سنوبزم١
حكاية الدكتور عويس حكاية، الأغرب أنه لم يحكها ولا يحكيها، ولا تزال لا تحتل من اهتمامه أي مكان بالمرة، حكاية هايفة في رأيه، فالموضوع المهم هو اللائحة، واللائحة هي «جنونة» الدكتور عويس هذا الموسم، فهو له في كل موسم أو كل شهر أحيانًا «جنونة».
صدفة رأيته يعبر ميدان التحرير بأقصى سرعة، كدت أضحك لمجرد أنه يجري، فهو ليس وقورًا فقط ولكنه من النوع الذي يراعي الوقار حتى في غير حضرة الناس، وقار زائد مبالغ فيه، وجدية خطيرة تكسو ملامحه، حتى أني كلما رأيته تساءلت كيف يستطيع التخلص من هذا كله وهو مع زوجته في الفراش، أو الأدهى، كيف يتصرف معها بكل هذا الوقار.
لم يرني، أنا رأيته وصحت به، توقف، تلفت، تحرج، مسح العرق، أنا ذهلت، كان لأول مرة بلا نظارة، نظارته التاريخية التي لا يغيِّرها، بدا وجهه كالعورة حين يخلع عنها السروال، سلامات، وأنت فين؟ وكيف حالك ولا مؤاخذة؟ وعامل إيه؟ وأنا أتطلع وأكتم شيئًا كبركان الضحك يدمدم في صدري، لا لملامحه بغير نظارة فقط وإنما لعينه اليسرى وقد أزيلت تمامًا ومعها جزء من الوجنة والحاجب، لم تُزَلْ وإنما ارتطمت بها كرة من «البلا» الأزرق سدت عينه ومحجرها واستقرت بارزة زرقاء ناتئة كفانوس عربة نقل مطلي باللون الأزرق، كدمة، كدمة لا بد سببتها «بونية» صوبت بمهارة ومن بطل ملاكمة محترف من الوزن الثقيل على الأقل، المسألة فيها علقة إذن، انفجر البركان وضحكت بأعلى وأبشع ما ضحكت في حياتي، كان لا يزال يتحدث ولا أسمع، سادر في الضحك أكاد أسقط فوق الرصيف، أخيرًا لمحت فمه يغلق، ويتلفت ثم يواجهني بعينه السليمة مليئة بحيرة طفولية حقيقية ربما يتساءل بها عما يضحكني، أو ربما يحاول تشخيص حالة عقلية حادة أصابتني وجعلتني أضحك بلا سبب معقول، وفقدت السيطرة على نفسي وانثنيت واعتدلت أضحك وأضحك وأضحك، وربما تخلصًا من حيرته لما اعتراني بدأ يشاركني في الضحك بطريقة واضحة الافتعال، ثم لما لاحظ أني كلما نظرت إلى وجهه الأيسر ضحكت فطن أخيرًا فابتسم لشدة بلاهتي ربما وقال: آه، عشان دي يعني.
وأشاح بيده كمن يطرد ذبابة غير مهمة، وقال: يا أخي خلينا في المهم، عارف حصل إيه الأسبوع اللي فات، اكتشفت أن تلاتة على الأقل من أعضاء هيئة التدريس يدبرون مؤامرة صغيرة ضد مشروع اللائحة.
وبالقوة كتمت الضحك بيد، وأشرت متسائلًا عن سبب تورم عينه وفقده نظارته بهذه الصورة، أشاح أيضًا بلا اهتمام قائلًا: أبدًا، حادثة بسيطة من الأسبوع اللي فات. المهم أن المؤامرة ضد اللائحة هذه بدأت من عشرة أشهر، تصور، عشرة أشهر.
أخيرًا نطقت أنا: الأسبوع اللي فات امتى وازاي؟
– بقول لك من عشرة أشهر، اللائحة.
– أنا أقصد عينك.
– لا دي حكاية بسيطة لا تذكر، حادثة كده، ناس أوباش، سنوبز.
المسألة إذن فيها علقة أخذها الدكتور عويس، وفكرة ضربه علقة ليست غريبة، كثيرًا ما خطرت لزملائه في الجامعة أو لبعض تلاميذه أو لي حتى شخصيًّا، تُرى من سبقنا جميعًا ونفذها.
أستاذ، أي نعم أستاذ، رئيس قسم «الأنثروبولوجي»، على عيننا ورأسنا، التفكير في الضرب سببه الإحساس المبالغ فيه بهذا كله، والمبالغ فيه كلمة متواضعة لا مبالغة فيها، البارانويا أو جنون العظمة ربما أصلح، الإحساس بأنه مبعوث العناية الإلهية ليس لإصلاح الكون الفاسد وإنما ليُعَيَّن وبواسطة حق سماوي مطلق ومن جهة كونية عليا مصلحًا للكون الفاسد، الحرية تؤمن بها صحيح ولكن ويلك إن استعملتها في مناقشة رأي له، الحرية هي حريته أن يقول الرأي وحريتك أن تقتنع به فإذا لم تفعل، إذا كان لك رأي آخر فأنت من الأوباش الذين يسميهم اﻟ «سنوبز».
– تصور عشرة أشهر وأنا أكافح من أجل اللائحة.
– إذن هي السبب في الخناقة؟
ببراءة سألت وأنا أشير لعينه اليسرى البارزة كعين ضفدعة وحيدة العين.
أحسن لتساؤلي بنوع من التقزز، وفي عز الحر، وعلى رصيف مزدحم بالمارة يتخبطون بنا مضى يحكي لي في تدفق قصة كفاحه من أجل وضع لائحة تنظم سلوك الطلبة وهيئة التدريس في كليته، ربما تمهيدًا لتطبيقها في الجامعة كلها، ثم بواسطة هيئة الأمم في العالم أجمع، ولساعة ونصف ظللت أستمع، لكي أنتهز فرصة يلتقط فيها نفَسه، أو يحاول تذكر اسم، وأسرع بتوجيه سؤال صغير أستفهم به عن كنه «العلقة» التي نالها الدكتور عويس، وعن هذا المجهول الذي استطاع أن يقتحم الهالة العلمية التي يحيط بها نفسه، وحصانة الأنبياء التي يبدو بها وسط الناس، ويصل إلى عين ذاته المصونة تلك، ويبهدلها على هذا النحو.
وقصة اللائحة مسلية تمامًا، أنبتت في ذهني أكثر من فكرة مسرحية، فقد جسدها لي بنفس الأهمية والدقة التي جسد بها شكسبير مسرحيته المشهورة يوليوس قيصر، والمؤامرة التي حيكت ضده، وكل التيارات الخفية والظاهرة، وحتى بروتس كان هناك ولا تنس خطبة مارك أنطوني، وسذاجة الجماهير، والخنجر، والخنجر هنا كان آدميًّا، بل شخص العميد بذاته.
ولكن العلقة ظلت (ربما على رأيه لتفاهتي) هي محور اهتمامي، ومن الأسئلة المختلسة، والإجابات السريعة المشمئزة التي يلقيها لي كالفتات حتى أستطيع أن أواصل الاستماع لقصة اللائحة، من هذا كله أدركت ما حدث، ويا له من حدث.
الدكتور عويس لا يملك عربة، ومع أنه مساعد أستاذ ورئيس قسم إلا أن ماهيته لا تكفي كي يستعمل التاكسي في مشواره الطويل بين بيته وبين الجامعة، وفي أتوبيس ٩٩٩ وقعت الواقعة.
من أسبوع مضى، كانت الكتلة البشرية المعتادة يمتلئ بها الأوتوبيس، وكان الدكتور عويس، ومحفظة أوراقه الرهيبة رافعًا بها يده كالراية السوداء فقد كانت تحوي أهم الأشياء في حياته، محاضر وتقارير ومذكرات ومسودات موضوع اللائحة، كان بلا هيلمان، بلا قدسية، بلا نفخة صدر، قد تضاءل حتى احتل مكانًا لا يكفي «للبشة» قصب تحوي عشرة عيدان وسط هذا الحشد من أجساد فقد كل منهما كيانه الخاص، وتداخلت انبعاجات أحدها في التواءات الآخر لتصنع خليطًا من الأجساد البشرية المدكوكة بإحكام، كما يدك الشاري الطماع «الكيلة» بالقمح ليجعلها تحوي، جورًا، وحرامًا، فوق طاقتها بكثير.
يبدو أن السؤال التالي السريع استفزه، فعقد ملامحه، لأول مرة، ونسي اللائحة لبرهة وانفجر مجيبًا: اسمع، على لساني قل، ولك حق أن تقول، وانشرها في الصحف التي لك بها صلة، قل لركاب أوتوبيس ٩٩٩ الذي غادر ميدان التحرير الساعة التاسعة يوم تسعة في الشهر الحالي إنهم أبدًا لن يفلتوا من العقاب، عقاب التاريخ أقصد وضمير البشرية العام، فالفرد حين يرتكب جريمة مسألة تدخل في نطاق العقل، أما الجماعة، حين تجرم، هكذا، وبالتلقائية وبدون اتفاق سابق، وبالإجماع الذي لا يشذ عنه أحد عن عمد وبلا تردد وفي وضح النهار تجرم، حين تفعل هذا فنحن أمام أنثروبولوجية لم تعرفها البشرية من قبل، ظاهرة قد أعهد ببحثها إلى أحد تلاميذ الدكتوراه عندي، ولكن قل لهم (وهنا، ولصوته المرتفع كان قد تجمع حولنا بعض المارة فبدا كما لو كان يخاطبهم، ومبهورين مشدوهين غير فاهمين وقفوا يستمعون) قل لهم أيضًا، وعلى لساني إنهم لن يفلتوا من العقاب، ليس عقاب القانون ولا الدولة، ولكن عقاب الأنا الكبرى.
واستجابة للكزاتي، وغمزاتي، فطن إلى المجتمعين، فالتفت إلى الناحية الأخرى، ونطق كلمة واحدة «سنوبز»، والتفاتته جعلت كرة «البلا» الأزرق تواجهني، وجعلته يبدو كما لو كان يحدق فيَّ بها، وشعرت، وكأنما بإلهام، أن هذه ليست ربما المرة الأولى التي أشعر أنه ينظر إلى أو إلى الآخرين، أو أحيانًا لبعض الحوادث، من خلال هذه العين الوارمة الزرقاء البارزة إلى أمام، أدركت وكأنه كثيرًا ما كان يستعملها ليعطي أو ليستقبل وجهة نظر، كل ما في الأمر أنها كانت وارمة إلى الداخل، ولم تفعل «البونية» التي تلقاها أكثر من أنها «نطرتها» وجعلتها بادية للعيان.
– «سنوبز»، ولكن هذا كله ليس مهمًّا، هذه حكاية هايفة جدًّا، المشكلة أن المشروع الأول للائحة كنت قد قدمته بديمقراطية شديدة.
ولكن فلنعد نحن إلى موقف الدكتور عويس في ٩٩٩ وقفته بالضبط جاءت بجوار العمود الفاصل بين الدرجة الأولى والثانية، وكان كعادته قد قرر أن يهرب بأفكاره من مضايقات البيئة الموقوتة إلى خططه ومشاريعه لتفويت اللائحة، إلى أن حدث وأجبرته هزة قيام الأوتوبيس أو وقوفه لإدراك أن من يقف أمامه سيدة، و«يقف» أيضًا ليست الكلمة الدقيقة لوصف ما اكتشفه، فقد اكتشف أن جسديهما في حالة تقارب لا تسمح به الحرمة البشرية، فلكل جسد بشري في رأيه حرمة، وحد أدنى من المسافة الواجب توافرها لكي تحفظ له كيانه كوحدة إنسانية مستقلة، ولم تكن هذه أول مرة في ركوبه للأوتوبيس يحدث شيء من هذا وكانت طريقته لحل هذا الاعتداء على حرمة جسده واعتداء جسده على حرمة غيره أن يتحرك حتى يولي السيدة ظهره.
ولقد حاول هذه المرة فوجد أن تحريك رقبته نفسها أو إدارة وجهه فقط عملية تبدو مستحيلة، ولم يكن ثمة بد مما ليس منه بد، وأستطيع أن أتصور الكفاح الرهيب النفسي والعصبي والجسماني الذي بذله الدكتور عويس ليستعمل حقيبته التي تعادل قدس الأقداس في نظره، وليهبط بها من مكان الراية السوداء التي يرفعها كالفريق، ليفرضها بالقوة القاهرة حائلًا بين جسده وجسد السيدة، التي لا بد وأنها شكت في نواياه وتحركاته أول الأمر ولكنها حين أدركت في النهاية هدفه بدأت تبذل المستحيل لمساعدته، مشكورة لا شك، فجسدها كان سمينًا كثير الانبعاجات صعب الحركة وحين — بعد جهد جهيد — تمت العملية بنجاح، وأصبحت كل وثائق اللائحة وأسرارها مضغوطة بشدة وقائمة ليس بمعناها كلائحة لتنظيم السلوك، وإنما بمادتها كورق ودوسيهات، قائمة لتصنع سورًا يحافظ أولًا على الحد الأدنى لحرمة جسده، بصعوبة لفت السيدة رقبتها الممتلئة، وبالكاد لف هو إحدى عينيه، ومن خلال التقاء البصرين قالت له كلمة امتنان صامت أرضت كبرياءه التي نادرًا ما ترضى. ومن خلالها أيضًا أدرك أنه كان على صواب، فالسيدة بدت وقورة من النوع الذي لا يعجبه سواه، وجهها أبدًا لم يتعود الابتسام وإنما يطفح بشيء آخر كالإيمان، حدث نفسه بأنها ربما متدينة، ربما زوجة محترمة لرجل دين، ربما هي من عائلة أجادت تربيتها حتى أشرفت على الثلاثين، كما بدت له سنها.
حاولت سبق الأحداث وأنا أستمع طوال ربع الساعة المستمر التالي لأعرف كيف نشأت المشكلة، فواضح الآن أن كل شيء على ما يرام، وبلهفة متزايدة كنت أسأل، وأنتظر، وقصة اللائحة دائرة بأقصى سرعتها، وأعود أسأل، لأعرف في النهاية أنه الكمساري. المشكلة بدأت بمجيء الكمساري، كيف جاء؟ كيف تسرب؟ كيف أمكن ويمكنه أن يتحول إلى كائن أثيري يخترق الأجساد؟ لا أحد يعرف، المشكلة أنه مر ولكي يمر أحدث في الأجساد المدكوكة في فراغ العربة بقوى قاهرة ثابتة، أحدث خللًا كالخلل الذي يحدث لأوضاع النجوم والكواكب إذا مرق بينها نجم هوى وتغيرت به قوانين الجاذبية؛ إذ في لحظة اكتشف الدكتور عويس أن من أمامه أصبح رجلًا، وأصبح بقامته الأقصر، الحائل بين الدكتور وبين السيدة، ولا بد أن ارتياحًا عظيمًا انتاب الدكتور عويس، وأعفاه من كل الضغوط، وجعله مرة أخرى يرفع المحفظة إلى أعلى، رايته السوداء، الخفاقة، المحتويات اللائحية في أمان الآن.
– أوباش مدعون، أوغاد منافقون.
– لم أفهم.
– أوباش.
– ماذا حدث.
– أعفني أرجوك من هذه التفاهات، دعنا في المهم.
والتفاهات بدأت بتحركات لهذا الراكب القصير، غير مفهومة للدكتور عويس، ثم حين تكررت أوحت إليه بفكرة النشل، استبعدها، نقوده في جيب السترة وموضع الجيب فوق كتف الرجل تمامًا، ومن المحال أن يستطيع لوي أي من أذرعته ليصل إلى الجيب. آه، كده، إنه يعرف أن أشياء كهذه يقال إنها تحدث، لها عنده تفسيرات سيكولوجية وحضارية وأخلاقية وبالطبع على رأس القائمة أنثروبولوجية، هوبكنز تحدث عنها، إدوارد، ج. إدوارد له فيها بحث طويل، الألماني ريخته أضافها إلى الطبعة الجديدة من كتابه.
ولكن هذا الرجل المتحرك القصير الواقف أمامه الآن لا شك خبيث، ولا شك لم يحط بهذا المكان صدفة، انتهز فرصة التخلخل الحادث لمرور جسد الكمساري واحتل هذا الموقع الاستراتيجي خلف السيدة، وحتى هذا كله ليس مهمًّا، كل هذه السفاسف سيجرفها التحضر يومًا، حتى لو كان الدم قد غلا لوقت عابر في عروقه البحراوية، فما يجب أن يشغل به نفسه أهم.
ولكن الدكتور عويس اضطر لأن يؤجل انشغال نفسه بما هو أهم.
فالسيدة قد بدأت تتململ، وبقوة خارقة تتحرك، محاولة أن تستدير بجسدها وتأخذ وضعًا أفضل، وأخيرًا، حين بدا أنها مجبرة على الثبات في مكانها لا تتحرك شعرة، لوت، بكل ما تملك من قوة عنقها وقالت: بلاش مضايقة بقى، اتأخر، اتأخر شوية، الله!
ولأن وجهها بدا كما لو كان يُوجَّه الكلام للدكتور عويس الأطول ففجأة وجد عويس نفسه محط أنظار العيون كلها وكل تساؤلها، طارت المشاغل وحتى اللائحة من رأسه فورًا وسألها بحماس وسرعة: حضرتك بتوجهيلي أنا الخطاب؟
بصوت أعلى قالت: لا أنا بكلم الجدع اللي ورايا ده.
وتنفس الدكتور عويس في ارتياح بعد أن كان قد فقد النفَس، أما الرجل القابع خلفها فقد بدأ يتكلم، كلماته صف طويل من صفائح «الجاز» الفارغة التي تهاوت تقرقع وتتخبط وتصنع زعيقًا صفيحيًّا أجوف أكثر منها كلمات مفهومة.
– ولزومه إيه الكلام الفارغ ده، مانا غصب عني، أنا قادر أتحرك، ما هو لازم نستحمل بعضينا، وكلها محطة وكل واحد يروح لحاله، ما الناس كلها مستحملة بعض أنت يعني اللي على راسك ريشة.
أو هكذا قال.
السيدة المؤدبة المتربية سكتت، العيون انصرفت، الدكتور عويس قرر أن يقاطع ما يحدث أمامه فكريًّا تمامًا، وأن ينصرف إلى ما سوف يقوله في الاجتماع الخطير الذي سينعقد بعد ساعة واحدة.
كل ما في الأمر أن الرجل الدمنهوري فيه كان بين الحين والحين يطل برأسه ويدفعه إلى العودة لمتابعة المشهد ليطمئن إلى أن الرجل قد كفَّ تمامًا عن مضايقة السيدة، ولكن إطلالات الرجل الدمنهوري كثرت حتى طردت تمامًا اهتمامات أستاذ الأنثروبولوجيا، وصاحب مشروع اللائحة، الرجل، رغم كل ما حدث، استأنف المحاولات وبجرأة أكثر، حتى والسيدة بين الحين والحين تجبر عنقها المكتنز على الالتواء، وتصويب نظرات صاعقة، هلعة، مستبشعة، راجية، أخيرًا بدأ يظفر منها دمع متحجر صامت، نظرات كان واضحًا منها أنها تتعذب عذابًا لم تذقه في عمرها؛ إذ كانت تتألم ذلك الألم القاتل الذي لا يستطيع فيه المرء أن يصرخ أو ينطق أو يقول لا، والرجل، وكأنه فقد الإنسانية والحيوانية معًا، لا يولي شيئًا من هذا كله أي اعتبار، مندمج بكليته في متعته الدنيئة الغارق فيها لا يرى سواها ولا يهمه أي ألم هائل تعانيه السيدة لقاء لحظة المتعة تلك، كان على الدكتور عويس أن يستحضر ذاته العلمية بكل قواه وقواها حتى لا يندمج ويقوم من فوره بمهمة المصلح الاجتماعي الأخلاقي المباشر، هذه الأعمال والتدخلات المباشرة اليومية ليست مهمة رجل علم مثله، رجل العلم مهمته أشمل بكثير، أن يغير البشرية كلها، فإذا تناولها فردًا فردًا وحالة حالة غرق فيما يغرق فيه إنسان الحياة اليومية وضاعت رسالته إلى الأبد، عالم هو، وكعالم فليراقب بلا أي انفعال، وكأنه يراقب فئران تجارب، وهمه كله أن يستخلص من التجربة مغزاها ليكتشف للظاهرة حلها العلمي الصحيح، لا أن يتدخل لرفع ظلم مؤقت تعانيه فأرة من فأر، هذه مهمات الفتوة والقانون ورجل البوليس، والجدع الشهم، وكلهم أيضًا، في التجربة العلمية فئران.
وهكذا لم يبدُ غريبًا للدكتور عويس — وإن كان قد اعتبره اكتشافًا جديدًا حقًّا — أن يلحظ أنه لم يعد وحده الذي يتابع ما يجري، وأن أكثر من عين تختلس النظر، بل، وهذا مدهش حقًّا. في بعض النظرات متعة وترقب وحماس من حماس المتفرج أو المتابع، يكاد يقترب الأمر من المتعة.
نظرات كثرت، والرجل قد بدأ يمد يديه، وبأصابع ترتجف، انفعالًا، لا خوفًا، يرفع ثوب السيدة شيئًا فشيئًا، مجمعًا قماش الثوب في قبضتيه اللتين يستعملهما في نفس الوقت لزيادة احتضانه لها.
الأتوبيس مشحون صامت، يخترق شوارع ضيقة، تنفذ ضجتها إليه وتغرق كموجات البحر صمته، الركاب كل في ملكوته، حتى القليلين الذين يتتبعون الجاري بما فيهم عويس قد احتواهم هذا الملكوت الخاص، المفاجئ حقًّا، هو هذه الكلمة التي خرجت مجرحة بالغيظ مخنوقة بالدموع مكتومة وكأنها تتصاعد من أظافر القدم.
– الحقوني يا ناس، دا بيقلعني هدومي.
صرخة، شبه صرخة، ذهول مؤقت، صفارة طويلة من الكمساري، فرامل سريعة من السائق، تحرك اللحم في العربة مندفعًا بتأثير الوقفة المفاجئة اندفاعة شديدة كادت تدلقه إلى أمام، ثم دلقة أشد حين تم الوقوف، إلى الخلف، وهكذا تغير الحال تمامًا، ولم يعد أحد في مستقره، حتى الدكتور عويس وجد نفسه في قلب الدرجة الثانية وفوق رأسه تمامًا سبت يتساقط من شقوقه ماء سمك طازج.
– مالك يا ستي، حصل إيه؟!
في انفجار باكية مغيظة، أشارت السيدة إلى الرجل الذي كان واقفًا خلفها والذي كان قد أصبح في الدرجة الأولى بينه وبينها ركاب.
– دهه، ابن اﻟ… دهه، كان …
– أنا؟!
لا قرقعة صفائح هذه المرة، وإنما عواء ذئب صارخ، أو ربما زئير ضبع أو أسد. أنا؟! واندفع ناحيتها، أنا يا قليلة الأدب، وبكف صغيرة جافة هوى قلم، وقلم.
وسأل السائل الأول: حرام تظلمي الناس، أنتي متأكدة.
وفتحت فمها لترد.
وطويل، هائل الطول هذه المرة، واحد من ذوي الأعين التي رآها الدكتور عويس ومتأكد أنها كانت ترى كل شيء وتعرف، جعجع: ده كان بينه وبينك سبع ركاب، وأنا كنت واقف وراكي وانت اللي عمالة تتحككي، بقي.
وصفعة أخرى، ودفعة، وكوع لكز، وركبة بغِل، ضُربت، أصوات تداخلت: تستاهل، يعملوا العملة وبعدين يعملوا شرفا. سيدة تعلق: ويعني الشرف حبك قوي، كانت استحملت وبلاش الفضايح، زغدة، كتف، دفعة أشد، أكثر من ذراع، السلم، دفعة ظهر إلى الأرض لا حراك بها فوق الرصيف، حزام الفستان مفكوك، أزراره تفتحت، شرابها تهدل، شعرها انفكت الشريطة التي تضمه، تبعثر كهشيم شعر في كل اتجاه، وما أن استقرت في الخارج حتى هدأت الأصوات الزاعقة، وبدأ كل منهم يتنفس في ارتياح، الحمد لله.
احتاج الأمر إرادة من حديد كي يحول الدكتور عويس بين نفسه وبين أية انفعالات ذاتية، فليرتفع ضغط دمه، فلينفجر غيظًا، فليتقطع قلبه إشفاقًا، ولكن فليبق هو المراقب، في حدود دوره كعالم، يرى ويلحظ ويسجل، لتبقَ له مساحة عقلية تكفي ليعرف أيضًا ويتساءل، والتساؤل الذي يلح عليه قاسٍ لا يرحم، حادثة السلوك الشاذ من الراكب تفسيرها واضح، مريض، الرجل لا بد في حاجة لعيادة وطبيب، حادثة العيون التي ضبطها تختلس المتعة تفسيرها أبسط، المذهل المحير ليس أن تستغيث فلا تجد المغيث، السؤال الملح هو هذه الرغبة التي لا بد أنها نبتت بتلقائية، وفي كل نفس على حدة، لإثبات كذب المرأة، ونفي الموضوع وكأنه لم يكن، بل والأكثر عقابها الجماعي على تلك الصورة لأنها فتحت الفم ونطقت وبلغت بها الجرأة أن استغاثت وحددت الفاعل.
في ثوانٍ طاف عقل الدكتور عويس بحصيلة ثلاثين عامًا من المعرفة والقراءة وحتى التخصص، في ثوانٍ وبكل قوة توهجت كل قدراته على الاستنتاج والجشتالت، وفي ثوانٍ أيضًا أدرك أن لا جواب لديه ولن يقدر بذكائه وحده أن يصل إلى جواب.
ولأول مرة مذ وقعت الواقعة، وركب الأوتوبيس يبدأ الموضوع يتخذ في عقله خطورة ما، فقد أدرك أنه فجأة أمام ظاهرة تحدث أمامه، بل وربما في صميم اختصاصه، ولا يملك لها أي تفسير.
وإذا كانت الرغبات هي محركاتنا الأساسية للفعل، فرغبة الدكتور عويس للمعرفة كانت هي قوته الدافعة الأولى، أقوى رغباته جميعًا، يكفي أن يحس بها حتى ينسى أي شيء وكل شيء وينتصب أمامه ذلك الهدف الساحر الذي لا يقاوم: أن يعرف. بعد ثوانٍ ستكون الفئران قد اختفت، والإجابة ضاعت وهي لحظة واحدة، وعليه أن يختار.
وفجأة، وسط جو لا يزال مشحونًا ملبدًا، تنحنح صوت لا علاقة بين نبرته ومقامه وبين كل ما سمع من أصوات وضجيج، بنفس طريقته وهو يرفع الكلفة مع تلاميذه ليأخذهم تحت إبطه ويحظى منهم بالاعتراف، قال: اسمحوا لي بكلمة، أقدم لكم نفسي أولًا، أنا الدكتور فلان الفلاني الأستاذ بكلية كذا بجامعة كذا، وعديد آخر من الأوصاف، وأرجوكم لا تعتقدوا أني أقصد التدخل في شئونكم الخاصة، «حب الاستطلاع وصل في جو العربة هنا إلى حد مخيف» وإنما أنا أستاذ مادة الأنثروبولوجيا ولا يهمني ما حدث أبدًا من الناحية الأخلاقية أو القانونية، أنا يهمني الناحية العلمية، «تحول حب الاستطلاع إلى شك»، لقد أتاحت لي وقفتي قريبًا من هذه المرأة التعسة «كاد سائق الأوتوبيس يضغط على البنزين ويمضي ولكنه عدل، الكمساري كفَّ عن عملية الاطمئنان على نقوده» أن أرى كل شيء وأن أرى أن آخرين غيري يرون نفس الشيء، وليس هذا مهمًّا أبدًا عندي.
رمقه رجل مفلفل الشعر بالمشيب مرتكزًا إلى عمود الوسط وبنوع من الاستغراب المشبع بالإنذار سأله: أنت عايز إيه يا أستاذ بالضبط، عايز تقول إيه إحنا مش فاضيين؟
بصوت عالٍ واضح قال: عايز أعرف إيه اللي ضايقكم أنتم في تصرف السيدة وفي اتهامها للأفندي؟ زعلتوا ليه؟ حتى الستات، اضايقت ليه؟ لأسباب علمية محضة أرجوكم أن تجيبوني لأن هذا مهم لي في مادتي جدًّا.
سكت الجميع ينظرون في استغراب ويقررون إن كان مهفوفًا أولًا أو عليهم أن يعاملوه كالعاقلين، وإن كان يسأل حقيقة أو أنه ينصب بسؤاله مصايد وفخوخًا، وفجأة قال مفلفل الشعر: أنت بتقول إنك شفت وإننا شفنا، هو إيه اللي شفته وشفناه.
ببلادة قال: شفت اللي حصل.
– وهو حصل إيه؟ أنت شفت حاجة حصلت؟ احنا ما شفناش أنت شفت.
– الله، كل ده وما حصلش حاجة، أمال الست.
– كدابة.
– والأفندي.
– ما عملش حاجة.
– وأنا.
– وأنت نصاب باين عليك.
قالها شاب كان ضمن الكتلة الملتصقة التي تسد الباب الخلفي وما لبث أن انخلع منها وتقدم في اتجاه الدكتور عويس مستمرًّا بصوت يتزايد علوًا: على فكرة أنا طالب في كلية كذا جامعة كذا اللي بيقول عليها دي، وأعرف كل الأساتذة والمعيدين ويمين بالله ما في كليتنا أستاذ بالاسم ده ولا شفت الخلقة دي قبل كده من أصله، ده شكل أستاذ جامعة ده؟!
وفعلًا، كان المتحقق في ملابس الدكتور عويس وهيئته التي لا تترك له اهتماماته الأستاذية الأنثروبولوجية وجنوناته وقتًا للعناية بها يستطيع ببساطة أن يجزم أنها قد تكون لأي إنسان إلا لأستاذ أو مدرس أو أي شيء له صلة بالجامعة.
صرخة أخرى!
– وعلى فكرة، دا هو اللي كان واقف وراها.
– تمام تمام دا باين عليه ديوس قارح.
الله الله، المسألة تتطور بسرعة مخيفة.
– يا حضرات أنا مابالومشي أنا بسأل سؤال علمي.
– علمي يا ابن اﻟ…
وبألفاظ الدكتور عويس نفسه: أحسست بمساحة لها كثافة الكاوتشوك وصلابته تهوي وكأنما من ارتفاع برج الساعة وترتطم برقبتي من الخلف، كان أول «قلم» أتلقاه على قفاي في حياتي والألم الجسدي لم أشعر به؛ إذ فجأة شعرت أن آدميتي كلها تبعثرت، كل شيء يكوِّن ذاتي تشتت وسال تحت الأقدام، كرامتي، تاريخي، كل ما هو أنا انهار ومضت الأحذية تطؤه، القفا أعقبه ثانٍ وثالث، وعلى الوجه والرأس وبالشلاليط وآخر ما شعرت به نظارتي وهي تتدشدش وينغرز بعض زجاجها في جلدي ثم عيني اليسرى وقد أخذت تنتفخ بسرعة خارقة وتوشك، كالبالونة، على الانفجار. يا أخي هذا موضوع هايف كنت نسيته وخلاص، لماذا تلحُّ في تذكيري به؟!
لم أعد أستطيع، بحسم أوقفته، مستعملًا لهجة الأمر الذي لا يقبل النقاش لأول مرة: أريد أن أعرف بقية ما حدث.
– لا بقية ولا شيء، لقيت نفسي متمدد جنب الست على الرصيف والأوتوبيس مشي من زمان وجه غيره، وانتهى الموضوع.
– انتهى ازاي.
– أخيرًا قررنا نعمل اجتماع عشان اللائحة عند العميد.
عميد إيه؟ ولائحة إيه؟ ماذا بعد الضرب؟ ماذا فعلت؟ هل أبلغت البوليس؟ هل شكوت؟ هل كتبت للجهات؟ هل …؟
– ولا هل ولا شيء، أشكي مين؟ أوتوبيس؟ وأشكي ليه؟ المسألة سوء تفاهم لا غير، أنا كان قصدي سؤال علمي هم افتكروا حاجة تانية، مجرد سوء تفاهم، شوية «سنوبز»، إنما المجرمين الحقيقيين المتآمرين هم الناس اللي وقفوا ضدي في الاجتماع، دول عارفهم كويس وعارف وقفوا ليه ووراهم مين والهدف من المؤامرة إيه.
لم أستطع إلا أن أفقد السيطرة وأنفجر وقد فاض بي الكيل. واستمع إلى كلمات اللوم والغضب وهي تتدفق بحرارة من فمي، استمع بلا أي لوم أو غضب، فقط ظل ينظر لي مشفقًا وكأنه أرسطو يتأمل قرويًّا يونانيًّا ينقده بشدة ويشتمه على «مربعه» الفلسفي المشهور الذي ابتلى به البشرية.
ظل يستمع حتى، من نفسي، سكت، وطبطب على كتفي وكأنه يُرضي طفلًا أضاع معه وقته وقال: أنا متأسف لأني مضطر أسيبك عشان ألحق الاجتماع، أنا دلوقتي بس أدركت أني ضيعت وقتي معاك أنا بقالي ساعة أحاول أقنعك إنك — بصفتك راجل مهتم بالمشاكل العامة — تقف مع قضية عادلة زي قضية لائحة السلوك العام، إنما الظاهر إني ضيعت وقتنا إحنا الاتنين، عن إذنك ألحق الأوتوبيس.
– الله، أنت لسه بتركبه.
– طبعًا.
– و٩٩٩ برضه.
– هو وغيره، ليه لا؟
– وبتشوف برضه تجارب علمية وتسأل و…
– ما باشوفش حاجة أبدًا، أنا صحيح جبت واحدة جديدة صحيح، إنما عشان أستعملها بس في الحرم الجامعي، إنما خارج كده أنا لا أرى زي ما أنت شايف.
– ولا بتسمع استغاثات.
– أبدًا، أبدًا، الظاهر أن الست دي كانت آخر واحدة تشذ وتستغيث، وأنا كنت آخر أحمق يقول أنا شفت، يعني كانت آخر علقة، دلوقتي تركب ٩٩٩ أو غيره تلاقي كله تمام، اللعبة بتتم في صمت، ولا أحد يخرج على قواعدها، والقاعدة إنك ماتشوفش وإذا شفت كأنك ما شفتش، وإذا حصل لغيرك مالكش دعوة، وحتى إذا حصل لك أنت ولا كأنه حصل لك، حل عبقري مش كده؟
نظرت إليه مذهولًا، ليس إلى عويس «الجنونة» أو رسول العناية للإصلاح أو بطل الكفاح من أجل اللائحة، كان ذهولي ربما أكثر بكثير من ذهوله حين وقعت له منذ أسبوع الواقعة.
– عن أذنك، ٩٩٩ بتاعي جه، ولا يهمك بكره لما اللائحة تقر حتشوف.
وعلى طريقته، تخلى عن وقاره العظيم للحظة، وانطلق يجري ولسانه رغمًا عنه يفلت كلمة «سنوبز» وبقفزة هائلة وضع قدمه فوق السلم، وما كاد يستقر، ويمسك العمود بيد، وقد اندس بين المتشعبطين، حتى استدار ناحيتي وأشار إليَّ بمحفظة أوراقه السوداء مودِّعًا، وعلى فمه نفس ابتسامة أرسطو المشفقة وهو يرمق بها ثورة القروي الجبلي على «مربعه» المشهور.