الرد على رسالة ابن القارح
لو قالت شيرين الملكة لكسرى: «جعلني الله فداءك» لَخَالبته في ذلك ونافقته، وإن راقته ووافقته، على أنه أخذها من حال دنية فجعلها في النعمى، وعتبه في ذلك الأحباء وجرت لهم في ذلك قصص وأنباء، وقيل له — فيما ذكر: «كيف تطيب نفس الملك لهذه المومس؟» فضرب لهم المثل بالقدح، جعل في الإناء الشعر والدم، وقال للحاضر: «تجيب نفسك لشرب ما فيه؟» فقال: «إنها لا تطيب وهي بالأنجاس».
•••
وكيف يقول الخليل المخلص: إن حنينه حنين واله من النوق، وهي الذاهلة أن حمل عليها بعض الوسوق، وإنما تسجع ثلاثًا أو أربعًا، ثم يكون سلوها متبعًا.
وكيف يعتب الزمن على تجافيه، وإنما حشى بشر وغدر وما أقل صدق الآلاف!
•••
وكيف تدعي للعلج الوحشي، أن تغريده في السحر أشعار موزونة، وهل يصور لعاقل أن الغراب الناعب صاج بتشبيب؟ فبعد من زعم أن الحجر متكلم، وأنه عند الضرب متألم.
وأما وروده حلب — حرسها الله — فلو كانت تعقل، لفرحت به فرح الشمطاء شحط سليلها الواحد، وقدم بعد أعوام. فالحمد لله الذي أعاد البارق إلى الغمام الوسمي.
•••
وإني لأعجب من تمالئ جماعة على أمر ليس بالحسن ولا الطاعة، قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الحبار، ولم أصلح نخلتي يابار، وقيل لبعض الحكماء: «إن فلانًا تلطف حتى قتل نفسه، وكره أن يمارس بدائع الشرور، وأحب النقلة إلى منازل السرور.» فقال الحكيم قولًا معناه: «أخطأ ذلك الشاب، هلا صبر على صروف الزمان، فإنه لا يشعر علام يقدم».
أبو القطران الأسدي
•••
•••
قال الضبي:
وما زالت العرب تسمي القبر بيتًا، وإن كان المنتقل إليه ميتًا.
قال الراجز:
أمثال العرب
وأما حلب — حماها الله — فإنها الأم البرة، وما أحسبها — إن شاء الله — تظاهر بذميم العقوق، ولا تغفل المفترض من الحقوق، ووحشية يحتمل أن يكون الشيخ جعلها نائبة عمن فقده من الإخوان الذين عدم نظيرهم؟ وكذلك تجري أمثال العرب، يكنون فيها بالاسم عن جميع الأسماء، مثال ذلك أن يقول القائل:
صار ذلك مثلًا لكل من عمل عملًا لم يحكمه، فيجوز أن يقال لمن اسمه خالد أو بكر أو ما شاء الله من الأسماء، ويضعون في هذا الباب المؤنث موضع المذكر، والمذكر موضع المؤنث، فيقولون للرجل: «الصيف ضيعت اللبن.» وإذا أرادوا أن يخبروا بأن المرأة كانت تفعل الخير ثم هلكت فانقطع ما كانت تفعله، جاز أن يقولوا: «ذهب الخير مع عمرو بن جمعة.» وهذا كثير.
شكاة الأدباء
وأما شكواه إلي فإني وإياه لكما قيل في المثل: «الثكلى تعين الثكلى.» وعلى ذلك حمل الأصمعي قول أبي دؤاد.
أما المطية فآلية، وأما المزادة فخالية:
ولا أرتاب في أنه يحفظ قول الفزاري، منذ خمسين حجة أو أكثر:
•••
•••
وإن حساد البارع لكما قال الفرزدق:
أبو الطيب المتنبي
فأما من ذكره من قول أبي الطيب: «أذم إلى هذا الزمان أهيله.» فقد كان الرجل مولعًا بالتصغير، لا يقنع منه بخلسة المغير، كقوله:
وقوله: «مقالي للأحيمق يا حليم».
وقوله: «ونام الخويدم عن ليلنا».
وقوله: «أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعر».
وغير ذلك مما هو موجود في ديوانه، ولا ملامة عليه؛ إنما هي عادة صارت كالطبع، تغتفر مع المحاسن، وهذا البيت الذي أوله: «أذم إلى هذا الزمان أهيله.» إنما قاله في علي بن محمد بن سيار بأنطاكية قبل أن يمدح سيف الدولة، والشعراء مطلق لهم ذلك؛ لأن الآية شهدت عليهم بالتخرص وقول الأباطيل: ألَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.
•••
دعبل بن علي
وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، ولا أرتاب في أن دعبلًا كان على رأي الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشية.
أبو نواس
وقد اختلف في أبي نواس، ادعي له التأله، وأنه كان يقضي صلوات نهاره في ليله، والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه.
سذاجة العرب
وذلك أن العرب جاءها النبي ﷺ وهي ترغب إلى القصيد، وتقصر هممها عن القصيد، فاتبعه منها متبعون، والله أعلم بما يوعون، فلما ضرب الإسلام بجرانه واتسق ملكه، مازج العرب غيرهم من الطوائف، وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق، فمالت منهم طائفة كثيرة.
رسالة آدم
ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور، حتى إن أصحاب السير يزعمون أن آدم — صلى الله عليه وسلم — بعث إلى أولاده، فأنذرهم بالآخرة، وخوَّفهم من العذاب، فكذبوه وردوا عليه قوله، ثم على ذلك المنهاج إلى اليوم.
زندقة قريش
وبعض العلماء يقول: «إن سادات قريش كانوا زنادقة، وما أجدرهم بذلك! وقال شاعرهم يرثي قتلى بدر، وتروى لشداد بن الأسود الليثي:
ولا يدعي مثل هذه الدعاوى إلا من يستبسل وراءها للحمام، ولا يأسف له عند المام.»
عودة إلى أبي الطيب المتنبي
وحدثت أيضًا أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام، فجرحته جرحًا مفرطًا، وأن أبا الطيب نقل عليها من ريقه، وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: «لا تحلها في يومك. وعد له أيامًا وليالي، وأن ذلك الكاتب قَبِلَ منه، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون هو كمحبي الأموات».
وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح، ثم انصرف فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد، إنك ستجد ذلك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما ذكر.
ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئًا من المطاعم مسمومًا، وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل.
والذين رووا ديوان أبي الطيب، يحكون أنه ولد سنة ثلاثمئة وثلاث، وكان طلوعه إلى الشام سنة إحدى وعشرين، فأقام فيه برهة ثم عاد إلى العراق، ولم تطل مدته هناك، والدليل على صحة هذا الخبر أن مدائحه في صباه إنما هي في أهل الشام، إلا قوله:
الدهر
وقول أبي صخر:
لم يدع أن أحدًا منهم كان يقرب للأفلاك القرابين، ولا يزعم أنها تعقل، وإنما ذلك شيء يتوارثه الأمم في زمان بعد زمان.
وكان في عبد القيس شاعر يقال له شاتم الدهر، وهو القائل:
الزندقة والزنادقة
وأما غيظه على الزنادقة والملحدين، فأجره الله عليه، كما أجره على الظمأ في طريق مكة، واصطلاء الشمس بعرفة، ومبيته بالمزدلفة، ولا ريب أنه ابتهل إلى الله سبحانه في الأيام المعدودات، أن يثبت هضاب الإسلام.
ولكن الزندقة داء قديم، وقد رأى بعض الفقهاء أن الرجل إذا ظهرت زندقته، ثم تاب فزعًا من القتل، لم تقبل توبته، وليس كذلك غيرهم من الكفار؛ لأن المرتد إذا رجع، قبل منه الرجوع، ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، وقد كانت ملوك الفرس تقتل على الزندقة. والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية، ولا يقولون بنبوة ولا كتاب.
بشار بن برد
وبشار إنما أخذ ذلك عن غيره، وقد روي أنه وجد في كتبه رقعة مكتوب فيها: «إني أردت أن أهجو فلان بن فلان الهاشمي، فصفحت عنه لقرابته من رسول الله ﷺ».
وزعموا أنه كان يشار سيبويه، وأنه حضر يومًا حلقة يونس بن حبيب، فقال: «هل هنا من يرفع خبرًا؟» فقالوا: «لا.» فأنشدهم:
وكان في الحلقة سيبويه، فيدعي بعض الناس أنه وشى به، وسيبويه فيما أحسب كان أجل موضعًا من أن يدخل في هذه الدنيات.
وذكر من نقل أخبار بشار؛ أنه توعد سيبويه بالهجاء، وأنه تلافاه واستشهد بشعره، ويجوز أن يكون استشهاده به، على نحو ما يذكره المتذاكرون في المجالس ومجامع القوم.
وأصحاب بشار يروون له هذا البيت:
وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله، وزعم غيره أنه لأبي الأسود الدؤلي.
ويقال: إن يعقوب بن داود وزير المهدي، تحامل على بشار حتى قتل. واختلف في سنه، فقيل: كان يومئذ ابن ثمانين سنة، وقيل أكثر، والله العالم بحقيقة الأمر.
•••
عودة إلى أبي نواس
أما قول الحكمي: «تيه مغن وظرف زنديق» فقد عيب عليه هذا المعنى، وقيل إنه أراد رجلًا من بني الحارث كان معروفًا بالزندقة والظرف، وكان له موضع من السلطان.
صالح بن عبد القدوس
وأما صالح بن عبد القدوس؛ فقد شهر بالزندقة، ولم يقتل حتى ظهرت عنه مقالات توجب ذلك. ويروي لأبيه عبد القدوس:
ولقد كان لصالح ابنٌ، حبس على الزندقة حبسًا طويلًا، وهو الذي يروى له:
الصناديقي
وأما المنسوب إلى الصناديق، فإنما يحسب من الزناديق، وأحسبه الذي كان يعرف بالمنصور، ظهر سنة سبعين ومئتين، وأقام برهة باليمن، وفي زمانه كانت القيان تلعب بالدف، وتقول:
•••
فعلى معتقد هذه المقالة بهلة المبتهلين.
وهذه الطبقة — لعنها الله — تستعبد الطغام بأصناف مختلفة.
•••
وقد كان باليمن رجل يحتجب في حصن له، ويكون الواسطة بينه وبين الناس خادمًا له أسود؛ قد أسماه جبريل، فقتله الخادم في بعض الأيام وانصرف، فقال بعض المجان:
ويقال إنه حمله على ذلك ما كان يكلفه من الفسق، وإذا طمع بعض هؤلاء، فإنه لا يقنع بالإمامة، ولا النبوة، ولكنه يرتفع صعدًا في الكذب.
ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه الأمور العظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى ذلك بعين الغبي.
ربيعة بن أمية بن خلف الجحمي
وكان ربيعة بن أمية بن خلف الجحمي جرى له مع أبي بكر الصديق — رحمه الله — خطب، فلحق بالروم، ويروى أنه قال:
•••
وافتن الناس في الضلالة حتى استجازوا دعوى الربوبية، فكان ذلك تنطسًا في الكفر، وجمعًا للمعصية، وإنما كان أهل الجاهلية يدفعون النبوة ولا يجاوزون ذلك إلى سواه.
سمير بن أدكن
ولما أجلى عمر بن الخطاب — رحمة الله عليه — أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال: إن رجلًا من يهود بني خيبر، يعرف بسمير بن أدكن، قال في ذلك:
•••
وما زال اليمن منذ كان معدنًا للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت، وحدثني من سافر إلى تلك الناحية أن به اليوم جماعة كلهم يزعم أنه القائم المنتظر، فلا يعدم جباية من مال، يصل بها إلى خسيس الآمال.
القرامطة
الوليد بن يزيد
وأما الوليد بن يزيد، فكان عقله عقل وليد، وقد بلغ سن الكهل. وقد رويت له أشعار، يلحق به منها العار، كقوله:
فالعجب لزمان صار مثله إمامًا، ولعل غيره ممن ملك يعتقد مثله أو قريبًا، ولكن يساير ويخاف تثريبًا. ومما يروى له:
ويقال إنه لما أحيط به — دخل القصر وأغلق بابه وقال:
فأُلب عن تلك المنزلة أي ألب، ورؤي رأسه في فم كلب، كان حق الخلافة أن تفضي إلى من هو بنسك معروف، لا تصرفه عن الرشد صروف، ولكن البلية خلقت مع الشمس، فهل يخلص من سكن في رمس؟
أبو عيسى بن الرشيد
فإن كان فر من صيام شهر؛ فلعله يقع في تعذيب الدهر.
الجنابي
العلوي البصري
وأما العلوي البصري، فقد رويت له أبيات تدل على تألُّهٍ، وما أدفع أن تكون قيلت على لسانه، والأبيات:
•••
وأنشدني بعضهم أبياتًا قافية طويلة الوزن، وقافيتها مثل هذه القافية، قد نسبت إلى عضد الدولة، وقيل إنه أفاق في بعض الأيام فكتبها على جدار المنزل الذي كان فيه، وقد نحل فيها أبيات البصري وأشهد أنها متكلَّفة، صنعها رقيع من القوم، وأن عضد الدولة ما سمع بها قط.
•••
وكذلك ادعاء من يدعي أن عليًّا — عليه السلام — قال: «تهلك البصرة بالزنج.» فصحَّفها أهل الحديث بالريح. لا أومن بشيء من ذلك ولم يكن عليٌّ — عليه السلام — ممن يُكشف له الغيب، وفي الكتاب العزيز لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ. وفي الحديث المأثور: «لا يعلم ما في غد إلا الله».
النجوم
وأما النجوم فإنما لها تلويح لا تصريح، وحُكي أن الفضل بن سهل كان يتمثل كثيرًا بقول الراجز:
وإن غالبًا كان في مَن قتله، فهذا يتفق مثله، وأجدر بهذه الحكاية أن تكون مصنوعة، فأما ما تمثله بالشعر فغير مستنكَر.
وربما اتفق أن يكون في الوقت جماعة يسمون بهذا، فيمكن أن يقترن معنى بلفظ، على أن في الأيام عجائب، وفوق كل ذي علم عليم.
الألمعي
الحلاج
يزيد بن معاوية
وقد روي أن يزيد بن معاوية كان له قرد يحمله على أتان وحشية ويرسلها مع الخيل في الحلبة.
رجعة إلى الحلَّاج
وأما الأبيات التي على الياء:
فلا بأس ينظمها في القوة، ولكن قوله «إلي» عاهة في الأبيات، وكذلك قوله «الكل»، فإن إدخاله الألف واللام مكروه.
مذهب الحلول
وينشد لفتى كان في زمن الحلاج:
وهذه المذاهب قديمة، تنتقل في عصر بعد عصر. ويقال: إن فرعون كان على مذهب الحلولية، فلذلك ادعى أنه رب العزة.
وحكي عن رجل منهم أنه كان يقول في تسبيحه: «سبحانك سبحاني، غفرانك غفراني.» وهذا هو الجنون، إنما من يقول هذا القول معدود في الأنعام. وقال بعضهم:
وبنو آدم بلا عقول، وهذا أمر يلقنه صغير عن كبير: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. ويروى لبعض أهل هذه النحلة:
التناسخ
وقال آخر منهم:
ويصور لهم الرأي الفاسد مشبهات فيسلكون في الترهات.
مذهب التناسخ في الهند
وحكي عن بعض ملوك الهند، وكان شابًّا حسنًا، أنه جدر، فنظر إلى وجهه في المرآة وقد تغير، فأحرق نفسه، وقال: «أريد أن ينقلني الله إلى صورة أحسن من هذه».
•••
وحدث من شاهد إحراقهم نفوسهم، أنهم إذا لدغتهم النار أرادوا الخروج، فيدفعهم من حضر إليها بالعصي والخشب، فلا إله إلا الله؛ لقد جئتم شيئًا إدًّا.
ابن هانئ الأندلسي
عودة إلى الحلاج
وأدل رُتب الحلاج أن يكون شعوذيًّا لا ثاقب الفهم، على أن الصوفية تعظمه منهم طائفة، ما هي لأمره شايفة.
ابن أبي عون
•••
وربما لقينا من نظر في كتب الحكماء، فألفيناه يستحسن قبيح الأمور، إن قدر على فظيع ارتكبه، وإن عرف واجبًا نكبه، وإن أُودع وديعة خان، وإن سئل عن شهادة مان، وإن وصف لعليل صفة، فما يحفل أَقَتَلَهُ أم ضاعف عليه الأثقال، بل غرضه فيما يكتسب، ورُب زار بالجهالة على أهل ملة، وعلته الباطنة أدهى علة.
•••
وحدثت عن إمام لهم، يوقر ويتبع؛ أنه كان إذا جلس في الشرب، ودارت عليهم المسكرة، وجاءه القدح؛ شربه، فاستوفاه، وأشهد من حضره على التوبة.
عبد الله بن ميمون القداح
والشيعة يزعمون أن عبد الله بن ميمون القداح، وهو من باهلة، كان من علية أصحاب جعفر بن محمد، وروى عنه شيئًا كثيرًا، ثم ارتد بعد ذلك، فحدثني بعض شيوخهم أنهم يروون عنه ويقولون: «حدثنا عبد الله بن ميمون القداح، قبل أن يرتد.» ويروون له:
وما ينسب إليه:
وحكي لي عن رجل آخر ممن يقول بالتناسخ أنه قال: رأيت في النوم أبي وهو يقول: «ابني إن روحي قد نُقلت إلى جمل أعور في قطار فلان، وإني قد اشتهيت بطيخة.» فأخذتُ بطيخة، وسألت عن ذلك القطار، فوجدت فيه جملًا أعور، فدنوت منه بالبطيخة، فأخذها أخْذَ مُريد مُشْتَهٍ، أفلا يرى مولاي الشيخ إلى ما رمى به هذا البشر من سوء التمييز!
ابن الراوندي
القرآن الكريم
وأجمع ملحد ومهتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد ﷺ كتاب بهر بالإعجاز، ما حذي على مثال ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو بالقصيد الموزون ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سَجْع الكهنة، وجاء كالشمس، لو فهمه الهضب لتَصَدَّع. وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب.
ابن الرومي
•••
وكان ابن الرومي معروفًا بالتطيُّر، ومن ذا الذي أجرى على التخير، وقد جاءت عن النبي ﷺ أخبار كثيرة، تدل على كراهة الاسم الذي ليس بحسن مثل: مُرَّة، وشهاب.
•••
وأما إعداده الماء المثلوج فتعلة، وما تنقع بالحيل غلة، وتقريبه الخنجر تحرز من جان، فكم تنقض الأقضية ما بني البان، ورب رجل يحتفر له قبرًا بالشام، ثم يجشمه القدر، فيموت باليمن أو بالهند: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
وكما أن النفس جهلت مدفن عظامها، فهي الجاهلة لنظامها، كم ظان أنه يهلك بسيف فهلك بحجر.
•••
والبيتان اللذان رواهما الناجم عن ابن الرومي مقيدان، وما علمت أنه جاء عن الفصحاء هذا الوزن مقيدًا، إلا في بيت واحد، يتداوله رواة اللغة، والبيت:
أبو تمام
مناحة القصائد
ولو أن القصائد لها علم وتأسف، لأقامت عليه الممدودتان اللتان في أول ديوانه مأتمًا، فناحتا عليه كابنتي لبيد، وقالتا ما زعمه الكلابي في قوله:
وكأني بهما، لو قضي ذلك — لاجتمعت إليهما الممدودات، كما تجتمع نساء من كل أوب، ولو فعلن ذلك لبارتهن البائيات بمأتم أعظم رنينًا، وإذا كان مأتم الممدودات في مئة ممَّن يسعدهن، وجب أن يكون مأتم البائيات في آلاف؛ لأن الباء طريق ركوب، والمد في القصائد سبيل منكوب، وما نظمه على التاء، فإنه لا يعجز عن الإيتاء، وتجيء التائيتان في حالك اللون، وإن التاء لقليلة في شعر العرب، إلا أنهما تستعينان كلمة كثير:
وبأراجيز رؤبة، وما كان نحوها من القوافي المتكلفة، والأشعار المتعسفة، ولهما فيما نظم ابن دريد أعوان.
فأما الداليات والرائيات وما بني على الحروف الذلل، كالميم والعين واللام وما جرى مجراهن، فلو اجتمع كل حيز منهن، لضاق عنهن الصدر والأبراد، وزدن على ما ذكر أنه اجتمع في جنازة أحمد بن حنبل من النساء والرجال.
ويقال إنه لم يجتمع في الجاهلية ولا الإسلام جَمْعٌ أكثر مما اجتمع في موت أحمد، حرز الرجال بألف ألف، والنساء بستمئة ألف، والله العالم بيقين الأشياء.
•••
وإن كان حبيب ضيع صلواته، فإنه لضال، لا يبلغ فيه كيد العداة ما بلغ من إهمال غداة. وإني لأضن بتلك الأوصال، أن يظل جسدها وهو بالموقدة صال؛ لأنه صاحب طريقة مبتدعة، ومعان كاللؤلؤ يستخرجها من غامض بحار، ويفض عنها المستغلق من المحار، فليته كالجعدي، أو ليته لحق يزيد بن مهلهل، فقد وفد على النبي ﷺ وطرح عنه ثوب الغبى.
أبو مسلم الخراساني
علي بن أبي طالب
دعوى الربوبية
وقد بلغني أن رجلًا بالبصرة يعرف بشاباس، تزعم جماعة كثيرة أنه رب العزة، وتجبى إليه الأموال الجمة، ويُحمل إلى السلطان منها قسمًا وافرًا، ليكون بما طلب ظافرًا، وهو ساقط. وحدثت عن امرأة بالكوفة يدعى لها مثل ذلك.
رجعة إلى ابن الراوندي
وقد سمعت من يخبر أن لابن الراوندي معاشر تذكر أن اللاهوت سكنه؛ ويخترصون له فضائل، يشهد الخالق وأهل المعقول، أن كذبها غير مصقول؛ وهو في هذا أحد الكفرة، وقد أنشد له منشد:
أبو جوف
وقد ظهر في الضيعة المعروفة بالنيرب، رجل يعرف بأبي جوف، كان يدعي النبوة، ويخبر بأخبار مضحكة، وكان له قطن في بيت، فقال إن قطني لا يحترق، وأمر ابنه أن يدني سراجًا إليه، فأخذ في القطن، وصرخت النساء، واجتمعت الجيرة.
•••
وحدثني من شاهد أنه كان يكثر الضحك من غير موجب، ولا عند حادث معجب، فقيل له: «لِمَ تضحك؟» فقال كلامًا معناه: «إن الإنسان ليفرح بهين قليل، فكيف من وصل إلى العطاء الجليل؟!»
وكان بين الجنون، فاتبعه الأغبياء، حتى قتله والي حلب.
عودة إلى علي بن أبي طالب
وبعض الشيعة يحدث أن سليمان الفارسي كان في نفر جاءوا يطلبون علي بن أبي طالب — سلام الله عليه — فلم يجدوه في منزله، فبينا هم كذلك، جاءت بارقة تتبعها راعدة، وإذا عليٌّ قد نزل على أجار البيت في يده سيف مخضوب بالدم.
«فقال: «وقع شجار بين فئتين من الملائكة، فصعدت لأصلح بينهما.
أفلا يرى هذه الأمة كيف افتتنت في الضلالة! وللكذب سورة ليست للصدق!
•••
الزواج
ولو نشط لهذه المأربة، لتنافست فيه العجز والمكتهلات، وهل هو إلا كما قال الأول:
فليس بأول من تزوج عجوزًا كما قال:
ويروى للحارث بن حلزة، ولم أجده في ديوانه:
وأعوذ بالله مما قاله الآخر:
وما زالت العرب تحمد الحيزبون والشهلة.
زواج النبي بخديجة
وقد تزوج النبي ﷺ خديجة بنت خويلد، وهو شاب، وهي طاعنة في السن، وقالت له أم سلمة ابنة أبي أمية: يا رسول الله، إني امرأة قد كبرت وما أطيق الغيرة. فقال: أما قولك قد كبرت، فأنا أكبر منك، وأما الغيرة فإني سوف أدعو الله أن يزيلها عنك.
حاجة الشيخ إلى الزواج
ولا شك أنه قد استخدم في مصر أصناف جوار، ولولا أن أخا الكبرة يفتقر إلى معين، لكانت الحزامة أن يقتنع بورد المعين، فهو يعرف قول القائل:
التوبة
وأما إشفاق الشيخ، فتلك سجية الأنيس؛ لا يختص بها أخو الجبن عن الشجاع، ومن القسوط تعرض بالقنوط: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ.
كم من أديب شرب وطرب ثم تاب، فقد يضل الدليل في ضوء القمر، ثم يهديه الله، وكم استنقذ من اللج غريق فسلم.
الفضيل بن عياض
وقد كان الفضيل بن عياض، يسيم في أوبل رياض، ثم حُسب في الزهاد، وجُعل من أهل الاجتهاد، ورب خليع وهو فتى، تصدر لما كبر وأفتى، ومغن بطنبور أو عود، قدر له تولي السعود، فرقى منبرًا للعظات.
عمر بن عبد العزيز
ولعله قد نظر في طبقات المغنين، فرأى فيهم عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس؛ هكذا ذكر ابن خرداذيه، فإن يك كاذبًا فعليه كذبه.
أبو حذيفة وحماد عجرد
عمر بن الخطاب
أليس الصحابة — عليهم رضوان الله — كلهم كان على ضلال، ثم تداركهم المقتدِر ذو الجلال؟
وفي بعض الروايات، أن عمر بن الخطاب خرج من بيته يريد مجمعًا كانوا يجتمعون فيه للقمار، فلم يجد فيه أحدًا، فقال: لأذهبن إلى الخمار لعلي أجد عنده خمرًا، فلم يجد عنده شيئًا، فقال: لأذهبن ولأُسْلِمن، والتوفيق يجيء من الله سبحانه.
عودة إلى النبي
وفيما خُوطب به النبي ﷺوَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ.
وذكر أبو معشر المدني، في كتاب المبعث، حديثًا معناه: أن النبي ﷺ ذبح ذبيحة للأصنام، فأخذ شيئًا منها، فطبخ له، وحمله زيد بن حارثة، ومضيَا ليأكلاه في بعض الشعاب، فلقيهما زيد بن عمرو بن نفيل، وكان من المتألهين في الجاهلية، فدعاه النبي ﷺ ليأكل من الطعام، فسأله عنه، فقال: «هو شيء ذبحناه لآلهتنا.» فقال زيد بن عمرو: «إني لا آكل من شيء ذُبح للأصنام، وإني على دين إبراهيم — صلى الله عليه وسلم.» فأمر النبي زيد بن حارثة بإلقاء ما معه.
تميم بن أوس الداري
أحمد بن حنبل
وقد ذكر عند ثعلب، أحمد بن حنبل، إن كان شرب النبيذ قط، والنبيذ — عند الفقهاء — غير الخمر، فقال ثعلب: «أنا سقيته بيدي».
الخمر
وما أختار له أن يأخذ بقول الحكمي:
وقد آن لمولاي الشيخ أن يزهد في شيعة حميد الأمجي، قائل هذه الأبيات:
وقال آخر:
توبة ابن القارح
وإذا تسامعت المحافل بتوبته، اجتمع عليه الشبان المقتبلون، والأدباء المكتهلون، وكل أشيب، فيقتبسون من آدابه، ويصغون المسامع لخطابه. وجلس لهم في بعض المساجد بحلب — حرسها الله — فإنها من بعد أبي عبد الله بن خالويه عطلت من الأدب.
عودة إلى الحور
وإذا صحت الأخبار المنقولة بأن أهل الآخرة يعلمون أخبار أهل العاجلة، فلعل جواريه المعدات له في الخلد، يسألن عن أخبار من يرد عليهن من الصلحاء، فيسمعن مرة أنه بالفسطاط، ومرة أنه بالبصرة، ومرة أنه ببغداد، وخطرة أنه بحلب، فإذا شاع أمر التوبة، ومات ناسك من أهل حلب، أخبرهن بذلك فسررن وابتهجن، وهنأهن جاراتهن.
•••
ولا ريب أنه قد سمع حكاية البيتين التاليين، في كتب الاعتبار:
رجعة إلى الخمر
وقال طرفة:
وقال ابن المعتز:
فهذا حثته كثرة سنيه على أن يستكثر من السلافة، وما حفظ حق الخلافة، وأنا أضن به أن يكون كأبي عثمان المازني، عوتب في الشراب فقال: «إذا صار أكبر ذنوبي تركته!»
المعتصم وإبراهيم المهدي
وقد روي أن المعتصم دعا إبراهيم كعادته، فغناه وبكى، فقال له المعتصم: ما يبكيك؟ فقال: كنت عاهدت الله إذا بلغت ستين سنة أن أتوب، وقد بلغتها، فأعفاه المعتصم من الغناء وحضور الشراب.
الهيام بالخمر
وقول القائل:
أبو طلحة واليهودي
وقد مر حديث أبي طلحة، أو أبي قتادة، ومعناه: أنه خاصم يهوديًّا إلى النبي ﷺ وكان لأبي طلحة حديقة نخل، وبينه وبين اليهودي خلف في نخله واحدة، فقال النبي ﷺ لليهودي: أتسمح له بالنخلة حتى أضمن لك نخلة في الجنة، ونعتها رسول الله ﷺ بنعوت أشجار الجنة. فقال اليهودي: لا أبيع عاجلًا بآجل. فقال أبو طلحة: أتضمن لي يا رسول الله كما ضمنت له حتى أعطيه الحديقة؟ فقال: «نعم.» فرضي أبو طلحة بذلك وأخذ اليهودي وذهب إلى حديقته، فوجد فيها امرأته وأبناءه، وهم يأكلون من جناها، فجعل يُدخل أصبعه في أفواههم فيُخرج ما فيها من التمر، فقالت امرأته: «لِمَ تفعل هذا ببنِيك؟!» فقال: إني قد بعت الحديقة. فقالت: «إن كنت بعتها بعاجل فبئس ما فعلت!» فقص عليها الخبر، ففرحت بذلك.
•••
ولو قيل لبعض عباد هذا العصر: «أعط لبنة لتُعطى في الآخرة لبنة من فضة.» لما أجاب، ولو سئل أمَةً عوراء يُعوض منها في الآخرة بحوراء لَمَا فَعَل، على أنه من المصدقين، فكيف من غذي بالتكذيب وجحد وقوع التعذيب؟
أبو هذيل العلاف
ويحكى عن أبي الهذيل العلاف، أنه كان يمر في الأسواق على حمار ويقول: «يا قوم، احذروا توبة غلامي.» وكان له غلام يَعِدُ نفسه التوبة، فسقطت عليه آجرة فقتلته.
بدء التعارف بين المعري وابن القارح
وأول ما سمعت بأخبار الشيخ، من رجل واسطي، يتعرض لعلم العروض، ذكر أنه شاهده بنصيبين وفيها رجل يُعرف بأبي الحسين البصري معلمًا لبعض العلوية. وكان غلام يختلف إليه يعرف بابن الدان، وقد اجتاز الشيخ ببلدنا، والواسطي يومئذ فيه، وقد شاهدت عند أبي أحمد عبد السلام — رحمه الله — كتبًا عليها سماح لرجل من أهل حلب، وما أشك أنه الشيخ، وهو لا يفتقر إلى تعريف بالقريض، كما قال الطائي:
حجج ابن القارح
وأما حججه الخمس فهو — إن شاء الله — يستغني في المحشر بالأولى منهن، وينظر في المتأخرين من أهل العلم، فلا ريب أنه يجد فيهم من لم يحجج، فيتصدق عليهم بالأربع. وكأني به، وعماعم الحجيج يرفعون التلبية، وهو يفكر في تلبيات العرب، وأنها جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطور.
وكأني به لما اعتزم على استلام الركن، وقد ذكر قول القائل:
ولعله قد ذكر هذه الأبيات في الطواف:
وذكر عند تفرق الناس هذين البيتين:
وكأني به وقد مر بأنطاكية، فذكر قول امرئ القيس:
أبو الطيب اللغوي
وأما أبو الطيب اللغوي، واسمه عبد الواحد بن علي، فلا أشك أنه قد ضاع كثير من كتبه وتصنيفاته؛ لأن الروم قتلوه وأباه، في فتح حلب. وكان ابن خالويه يلقبه: دحروجة الجبل؛ لأنه كان قصيرًا. وقد كان أبو الطيب يتعاطى شيئًا من النظم، وقد علم الله أنني لا في العير ولا في النفير، كلما رغبت في الخمول قدر لي غير المأمول. كان حق الشيخ إذ أقام في معرة النعمان سنة، أن لا يسمع لي بذكر، ولا أخطر له على فكر، والآن قد غمر أفضاله، وأظلني أدبه، وهو كريم الطبع، والكريم يخدع، ومن سمع جاز أن يخال.
ابن القارح في مصر
وأما ما ذكره من ميله في مصر إلى بعض اللذات، فهو يعرف الحديث: أريحوا القلوب تَعِ الذِّكرَ. وقال أحيحة بن الجلاح:
وقد عاشر ملوكًا ووزراء، وقد سمع أنباء النعمان الأكبر؛ إذ فارق ملكه، وتعوض من الحرير المسوح، وإياه عنى العبادي في قوله:
الهنود والخمر
والسكر محرم في كل الملل، ويقال إن الهند لا يملكون عليهم رجلًا يشرب مسكرًا؛ لأنهم يرونه منكرًا. ويقولون: «يجوز أن يحدث في المملكة نبأ والملك سكران.» لعنت القهوة!
•••
وينبغي أن يزهده في الصهباء أن نداماه الأكرمين أصبحوا في الأجداث العافية، كم جلس مع فتيان أتى عليهم الزمن، فكان كما قال الجعدي:
وهو يعرف الأبيات التي أولها:
وهل يعجز أن يكون كما قال الآخر:
دنانير ابن القارح
وهذه لا ريب من دنانير مصر، لم تجئ من عند السوق، ولكن من عند الملوك، فالحمد لله الذي سلمها إلى هذا الوقت، ولم تكن كذهب صار إلى الخمارة، كما قال:
وهي عند البله والكيس، أجود من الخاتم ذكره بن قيس، فقال:
أراد بالعبدية دنانير نسبها إلى عبد الملك بن مروان، ويقال إنه أول من ضرب الدنانير في الإسلام.
•••
ودنانيره بإذن الله مقدسات، وإن كانت زائدة على الثمانين، فقد أوفت على عدة أصحاب موسى الذين جاء فيهم: وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا، وعلى عدة الاستغفار في قوله: إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ، وعلى عدة أذرع في السلسلة في قوله تعالى: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ.
ولو كانت سنو زهير مثلها لما وصف نفسه بالسآمة، ولو أدركه عروة بن حزام وهو يقول:
لجاز أن يرق له فيغيثه من هذه الثمانين ببعضها، أو يسمح له بكلها؛ لأنه كريم طبع. ولو صارت في يد عروة هذه الثمانون، لبلغ بها الأمنية؛ لأن الناقة في ذلك الزمان كانت ربما اشتُريت بعشرة دراهم. وفي بعض أخبار الفرزدق، أن رجلًا من ملوك بني أمية أعطاه مئة من إبل الصدقة، فباعها بألف وخمسمئة درهم بعد ما عني به وزيد في الثمن.
الجَمل في زمن المنصور
وقد مرت به الحكاية التي يذكرها أصحاب التاريخ، أن الجَمل كان يباع في زمن أبي جعفر المنصور بدرهم، وأنه صادر قومًا من أصحابه وكانت لهم نعاج، فباعوها ثماني نعاج بدرهم؛ هذا ما وجد بخط المرزباني في تاريخ ابن شجرة.
فضل الذهب
وهي أنضر من الثمانين التي ذكرها العلوي البصري في قوله:
لله در الذهب من خليل؛ فإنه يفيء بظل ظليل، ما هو كغيره بال، والدر إذا كسر ذهبت قيمته، ورب ذهب في سوار، جعل في خلخال ثم نقل إلى جام أو كاس، وهو بحسنه ما تغير لبشار النيران.
أبو بكر الشبلي
وأما أبو بكر الشبلي — رحمه الله — فلا ريب أنه من أهل الفضل، وأرجو أن يكون سالمًا من مذهب الحلولية، وأنشدني له منشد:
فإن صح أن هذين البيتين له فلا يمتنع أن يعترض عليه قائل، فيقول: إن ادعاءه الانفراد من العالم، لا يسلمه إليه البشر؛ إن كان هواه للمخلوقين أو الخالق فله في الأمم نظراء كثير.
ختام الرسالة
هوامش
رأي أبي العلاء في الموت
هذه هي أكبرة ميزة للموت، عند أبي العلاء، وهي التي حببته فيه، وربما كان أول ما يسترعي انتباهتك في شعره، تشاؤمه، ونظرته إلى العالم بمنظار شديد السواد، ومن ثَمَّ سخطه على الدنيا، وتبرمه بالحياة، التي دفعته إليها المقادير برغمه، فلاقى فيها من صنوف الأذى والعذاب، ما كان يكفي بعضه، لتبغيضه فيها، ونقمته عليها، حتى أصبح لا يرى فيها إلا سلسلة آلام طويلة متصلة الحلقات، تبدأ، لا بولادة الطفل، كما زعم ابن الرومي في قوله:•••
وقد أكثر أبو العلاء من التفكير في مسألة الموت، فلا تكاد تخلو من ذكره صفحة من لزومياته، حتى لأصبح من أوليات المسائل التي يدور عليها محور فلسفته، ولا نعرف له شبيهًا في هذه الخلة، سوى أبي العتاهية الذي نعده مقصرًا — رغم إكثاره — عن شأو أبي العلاء تقصيرًا بينًا. والفرق بين الرجلين في نظرنا هو فرق ما بين الفيلسوف الصادق الزَّهِد، والواعظ الذي اتخذ الوعظ ديدنًا له.•••
ويمكن الإلمام بآراء أبي العلاء في الموت، رغم تناقضها مع الإشارة إلى سبب ذلك فيما يلي:- (١)
فتارة كان يصل جزعه من الموت إلى أقصاه، ويرتاع منه، فتنبعث من نفسه صيحة مفزعة يكاد ينخلع لها قلبه، فيقول:
يهال التراب على من ثوىفآه من النبأ الهائلثم يصرخ من أعماق نفسه، وقد تولاه الذهول:
أنبأنا اللب بلقيا الردىفالغوث من صحة ذاك النبأأو يقول:
فويها رواها السيل المنونكم جر عيرًا بأحمالهاأو تنبهه فكرة طارئة، تنتابه فجأة، فيهب مذعورًا خائفًا، فيقول:
بكر الحول بعد الحول عنيوتلك مصارع الأقوام حوليكأني بالألى حفروا لحاريوقد أخذوا المعاول وانتحوا ليوفي البيت الثاني صورة مفزعة تمثل ما ألمَّ به من الهلع والرعب!
- (٢)
وحينا يذكر الموت فيتمناه، ولكنه يخشى ألا تكون فيه الراحة والطمأنينة اللتين أخطأهما في الحياة، فيتردد في تمنيه ويقول:
إن كان نقلي عن الدنيا يكون إلىخير، وأرحب، فانقلني على عجلوإن علمت مآلي عند آخرتيشرًّا وأضيق، فانسأ رب في الأجلوتزداد به الحيرة والارتباك، فيقول:
فإن خرجت إلى بؤس فواحربيوإن نقلت إلى نعمي فطوبى ليوربما خشي أن يسلبه حسه الذي يعتز به، ويتضاءل بالقياس إليه كل اعتبار آخر، حتى إنه حرم على نفسه الخمر ضنًّا أن تذهب به سورتها — كما سنبينه في حينه — فيقول:
ولو كان يبقى الحس في فم ميتلآليت أن الموت في الفم أعذبوفي هذه الحالة ترى حنينه إلى الموت مقرونًا بشيء من الجزع والرهبة منه، على أنها نوبات فجائية، تعرض له، فتنطقه بما استشهدنا به من كلامه.
- (٣)
فأما يقينه الذي لا يفتأ يردده، ويتغنى به في أكثر أحايينه، فهو النزوع إلى تفضيل الموت؛ لأنه يرى فيه المنقذ الوحيد من آلام الحياة وأوصابها. وإليك نخبة مختارة من كلامه تزيدك اقتناعًا بإيمانه الثابت، بما ذكره في رسالته هنا عن الرمس، من أنه يغني الثاوي به بعد عدم ويكفيه المؤونة:
ما أعدل الموت من آت وأسترهفهيجيني، فإني غير مهتاجالعيش أفقر منا، كل ذات غنىوالموت أغنى بحق كل محتاجإذا حياة علينا للأذى فتحتبابًا من الشر، لاقاه بإرتاج•••
يغني الفتى بالمنايا عن مآربهوتنقح الروح في طفل فيفتقر•••
كأس المنية أولى بي، وأروح ليمن أن أكابد إثراء وأحواجا•••
لكون خلك في رمس أعز لهمن أن يكون مليكًا عاقد التاجالملك يحتاج ألافًا تناصرهوالميت ليس إلى خلق بمحتاج•••
أصبح في لحدي على وحدتيلست إلى الدنيا بمحتاجكشفي رأسي وافتقاري بهاخير من التمليك والتاج•••
أن يرحل الناس ولم أرتحلفعن قضاء لم يفوض إلي•••
متى ألق من بعد المنية أسرتيأخبرهم أني خلصت من الأسر•••
ومن اليمن للفتى أن يجيء الــموت يسعى إليه سميًا سريحالم يمارس من السقام طويلًاومضى لم يكابد التبريحا•••
رقدة الموت ضجمة يستريح الجــسم فيها فيها والعيش مثل السهادتعب كلها الحياة فما أعجــب إلا من راغب في ازدياد•••
تدعو بطول العمر أفواهنالمن تناهى القلب في ودهيسر إن مد بقاء لهوكل ما يكره في مده•••
دعا لي بالحياة، أخو ودادرويدك إنما تدعو علياوما كان البقاء لي اختيارًالو أن الأمر مردود إليا•••
آليت لا ينفك جسمي في أذىحتى يعود إلى قديم العنصر•••
على البلى سيفيد المرء فائدةفالمسك يزداد من طيب إذا سحقا•••
طال وقوفي وراء جسروإنما ينظر العبور•••
عشنا وحسر الموت قدامنافشمر الآن لكي نعبره•••
أقمت برغمي وما طائريبراض إذا ألفته الوكون•••
لعل الموت خير للبراياوإن خافوا الردى وتهيبوه•••
تعود إلى الأرض أجسامناوتلحق بالعنصر الطاهرويقضي بنا فرضه ناسكيمر اليدين على الظاهر•••
لعل موتًا يريح الجسم من نصبإن العناء بهذا العيش مقترن•••
متى غدوت ببطن الأرض مضطجعًافثم أفقد أوصابي وأمراضي•••
فمالي أخاف طريق الردىوذلك خير طريق سلكيريحك من عيشة مرةومآل أضيع، ومال ملك•••
هنيئًا لطفل أزمع السير عنهمفودع من قبل التعارف ظاعنًا•••
ومسكن الروح في الجثمان أسقمهوبينها عنه من سقم يعافيهوما يحس إذا ما عاد متصلًابالترب تسقيه في الهابي سواقيهوحبذا الأرض قفرًا لا يحل بهاضد تعاديه، أو خلم تصافيهالهابي: تراب القبر.
روح إذا اتصلت بجسم لم يزلهو وحي في مرض العناء المكمدإن كنت من ريح فيا ريح اسكنيأو كنت من نار، فيا نار اخمدي•••
بطن البسيطة أعفى من ظواهرهافوسعا لي، اهرب من سعاليها•••
أعفى المنازل قبر يستراح بهوأفضل اللبس — فيما أعلم — الكفنونختم هذا المختار بتلك المشاجرة الجميلة التي حدثت بينه وبين الدنيا، وأحسن تمثيلها في البيتين التاليين:
أف لدنياي فإني بهالم أخل من إثم ومن حوبقلت لها امضي غير مصحوبةفقالت اذهب غير مصحوب
•••
وبين أن القادم من الزمان (المستقبل) مجهول لا يعرف إلا بعد مرور الزمن الذي يكشف الغطاء عن أسراره، فقال:•••
وكثيرًا ما شبه أبو العلاء الزمان بالطائر، فمن ذلك قوله:وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني نبذة مفيدة في بيان هذا المذهب، فليرجع إليها مَن شاء.
والمنصور الصناديقي هذا هو أحد من اعتنقوا ذلك المذهب ودعا إليه، وسيمر ذكره في رسالة ابن القارح، وترى كيف كان يجمع إلى دار خاصة، نساء البلد ورجالها ليلًا، ويأمرهم بالاختلاط حتى لا يتميز مال من مال ولا ولد من ولد.
نشأ بواسط والعراق، واشتهر بصحبته لأبي القاسم الجنيد، ومَن في طبقته، كما اشتهر بكفره، وإن بالغ في تعظيمه بعض الناس. ومن شعره قوله:
وزعم الحلاج أن من هذب نفسه في الطاعة، وصبر على اللذات والشهوات، ارتقى إلى مقام المقربين، ولا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه منها حظ، حل فيه روح الله، الذي حل في عيسى بن مريم، ولم يرد حينئذ شيئًا إلا كان كما أراد، وكان جميع فعله فعل الله تعالى.
ولنجتزئ بهذا القدر فإن فيما أورده أبو العلاء في هذا الفصل وابن القارح في رسالته ما فيه الكفاية.
ويزعمون أن التناسخ هو نوع من العقاب والثواب، فالفاسق السيئ العمل، يعاقب على ذلك بأن تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار، والمسخرة الممتهنة بالذبح.
•••
وزعم بعضهم أن الله — سبحانه — أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين، في دار سوى هذه الدار الدنيا، وخلق فيهم معرفته، والعلم به، وأسبغ عليهم نعمه، فابتدأهم بتكليف شكره، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ذلك، وأطاعه بعضهم في البعض دون الآخر، فمن أطاعه في الكل، أقره دار النعيم التي ابتدأهم فيها، ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب، وهي النار، ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض الآخر، أخرجه إلى دار الدنيا، فألبسه هذه الأجساد الكثيفة، وابتلاه بالبأساء والضراء، والشدة والرخاء، والآلام واللذات، على صور مختلفة من صور الناس، وسائر الحيوانات، على قدر ذنوبهم. فمن كانت معاصيه أقل، وطاعته أكثر، كانت صورته أحسن وآلامه أقل، ومن كانت ذنوبه أكثر، كانت صورته أقبح، وآلامه أكثر، ثم لا يزال يكون في الدنيا كرة بعد كرة، وصورة بعد أخرى، ما دامت معه ذنوبه وطاعاته.•••
واستدل من يعتقد بالتناسخ من المسلمين، على صحة زعمهم بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ، وبالآية الأخرى: جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ.واستدل غير المسلمين منهم على صحة مذهبهم، بأن النفس لا تتناهى والعالم لا يتناهى لأمد، فالنفس منتقلة أبدًا، وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها.
•••
وأنكرت طائفة أخرى، انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقتها بعد أن أقرت انتقالها إلى أنواع أجسادها، فقالت: «بما أنه لا تناهي للعالم، فوجب أن تتردد النفس في الأجساد أبدًا، ولكن لا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه، وتعلقها به».وفي كتابي الملل والنحل لابن حزم والشهرستاني، فصلان نافعان، لمن شاء الرجوع إليهما، وقد عني ابن حزم بتفنيد كثير من هذه الآراء ودحضها.
•••
شاع في الهند هذا المذهب، كما شاع فيها غيره، منذ إقدام أزمنة التاريخ، ثم عرفه العرب في أواخر القرن الأول، ودان به الشيعة، كما دانوا بمذهب الحلول والرجعة وغير ذلك من المذاهب القريبة منهما، ولم يأت القرن الرابع حتى انتشرت تلك المذاهب، وذاع أمرها، وساعد على انتشارها فتح محمود بن سكتكين بلاد الهند، الذي كان سببًا في توثق العلاقات بين المسلمين والهنود، فكثر تبادل الآراء بينهم، ووفد بعض الهنود إلى مدينة السلام، وانتشرت تجارة الهند بالعراق.رأي أبي العلاء في التناسخ
فإذا شئت أن تعرف رأي أبي العلاء في التناسخ، أمكنك أن تلمحه فيما تقرؤه له في هذا الفصل، من السخرية والتبرم.ولا ريب أن أبا العلاء درس هذا المذهب دراسة حقة، فلم يوافق عليه، وأبدى ارتيابه فيه، ثم شفع هذا الارتياب بالرفض الصريح.
فقد ذكر التناسخ في صباه، على سبيل اللهو والتندر، وإن لم يفته أن يظهر ارتيابه فيه، في بيت من قصيدة له، في سقط الزند كتبها إلى إبراهيم بن إسحق مدحًا فيه، وجوابًا على قصيدة بعث بها إليه، والبيت:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وكان من متكلمي المعتزلة، وانفرد بمذاهب نقلها أهل الكلام عنه في كتبهم، قالوا: «ولم يكن في زمانه أحذق منه بالكلام، ولا أعرف بدقيقه وجليله.» وكان يلازم أهل الإلحاد؛ فإذا عوتب في ذلك، ادعى أنه يريد معرفة مذاهبهم، ثم صار بعدُ ملحدًا زنديقًا.
وأوجز ما ننعته به، أنه رجل لا يستقر على مبدأ، وليس للمبادئ قيمة عنده، فقد كان مسلمًا، ولكن ذلك لم يمنعه أن يصنف كتاب البصيرة لليهود، ردًّا على الإسلام، نظير أربعمئة درهم دفعوها له، فلما قبض المال، رام نقضه، فلما أعطوه مئة درهم أخرى عدل عن ذلك. وكان من متكلمي المعتزلة، فلم يمنعه ذلك من أن يؤلف كتابه الذي سماه: فضيحة المعتزلة. وقد ألف كتبًا أخرى متناقضة، ولكن أكثرها كان إلحاديًّا شديد الجرأة، وقد نِيفت كتبه على المئة، ذكر ابن القارح أهمها وأشنعها، في رسالته. وكان له ذوق خاص في تسمية كتبه، فقد أطلق اسم الزمردة على كتابه الذي دلل فيه على فساد الرسالة والرسل، وازدرى فيه بالنبوات، وعلل هذه التسمية بأن من خاصية الزمرد، أن الحية إذا نظرت إليه ذابت، وسالت عيناها، كما يحدث لأخصامه حين يقرءون كتابه، ومما زعمه فيه قوله: «إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي شيئًا أحسن من إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، وإن الأنبياء كانوا يستعبدون الناس بالطلاسم … إلخ»!
وقد ذكر في كتبه الأخرى آراء لا تقلُّ عن هذه جرأة وشناعة، على الأنبياء والدين، فقد طعن على النبي ﷺ في كتابه (الفريد) وطعن على القرآن، وعاب نظمه في كتابه الدامغ، ومما ورد فيه قوله: «إن الله — سبحانه وتعالى — ليس عنده من الدواء إلا القتل، فعل العدو الحنق الغضوب، فما حاجته إلى كتاب ورسول … وقال في وصف الجنة: وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وهو الحليب، ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع، وذكر العسل، ولا يطلب صرفا، والزنجبيل، وليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفترش ولا يلبس، وكذلك الإستبرق؛ وهو الغليظ من الديباج، ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ، ويشرب الحليب والزنجبيل، صار كعروس الأكراد والنبط».
وسيمر بك طرف من أخباره في فصل آخر من هذا الكتاب، وفي رسالة ابن القارح، فلنكتف بهذا القدر، على إيجازه الآن.
وإنما نعني بالتشاؤم ذلك المذهب الذي يسميه الإفرنج (Pessimisme) ونريد أن نسميه بالعربية سخطًا، ونسمي أصحابه ساخطين، وهو مذهب جماعة المتبرمين بالعالم، الذين لا يرون فيه إلا شرًّا مستطيرًا، لا يستطيعون دفعه، ولا أمل لهم في إزالته أو تحسينه، ولا ينظرون إليه إلا بمنظار شديد السواد. وعلى العكس من ذلك مذهب الرضى، ويسميه الإفرنج (Optimisme)، وهو مذهب من يحسنون الظن بالأيام، وينظرون إلى العالم بمنظار رائق ناصع البياض، فيرون كل ما فيه يدعو إلى الغبطة، ويرونه سائرًا في طريق التقدم والكمال، وفي هذا مجلبة رضاهم وارتياحهم، وقد أشبع ماكس تورداو، جماعة الساخطين، سخرية وتعنيفًا، ورماهم بنقص في عقولهم، في مقالته التي كتبها عن السخط والرضى (Pessimisme & Optimisme) في كتابه الفلسفي الذي سماه (الغرائب Paradoxes)، وهي مقالة غاية في الإمتاع واللذة، نحب ألا تفوت القارئ، وقد لخصتها مجلة البيان في سنتها الرابعة في عدديها الثاني والثالث، تلخيصًا لا يخلو من الفائدة والنفع، لمن لا تتاح له قراءتها كاملة في الكتب الإفرنجية، وفي كتاب (الفصول) للأستاذ العقاد، فصل ممتع — على إيجازه — في (ص٥ و٦) عن التشاؤم، وفيه رد مقنع، على من يعيبون على الساخطين سخطهم ونقمتهم على الحياة.
أما الطيرة (Mauvais Augure)، ونقيضها الفأل أو التيمن (Bon Augure)، فمذهب آخر يختلف في نظرنا عن مذهب السخط والرضى كل الاختلاف؛ فقد يكون الإنسان ساخطًا أو راضيًا ولكنه لا يتطير ولا يتفاءل. وعلى العكس من ذلك، قد يكون من المتطيرين والمتفائلين، ولكنه في الوقت نفسه ساخط على الحياة أو راض عنها.
وإنما الطيرة مذهب أساسه ربط الحوادث بغير أسبابها الحقيقية، وتمليل النفس بما لا يفيد، وترقب المناسبات والمصادفات، لاستنتاج شيء وهمي لا أساس له من الصحة، ولا قيمة له عند العقلاء. وإنما يدعو إليها، في نظرنا، عدم اطمئنان القلب، وخفة العقل، وربما لو رجع الإنسان إلى نفسه يسائلها في أي ساعاتها تميل إلى التعلل بأشباه هذه الخرافات، لرأى أن ذلك كثيرًا ما يحدث في أوقات الهلع والذعر من جراء مصاب فادح مذهل، تملك على الإنسان قلبه، وأطار لبه، وحرمه طمأنينته، فجعله كالغريق يتلمس أتفه الأسباب وأقلها غناء، لينقذ نفسه من الهلاك. فأما في ساعات اطمئنانه فقلما يأبه لذلك، اللهم إلا إن كان من ذلك النوع الذي أصبح له التطير ديدنًا وطبعًا.
وهذا غير السخط، الذي أساسه سوء الظن وشدة الحذر والنقمة على الحياة والنظر إليها من جانبها الأسود.
إذا أقررنا ذلك، سهل علينا أن ندرك، كيف كان أبو العلاء ساخطًا ولم يكن متطيرًا.
أما ابن الرومي، فربما لم يكن شديد السخط على الحياة، ولكنه كان — على الرغم من ذلك — إمامًا من أئمة المتطيرين، وسيمر بك في هذا الفصل وفي رسالة ابن القارح ما يزيدك اقتناعًا بطيرته، وحسبك أن تعلم أنه كان لا يلبس ثيابه إلا بعد أن يتعوذ، فإذا وصل إلى الباب نظر من خلال ثقب المفتاح، فإذا رأى ذلك الأحدب الذي تعود مضايقته، جالسًا، جبن فلم يخرج، وخلع ثيابه ثانية، وقد عرف ذلك الأحدب كيف ينغص عليه عيشه، وإن عرف ابن الرومي كيف ينتقم منه ويثأر لنفسه، ببيتيه اللذين وسمه بهما آخر الأبد، وهما قوله:
ولما كان هذا المقام أضيق من أن يحتمل شيئًا من الإسهاب في تفصيل هذه النزعات وتحليلها والمقارنة بينها، فإنا نكتفي بهذا القدر على شدة إيجازه، ونشير إلى رأي أبي العلاء في مذهب المتطيرين والمتفائلين، وتهكمه اللاذع بأصحابه، وسخريته الشديدة منهم. وسيمر بك في هذا الفصل ما يبهرك من حججه وبراهينه القوية التي دلل بها على فساد ذلك المذهب. وإليك نخبة مختارة من كلامه في ذلك:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
موجز رأي الشعراء في الجد
وننتهز هذه المناسبة فنذكر نخبة من آراء الشعراء في الجد، ويمكن القول بأن آراءهم جميعًا تكاد تجمع على أنه حليف الغباء، قال المتنبي:•••
وادعى قوم أن الله أرسل جبريل إلى علي، فذهب إلى محمد خطأ لشدة الشبه بين النبي والإمام علي، وهذه الفرقة تقول: «العنوا صاحب الريش» أي جبريل!
وادعى آخرون أن الله خلق محمدًا ثم فوض إليه تدبير العالم وتدبيره، فهو الذي خلق العالم دون الله، ثم فوض محمدٌ تدبير العالم إلى علي بن أبي طالب، فهو المدبر الثالث، وزعم غيرهم أن عليًّا هو الله، وشتموا محمدًا، وزعموا أن عليًّا بعثه ليثني عنه، فادعى الأمر لنفسه، ويدعي فيه قوم آخرون أن الرعد والبرق صوته، ومن سمع منهم صوت الرعد، قال: «عليك السلام يا أمير المؤمنين.» وفي هذه الطائفة يقول أبو إسحق بن سويد العامري:
•••
وقد نسبوا إلى علي بن أبي طالب علم الجفر، وهو ما يطلقونه على العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر، المحتوى على ما كان وما يكون كليًّا وجزئيًّا. وتدعي طائفة أنه وضع الحروف الهجائية في جلد الجفر، وأنه يمكنه استخراج ما يأتي به الغيب منها بطريقة خاصة، ويدعون أن هذا علم انفرد به آل البيت ومن ينتمي إليهم، وأنهم يتوارثونه، وادعى آخرون أن فهم أسرار هذا الجفر قاصرة على المهدي المنتظر، وأنه — دون غيره — يستطيع أن يفقه حقيقة ما في هذا الكتاب الذي سموه بهذا الاسم؛ لأن عليًّا كتبه حروفًا متفرقة في ورق مصبوغ من جلد البعير، وقد اشتهر بين الناس، لاحتوائه ما حدث للأولين والآخرين، ولا يزال كثير من العامة يعني بهذه الخرافات وأشباهها، بلا تدبر ولا روية. ونحو من هذه الخرافة ما يروونه عن الخضر، وعن المسيخ الدجال، وغير ذلك من الترهات. وقد وقف أبو العلاء قسمًا كبيرًا من رسالة الغفران واللزوميات لمحاربة أشباه هذه البدع، والتشنيع على من يقولون بها. وحسبنا أن نستدل بقوله منددًا بتلك الخرافة التي يشيعونها عن الخضر:•••
•••
•••
•••
وجماع القول: إن أبا العلاء أكثر مِن ذكر الخمر والتشنيع بها في أشعاره، وكما تستطيع أن تفرد لبعض الشعراء — مثل أبي نواس — ديوانًا في مدح الخمر، تستطيع أنت أن تفرد لأبي العلاء كذلك، ديوانًا في ذمها.•••
•••
•••
•••
•••
•••