جنة العفاريت
ويبدو له أن يطلع إلى أهل النار، فينظر إلى ما هم فيه، ليعظم شكره على النعم، بدليل
قوله تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
* يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ *
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ١ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ *
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللهِ إِن
كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ.
•••
فيركب بعض دواب الجنة ويسير! فإذا هو بمدائن ليست كمدائن الجنة، ولا عليها النور
الشعشعاني،
٢ وهي ذات أوحال وغماميل،
٣ فيقول لبعض الملائكة: «ما هذه يا عبد الله؟» فيقول: «هذه جنة العفاريت
الذين آمنوا بمحمد
ﷺ وذُكروا في الأحقاف، وفي سورة الجن، وهم عدد كثير».
فيقول: «لأعدِلَنَّ إلى هؤلاء، فلن أخلو لديهم من أعجوبة.» فيعرج عليهم، فإذا هو
بشيخ
جالس على باب مغارة، فيسلم عليه، فيحسن الرد، ويقول: «ما جاء بك يا إنسي؟» فيقول:
«سمعت
أنكم جن مؤمنون، فجئت ألتمس عندكم أخبار الجنَّان،
٤ وما لعله يوجد لديكم من أشعار المردة.» فيقول ذلك الشيخ: «لقد أصبت العالم
ببجدة
٥ الأمر، فسل عما بدا لك».
فيقول: «ما اسمك أيها الشيخ؟» فيقول: «أنا الخيتعور أحد بني الشيطان، ولسنا من ولد
إبليس، ولكنا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم — صلى الله عليه».
أشعار الجن
فيقول: «أخبرني عن أشعار الجن، فقد جَمَع المعروف بالمرزباني قطعة صالحة.» فيقول
ذلك الشيخ: «إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف
البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض! وإنما لهم خمسة عشر جنسًا من الموزون، قَلَّ
ما
يعدوها القائلون، وإن لنا لآلاف أوزان ما سمع بها الإنس، وإنما كانت تخطر بهم
أطيفال منا عارفون، فتنفث إليهم مقدار الضوازة
٦ من أراك
٧ نعمان.
٨ ولقد نظمت الرجز والقصيد قبل أن يخلق آدم بكور
٩ أو كورين، وقد بلغني أنكم معشر الإنس تلهجون بقصيدة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وتحفظونها الحزاورة
١٠ في المكاتب، وإن شئتَ أمليتُك ألف كلمة على هذا الوزن على مثل منزِلِ
وحَوْمَلِ، وألفًا على ذلك القرى يجيء على مَنْزِلُ وحومَلُ، وألفًا على منزلًا
وحوملًا، وألفًا على منزلَه وحوملَه، وألفًا على منزلِه وحوملِه. وكل ذلك لشاعر
منا
هلك وهو كافر، وهو الآن يشتغل في أطباق الجحيم».
•••
فيقول: «أيها الشيخ، لقد بقي عليك حفظك!»
فيقول: «لسنا مثلكم يا بني آدم، يغلب علينا النسيان والرطوبة؛ لأنكم خُلقتم من
حمأ
١١ مسنون، وخُلقنا من مارج
١٢ من نار».
فتحمله الرغبة في الأدب أن يقول لذلك الشيخ: «أفتُمْلِ عليَّ شيئًا من تلك
الأشعار؟»
فيقول: «فإذا شئت أمللتُك ما لا تسِقه
١٣ الرِّكاب
١٤ ولا تسَعُه صحف دُنياك».
فيهمُّ بأن يكتتب منه، ثم يقول: «لقد شقيت في الدار العاجلة بجمع الأدب، ولم أحظَ
منه بطائل، ولست بموفَّق إن تركتُ لذَّات الجنة وأقبلتُ أنتَسِخ آداب الجن، ومعي
من
الأدب ما هو كافٍ، لا سيما وقد شاع النسيان في أهل أدب الجنة، فصرت من أكثرهم رواية
وأوسعهم حفظًا، ولله الحمد».
ويقول لذلك الشيخ: «ما كُنْيتك لأُكرمك بالتكنية؟» فيقول: «أبو هدرش، أولدت من
الأولاد ما شاء الله، فهم قبائل بعضهم في النار الموقدة وبعضهم في الجنان».
فيقول: «يا أبا هدرش! ما لي أراك أشْيَب، وأهل الجنة شباب؟»
فيقول: «إن الإنس أُكرموا بذلك وحُرمناه؛ لأنا أُعطينا الحولة
١٥ في الدار الماضية، فكان أحدنا إن شاء صار حية رقشاء،
١٦ وإن شاء صار عصفورًا، وإن شاء صار حمامة، فمنعنا التصور في الدار
الآخرة، وتُركنا على خَلْقنا لا نتغير، وعُوض بنو آدم كونهم فيما حسن من الصور،
وكان قائل الإنس يقول في الدار الذاهبة: أُعطينا الحيلة وأُعطي الجن الحولة».
قصة الجني
«ولقد لقيت من بني آدم شرًّا، ولقوا مني كذلك، حتى رزق الله الإنابة،
١٧ وأثاب الجزيل، فلا أفتأ له من الحامدين:
حَمَدْتُ مَنْ حَطَّ أوزاري ومَزَّقها
عني، فأَصْبَح ذنبي اليومَ مغفورا
وكنتُ آلَفُ مِن أترابِ قُرْطبة
خودا
١٨ وبالصين أخرى بنت يَغْبُورا
١٩
أزورُ تلك وهذي غيرُ مُكْتَرِث
في ليلة، قبل أن أَسْتِوْضِحَ النُّورا
ولا أمُرُّ بوَحْشِيٍّ ولا بَشَر
إلا وغادَرْتُه وَلْهَانَ مَذْعُورا
وأرْكَبُ الهيق
٢٠ في الظَّلْماء مُعْتَسِفًا
٢١
أو لا، فذَب
٢٢ رياد
٢٣ بات مغرورا
وأحضرُ الشرب
٢٤ أعروهم بآبدة
يزجُّون عودًا ومزمارًا وطنبورا
٢٥
فلا أُفارقهم حتى يكون لهم
فعلٌ يظلُّ به إبليس مسرورا
وأصرف العدل
٢٦ ختلًا
٢٧ عن أمانته
حتى يخون وحتى يشهد الزورا
وكم صرعتُ عوانًا
٢٨ في لظى لهب
قامت تمارس للأطفال مسجورا
٢٩
وذادني
٣٠ المرء نوح عن سفينته
ضربًا إلى أن غدا الظنبوب
٣١ مكسورا
وطرت في زمن الطوفان معتليًا
في الجو حتى رأيت الماء محسورا
٣٢
لم أخله من حديث ما، ووسوسة
إذ دك ربك في تكليمه الطورا
٣٧
أضللت رأي أبي ساسان
٣٨ عن رشد
وسرت مستخفيًا في جيش سابورا
٣٩
وساد بهرام جور،
٤٠ وهو لي تبع
أيام يبني — على علاته — جورا
٤١
فتارة أنا صل،
٤٢ في نكارته،
وربما أبصرتني عصفورا
نلوح للإنس حولًا أو ذوي عور
ولم نكن قط لا حولًا ولا عورا
٤٣
•••
ثم اتعظت، وصارت توبتي مثلًا
من بعد ما عشت بالعصيان مشهورا
حتى إذا انقضت الدنيا ونودي إسـ
ـرافيل: «ويحك هلا تنفخ الصورا»
أماتني الله شيئًا، ثم أيقظني
لمبعثي فرزقت الخلد مسرورا»
لغة الجن
فيقول: «لله درك يا أبا هدرش، فكيف ألسنتكم؟ أيكون فيكم عرب لا يفهمون عن الروم،
وروم لا يفهمون عن العرب كما نجد في أجيال الإنس؟»
فيقول: «هيهات أيها المرحوم، إنا أهل ذكاء وفطن، ولا بد لأحدنا أن يكون عارفًا
بجميع الألسن الإنسية ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنيس».
حديث الرَّجم
«وأنا الذي أنذرت الجن بالكتاب المنزَّل، أدلجت في رفقة نريد اليمن، فمررنا
بيثرب، ﻓ
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي
إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا
أَحَدًا.
٤٤ وعدت إلى قومي فذكرت لهم ذلك، فتسرعتْ منهم طوائف إلى الإيمان، وحثهم
على ما فعلوه أنهم رُجموا عن استراق السمع بكواكب محرِقات».
٤٥
فيقول: «يا أبا هدرش! أخبرني — وأنت الخبير — هل كان رجم النجوم في الجاهلية، فإن
بعض الناس يقول إنه حدث في الإسلام؟»
فيقول: هيهات! أما سمعت قول الأودي:
كشهاب القذف يرميكم به
فارس في كفه للحرب نار
وقول ابن حجر:
نقع
٤٨ يثور تخاله طُنُبا
٤٩
ولكن الرجم زاد في أوان المبعث،
٥٠ وإن التخرص لكثير في الإنس والجن، وإن الصدق لمعوز قليل، وهنيئًا في
العاقبة للصادقين، وفي قصة الرجم قول:
مكة أقوت من بني الدردبيس
٥١
يجلد في الخمر ويشتد في الـ
أمر ولا يطلق شرب الكسيس
٥٥
ويرجم الزاني ذا العِرْس لا
•••
بواشك الصرعة قبل المسيس
٦٠
ملجن
٦٢ فوق الماحل
٦٣ العربسيس
٦٤
لا نسك في أيامنا عندنا
بل نكس الدين، فما إن نكيس
٦٨
فالأحد الأعظم والسبت كالـ
اثنين، والجمعة مثل الخميس
٦٩
لا مُجس نحن ولا هوَّد
ولا نصارى يبتغون الكنيس
نمزق التوراة من هونها
ونحطم الصلبان، حطم اليبيس
٧٠
•••
يفرغ كيسا في الخنا بعد كيس
ونخرج الحسناء مطرودة
من بيتها عن سوء ظن حديس
نقول: «لا تقنع بتطليقة
واقبل نصيحًا لم يكن بالدسيس»
حتى إذا صارت إلى غيره
عاد من الوجد، بجَد تعيس
تذكره منها، وقد زوجت
ثغرًا كدر في مُدام غريس
•••
ونسخط المَلْك على المشفق المـ
ـفرط في النصح إذا الملك سيس
لا أتقي البر لأهواله
وأركب البحر أوان القريس
٧٢
نادمت قابيل، وشيتا، وها
بيل على العاتقة الخندريس
٧٣
ورهط لقمان، وأيساره
عاشرت من بعد الشباب اللبيس
٧٤
ثمت آمنت، ومن يرزق الـ
إيمان يظفر بالخطير النفيس
جاهدت في بدر، وحاميت في
أُحد، وفي الخندق رعت الرئيس
٧٥
وراء جبريل، وميكال نخـ
ـلي الهام، في الكبَّة
٧٦ خلي اللسيس
٧٧
بئس نتيج الناقة العنتريس
٧٩
جرداء، ما سائسها بالأريس
٨٢
وقاذفا بالصخرة المرمريس
٨٤
وسرت قدام على غدا
ة النهر حتى فل غرب الخميس
٨٥
صادف مني واعظ توبة
فكانت اللقوة
٨٦ عند القبيس
٨٧
فيعجب لما سمعه من ذلك الجني، ويكره الإطالة عنده فيودعه.
حديث الأسد
ويحُم،
٨٨ فإذا هو بأسد يفترس من صيران
٨٩ الجنة وحسيلها،
٩٠ فلا تكفيه مئة ولا مئتان، فيقول في نفسه: «لقد كان الأسد يفترس الشاة
العجفاء
٩١ فيقيم عليها الأيام، لا يطعم سواها شيئًا.» فيُلْهَم الأسد أن يتكلم،
وقد عرف ما في نفسه فيقول: «يا عبد الله! أليس أحدكم في الجنة تُقدَّم له
الصحفة
٩٢ فيأكل منها مثل عمر السموات والأرض، يلتذ بما أصاب، فلا هو مُكْتَفٍ،
ولا هي الفانية، وكذلك أنا أفترس ما شاء الله، فلا تأذى الفريسة بظفر ولا ناب، ولكن
تجد من اللذة كما أجد، بلطف ربها العزيز!»
«أتدري من أنا؟ أنا أسد القاصدة التي كانت في طريق مصر، فلما سافر عتبة بن أبي
لهب يريد تلك الجهة، وقال النبي
ﷺ: «اللهم سلِّط عليه كلبًا من كلابك.» أُلهمت أن
أتجوَّع له أيامًا، وجئت وهو نائم بين الرفقة، فتخللت
٩٣ الجماعة إليه، وأُدخِلت الجنة بما فعلتُ».
حديث الحطيئة
فيذهب، فإذا هو ببيت في أقصى الجنة، كأنه حفش
٩٤ أمة راعية، وفيه رجل ليس عليه نور سكان الجنة، وعنده شجرة
قميئة،
٩٥ ثمرها ليس بزاكٍ.
٩٦
فيقول: «يا عبد الله! لقد رضيت بحقير».
فيقول: «والله ما وصلت إليه إلا بعد هياط ومياط.
٩٧ وطراق من شقاء، وشفاعة من قربش، وددت أنها لم تكن».
فيقول: «من أنت؟» فيقول: «أنا الحطيئة العبسي.» فيقول: «بم وصلت إلى الشفاعة؟»
فيقول: «بالصدق.» فيقول: «في أي شيء؟» فيقول: «في قولي:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
بهجر،
٩٨ فلا أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهًا قبح الله خلقه
فقبح من وجه، وقبح حامله»
فيقول: «ما بال قولك:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
٩٩
لَمْ يغفر لك به؟» فيقول: «سبقني إلى معناه الصالحون، ونظمته ولم أعمل به، فحرمت
الأجر عليه.» فيقول: «ما شأن الزبرقان بن بدر؟» فيقول الحطيئة: «هو رئيس في الدنيا
والآخرة، انتفع بهجائي، ولم ينتفع غيره بمديحي».
هوامش