أكبر الكبائر١
لا يخيفنكم الاسم، فالقصة نفسها تميت من الضحك، ولو أن محمد حسين حين يرويها لا يضحك أبدًا، ولا يرى فيها ما يبعث حتى على الابتسام، بالعكس يتهدج صوته كثيرًا حتى يكاد يبكي وفي أحيان يسأل السامع، إن كان السامع من العارفين أو المتنورين، سؤال المستغيث، إن كان ما فعله وما يزال يفعله حرامًا، وهل ممكن أن يدخل النار بسببه؟! وحقيقة كان محمد يفاجأ حين يجد السامعين يضحكون، ويغرقون في الضحك، ولا يكفُّون إلى الآن عنه. محمد من هؤلاء الفلاحين الذين يطلق عليهم نساء القرية «الجدعان»، لا من الجدعنة ولكن من حداثة السن، والعزوبية، وخلو البال.
ولكنه جدع لا يلبس جلبابًا من السكروتة، وعمره ما جلس على قهوة، ولا ذهب أبدًا إلى البندر. فلاح من هؤلاء الفلاحين الذين حملوا عبء اخضرار بلادنا لسبعة آلاف عام أو تزيد، فهو مهما اشتغل في الغيط لا يتعب، ومهما نام لا يستريح، ومهما أكل لا يشبع، وأبدًا لم يرتدِ في حياته جلبابًا، فهو دائمًا بلباسه وفانلته وفوق الفانلة صديري لم يحل لونه فقط، ولكن انمحى «وجهه» اللامع تمامًا وبقي على البطانة الدمور، والفانلة متآكلة مثقوبة في أكثر من موضع، واللباس به رقعة غير جيدة الصنع، فقد صنعتها له أمه، وأمه نظرها ضعيف، وتزهق من لضم الإبرة.
ولكن محمد على أية حال شاب، في الثامنة عشرة وإن كان يبدو في الثامنة والثلاثين، وله أيضًا كل نزوات الشباب، بل ويعرف البصبصة، ويغني أحيانًا، ويلقح بالكلام على البنات إذا عملن معه في الحقل أو ضمته وإياهن ماكينة الطحين، ولكن تجاربه في الحقيقة بدأت مع الحيوانات، كل الحيوانات من الماعز إلى الأبقار والجواميس، وانتهت إلى المشهورات جدًّا من النساء، أولئك اللائي يقعن بمجرد وقوع النظر، بل أحيانًا بالسمع، ولم يكن أبدًا في حياته يحلم بما حدث، بله أن يحدث في يوم صيف حار كافر كهذا اليوم، قضى كل صبحه يجري خلف حمار «القنادلة» الذين يعمل عندهم حاملًا نقلات السباخ إلى الغيط البعيد، وقد أتم الثلاثين نقلة أي ما يوازي بلغتنا نحن الستين كيلومترًا قطع نصفها جريًا وراء الحمار، ونصفها الآخر راكبًا إياه تكاد سلسلته الظهرية العجفاء البارزة تقسمه إلى نصفين، ركوبة أسهل منها بكثير الجري أو السحل. في ذلك اليوم عطش، واستبد به العطش إلى درجة أصبح يحلم فيها بالماء، ومن شدة ظمئه نفى من خاطره أن يشرب من بيت القنادلة، فالماء لديهم يحتفظون به في البلاليص، وهو دائمًا ساخن، ودائمًا فيه عكار، الشربة الحقيقية لا تكون إلا من بيت الشيخ صديق ومن زير أم جاد المولى النظيف، ومائها البارد المقطر الذي تضع فوق فتحة زلعته شاشة بيضاء تمنع الواغش والغبار، ويرد منظرها الروح، هكذا صمَّم محمد وهو يلكز الحمار الكسول وينخزه ليسرع به إلى أول البيوت حيث بيت أم جاد المولى.
وما يكاد يطل من الباب وتتعود عيناه رؤية ما يغلفه شبه الظلام في الداخل حتى تسمَّر محمد في وقفته خجلًا واحترامًا وأدبًا، فقد وجد أم جاد المولى تصلي وبالذات تركع، وقد أعرض جسدها بطريقة لم يملك معها محمد إلا أن يقف خجلًا واحترامًا وأدبًا، ولم تطل الصلاة، فسرعان ما جاءت التحيات، وحين التفتت بوجهها لتسلم ذات اليسار أزادت من التفاتتها لترى من الواقف، وعافى عليها محمد وسألها إن كانت تسمح له بشربة ماء، وهزت أم جاد المولى رأسها موافقة دون أن تنطق بحرف فقد كانت تتمتم بختام الصلاة، وأشارت إلى الزير، الذي كان محمد من فوره قد توجه إليه وأمال الزلعة وملأ الكوز وشرب. شرب كوزين، وارتوى. أحس بجسده يلهث من فرط الري والاكتفاء وأحس أنه مدين لأم جاد المولى أو كما تعودوا تسميتها الشيخة «صابحة»، لا لأنها زوجة الشيخ صديق، ولا لأنها تصلي وتداوم على الصلاة، ولا تسلم عليك مرة إلا وقد أحاطت يدها بثوبها حتى لا تنقض الوضوء، ولكن لأنها دونًا عن النساء جميعًا كانت تفضل أن تلف رأسها بطرحة بيضاء، أحس أنه مدين للشيخة صابحة بدين كبير، حاول أن يرد بعضه، فسألها وهو في طريقه إلى الباب إن كان باستطاعته أن يؤدي لها خدمة، وقالت الشيخة أم جاد: كتر خيرك يا خويا، كتر ألف خيرك.
وكاد يدلف مسرعًا إلى الخارج ليلحق بالحمار الذي تركه ومضى، حين سمع كلمة: بس، والتفت خلفه ليلمح ابتسامة أم جاد المولى المعوجة قليلًا، والتي لا تظهر من خلالها سوى أسنان قصيرة، ويجدها تطلب منه في تردد إن كان باستطاعته أن يصنع لها معروفًا ويرفع بلاص الماء الاحتياطي ويدلقه في الزير الذي انخفض ماؤه. بس كده. وبجذبة واحدة رفع البلاص ودون حتى أن يسنده على حافة الزير أماله ومضى الماء يخرج من فتحته على دفعات ضخمة هادرة.
في ذلك الوقت لم يلحظ محمد أن الشيخة صابحة ترمقه للمرة الأولى منذ أن دخل البيت، وفي الحقيقة لم تكن ترمقه كله، كان بصرها مستقرًا على ساقيه السوداوين المجرحتين بالشقاء والملبدتين بالشعر، وليس على ساقيه بالذات، بالدقة على ذلك الشيء الذي انتفخ فجأة في سمانة كل من ساقيه وهو يشب ليسيطر على البلاص ويصبه، شيء بدا صلبًا وكأنه كتلة حديد قد تكونت من تلقاء نفسها تحت الجلد، شيء لا يمكن أن يحدث أبدًا إلا من جسد رجل، وهو شيء ليس غريبًا على أم جاد المولى، فلزوجها الشيخ صديق شيء مثله، ولكن سيقان زوجها هزيلة رفيعة كالبوصة، إذا شب أو سار تصلبت سمانتاه أيضًا ولكنه تصلب لا ينتج إلا كتلة صغيرة مفرطحة لا تكاد تظهر من الجلد، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تعقد فيها أم جاد المولى مقارنة بين زوجها وبين أي رجل تراه أو تلقاه، فلها سنين وهي تعقد تلك المقارنات، بالضبط أربع سنوات، منذ هذه الطوفة التي جاءته وجعلته يبدأ يغالي في التدين وصلاة الضحى والتراويح ويسهر الليالي في الموالد يذكر ويجعل من نفسه إمامًا للذاكرين ويؤمن بتلك الطريقة الدمرداشية، ويتروحن ويحدثها عن الوصول، والسادة والأولياء والإمام الغزالي وكبار الواصلين ويفرض عليها الطرحة البيضاء والسبحة.
في الحقيقة لم تدهش أم جاد المولى لهذا التحول، فالشيخ صديق طول عمره نحيف ضعيف خفيض الصوت شاحب اللون قليل الطعام كثير نوبات حرقان القلب والمغص، لا يقطع فرضًا، ولا يؤذي نملة، حتى في صباه، كان الشبان جميعًا يكتفون بارتداء طواقيهم وهو وحده الذي ينفرد بالتعمم عليها، ولكنه كان فلاحًا خبيرًا بالفلاحة يحب الأرض والزرع ويجن شغفًا بالمواشي ويفرح بولادتها ربما أكثر من فرحه بولادة الابن، والقراريط التي يزرعها دائمًا فيها خضرة أو شيء لا يزرعه الناس، ولكن تلك الروحنة لم تأته إلا من أربع سنين، لكأنما كانت و«بلوغ» ابنهم إسماعيل على ميعاد، وكأنما جاءت ليصب هو نقمته عليها لأنها لا تصلي، فإذا صلت ظل يواصل نقاره حتى تصوم «الستة» ولم يتركها إلا وقد ألبسها الطرحة البيضاء، وهي قابلة على مضض الضيق أول الأمر بكل الهلوسة التي اجتاحته وعلى تركه للأرض مهملة لا تجد من يعتني بها ويسقيها، وعلى إهماله لها وللدار ولكل شيء وتفرغه تمامًا لنوبات العبادة التي تبدأ مع العشاء ولا تنتهي إلا بعد الفجر حيث يصلي وينام للضحى، ويروح منهم «دور» الماء في الساقية، ويعطش القمح وتفضى سنابله، ولا يصح لهم من الفدان إلا إردبان.
قابلة على مضض الضيق أول الأمر، ثم على مضض الصابر، ثم على يأس المستسلم، ثم على محاولة للتروض وللوصول إلى عزاء لا أكثر وطلبًا للسلوى، ولكن نوبات النقاش والمناكفة ومحاولة تذكيره بترك المسبحة جانبًا وإمساك الفأس كثيرًا ما كانت تراودها وتجعلها تعقد بينه وبين غيره من الرجال المقارنات أمامه وخلفه، ولكنها المرة الأولى التي تعقد مقارنة بين سمانة رجله وسمانة أي رجل آخر.
كل هذا لم يلاحظه محمد، وحتى لو كان قد لاحظه لما فهمه، كل الذي لاحظه حقيقة أنه وجد أم جاد تقوم فجأة وتأتي لتقف بجواره أمام الزير وتمد يدها تريد انتزاع البلاص منه وهي تقول: عنك أنت يا خويا بقي، كفاية عليك، زمانك تعبت.
وهو يجذب البلاص ناحيته ويتشبث به: والله أكبر كلمة لا يمكن، تعبت إيه هو ده اسمه كلام.
– والنبي يا محمد إلهي يخليك لشبابك، هاود بس.
– واللي نبَّى النبي لا يمكن.
وجذبة إلى هنا وجذبة إلى هناك احتك كوعه بطرحتها البيضاء فأزاحها قليلًا، واحتك ذراعه بذراعها وفانلته بثوبها، وبالذات سمانة ساقه بجانب ساقها.
وفجأة دق قلب محمد وكأن أحدهم ساهاه وقذفه فجأة في الترعة فقد أحس هكذا أن الشيخة أم جاد المولى امرأة، لم تكن جميلة ولا صغيرة ولا تعوج القمطة، بل لونها كزوجها، يميل إلى الصفرة، وعيناها صغيرتان، وصوتها ناعم مسلوخ وكأنما يخرج من فتحة في ظهرها، ورائحتها كلون طرحتها، بيضاء ذلك الأبيض الشاحب الرمادي، ولكنه أحس بها كامرأة.
كيف أحس بهذا رغم طرحتها، والفرض الذي كانت من هنيهة تؤديه، رغم ابنها الأفطس الأنف الذي يحوم حوله ذباب خاص دائم والذي لا يمكن أن تصدق أن أمه امرأة.
كيف أحس بأم جاد كامرأة، ومن المسئول عنه، لا يعرف، وحين وجد شاش الطرحة من الشد والجذب ينزلق من فوق رأسها ثم يراها ويرى رأسها ووجهها بشعر وبلا طرحة، حين رأى هذا أحس أن كل شيء قد انتهى، وبدلًا من أن يمسك بأذن البلاص مباشرة لف ذراعه، بلا خبث أو تدبر، بالغريزة، وراء رقبتها، وقبض على البلاص بقوة، فأصبحت هي، بقوة أيضًا، في حضنه.
وحاولت أن تتملص قائلة: أوعى بقي نقضت وضوي يا شيخ.
ولكنه لم يفعل إلا أن شدد من التفاف ذراعه ليجبرها على السكوت التام، ولحظتها لم يكن يريد لها أو لنفسه أكثر من مجرد السكوت التام، والثبات، مجرد الثبات على هذا الموقف.
وكانت كلمتها التالية: لا لا، أنا في عرضك، الشيخ صديق زمانه جاي.
وقال لها بصوت مبحوح محشرج وكأنما مصدره صراخ داخلي ينبح منذ الأزل: هو فين؟
فقالت: زمانه بيصلي الضهر وجاي.
فقال: أمال وقتيه؟
فقالت: بعد العشاء.
وارتجفت ركب محمد وكأنما غشاها زلزال لم يلبث أن اجتاح صوته، فقال بشفة عليا ترتعش: هو مش ح يكون هنا.
فقالت: لا، حداه الليلادي مولد.
وفي نوبة جنون حاد ضمها محمد حتى كاد يحطم ضلوعها، ورفعها ودار بها هي والبلاص فرحًا، أكبر وأعظم وأروع فرحة مرت بحياته.
•••
وعلى السطح، سطح كبيت الشيخ صديق نفسه، كمعظم البيوت، كله فتحات ومساقط وصوامع وقش أرز وحطب وغرابيل قديمة وأسلحة محاريث صدئة وسحالي. على هذا السطح، كان الميعاد، وبرغم خوفها الشديد ورعبها، ورغم سبها لنفسها وتفكيرها ألف مرة في الإحجام، إلا أن أم جاد وضعت لمحمد سلمها الناقص بضع سلالم المصلوب بحبل، وجلست تنتظر، وألف هاتف يطالبونها بالقيام وسلاسل من حديد تربطها إلى المكان، قوة قاهرة كالزمن والأقدار تجعلها تصم آذانها وعيونها عن كل شيء وهاتف، وتمضي تضع السلم أو تحبك الطرحة البيضاء وتدلك وجهها بقطرات اقترضتها من ماء الورد وتفعل هذا كالمنومة، كالمسوقة إلى قدر محتوم.
والغريب أن محمد لم يستعمل السلم أبدًا في صعوده إلى السطح، فالسطح لم يكن عاليًا، وبقفزة واحدة كقفزة جن كان قد صعد الحائط الواطي، ولم ير جيدًا، فهو لا يجيد الرؤية بالليل، ولا حتى بالنهار، وعيونه لا ترى إلا إذا دعكها، وإذا دعكها احمرت، وإذا احمرت رأى الصومعة صومعتين، وفي الحقيقة لم تكونا صومعتين، إحداهما فقط كانت كذلك، والأخرى كانت أم جاد، وقد رأته ورأت حيرته، ولكنها قبعت في مكانها ساكنة لا تتحرك ولا تفتح فمًا، وبدلًا من أن يبدأ محمد بحثه عنها قبع هو الآخر بجوار الصومعة من ناحيتها الثانية ولو ترك العنان لنفسه لدخلها واختبأ فيها، فقد كان خائفًا جدًّا، خائفًا من الشيخ صديق أن يعود فجأة، ومن الله أن يغضب، ومن الجيران أن تحس أو تعرف، ولكنه رغم ذلك الخوف كان الدق الذي في قلبه دق فرح، فرح غامر دافق، حينما زهق من معرفة سببه قال لنفسه لا بد أنه الحب الذي يتكلمون عنه، فهو لأول مرة في حياته يواعد امرأة في بيتها وتواعده لا عن طمع أو من أجل بضعة كيزان أذرة تشويها، ولكن من أجله هو فقط ومن أجل سواد عيونه، رغم أن سوادها أبيض بما فوقهما من سحابات تمنع الرؤية، وحتى لو كان أعمى كلية وكانت أم جاد مشلولة تمامًا لالتقيا في تلك الليلة، فكل ما فيه كان مرهفًا إلى كل ما فيها مشدودًا إليه بقوة لا يمكن أن يوقفها ظلام أو تحول بينه وبينها صوامع أو حطب.
وكان لقاء، هو بنفس الفانلة واللباس وبوجه خشن حافل بالبقع والثقوب، وهي بجسدها القصير الأصفر صفرة لا سبب لها ولا تفسير وبابتسامتها المتدلية إلى ناحية، تدليًا لم يلحظه محمد ولم يره فقد كان مشغولًا عنه تمامًا، عقله مع الخوف من عودة الشيخ صديق والله والجيران وجسده مشغول تمامًا بجسدها، وكلاهما واقف، وكلاهما يرتعش، والدنيا مظلمة ظلامًا ليس فيه بارقة أمل.
ومن بعيد جدًّا، وكأنما من بين النجوم جاءهما صوت الشيخ صديق، وقد بدأ يمسك بحلقة الذكر ويلعلع، وعلى وقع لعلعته المتقطعة التي لا يمكن التمييز بين كلماتها كانت أجساد الذاكرين تتمايل، وتتهدج الأصوات الخارجة من صدور تخفق بالخوف والأمل، بالمعصية والحاجة، بالإرادة والاستحالة، بالصبر الشديد وطول ضيق البال.
وتقريبًا، وعلى نفس الوقع بدأ سقف البيت المعرش بأشجار وسدد، يهتز، ويخفق، خفقات، كنبض القلب، كلهث المحموم، بلا معنى وبلا هدف إلا أن تظل تخفق، وتظل الأفرع تزيق وعيدان الحطب وقش الأرز توشوش وتتغامز وتسري بينها الإشاعات الصوتية والهمسات الآثمة، صوت الشيخ صديق المنغم نفس نغمة صوت محمد وتمايل الأجساد وتمايل الأعواد، تهدج أصوات الذاكرين وتهدج أصوات الملتقين، نغمة واحدة، تكاد تشمل الكون كله وعلى وقْعها خفق وعلى وقعها مستمر يخفق، أما السحالي فقد توقفت ذلك التوقف الغريب الذي يحدث لها أحيانًا، توقف تام وكأنما ترد به على الحركة الكونية الهائلة من حولها وتشاهده وتشهد، إذا لزم الأمر، عليه، لم تتحرك إلا هناك، حين بدأت أصوات الذاكرين تضطرب وبدأ بعضها يرطن بالسريانية، ويصل، ويغيب عن الوجود، والحركة أيضًا تغيب عن السقف، وتموت الهمسات والإشاعات في مهدها على أطراف عيدان الحطب.
•••
وفقط كانت تلك هي المرة الأولى، ولم تكن أبدًا الأخيرة، فقد عرف محمد الطريق إلى بيت الشيخ صديق، وبالذات إلى سطح البيت وكان مستحيلًا أن يكف عن التردد عليه، كان كلما سمع الشيخ صديق يؤذن أو يحيي مولدًا أو ليلة يترك ما في يده ويتجه إلى البيت وبقفزة واحدة كان يصبح على سطحه، ودائمًا وهذا هو الأغرب كان يجد الشيخة صابحة هناك بنفس طرحتها البيضاء وكأنها وصوت زوجها على ميعاد.
وفي تلك الأيام بالذات كان الشيخ صديق في أسعد حالاته، فقد كفت زوجته تمامًا عن مناقشته الحساب وتذكيره بالفأس والأرض، واكتفت بإلقاء نصائحها لابنها جاد الذي بدأ هو يخرج الفأس من مكمنها ويسرح بها للغيط، بل الأكثر من هذا أنه بدأ يلاحظ أن زوجته قد أصبحت شيخة بحق وحقيق كما يناديها الناس، ففي صلاتها إخلاص حقيقي، وفي دعواتها إلى الله أن يغفر لها ما تقدم من ذنوبها وما تأخر تبتهل بصوت خارج من أعماق نفسها، ولم تعد أبدًا في حاجة إلى أن يذكرها بالنوافل أو توزيع الحسنات.
وهكذا ترك لنفسه العنان وارتفع آخر حاجز كان يحول بينه وبين التفرغ كلية للتبتل والوصول، واستبدل السبحة المائة التي كان يسبح بها بسبحة ذات ألف حبة، وعدية يس كان يقرؤها كل ليلة، وفي كل مساء أيضًا لا بد من ذكر، وكلما تطور الشيخ صديق في وصوله وانغماسه واندماجه وتفرغه كان محمد هو الآخر يتطور ويتهور، حتى أنه كان يذهب إلى سطح البيت مرتين في الليلة أحيانًا أو حتى في النهار، بل تطور الأمر بمحمد إلى الحد الذي جاء عليه وقت أصبح مجرد سماعه لصوت الشيخ صديق وهو يؤذن أو وهو يضرع مستغيثًا في مولد يجعله يحس بذلك الشيء في جسده يدق وينتشر الدم الفائر يعمي عينيه.
ولكن التعود، كالزمن، يقتل الأشياء، وبالتعود لم يعد محمد شديد الحماس لترك ما في يده كلما سمع صوت الشيخ مناجيًا أو مستغيثًا بعيدًا عن الدار ويقفز إلى سطح أم جاد، بل ربما نوبات قلة الحماس تلك التي أصبحت كثيرًا ما تنتابه، هي التي بدأت تحل عقدة لسانه وجعلته مستعدًا لفتح قلبه ومكنون سره، ربما سره الأوحد، لأصدقائه، ثم لمعارفه، ثم بناءً على طلب السامعين حين أصبحت القصة كلها، كمصير أي سر، معروفة مشهورة، لا تضر أحدًا أو تجرح أحدًا، مثلها مثل أي كلام، كل الفرق أن محمد في نهاية حكايته كان صوته يتهدج ويمتلئ بالتأثر إلى حد يوشك أن يستحيل معه إلى بكاء وهو يتساءل: ترى هل حقيقة سيدخل النار جزاء ما فعل؟
•••
ومن ناحيتنا كثيرًا ما تداولنا نحن الصغار القصة، وكنا حين نأتي إلى النقطة التي تهمُّ الصغار كثيرًا، نقطة الجنة والنار ومن سيدخل ماذا، كنا نؤكد لبعضنا البعض ونجمع بكلمات عالية باترة أن اللذين سيدخلان النار حتمًا هما محمد وأم جاد، ولكن ربما هذا الإجماع الغريب هو الذي كان يجعلني أفكر في الأمر بيني وبين نفسي أكثر، وأكاد أضحك على هاتف ساخر عربيد كالبلياتشو ينتصب أمامي فجأة ويؤكد لي ويقسم أن الشيخ صديق هو داخل النار حتمًا، ومن أوسع الأبواب.