقول الشيخ: آه لمصرع الأعشى ميمون! وددتُ أنه ما
صدته قريش لما توجه إلى النبي
ﷺ، ولو أنه أسلم لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس،
فينشدنا غريب الأوزان مما نظم في دار الأحزان، ويحدثنا حديثه مع هوذة بن علي وعامر
بن الطفيل ويزيد بن مُسْهِر وغيرهم ممن مدحه أو هجاه، وخافه أو رجاه.
نزهة ابن القارح
ثم إنه — أدام الله تمكينه — يخطر له حديث شيء كان يسمى النزهة في الدار الفانية،
فيركب نجيبًا
٦٢ من نجب الجنة خُلق من ياقوت ودُرٍّ، في سجسج
٦٣ بَعُدَ عن الحر والقَرِّ، فيسير في الجنة على غير منهج ومعه شيء من
طعام الخلود، فإذا رأى نجيبه يُمْلِعُ
٦٤ بين كثبان العنبر رفع صوته متمثلًا بقول البكري:
٦٥
ليت شعري متى تَخْبُ
٦٦ بنا النا
مُحْقِبا
٦٨ زُكرة
٦٩ وخبز رقاق
حديث الأعشى
فيهتف هاتف: «أتشعر أيها العبد المغفور له لمن هذا الشعر؟»
فيقول الشيخ: «نعم، حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم، أن هذا الشعر لميمون بن قيس بن
جندل.» فيقول الهاتف: «أنا ذلك الرجل، مَنَّ الله علي بعد ما صرتُ من جهنم على
شفير، ويئست من المغفرة.» فيلتفت إليه الشيخ هشًّا بشًّا مرتاحًا، فإذا هو بشاب
غُرانق
٧٢ وقد صار عشاه حورًا وانحناء ظهره قوامًا، فيقول: «سحبَتْني الزبانية
إلى سقر، فرأيت رجلًا في عرصات القيامة يتلألؤ وجهه تلألؤ القمر، والناس يهتفون
به
من كل أوب:
٧٣ «يا محمد، يا محمد، الشفاعة! الشفاعة! نمت بكذا ونمت بكذا.» فصرخت في
أيدي الزبانية: «يا محمد أغثني، فإن لي بك حرمة.» فقال: «يا عليُّ بادِرْه فانظر
ما
حُرْمَتُه.» فجاء علي بن أبي طالب — صلوات الله عليه — وأنا أُعْتَل
٧٤ كي ألقى في الدرك الأسفل من النار، فزَجَرهم عني وقال: «ما حُرمَتُك؟»
فقلت: «أنا القائل:
ألا أيّهذا السائلي أين يممتَ
فإن لها في أهل يثرب موعدا
فآليت لا أرثي لها من كلالة
ولا من خفي حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخي عند باب بن هاشم
تُريحي وتلقي من فواضله ندى
نبي الإله حين أوصى وأشهدا:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
وأبصرت بعد الموت مَنْ قد تزودا
ندمتَ على أن لا تكون كمثله
وأنك لم تُرْصَد
٧٦ لما كان أرصدا
٧٧
وقد كنت أومن بالله وبالحساب، وأصدق بالبعث وأنا في الجاهلية الجهلاء.» فذهب
عليٌّ إلى النبي
ﷺ فقال: «يا رسول الله، هذا أعشى قيس، قد روى مدحه فيك، وشهد أنك
نبي مرسل.» فقال: هلا جاء في الدار السابقة؟ فقال علي: قد جاء، ولكن صَدَّتْه قريش
وحُبُّه للخمر. فشفع لي فأُدخلت الجنة على أن لا أشرب فيها خمرًا، فقرَّت عيناي
بذلك، وإن لي منادح
٧٨ في العسل وماء الحيوان، وكذلك من لم يتُب من الخمر في الدنيا لم يُسقها
في الآخرة».
حديث زهير بن أبي سُلمى
وينظر الشيخ في رياض الجنة، فيرى قصرينِ مُنيفَين،
٧٩ فيقول في نفسه: لأبْلُغنَّ هذين القصرين فأسأل لمَنْ هما، فإذا قرب
منهما رأى على أحدهما مكتوبًا: (هذا القصر لزهير بن أبي سُلمى المزني)، وعلى الآخر:
(هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسدي)، فيعجب من ذلك ويقول: «هذان ماتا في الجاهلية،
ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء، وسوف ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بم غُفر لهما.»
فيبتدئ بزهير فيجده شابًّا كالزهرة الجَنِيَّة، كأنه ما لبس جلباب هِرَم، ولا تأفف
من البرم،
٨٠ وكأنه لم يقل في الميمية:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولًا — لا أبا لك — يسأم
ولم يقل في الأخرى:
ألم ترني عمرت تسعين حجة
وعشرًا تباعًا عشتُها وثمانيا
فيقول: جير جير،
٨١ أنت أبو كعب وبجير! فيقول: نعم. فيقول: بم غفر لك وقد كنت في زمان
الفترة والناس هملٌ لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفورًا، فصادقت
ملكًا غفورًا، وكنت مؤمنًا بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النائم حبلًا نزل من
السماء فمَنْ تعلَّق به من سكان الأرض سَلِم، فعلمتُ أنه أمرٌ من أمر الله، فأوصيت
بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إنْ قام قائم يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه، ولو أدركتُ
محمدًا لكنت أول المؤمنين. وقلت في الميمية والسفه ضارب بالجران:
٨٢
فلا تكتمن الله في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدَّخر
ليوم حساب أو يقدم فينقَم
٨٣
فيقول: ألست القائل:
وقد أغدو على ثُبَة
٨٤ كرام
يجرون البرود وقد تمشَّتْ
حميا
٨٦ الكأس فيها والغناء
٨٧
أفأطلقت لك الخمر كغيرك من أصحاب الخلود، أم
حرمتْ عليك مثلما حُرمت على أعشى قيس؟ فيقول زهير: «إن أخا قيس أدرك محمدًا، فوجبت
عليه الحجة لأنه بُعث بتحريم الخمر وحظر ما قبح، وهلكت أنا والخمر كغيرها من
الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجة علي.» فيدعوه الشيخ إلى المنادمة، فيجده
من ظراف الندماء، فيسأله عن أخبار القدماء.
حديث عبيد
ثم ينصرف إلى عبيد، فإذا هو قد أُعطي بقاء التأبيد،
٨٨ فيقول: «السلام عليك يا أخا بني أسد.» فيقول: «وعليك السلام — وأهل
الجنة أذكياء — لعلك تريد أن تسألني بم غفر لي؟» فيقول: «أجل، وإن في ذلك لعجبًا؟!»
فيقول عبيد: «إني دخلت الهاوية وكنت قلت في أيام الحياة:
من يسأل الناس يحرموه
وسائِلُ الله لا يخيب
وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل ينشد ويخف عني العذاب حتى أُطلقت من
القيود والأصفاد، ثم كرر إلى أن شملتني الرحمة ببركة هذا البيت، وإن ربنا لغفور
رحيم.»
فإذا سمع الشيخ ما قال ذانك الرجلان طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء.
حديث عدي بن زيد
فيقول لعبيد: ألك علمٌ بعَدِي بن زيد
العِبادي؟ فيقول: «هذا منزله قريبًا منك.» فيقف عليه فيقول: «كيف كانت سلامتك على
الصراط؟» فيقول: «إني كنت على دين المسيح، ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يُبعث
محمد، فلا بأس عليه، وإنما التبعة على من سجد للأصنام.» فيقول الشيخ: «لقد هممت
أن
أسألك عن بيتك الذي استُشهد به سيبويه وهو قولك:
أرواح مودّع أم بكور
أنتَ فانظر لأي حال تصير
فإنه يزعم أن (أنتَ) يجوز أن تُرفع بفعل مُضمر يفسره قولك (فانظر)، وأنا أستبعد
هذا المذهب ولا أظنك أردتَه؟» فيقول عدي بن زيد: «دعني من هذه الأباطيل! ولكني كنت
في الدار الفانية صاحب قفص، فهل لك أن نركب فرسين من خيل الجنة فنبعثهما على
صيرانها
٨٩ وخيطان
٩٠ نعامها وأسراب ظبائها وعانات
٩١ حمرها، فإن للقنيص لذة.» فيقول الشيخ: «إنما أنا صاحب قلم ولم أكن صاحب
خيل، وما يؤمني إذا ركبت طرفًا وأنا كما قال القائل:
لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا
فهُمْ ثقال على أكتافها عُنُف
أن يلحقني ما لحق صاحب المتجردة لمَّا حمل على اليحموم! ويجوز أن يقذفني
السابح
٩٢ على صخور زمرد فيكسر لي عضدًا أو ساقًا، فأصير ضحكة في أهل الجنان!»
فيبتسم عدي ويقول: «ويحك! أما علمت أن الجنة لا يرهب لديها السقم ولا تنزل بسكتها
النقم؟» فيركبان سابحين في خيل الجنة، مركب كل واحد منهما لو عدل بممالك العاجلة
من
أولها إلى آخرها لرجح بها وزاد في القيمة عليها، فإذا نظرا إلى صوار
٩٣ ترتع في رياض الفردوس، صوب الشيخ الرمح لأخنس
٩٤ ذيال،
٩٥ فإذا لم يبق بين السنان وبينه إلا قيد ظفر، قال: «أمسك رحمك الله، فإني
لست من وحش الجنة التي أنشأها الله سبحانه ولم تكن في الدار الزائلة، ولكني كنت
أروض في بعض القفار فمر بي ركب مؤمنون قد كرى
٩٦ زادهم، فصرعوني واستعانوا بي على السفر، فعوضني الله بأن أسكني في
الخلود.» فيكف عنه الشيخ، ويعمد لعلج وحشي ما التلف عنده بمخشي، فإذا صار
الخرص
٩٧ منه بقدر أنملة قال: «أمسك يا عبد الله، فإن الله أنعم علي ورفع عني
البؤس، وذلك أني صادني صائد بمخلب وكان إهابي
٩٨ له كالسلب،
٩٩ فباعه في بعض الأمصار، فاتخذ منه غرب
١٠٠ شفى بمائه الكرب وتطهر بنزيعه
١٠١ الصالحون، فشملتني بركة من أولئك فدخلت الجنة أُرزق فيها بغير حساب.»
فيقول الشيخ: «فينبغي أن تتميزن، فما كان منكن دخل الفانية فما يجب أن يختلط بوحوش
الجنة، فيقول ذلك الوحشي: «لقد نَصَحْتنا نُصْحَ الشفيق، وسوف نمتثل ما
أمرتَ».
حديث الهذلي
وينصرف مولاي الشيخ وصاحبه عدي، فإذا هما برجل يحتلب ناقة في إناء من ذهب،
فيقولان: مَنِ الرجل؟! فيقول: أبو ذؤيب الهذلي، فيقولان: «حييت
وسعدت، أنحتلب مع أنها من لبن!» فيقول: لا بأس،
إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنص، وإني ذكرت قولي في الدهر الأول:
وإن حديثًا منك لو تعلمينه
جنى النحل في ألبان عوذ
١٠٢ مطافل
مطافيل أبكار حديث نتاجها
تشاب بماء مثل ماء المفاصل
١٠٣
فقيض الله بقدرته لي هذه الناقة مطفلًا، فقمت أحتلب على العادة وأريد أن أشوب ذلك
بضرب
١٠٤ نحل، فإذا امتلأ إناؤه من الرسل
١٠٥ كوَّن البارئ — جلت عظمته — خلية من الجوهر رتع ثَوْلُها
١٠٦ في الدهر، فاجتنى ذلك أبو ذؤيب ومزج حليبه، فيقول: ألا تشربان؟ فيجرعان
من ذلك المحلب جرعًا لو فرقت على أهل سقر لفازوا بالخلد. فيقول عدي:
الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ.
حديث النابغتين
ويمضي في نزهته تلك بشابين يتحادثان كل واحد منهما على باب قصر من دُرِّ، قد أعفي
من البؤس والضر، فيُسلم عليهما ويقول: «من أنتما — رحمكما الله — وقد فعل؟»
فيقولان: نحن النابغتان نابغة بني جعدة ونابغة بني ذبيان. فيقول — ثبت الله وطأته:
«أما نابغة بني جعدة فقد استوجب ما هو فيه بالحنيفية،
١٠٧ وأما أنت يا أبا أمامة فما أدري ما جهتك!» فيقول الذبياني: إني كنت
مقرًّا بالله وحججت البيت في الجاهلية، ألم تسمع قولي:
فلا لعمر الذي قد زرته حججًا
١٠٨
والمؤمن العائذات
١١٢ الطير تمسحها
١١٣
ركبان مكة بين الغيل
١١٤ والسند
١١٥
وقولي:
حلفت فلم أترك لنفسك ربية
وهل يأثمن ذو أمة
١١٦ وهو طائع
بمصطحبات من لصاف
١١٧ وثَبْرة
١١٨
ولم أدرك النبي
ﷺ فتقوم الحجة عليَّ بخلافه، وإن الله تقدست أسماؤه يغفر ما عظم
وقَّل.
فيقول: «يا أبا سوادة ويا أبا أمامة ويا أبا ليلى، اجعلوها ساعة منادمة، فإن من
قول شيخنا العبادي:
أيها القلب تعلل بدَدَن
١٢١
إن همي في سماع وأذن
وشراب خسرواني إذا
ذاقه الشيخ تَغَنَّى وارجحن
١٢٢
فكيف لنا بأبي بصير؟» فلا تتم الكلمة إلا وأبو بصير قد خمسهم،
١٢٣ فيُسبحون الله ويقدسونه ويحمدونه على أن جمع بينهم، ويتلو هذه الآية:
وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ،
فإذا أكلوا من طيبات الجنة وشربوا من شرابها الذي خزنه الله لعباده المتقين قال
الشيخ: «يا أبا أمامة، إنك لخصيف
١٢٤ الرأي لَبِيب، فكيف حسن بك لُبُّك أن تقول للنعمان بن المنذر:
زعم الهمام بأن فاها بارد
عذب إذا ما ذقته قلت ازدد
زعم الهمام — ولم أذقه — بأنه
يُشفَى ببرد لثاتها العطش الصدي
١٢٥
ثم استمر بك القول حتى أنكره عليك خاصة وعامة»، فيقول النابغة بذكاء وفَهْم: «لقد
ظلمني من عاب عليَّ! ولو أنصفني لعلم أنني احترزت أشد احتراز، وذلك أن النعمان كان
مستهترًا
١٢٦ بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، فأدرت ذلك في خلدي، فقلت: «إن
وصفتها وصفًا مطلقًا جاز أن يكون بغيرها معلقًا.» وخشيت أن أذكر اسمها في النظم
فلا
يكون ذلك موافقًا للملك؛ لأن الملوك يأنفون من تسمية نسائهم. فرأيت أن أسند الصفة
إليه فأقول: (زعم الهمام)؛ إذ كنت لو تركت ذكره لظن السامع أن صفتي على المشاهدة،
والأبيات التي جاءت بعدُ داخلة في وصف الهمام، فمن تأمل
المعنى وجده غير مختل. وكيف ينشدون: وإذا نظرت
رأيت أقمر مشرقًا وما بعده؟» فيقول الشيخ: «ينشد وإذا نظرت وإذا لمست وإذا طعنت
وإذا نزعت على الخطاب.» فيقول النابغة: «قد يسوغ هذا، ولكن الأجود أن تجعلوه
أخبارًا عن المتكلم؛ لأن قولي (زعم الهمام) يؤدي معنى قولنا قال الهمام، فهذا أسلم؛
إذ كان الملك إنما يحكي عن نفسه. وإذا جعلتموه على الخطاب قبح، وإن نسبتموه إلي
فهو
مندية، وإن نسبتموه إلى النعمان فهو ازراء وتَنَقُّص».
فيقول: «لله دَرُّك يا كوكب بني مُرة! ولقد صحف عليك أهل العلم من الرواة، وكيف
لي بأبوي عمرو المازني والشيباني وأبي عبيدة وعبد الملك وغيرهم من النقلة، لأسألهم
كيف يروون، وأنت شاهد، لتعلم أني غير المتخرص
١٢٧ ولا الولاغ»،
١٢٨ فلا يقر هذا القول في حذنة
١٢٩ أبي أمامة إلا والرواة أجمعون قد أحضرهم الله القادر من غير مشقة
نالتهم، ولا كلفة في ذلك أصابتهم، فيسلمون بلطف ورفق. فيقول: «من هذه الشخوص
الفردوسية؟»
فيقولون: «نحن الرواة الذين شئت إحضارهم آنفًا.» فيقول: «لا إله إلا الله! كيف
تروون قول النابغة في الدالية، وإذا نظرت وإذا لمست وإذا طعنت وإذا نزعت، أبفتح
التاء أم بضمها؟» فيقولون: بفتحها. فيقول: «هذا شيخنا أبو أمامة يختار الضم ويُخبر
أنه حكاه عن النعمان.» فيقولون: هو كما جاء في الكتاب الكريم: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ.
فيقول الشيخ: مضى الكلام في هذا يا أبا أمامة، فأنشدنا كلمتك التي أولها:
ألما على الممطورة
١٣٠ المتأبدة
١٣١
أقامت بها في المربع
١٣٢ المتجردة
١٣٣
مضمخة بالمسك مخضوبة الشوى
١٣٤
بدر وياقوت لها متقلدة
كأن ثناياها — وما ذقت — طعمها
ليقرر بها النعمان عينا، فإنها
له نعمة في كل يوم مجددة
١٣٧
فيقول أبو أمامة: ما أذكر أني سلكت هذا القريّ قط. فيقول مولاي الشيخ: «إن ذلك
لعجب! فمن الذي تطوع فنسبها إليك؟» فيقول: «إنها لم تنسب إلي على سبيل التطوع، ولكن
على معنى الغلط والتوهم، ولعلها لرجل من بني ثعلبة بن سعد.» فيقول نابغة بني جعدة:
«صحبني شاب في الجاهلية ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنه
ابن
ثعلبة، وصادف قدومه شكاة
١٣٨ من النعمان، فلم يصل بها إليه.» فيقول نابغة بني ذبيان: «ما أجدر ذلك
أن يكون».
مجلس غناء
ويمر رف
١٣٩ من إوز الجنة فلا يلبث أن ينزل على تلك الروضة ويقف وقوف منتظر لأمر،
ومن شأن طير الجنة أن يتكلم، فيقول: «ما شأنكن؟» فيقلن: «ألهمنا أن نسقط في هذه
الروضة فنُغنِّي لمن فيها من شرب.» فيقول: «على بركة الله القدير»، فينتفضن فيصرن
جواري كواعب، يرفلن
١٤٠ في وشي
١٤١ الجنة، وبأيديهن المزاهر
١٤٢ وأنواع ما يلتمس به الملاهي، فيعجب وحق له العجب، وليس ذلك ببديع من
قدرة الله جلت عظمته. فيقول لإحداهن على سبيل الامتحان: «اعملي قول أبي أمامة، وهو
هذا القاعد:
أمن آل مية رائح
١٤٣ أو مغتدي
١٤٤
عجلان ذا زاد وغير مزوَّد
ثقيلًا أول.» فتصنعه فتجيء به مطربًا، وفي أعضاء السامع متسربًا، ولو نُحت صنم من
أحجار ثم سمع ذلك الصوت لرقص. فيقول: «هلم خفيف الثقل الأول.» فتنبعث فيه بنغم لو
سمعه الغريض
١٤٥ لأقرأن ما ترنم به مريض، فإذا أجادته، قال: عليك بالثقيل الثاني. فتأنى
به، فإذا رأى ذلك قال: «سبحان الله، كلما كشفت القدرة بدت لها عجائب، فصيري إلى
خفيف الثقل الثاني فإنك لمجيدة محسنة. ثم يقترح عليها الرمل وخفيفه وأخاه الهزج،
فإذا تيقن لها حذاقةً، وعرف منها بالعود لياقةً، هلل وكبَّر وأطال حمد ربه واعتبر
وقال: «ويحك، ألم تكرني الساعة إوزة طائرة؟ فمن أين لك هذا العلم؟ لو نشأت بين معبد
وابن سريج، لما هجت السامع بهذا الهيج! فكيف نقضت بله الإوز؟ فتقول: «وما الذي رأيت
من قدرة بارئك! أنك على سِيف
١٤٦ بحر لا يدرك له عبر،
١٤٧ سبحان من يُحيي العظام وهي رميم».
حديث لبيد
فبينما هم كذلك إذ مر شاب في يده مِحجن
١٤٨ ياقوت، فيُسلِّم عليهم فيقولون: «من أنت؟» فيقول: «أنا لبيد بن ربيعة
بن مالك بن جعفر بن كليب.» فيقول: «أكرمت أكرمت، لو قلت لبيد وسكتَّ، لشهرت باسمك،
فما بالك في مغفرة ربك؟!» فيقول: «أنا بحمد الله في عيش قَصُرَ أن يصفه الواصفون،
لا هرام ولا برم».
فيقول الشيخ: «تبارك الملك القدوس، ومن لا تدرك يقينه الحدوس،
١٤٩ كأنك لم تقل في الدار الفانية.
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
ولم تَفُهْ بقولك:
بَجلي
١٥١ الآن من العيش بَجل
فأنشدنا ميميتك المعلقة.» فيقول: «هيهات! إني تركت الشعر في الدار الخادعة، ولن
أعود إليه في الدار الآخرة وقد عُوِّضت ما هو خير وأبر».
فيقول: أخبرني عن قولك:
ترَّاكُ أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامُها
هل أردت ببعض معنى كل؟ فيقول لبيد: «كلا، إنما أردت نفسي، وهذا كما تقول للرجل:
إذا ذهب مالك أعطاك بعض الناس مالًا. وأنت تعني نفسك في الحقيقة، وظاهر الكلام واقع
على كل إنسان، وعلى كل فرقة تكون بعضًا للناس».
فيقول: «أخبرني عن قولك: أو يرتبط؛ هل مقصدك إذا لم أرضها أو لم يرتبط، أم غرضك
أترك المنازل أو يرتبط فيكون يرتبط كالمحمول على قولك تراك أمكنة؟» فيقول لبيد:
«الوجه الأول أردتُ».
•••
ويخطر له غناء القيان بالفسطاط ومدينة السلام، ويذكر ترجيعهن بميمية المخبَّل
السعدي، فتندفع تلك الجواري التي نقلتهن القدرة من خلق الطير إلى خلق الحور، تلحن
قول المخبل السعدي:
ذكر الرباب وذكرها سقم
وصبا، وليس لمن صبا عزم
كاللؤلؤ المسجور
١٥٥ توبع في
سلك النظام فخانه النظم
١٥٦
فلا يمر حرف ولا حركة إلا ويوقع مسرة لو عدلت بمسرات أهل العاجلة منذ خلق الله
آدم إلى أن طوى ذريته، لكانت الزائدة على ذلك زيادة اللج المتموج على دمعة الطفل،
والهضب
١٥٧ الشامخ على الهباءة،
١٥٨ ويقول لندمائه: «ألا تسمعون قول السعدي:
وتقول عاذلتي وليس لها
بغد ولا ما بعده علم:
«إن الثراء هو الخلود وإن
المرء يكرُب
١٥٩ يومه العدم»
ولئن بنيت لي المشقّر
١٦٠ في
فيقول: «إنه المسكين قال هذه الأبيات وبنو آدم في دار المحن والبلاء والوالدة
تخاف المنية على الولد، والفقر يرهب ويتقى والمال يطلب ويستبقى. ﻓ
الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ
رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا
فِيهَا لُغُوبٌ.
١٦٤ فتبارك الله القدوس، نَقَلَ هؤلاء المُسمِعات
١٦٥ من زي ربات الأجنحة
١٦٦ إلى زي ربات الأكفال المُترجِّحة،
١٦٧ ثم ألهَمَهنَّ بالحكمة حِفْظَ أشعار لم تَمْرُرْ قبلُ بمسامعهنَّ،
فجئنَ بها مُتْقَنة محمولة على الطرائق مُلحَّنة! ولقد كانت الجارية في الدار
العاجلة إذا تُفرِّست فيها النجابة وأُحضِرت لها الملحنة لتلقي إليها ما تعرف من
ثقيل وخفيف، تقيم معها الشهر والشهرين قبل أن تُلقن بيتًا من الغزل أو بيتين، ثم
تعطى المئة أو المئتين، فسبحان القادر!»
مشاجرة الجعدي والأعشى
ويقول نابغة بني جعدة وهو جالس يستمع: «يا أبا بصير، أهذه الرباب التي ذكرها
السعديُّ هي ربابك التي ذكرتها في قولك:
بعاصي العواذل طلق اليدين
يعطي الجزيل ويرخي الإزارا
فما نطق الديك حتى ملأ
تُ كوب الرباب له فاستدارا
إذا انكبَّ أزهرُ
١٦٨ بين السقا
ة تراموا به غَرَبًا أو نضارا
١٦٩
فيقول أبو بصير:
١٧٠ «قد طال عمرك يا أبا ليلى، وأحسبك أصابك الفند،
١٧١ فبقيت على فندك
١٧٢ إلى اليوم! أما علمت أن اللواتي يسمَّين بالرباب أكثر من أن يُحصين؟
أفتظن أن الرباب هذه هي التي ذكرها القائل:
أو التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
وجارتها أم الرباب بمأسل
فيقول نابغة بن جَعدة: «أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة، وقد متَّ
كافرًا وأقررت على نفسك بالفاحشة، وأنا لقيت النبي
ﷺ فأنشدته كلمتي التي أقول
فيها:
بلغنا السماء مجدُنا وسناؤنا
١٧٦
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرًا
١٧٧
فقال لي: «إلى أين يا أبا ليلى؟» فقلت: «إلى الجنة بك يا رسول الله.» فقال: «لا
يفضض الله فاك».
أغرَّكَ أن عَدَّكَ بعض الجهال رابع الشعراء الأربعة، وكذب مفضلك، وإني لأَطْوَلُ
منك نَفَسًا، وأكثر تصرُّفًا، ولقد بلغت بعدد البيوت ما لم يبلغه أحد من العرب
قبلي، وأنت لاهٍ بعفارتك
١٧٨ تفتري على كرائم قومك، وإن صدقت فخزيًا لك ولمقارك».
١٧٩
فيغضب أبو بصير فيقول: «أتقول هذا وإن بيتًا مما بنيت لَيعدل بمئة من بنائك؟ وإن
أسهبت في منطقك فإن المسهب كحاطب الليل، وإني لفي الجُرثومة
١٨٠ من ربيعة الفرس، وهل جعدة إلا رائدة ظليم
١٨١ نفور؟ أتعيرني مدح الملوك يا جاهل، ولو قدرت على ذلك لهجرت إليه أهلك
وولدك؟ ولكنك خلقت جبانًا، لا تدلج
١٨٢ في الظلماء الداجية ولا تهجّر
١٨٣ في الوديقة
١٨٤ الصاخدة».
١٨٥
فيقول الجعدي: «اسكت يا ضُل بن ضُل، فأُقسم أن دخولك الجنة من المنكرات، ولكنَّ
الأقضية جرتْ كما شاء الله، لَحَقُّك أن تكون في الدرك الأسفل من النار، ولقد صَلِي
بها مَن هو خير منك، ولو جاز الغلط على رب العزة لقلتُ إنه غلط بك! ألستَ
القائل:
فدخلتُ إذ نام الرقيبُ
فبتُّ دون ثيابها
واستقللتَ ببني جعدة وليوم من أيامهم يرجح بمساعي قومك، وزعمتَني جبانًا وكذبتَ،
لأنا أشجع منك ومن أبيك، وأصْبَر على إدلاج المظلمة ذات الأريز،
١٩٧ وأشد إدلاجًا في الهاجرة أم الصخدان.»
١٩٨ ويثبُ نابغةُ بني جعدة على أبي بصير فيضربه بكوز من ذهب.
فيقول الشيخ — أصلح الله به: لا عربدة
١٩٩ في الجنان، إنما يُعرف ذلك بين السفلة والهجاج،
٢٠٠ وإنك يا أبا ليلى لمتترع،
٢٠١ ولولا أن في الكتاب الكريم:
لَّا يُصَدَّعُونَ
عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ لَظَنَنَّاك أصابك نزف في عقلك. ويريد أن
يُصلح بين الندماء فيقول: «يجب أن يُحذر من مَلَكٍ يعبر، فيرى هذا المجلس فيرفع
حديثه إلى الجبار الأعظم، فلا يَجرُّ ذلك إلا إلى ما تكرهانِ، واستغنى ربنا أن
تُرفع الأخبار إليه، ولكن جرى ذلك مجرى الحَفَظة في الدار العاجلة. أما علمتما أن
آدم خرج من الجنة بذنب حقير! فغير آمن من ولد أن يقدر له مثل ذلك، فسألتك بالله
يا
أبا بصير: هل يهجس لك تمني المدام!» فيقول: «كلا والله، إنها عندي كمثل المقر لا
يخطر ذكرها بالخلد، فالحمد لله الذي سقاني عنها
٢٠٢ السُّلوانة».
٢٠٣
فيقول: «يا أبا ليلى، إن الله — جلَّت قدرتُه — مَنَّ علينا بهؤلاء الحور العين
اللواتي حولهن عن خلق
٢٠٤ الإوز، فاختر لنفسك واحدة منهن، فلتذهب معك إلى منزلك تلاحنك أرق
اللحان وتُسمعك ضروب الألحان.» فيقول لبيد بن ربيعة: «إن أخذ أبو ليلى قينة وأخذ
غيره مثلها، أليس ينتشر خبرها في الجنة، فلا يؤمن أن يسمى فاعلو ذلك أزواج الإوز.»
فتضرب الجماعة عن اقتسام أولئك القيام.
ويفترق أهل ذلك المجلس بعد أن أقاموا فيه كعمر الدنيا أضعافًا كثيرة.
عُوران قيس
فبينما هو يطوف في رياض الجنة لقيه خمسة نفر على خمسة أينق فيقول: «ما رأيت أحسن
من عيونكم في أهل الجنان، فمن أنتم خلَّد الله عليكم النعيم؟» فيقولون: «نحن
عوران
٢٠٥ قيس، تميم بن مقبل العجلاني، وعمرو بن أحمد الباهلي، والشماخ معقل بن
ضرار، وراعي الإبل عبيد بن الحصين النميري، وحميد بن ثور الهلالي».
فيقول للشماخ بن ضرار: «لقد كان في نفسي أشياء من قصيدتك التي على الزاي وكلمتك
التي على الجيم، فأنشدنيهما لا زلت مخلدًا كريمًا.» فيقول: «لقد شغلني عنهما النعيم
الدائم، فما أذكر منهما بيتًا واحدًا.» فيقول لفرط حبه الأدب: «لقد غفلت أيها
المؤمن وأضعت! أما علمت أن كلمتيك أنفع لك من ابنتيك؟ ذكرت بهما في المواطن وشهرت
عند راكب السفر والقاطن. وإن القصيدة من قصائد النابغة لأنفع له من ابنته عقرب،
ولعل تلك شانته وما زانته، وأصابها في الجاهلية سباء
٢٠٦ وما وفر لأجلها الحِباء،
٢٠٧ وإن شئت أن أنشدك قصيدتيك فإن ذلك ليس بمتعذر علي.» فيقول: «أنشدني،
ضفت عليك نعمة الله» فينشده:
عفا من سليمى بطن قوّ فعالز
فذات الغضا فالمشرفات النواشز
٢٠٨
فيجده بها غير عليم، ويسأله عن أشياء منها فيصادفه بها غير بصير، فيقول: «شغلتني
لذائذ الخلود عن تعهُّد هذه المنكرات:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ
إنما كنت أسِقُ
٢٠٩ هذه الأمور وأنا آمل أن أُفقر
٢١٠ بها ناقة أو أُعطى كيل عيالي سنة، وأنا الآن في تفضُّل الله أغترف في
مرافد المسجد من أنهار اللبن، فتارة ألبان الإبل، وتارة ألبان البقر، وإن شئت لبن
الضأن فإنه كثير جم، وكذلك لبن المعيز، ولقد أراني في دار الشقوة أجهد أخلاف شياه
لجبات
٢١١ لا يمتلئ منهن القعب.»
٢١٢ فيقول الشيخ: «فأين عمرو بن أحمر؟» فيقول عمرو: «ها أنا ذا.» فيقول:
«أنشدني قولك:
بان الشباب وأخلف العَمر
وتغير الإخوان والدهر
فقد اختلف الناس في تفسير (العَمر) بالفتح، فقيل إنك أردت البقاء، وقيل إنك أردت
الواحد من عمور الأسنان وهو اللحم الذي بينها.» فيقول عمرو متمثلًا:
«خذا وجه هرشي
٢١٣ أَوْقِفاها، فإنه
كلا جانبي هرشي لهن طريق
ولم تترك فيَّ أهوال القيامة غبرا للإنشاد، أما
سمعت الآية: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ
شَدِيدٌ؟
وقد شهدت الموقف، فالعجب لك إذا بقي معك شيء من روايتك.» فيقول له الشيخ: «إني
كنت أخلص الدعاء في أعقاب الصلوات قبل أن أنتقل من تلك الدار، أن يمنعني الله بأدبي
في الدنيا والآخرة. فأجابني إلى ما سألت وهو الحميد المجيد.» ثم يذكر له أشياء من
شعره، فيجده عن الجواب مستعجمًا.
حكاية تميم بن أُبي
فيقول أيكم تميم بن أُبي؟ فيقول رجل منهم: ها أنا ذا. فيقول: أخبرني عن
قولك:
يا دار سلمي خلاء لا أكلفها
إلا المرانة حتى تسأم الدنيا
ما أردت بالمرانة؟ فقد قيل: إنك أردت اسم امرأة، وقيل: هي اسم أمَة، وقيل:
العادة. فيقول تميم: «والله ما دخلت من باب الفردوس ومعي كلمة من الشعر ولا الرجز،
وذلك أني حُوسبت حسابًا شديدًا. وقيل لي: كنت فيمن قاتل علي بن أبي طالب، وانبرى
إلى النجاشي الحارثي، فما أفلت من اللهب حتى سفعني
٢١٤ سفعات، وإن حفظك لمبقي عليك كأنك لم تشهد أهوال الحساب. ومنادي الحشر
يقول: «أين فلان ابن فلان.» والشوس
٢١٥ الجبابرة من الموك تجذبهم الزبانية إلى الجحيم، والنسوة ذوات التيجان
يصرن بألسنة من الوَقود، فتأخذ في فروعهن وأجسادهن، فيصحن: هل من فداء، هل من عُذر
يقام، والشباب من أولاد الأكاسرة يتضاغون
٢١٦ في سلال النار ويقولون: «نحن أصحاب الكنوز، نحن أرباب الفانية، ولقد
كانت لنا إلى الناس صنائع وأياد، فلا فادي ولا معين. فهتف داع من قِبَل العرش:
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن
نَّصِيرٍ لقد جاءتكم الرسل في زمان بعد زمان، وبذلت لكم ما وكد من
الإيمان، وقيل لكم في الكتاب:
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ
فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ. فكنتم في لذات الساخرة
٢١٧ واغلين،
٢١٨ وعن أعمال الآخرة متشاغلين. فالآن ظهر النبأ؛ لا ظلم اليوم إن الله قد
حكم بين العباد».
هوامش