هي١
– هووه.
مبكرًا وقبل يقظتي التامة جاءني الصوت منخفضًا قويًّا فيه همس (الفانفار) اقشعر جسدي، قلت: هوووه.
عاد يقول: قوم، عندك ميعاد في العتبة.
استيقظت تمامًا، نسيت الشاي، غادرت البيت، أصبحت في العتبة، عندك ميعاد في العتبة، أين؟ لا جواب، متى؟ لا جواب، مع من؟ لا أعرف، انتصف النهار، بدأ القيظ، ضوء الشمس اشتد وكأنما شحنت بطارياتها إلى آخرها، كثر الذباب، تزاحم الناس أكثر وعزلتهم وضحت، عندك ميعاد في العتبة، أنا في العتبة، القلب القديم لقاهرة قديمة، قاهرة واحدة كان لها قلب واحد، اليوم بمائة قلب، بلا قلب، الميعاد في العتبة، كيف أطيع الصوت وأنا العلمي الذي لا يؤمن بالدجل، حاولت العودة، فشلت، أصبحت، لا أعرف كيف، مقيدًا حبيس الميدان وحولي سور خفي مكهرب لا أستطيع اجتيازه، الميعاد متى ومع من ولماذا؟ لا أعرف، الميعاد في العتبة.
مر أسبوع وأنا سجين القهوة واللوكاندة والميدان، حدودي فتحات شوارع محمد علي والعباسية ومسرح الأوزبكية والمطافي، البنايات القديمة حراسي، الناس، النظرات أجنحة الذباب، مقيدة مثلي بقوة قاهرة، كل شيء قديم تهب منه رائحة الزمن كجو مقبرة تُفتح بعد مائة عام، الميدان يضيق، خطواتي فيه تتحدد أكثر، لم يعد باستطاعتي إلا أن ألف حول عربة الترام الثابتة في الميدان، في نهاية اليوم العاشر لم أعد أستطيع التحرك، شُدت قدماي بطريقة حاسمة ومجهولة إلى جوار العربة، ظللت في مكاني يومين بلا نوم أو طعام، في الضحى، وفي موكب، أقبلت عربة «بويك» زرقاء من آخر موديل حلياتها النيكل مصنوعة من ذهب، العيون والأفواه المفتوحة حولها وتتبعها، قائدها كالسائقين لدى العائلات الكبيرة يرتدي معطفًا أبيض وقفازًا أبيض وقبعة ذات حافة، توقف أمامي وقال: اركب.
لمحت خيبة الأمل في كل العيون المعششة حولنا وكأن كلًّا منهم كان يتوقع نفس الدعوة.
– أنا؟
– أيوه أنت.
– متأكد؟!
– أنت مش عند ميعاد في العتبة، اركب.
أأركب؟
سألت: على فين؟
قال: هي عايزاك.
– هي مين؟
– اركب.
أأركب؟
خفت.
التقت عينانا.
لم أجسر على المعارضة.
ركبت.
انطلقت العربة.
غادرنا العباسية في اتجاه ترب الخفير، بدأ طريق يصعد بنا كان واضحًا أنهم انتهوا من رصفه من لحظات وأنه يُطوى طيًّا بعد أن تمر به العربة.
– إحنا في المقطم؟
سألت وقد بلغنا أعلى نقطة، لم تستدر الرقبة الغليظة، لم أظفر بجواب، أعدت السؤال مجددًا وبصوت أعلى، لم يأتني إلا الصمت، سكت، أتكون هي، هي هي؟ أتكون هي؟ أم تراها أسطورية كعائشة التي قرأت عنها صغيرًا، ولكنا لسنا في رواية، أعرف الفرق تمامًا بين الأحلام والواقع، وبين الأساطير والحقيقة، العربة حقيقية والسائق حقيقي وهضبة المقطم حقيقية، حتى «فانفار» هوووه لا يزال يرن في أذني رنينًا حقيقيًّا له وجود كوجود حركة عقرب الثواني في ساعة معصمي، معصمي حقيقي ومستيقظ ويؤلمني حين أعضه.
– انزل.
كانت العربة دون أن أشعر قد وقفت، وكان عقرب الثواني لا يزال يتحرك ولكن الزمن توقف، مع العربة توقف، لم أنزل.
– انزل.
الأمر صريح، نزلت، انطلقت العربة بسرعة خاطفة، اختفى هيكلها قبل أن يختفي صوتها، عدت إلى ما حولي، صحراء واسعة ممتدة، صحراء غير مستوية، لا شيء هناك ولا في أي اتجاه، لا أحلم، قطعًا لا أحلم، خلعت الساعة، قربتها من أذني، التكتكة مسموعة، أنا لا أحلم، أنا موجود والقاهرة مختفية في مكان ما، ولكنها قريبة وموجودة.
سرت خطوات، عشر خطوات كيفما اتفق، فجأة وجدت أمامي بوابة، بوابة بالتأكيد موجودة من زمن، فعمرها لا يقل عن نصف قرن، بابها من حديد هائل الضخامة قد تراكمت فوقه طبقات الصدأ، عليه زرع أخضر له سيقان غليظة عمرها أكثر بكثير من عمر الرجل، وزهورها حمراء طازجة نبتت من ساعات، البوابة مغلقة، لم تفتح من أحقاب، الظل جميل بعد لفح الشمس، الخضرة تجعل من الظل جنة، البوابة من جماد، ولكنها أشعرتني بالونس، افتح يا سمسم، لم تفتح البوابة، واضح أنها مستحيل أن تفتح.
جلست أنتظر، لم يكن أمامي إلا أن أنتظر، غابت الشمس، نمت، صحوت، أشرقت الشمس، مالت، غابت، نمت، حلمت أني أمثل دورًا في السينما وأني أحتضن البطلة أمام مخرج عجوز، عيون الكاميرا كانت تضايقني، صحوت، أنا جوعان، بدأت أمضغ الأغصان الجافة، أحسست لها بلذعة، كففت، خفت أن تكون نباتات سامة أو مخدرة، أخطأت وألقيت ناحية الشمس نظرة، لم أستطع سحب نظرتي، جذبتها الشمس تمامًا وابتلعت وعيي، عميت، عمى أبيض مليء بحمرة كالدم، حين غربت الشمس عدت للوعي والرؤيا ووجدت البوابة مفتوحة، دخلت، انطلقت بكل قواي أجري، الحديقة واسعة، مزدوجة بالأشجار، الظلام يتكاثف، أنا جوعان والأشجار أشجار جوافة، أكلت، عاودت الجري في خط مستقيم ربما أصل إلى هدف، شعشع الفجر، أحسست بطريقة ما أني محاصر، توقفت، من خلف كل شجرة برز مارد أطول مني بكثير، ربما مائة أو أكثر، أحاطوني، اكتشفت حين اقتربوا أنهم عرائس خشبية ضخمة وأن مفاصلها من خيوط وأسلاك، تحركنا، أنا في الوسط وهم حولي، طال المشوار، غابت الشمس.
لم أنم، ظل حراسي مستيقظين، في منتصف الليل سمعتهم يتحدثون وقد انقلبوا من عرائس رجال إلى عرائس نساء.
سألت أقرب جاراتي الحارسات: من تكون هي؟ أتكون هي هي؟
لم تجبني، غمغمت لجارتها: هذا الجلف. إنها أجمل من كليوباترا.
– أكثر أنوثة من أفر وديت.
– ساقاها أمتع من وليمة جنسية.
– فخذاها امرأتان فاجرتان.
– أعماقها غيبوبة أروع من الوعي.
– هذا الجلف.
أشرقت الشمس.
كنت وحدي بلا حراس ولا عرائس.
في مواجهتي تمامًا باب أنيق لقصر. القصر مبني بطريقة حديثة كأنه ديكور لفيلم من أفلام المستقبل.
كان الباب مفتوحًا.
دخلت.
الصالة مساحتها عشرة فدادين، السجادة كيلومتر مربع في الصالة ثلاثة كراسي في ثلاثة أركان.
كنت متعبًا، جلست على أقرب كرسي، نمت، استيقظت لأجد الجدران قد حفلت بألف باب.
عرفت أن عليَّ أن أخمن وأختار.
اخترت أبعد الأبواب.
دخلت.
مشيت عامًا.
أين تراها.
تعبت.
حاولت العودة.
وجدت نفسي في منتزه واسع مفتوح، والدنيا ربيع وفي الوسط «بيسين» يتسع لمدينة تستحم، وكانت فيه امرأة واحدة عارية تمامًا وبعيدة جدًّا.
كانت هي.
وكان عليَّ أن أنتظر.
وانتظرت أنا والشمس، هي تشرق وتغيب وأنا لا أتحرك، وبعد أيام عرفت أنها غادرت الحمام وأنها في طريقها إلى التعطر والمنام.
وانتظرت.
– هوووه.
– هوووه.
– ادخل.
بعد أحقاب.
دخلت المخدع.
السرير كرسي عرش ممدود والجدران لوحات بانورامية حية والنور المصنوع مختلط بنور القمر بلا تفرقة، وبأصبعها أشارت، وسرت وبأصبعها أشارت وتوقفت عند قدمي السرير وخلعت ملابسي، وأشارت وأقبلت جواري حملتني إلى الحمام، وأشارت وجيء بي وقد أُعددت تمامًا وأشارت وأصبحت بجوارها تمامًا في الفراش وجيء بالطعام، وأكلت، لي أعوام وأنا جوعان، وبالشراب، شربت لي أعوام لم أغب عن الوعي، وفعلت كل هذا وأنا ذاهل فقد كانت هي أجمل وأروع من كل ما حلمت وتصورت، لكأنما كل نساء العالم قشور وهي قلبهن جميعًا، أعماقهن، كل ما فيهن من رقة وحنان وأنوثة.
وجاءت اللحظة واسترخت فوق الفراش تناديني، ولبيت النداء، وأشارت وأُطفئت الأنوار وأشارت وانطفأ القمر، وتحسست جسدها وأنا ذائب معها في قبلة واقشعرت يدي وهي تلامس فخذها، كان خشنًا مليئًا بالشعر رفيعًا طويلًا كساق المعزة ينتهي بحافر كحافر الحمار، اكتشفت أن الأنثى التي أنا غائص فيها كانت مؤخرة رجل فاجر الشذوذ، غاص قلبي وانطلقت أجري أبحث عن باب المخدع، أتعثر في غثياني وأبحث عن باب المخدع ولا باب، أجري ولا باب وأتعثر في غثياني ولا باب.