سورة البقرة
ما كادت الفاتحة تُقْرَأ، ويسترد يده من يد الرجل، ومبروك، ويتأمل مليًّا البقرة التي حصل عليها، ثم يتوكل ويسحبها خارجًا حتى بعد خطوات قليلة، وضع فلاح شاب طويل مهول، يده فوق اليد الممسكة بالحبل، وبقوة الضغط والعضلات أوقفه قائلًا: إلا قول لي يا شيخ، بالذمة والأمانة والديانة، وقعت بكام؟
وحتى لو لم يذممه، فقد كان يريد قول الحقيقة لكي يعرف، من وقع الرقم، إن كان هو الخاسر أم الكاسب في الصفقة، أجاب: بالذمة والأمانة والديانة بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
ولم يُتَحْ له أن يقرأ شيئًا في وجه الشاب الضخم، فما كاد يقول الرقم حتى كان الشاب وكأنما انتهى غرضه منه تمامًا، فسحب يده ومضى إلى حاله مغمغمًا بكلام مضغوم، لا يلوي على شيء.
وبعد باب السوق بخطوة، اندفع ناحيته رجل بشارب هائش وصوت مزعج عالٍ وكرش، قائلًا: سلام عليكم. سلام ورحمة الله. بالذمة والأمانة يا شيخ بكام؟
وبصوت واضح وحرص شديد هذه المرة على ألا تفوته بادرة، فالبقرة أيام جده كانت بثلاثة جنيهات وكان أبوه — رحمة الله عليه — يقول له: إن أول بقرة اشتراها في حياته كانت بخمسة، قال: بالذمة والأمانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
قال الرجل من تحت شاربه المهوش: هم، هيه، فيها لبن؟
أجاب وأمره إلى الله: ما فيهاش.
– وراها عجل؟
– ما وراهاش.
– معشرة.
– طالبة عشر.
ومرة أخرى قال الرجل، بغيظ مكتوم لا يعرف سببه، وبحزن، لا يعرف سببه أيضًا: هم، هيه، مبروكة عليك.
ومشى.
وعند أول منعطف للطريق الجانبي الماضي إلى الطريق الزراعي العام رفع فلاح كان يعزق الأرض المجاورة صوته سائلًا: بتقول بالذمة والأمانة بكام؟
فقال: بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
فعاد الفلاح يصيح مرة أخرى: بتقول بكام؟
ورفع صوته عاليًا جدًّا، أعلى بكثير مما يجب، لا ليسمعه الفلاح فقط وإنما ليصل إلى كل الرجال القريبين والبعيدين حتى يكفوه مئونة رد آخر: بسبعة، وتمانين، جنيه، وربع، وبريزة، للسمسار.
وقبل أن يسمح لنفسه أن يسمع الرد أو التعليق كان قد أغلق أذنيه ومشى.
وحين وصل الطريق الزراعي الموصل إلى بلده كان قد سئل ثلاث مرات، وأجاب ثلاث إجابات، نقض الذمة والأمانة في ثالثتها حين كسل أن ينص على بريزة السمسار.
كانت الدنيا لا تزال ضحًى، والسوق منتصبة منذ الشروق، هذا صحيح، ولكن كان هناك على الطريق قادمون كثيرون، أولئك الذين لا يريدون ضياع اليوم، فأنهوا بسرعة أعمالهم، ثم أقبلوا مهرولين يلحقون السوق.
وعلى أول الطريق الزراعي سأله شيخ معمَّم، بجبة كالحة وقفطان: دفعت فيها كام بالذمة والأمانة والديانة إن شاء الله.
فقط لو أنهم لا يذممونه ويستحلفونه بالأمانة والدين، سبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
وبعد خطوة واحدة، إذا برجل وكأنه عمدة، يمتطي ركوبة، ويستظل بشمسية يزعق بصوت مسلوخ: بتقول بكام.
– سبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
– غالية شوية إنما تتعوض.
وما كاد يخرج علبة الدخان ويبدأ في لف السيجارة حتى حوَّد عليه رجل مسن له لحية اختلط فيها السواد بالبياض: سلام عليكم. سلام ورحمة الله. دستورك منين؟ من هرية. شاري والا بايع؟ ما نتاش شايفني راجع، شاري. واصل ع الشيخ منصور؟ واصل إن شاء الله. طب بذمتك وحياة الشيخ منصور على قلبك بكام؟ بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار. يا راجل أنا ذممتك وحلفتك بالشيخ منصور. وحياة الشيخ منصور والذمة والأمانة والديانة وحياة شيخ العرب السيد بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار، يا راجل أنت اشتريت وخلاص، برِّي ذمتك وقول الحق. وأنا يعني ح أكذب عليك ليه، ما قلت لك الحق. بقى بذمتك وديانتك والأمانة عليك وبركة الشيخ منصور وديتها رقبتك بسبعة وتمانين جنيه وربع؟ وديني وما أعبد وحياة ربنا اللي أكبر من الشيخ منصور ومني ومنك ومن الدنيا كلها بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار. طب روح يا شيخ إلهي إن كنت كدبت ما توعى تعلقها في المحرات.
وتركه ومضى، ولو كان قد بقي أمامه لحظة أخرى لما كان قد استطاع كبح جماح الخاطر الذي كان يلح عليه باستمرار، أن ينتف ذقنه شعرة شعرة.
وما كاد يمشي أربع أو خمس قصبات حتى، برجاء حار، استوقفه شخص كان متنحيًا جانبًا، يعمل مثل الناس، على حافة الخليج الموازي للطريق، وحتى قبل أن ينتهي، وهو لا يزال القرفصاء، لوى رقبته وسأله: بالذمة والأمانة بقد إيه؟
– بسبعة وتمانين وربع وبريزة.
– إيه اللي سبعة وتمانين وربع وبريزة، هم مش يبقوا سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ.
– طب يا سيدي ما تزعلش سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ.
– أمال الأول قلت وبريزة ليه؟
– عشان هي بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
– بقى أبقى محلفك بالذمة والأمانة وتكذب.
– أنا كدبت؟
– مش قلت بريزة للسمسار، هي البريزة تخش في التمن؟
– ما دام دفعتها تخش.
لا ما تخشش. تخش. لا ما تخشش. تخش. أنت كداب. أنت بارد. تفوه عليك نفر. تفوه عليك وعلى اللي خلفوك. وهو لا يزال متشبثًا باستماتة في حبل البقرة اندفع ناحية الرجل يريد أن يطبق عليه وينتهي منه، وكان الرجل هو الآخر قد أوقف ما كان يقوم به واندفع ناحيته ويده مستميتة هي الأخرى على «دكة» السروال المفكوك، وبيد متشبثة والأخرى طليقة تريد أن تغور في زمارة رقبة الآخر، كادا أن يتماسكا، لولا أن أولاد الحلال وما أكثرهم على الطريق حالوا بينهما في آخر لحظة، وبعد محاولات لصلح فاشل، اندفع كل منهما، الرجل إلى حافة الخليج، وهو ناحية بلده وبينهما حبل طويل غليظ من الشتائم ظل يمتد ويرق كلما ابتعدا حتى انقطع، وسكت مخنوقًا، ومد يده يبحث عن العلبة ليلف السيجارة غير أنه اكتشف أنه فقدها في الخناقة، وبلغ به الغيظ حد أنه لم يحتمل مجرد فكرة العودة للبحث عنها في مكان الخناقة.
وهو في قمة غيظه إذا برجل، يرتدي في عز الحر عباءة، مؤدب وقصير، ما كاد يفتح فمه ويقول: بالذمة والأمانة عليك، حتى كان قد رفع يده إلى آخرها دون أن يدري ثم هوى بها على صدغ صاحب العباءة الممدودة في أدب ووقار.
وارتاع الرجل حتى سقطت العباءة من فوق كتفيه، وفكر أن يمسك بخناقه، ولكنه في اللحظة التالية كان قد راجع نفسه، وحين تلفت حوله فلم يجد أحدًا من المحتمل أن يكون قد رآه وهو يصفعه عاد للسير وكأن شيئًا لم يحدث وهو يقنع نفسه أن الرجل لا بد مجنون هارب من مستشفى المجاذيب.
وما كاد هذا يحدث حتى وجد صاحب البقرة نفسه يضحك ضحكًا عاليًا متواصلًا وكأنه قد جن فعلًا، وبلغ به الاستهتار حد أنه حين سمع السؤال يلقى عليه من جانب الطريق، اندفع ناحية السائل ورفع يده يحاول أن يهوي بها على صدغه، ولكنه فوجئ بيد حديدية تقيد يده في مكانها، وبكف كأنها من بلوط تهوي على صدغه هو بأربعة أقلام سخية نظيفة جعلت عينيه تقدحان شررًا، بل أعمته إلى درجة لم يرَ معها ضاربه، ولا فطن إلى أنه ضرب إلا بعد أن أصبح بينه وبين المعتدي مشوار ومشوار.
وعند كشك المرور تمامًا، سأله تاجر قمح تخين كان يفرش على جانب الطريق يشتري بالأقداح والشروات من الذاهبات إلى السوق: إلا قولي يا شيخ العرب، بالذمة والأمانة بكام؟
ولم يكن عربيًا أو شيخ عرب، ولكنه بمنتهى التأدب أو بهدوء غريب، لا أثر مطلقًا لأية ثورة فيه أجاب: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وكأنه لأول مرة يدرك، وبصفاء أيضًا، أنه باع كل شيء ليشتري هذه البقرة بعدما ماتت جاموسته في أول شعبان، بل فطست ولم يلحقها الجزار بالسكين حتى، ولثلاثة أشهر وهو يدبر، وعلى المحصول الذي لا تزال أمامه أربعة أشهر طويلة، ومحفظته إن كانت لم تسرق في الخناقة فليس بها غير جنيه وربع هي آخر ما تبقى معه من نقود في الحياة، بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار، قالها مرة أخرى، وبصوت مخنوق أعلى حتى حدق فيه التاجر مذهولًا لا يستطيع النطق.
وما كاد يلتفت حتى هبط من فوق جسر السكة الحديد رجل كان يحمل عنزة على كتفه، وما إن فتح فمه لينطق، حتى قال: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار، وبعد برهة قابلته امرأة تحمل مقطفًا ثقيلًا وتنوء بحمله، وقبل أن يصلها أو تدرك وجوده رفع صوته وقال: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وقالت المرأة «يه»، ثم حثت الخطو وكأنها تهرب من شبح.
وعند التابوت كانت جماعة قادمة من طريق التوت بعضها راكب وبعضها ماشٍ، ورفع صوته إلى أقصى ما يستطيع وقال: بالذمة والأمانة بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
وضحكوا، وقال واحد: الناس انهبلت، بينما تخلَّف ولدان راحا يشبعانه تريقة وسخرية.
وعلى مدخل البلدة رأى جاموسة ترعى على حافة «القيدة» فصرخ فيها: بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار.
واستدارت الجاموسة ناحيته، ورمقته في بلادة وكسل ثم عادت تعسعس بشفتيها وأسنانها على الحشيش.
وحين دخل بلده، كان يصيح، سواءً سأله أحد أم لم يسأله، قابل شخصًا أم لم يقابل، يقولها هكذا للزرع وللحيطان، وللحر أو للسما وللأوز وللجنيه وربع، وللأربعة أشهر والأربعة أولاد والولية، وللبهيمة التي ماتت، وللبقرة التي يسحبها، وللشيخ منصور، ولنفسه، وللدنيا كلها: بالذمة والأمانة والديانة وبكل كتاب أُنزل، بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.