الرسالة العاشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما كان الإنسانُ أفضل الموجودات التي تحت فلك القمر، وكان من فضيلته العلوم والصنائع، وكان النطق من أفضل الصنائع البشرية؛ أردنا أن نُبين ماهية النطق وكميته وكيفيته؛ إذ كان به ينفصلُ الإنسان عن سائر الحيوانات، كما يقال في حده: إنه حي مناطق مائت؛ لأن سائر الحيوانات كلها أحياء مائتون غير ناطقين، وأيضًا فإن النطق من سائر الصنائع البشرية إلى الروحانية ما هو أقرب، وذلك أن سائر الصنائع الموضوع فيها الأجسام الطبيعية موضوعاتُها كلها جواهر جسمانية — كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الصنائع.
فأما النطق فإن الموضوع فيه جواهر النفس الجزئية الحية وتأثيراته فيها روحانية؛ مثل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والمديح والهجاء، والدليلُ على ذلك ما يتبين لنا من تأثيرات الكلام في النفوس؛ مثل ما يُرى من تأثيرات الأجسام بعضها في بعض.
وذلك أن تأثيرات الأجسام بعضها في بعض نوعان: مفسد ومصلح، فالمصلح مثل الطعام والشراب المصلحين لأجساد الحيوانات، ومثل العقاقير والأدوية المصلحة لأجساد المرضى، والمفسد مثل النار المهلكة لأجساد الحيوانات وأجساد النبات، ومثل الضرب بالسيف والسكين وما شاكله من الأجساد المفسدة المهلكة لأجسام الحيوانات، فكذا حكم الكلام والأقاويل في النفوس نوعان: مصلحٌ ومفسد، فالمصلح كالمديح والثناء الجميل الباعثين للنفوس على مكارم الأخلاق، ومثل المواعظ والمواعيد الزاجرين للنفوس عن الأفعال القبيحة وعن مساوئ الأخلاق، والمفسد من الكلام للنفوس كالشتيمة والتهديد والقبيح من الأقاويل الجالبة إلى النفوس العداوة والبغضاء، كما يُقال: رُب كلمة جلبتْ فتنة وحروبًا، كما قيل في المثل: إن سبب العداوة بين الغربان والبوم كلمة تكلم بها الغراب يوم اجتماع الطير على تمليك البوم، ورُب كلمة أطفأتْ نيران الحروب — كما قيل في قصيدة:
ومن فضيلة النطق أيضًا أنه كاد أن يكون مطابقًا للموجودات كلها كمطابقة العدد للمعدودات، والدليل على ذلك كثرة اللغات واختلاف الأقاويل وفنون تصاريف الكلام، مما لا يبلغ أحد كنه معرفتها إلا الله — عَزَّ وَجَلَّ — فنُريد أن نذكر من ذلك طرفًا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين، وليسهل على الناظرين في علم المنطق فهم معانيها.
(١) فصل في اشتقاق المنطق وانقسام النطق إلى قسمين
اعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن المنطق مشتق من نطق ينطق نطقًا، والنطق فعلٌ من أفعال النفس الإنسانية، وهذا الفعل نوعان: فكري ولفظي، فالنطق اللفظي هو أمر جسماني محسوس، والنطق الفكري أمر روحاني معقول، وذلك أن النطق اللفظي إنما هو أصوات مسموعة لها هجاء وهي تظهر من اللسان الذي هو عضو من الجسد، وتمر إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاءٌ من أجساد أُخر، وأن النظر في هذا المنطق والبحث عنه والكلام على كيفية تصاريفه وما يدل عليه من المعاني يسمى علم المنطق اللغوي، وأما النطق الفكري الذي هو أمرٌ روحانيٌّ معقول، فهو تصوُّر النفس معاني الأشياء في ذاتها، ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتمييزها لها في فكرها، وبهذا النطق يحد الإنسان، فيقال: إنه حي ناطق مائتٌ، فنُطق الإنسان وحياتُهُ من قبل النفس، وموته من قبل الجسد؛ لأن اسم الإنسان إنما هو واقعٌ على النفس والجسد جميعًا.
واعلم أن النظر في هذا النطق والبحث عنه ومعرفة كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس، وكيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام، وعبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت، يُسمى علم المنطق الفلسفي.
ولما كان النطق اللفظي أمرًا جسمانيًّا ظاهرًا جليًّا محسوسًا وُضع بين الناس لكي ما يعبر به كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس السائلين عنه والمخاطبين له؛ احتجنا إلى أن نذكر من هذا المنطق طرفًا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين فهمُ علم المنطق الفلسفي، ويسهل تَأَمُّلُه على الناظرين، فنقول أيضًا: إنه لما كان النطق اللفظي هو ألفاظٌ مؤلفةٌ من الحُرُوف المعجمة؛ احتجنا أن نذكر الحروف أولًا، فنقول: إن الحروف ثلاثةُ أنواع: فكرية ولفظية وخطية، فالفكرية هي صورةٌ روحانيةٌ في أفكار النفوس مصورةٌ في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ، والحروفُ اللفظية هي أصواتٌ محمولةٌ في الهواء، فمدركة بطرق الأذنين بالقوة السامعة، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الحاس والمحسوس، والخطية هي نقوشٌ خُطت بالأقلام في وجوه الألواح وبطون الطوامير مدركة بالقوة الباصرة بطريق العينين.
واعلمْ أن الحروف الخطية إنما وضعت سمات ليستدل بها على الحروف اللفظية، والحروف اللفظية وضعت سمات ليستدل بها على الحروف الفكرية، والحروف الفكرية هي الأصل.
وسنبين ماهيتها في فصل آخر.
واعلم أن الحروف اللفظية إنما هي أصوات تحدث في الحلقوم والحنك، وبين اللسان والشفتين عند خُرُوج النفس من الرئة بعد ترويحها الحرارة الغريزية التي هي في القلب وهي ثمانيةٌ وعشرون حرفًا في اللغة العربية، وأما سائرُ اللغات فربما تزيد وتنقص، وقد بَيَّنَّا علة ذلك في رسالة اختلاف اللغات، واعلمْ أَنَّ الحروف إذا أُلفت صارت ألفاظًا، والألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، والأسماء إذا ترادفت صارت كلامًا، والكلمات إذا اتسقتْ صارتْ أقاويلَ والأقاويلُ نوعان: موزون ونثر، فالموزون كالشعر والرجز والقوافي، والنثر نوعان، فمنه فصاحة وبلاغة، ومنه مخاطبات ومحاورات، والخطاب نوعان، فمنه ما يتكلم به جمهور الناس فيما بينهم في طلب حاجاتهم بلا احتجاج ولا خصومة، ومنه ما يتكلمون به في دعاويهم وخصوماتهم باحتجاج وبراهين، والدعاوى والخصومات نوعان: إما في أُمُور الدنيا، وإما في أُمُور الديانات والمذاهب والعلوم.
ولما كانت البراهين على صحة الدعاوى التي في أُمُور الدنيا لا تكون إلا بالشهود والعقود والصكوك، صارتْ البراهينُ أيضًا على صحة الدعاوى في أُمُور الديانات والمذاهب والعلوم لا تكون إلا باستشهاد ما في الكتب الإلهية والإخبار عن أصحاب الشرائع أو إجماع الخصوم، أو شهادة العقول بالقياس الصحيح الذي هو ميزانُ الحق.
ولما كان اختلافُ الناس بالحزر والتخمين في مقاديرِ الأشياء الموزونة والمكيلة دَعَتْهُم إلى وضع الموازين والمكاييل ليرفع الخلف بها عند الحزر، وكذلك اختلاف العلماء في الحُكم بالحزر والتخمين على الأُمُور الغائبة عن الحواس، دعتهم إلى وضع القياسات ليرفع الخلف بها عند النظر، ولما كان في صحة الوزن والكيل يحتاج إلى شرائطَ من عيار الصنجات، وصحة المكيال والميزان، وتقويم الكيل والوزن بها، كذلك حكم القياسات التي يعرف بها الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والخير من الشر؛ يحتاج إلى شرائط ليصح بها الحكم، وقد ذكر ذلك في كُتُب المنطق الفلسفي بشرح طويل، ولكن نُريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا؛ ليقرب على المتعلمين فهمُها، ونرجع الآن إلى ذِكْرِ الألفاظ الدالة على المعاني التي في أفكار النفوس؛ فنقول:
(٢) فصل في الألفاظ الدالة على المعاني
- أولًا: ما الاسم وما المسمى وما التسمية وما المسمى؟ ونقول أيضًا: من الواصف وما الوصف وما الموصوف وما الصفة؟ وأيضًا: من الناعت؟ وما المنعوت؟ وما النعت؟
- تفسيرها: الاسم كل لفظة دالة على معنًى من المعاني بلا زمان، والمسمى هو القائلُ، والتسمية هي قول القائل، والمسمى هو المعنى المشار إليه، والواصف هو القائل، والوصف هو قولُ القائل، والموصوفُ هو الذاتُ المشار إليه، والصفة هي معنًى متعلق بالموصوف، والناعت هو القائل، والنعت هو قول القائل، والمنعوت هو الذات المشار إليه، وليس له لفظةٌ رابعةٌ تدل على معنًى متعلق بالمنعوت كما كانت الصفة متعلقة بالموصوف.
(٣) فصل في الألفاظ الستة
واعلم أن الألفاظ التي تستعملها الفلاسفةُ في أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني التي في أفكار الناس ستةُ أنواع؛ ثلاثةٌ منها دالاتٌ على الأعيان التي هي موصوفات، وثلاثة منها دالاتٌ على المعاني التي هي الصفات، فالألفاظُ الثلاثةُ الدالة على الموصوفات قولهم: الشخص والنوع والجنس، والثلاثة الدالة على الصفات هي قولُهُم: الفصل والخاصة والعرض.
وأما شرحُ معانيها فنقول: الشخص كل لفظة يُشار بها إلى موجود مفرد عن غيره من الموجودات، مدرك بإحدى الحواس، مثل قولك: هذا الرجلُ وهذه الدابة وهذه الشجرة وذا الحائط وذاك الحجر، وما شاكل هذه الألفاظ المشار بها إلى شيء واحد بعينه.
والنوعُ كل لفظة يشار بها إلى كثرة تعمها صورة واحدة، مثل قولك: الإنسان والفرس والجمل والغنم والبقر والسمك، وبالجملة كل لفظة تعم عدة أشخاص متفقة الصور.
وأما الجنس فهو كل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور، تعمها كلها صورة أُخرى كالحيوان والنبات والثمار والحب وما شاكلها من الألفاظ، فإن كل لفظة منها تعم جماعاتٍ مختلفة الصور، وذلك أن قولك: الحيوان يعم الناس كلهم والسباع والطيور والسمك وحيوان الماء أجمع، وهي كلها صورٌ مختلفةٌ يعمها الحيوان، وهي صورةٌ روحانيةٌ متممة للجسم.
وأما قولهم: الفصل والخاصة والعرض، فهي ألفاظٌ دالةٌ على الصفات التي يُوصف بها الأجناسُ والأنواع والأشخاص. واعلم أن الصفات ثلاثة، فمنها صفات إذا بطلت بطل وجدان الموصوف معه، فتُسمى فصولًا ذاتية جوهرية مثل حرارة النار ورطوبة الماء ويبوسة الحجر وما شاكلها، وذلك أَنَّ حرارة النار إذا بطلت بطل وجدان النار، وكذلك حُكم رطوبة الماء ويبوسة الحجر وكل صفة لموصوف هكذا حكمه سميت فصلًا ذاتيًّا جوهريًّا.
ومنها صفات إذا بطلت لم يبطل وجدان الموصوف ولكنها بطيئة الزوال؛ مثل سواد القير وبياض الثلج وحلاوة العسل ورائحة المسك والكافور وما شاكلها من الصفات البطيئة الزوال، ولكن ليس من الضرورة أنه إذا بطل سوادُ القير أو بياض الثلج أن يبطل وجدان أعيانها، فمثل هذه الصفات تسمى خاصية.
ومنها صفات سريعة الزوال تسمى عرضًا؛ مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل ومثل القيام والقعود والنوم واليقظة وما شاكل هذه من الصفات يسمى عرضًا؛ لأنها تعرض لشيء وتزول عنه من غير زواله، وسميت الصفات البطيئة الزوال خاصية؛ لأنها صفات تختص بنوع دون سائر الأنواع.
وتُسمى الصفات الذاتية الجوهرية فصولًا؛ لأنها تفصل الجنس فتجعله أنواعًا.
واعلم أن الصفات التي تسمى خَاصِّيَّة أربعةُ أنواع، فمنها ما يكون خَاصِّيَّة لنوع ويشاركه فيها نوعٌ آخرُ، مثل خَاصِّيَّة الإنسان أنه ذو رجلين من بين سائر الحيوانات، ولكن يشاركه فيه الطير، ومنها ما هي خَاصِّيَّة لنوع ولا يشاركه فيها غيرُهُ، ولكن لا يوجد في جميع أشخاصه تلك الخَاصِّيَّة مثل الكتابة والتجارة وأكثر الصنائع، فإنها خَاصِّيَّة لنوع الناس، ولكن لا توجدُ في كل إنسان، ومنها خَاصِّيَّة قد توجد لكل أشخاص النوع، ولكن لا توجد في كل وقت، مثل المشيب فإنه خَاصِّيَّة للإنسان دون سائر الحيوانات، ولكن لا يوجد إلا في آخر العمر.
ومنها خَاصِّيَّة لنوع دون غيره وتوجد في كل أشخاصه وفي كل وقت وتسمى خاص الخاص، مثل الضحك والبكاء، فإنهما من خَاصِّيَّة الإنسان دون سائر الحيوانات، ولكل أشخاصه وفي كل وقت، وذلك أن الضحك والبكاء يوجَدان للإنسان من وقت ولادته إلى وقت موته، وكذلك الصهيل للفرس والنهيق للحمار والنباح للكلاب، وبالجملة ما من نوع من أنواع الحيوان إلا وله خَاصِّيَّة تختص به دون غيره، وهكذا حكم كل موجود من الموجودات له خَاصِّيَّة تميزه عما سواه تسمى رسومًا، عَلِمَ ذلك أو لم يعلم.
واعلم أن بالفصول تنقسم الأجناس فتصير أنواعًا، وبها تحد الأنواع؛ لأنها مركبة منها، وبالرسوم تختلف الأنواع ويخالف بعضها بعضًا؛ يعني: خاص الخاص، وبالخواص التي هي أعراضٌ بطيئةُ الزوال تختلف الأشخاص التي تحت نوع واحد، مثل الزرقة والشهلة والغطشة والقنوة والنحافة والسمرة والطول والقصر، وما شاكلها من الصفات التي تختلف بها أشخاصُ الناس ويمتازُ بعضُهُم عن بعض، وكل هذه الصفات بطيئةُ الزوال، وبالأعراض تختلفُ أحوال الأشخاص مثل القيام والقعود والغضب والرضا وما شاكلها من الصفات التي لا تدوم ويتعاقبها ضدها.
واعلمْ بأن كل صفة للجنس فهي في جميع أنواعه، وكل صفة للنوع فهي في جميع أشخاصه ضرورة، وليس من الضرورة أن كل صفة للشخص لجميع نوعه، ولا صفة النوع لجميع جنسه.
(٤) فصل في أن الأشياء كلها صور وأعيان
وإذ قد ذكرنا طرفًا من المنطق اللفظي شبه المدخل، فنُريد أن نذكر طرفًا من المنطق الفكري؛ إذ كان هو الأصل وهذا فرع عليه، كما ذكرنا قبل، فإن الألفاظ إنما هي سمات دالاتٌ على المعاني التي في أفكار النفوس، وضعت بين الناس ليعبر كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس عند الخطاب والسؤال، فنقول: إن الأشياء كلها بأجمعها صورٌ وأعيانٌ غيريات؛ أفاضها الباري تعالى على العقل الفَعَّال الذي هو جوهرٌ بسيطٌ مدرك حقائق الأشياء، كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية، ومن العقل على النفس الكلية الفلكية التي هي نفس العالم بأسره، كما بَيَّنَّا في الرسالة التي فَسَّرْنَا فيها معنى قول الحكماء: إن الإنسان عالم صغير، وإن العالم إنسان كبير، ومن النفس الكلية فاضتْ على الهيولى الأولى التي بيَّنا ماهيتها في رسالة الهيولى والصورة، ومن الهيولى على النفس الجزئية البشرية التي بينا كيفية نُشُوئها في رسالة لنا ترجمتها «الإنسان عالم صغير» وهي ما يتصور الناس في أفكارهم من المعلومات بعد مشاهدتهم لها في الهيولى بطريق الحواس.
فَمَنْ أراد أن يعرف كيف كانت صور الأشياء في النفس الكلية قبل فيضها على الهيولى، فليعتبرْ صور مصنوعات البشر كيف تكونها في نفوسهم قبل إظهارهم لها في الهيوليات الموضوعة لهم في صناعتهم كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الصنائع، ومَنْ أراد أن يعرف أيضًا كيف كانتْ صور الأشياء في العقل الفعال قبل فيضه على النفس الكلية، وكيف كان قبولُها تلك الرسوم والصور، فليعتبرْ حال رسوم المعلومات التي في أنفُس العلماء، وكيف إفادتهم للمتعلمين، وكيف قبولهم لها، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة التعليم، ومن أراد أيضًا أن يعرف كيف حال المعلومات في علم الباري — عَزَّ وَجَلَّ — قبل فيضه على العقل، فليعتبرْ حال العدد كيف كان في الواحد الذي قبل الاثنين، وكيف نشأ منه كَمَا بَيَّنَّا في رسالة خواص العدد.
(٥) فصل في العلم والتعلُّم والتعليم
واعلمْ أَنَّ العلم ليس بشيء سوى صورة المعلوم في نفس العالم، وأَنَّ الصنعة ليست شيئًا سوى إخراج تلك الصورة التي في نفس الصانع العالم ووضعها في الهيولى.
واعلمْ يا أخي أن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، والتعليم ليس شيئًا سوى إخراج ما في القوة إلى الفعل، والتعلم هو الخروجُ من القوة إليه، وأن كل شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا لشيء هو بالفعل يخرجه إليه، وأن النفس الكلية الفلكية هي علامةٌ بالفعل، والأنفس الجزئية علامةٌ بالقوة، فكل نفس جزئية تكون أكثر معلومات وأحكم مصنوعات؛ فهي أقرب إلى النفس الكلية؛ لقرب نسبتها إليها وشدة شبهها بها كما قيل في حد الفلسفة: إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. فاجتهدْ أن تكتسب معلومات كثيرة تكن أفعالك كلها حكمية زكية، فإنها القنية الروحانية، كما تجتهد أبناء الدنيا في اكتساب المال الذي هو القنية الجسدية.
واعلم أنه كما أن المال يتمكن الإنسان به مما يريدُهُ من اللذات في الدنيا وطيب العيش، فهكذا بالعلم تتمكنُ النفسُ من اللذات في الدار الآخرة، وبالعلم يتقرب إلى الله أبناءُ الآخرة، وبه يتفاضلُ بعضُهُم على بعض، كما قال الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الآية.
واعلم أن بالعلم تحيا النفوسُ مِن موت الجهالة، وبه تنتبهُ من نوم الغفلة، كما قال الله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ الآية، فالعلم يهديك إلى طريق ملكوت السماء، ويعينك على الصعود إلى هناك؛ كقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، وأخبر عن أهل الجهالة فقال تعالى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وهذا وعيدٌ لهم بالإياس عن الصعود إلى ملكوت السماء، فأعيذك أيها الأخ أن ترضى بأن تكون منهم أو معهم، وقيل: إن المرء مع من أحب، بل كن من الذين أمرهم رسول الله ﷺ فقال: كُنْ عالمًا أو متعلمًا أو تجالس العلماء أو تحب العلماء، وإياك والخامس إلا أن تكون من الطوائف.
(٦) فصل في اشتراك الألفاظ وأخواتها
وإذ قد فرغنا مِنْ ذِكْرِ المعاني، وأخبرنا بأنها صورٌ كلها ورسوم في أفكار النفوس الجزئية، وأنها تناولتها من الهيولى بطريق الحواس، وقلنا أيضًا: إن الصور التي في الهيولى فاضتْ عليها من النفس الكلية الفلكية، وإن التي في النفس أيضًا فاضتْ عليها من العقل الفعال، وإن التي في العقل أيضًا أفاضها عليه الباري — عَزَّ وَجَلَّ — وذكرنا أيضًا الألفاظ بمجردها، وأَخْبَرْنا أن الحروف التي هي أصواتٌ مفردةٌ إذا ألفت صارت ألفاظًا، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، وأن الأسماء إذا ترادفت صارت كلامًا، وأن الكلام إذا أُلصق صار أقاويل.
واعلم أن المعاني هي الأرواح، والألفاظ كالأجساد لها، وذلك أن كل لفظة لا معنًى لها فهي بمنزلة جسد لا روح فيه، وكل معنى في فكر النفس لا لفظ له فهو بمنزلة روحٍ لا جسد له، واعلمْ أن الكلمات إذا اتسقت صارت أقاويلَ، وأن الأقاويل تختلف تارة من جهة اللفظ، وتارة من جهة المعنى، وتارة منهما جميعًا، وهي خمسةُ أنواع، فمنها المشتركة في اللفظ، المختلفة في المعنى، كقولك: عين الإنسان، وعين الماء، ومقابلتها هي المترادفة التي هي المختلفة في اللفظ المتفقة في المعنى، كقولك: البر والحنطة، ومنها المتباينة في اللفظ والمعنى جميعًا، كقولك: حجر وشجر، ومقابلتها المتواطئة وهي المتفقةُ في اللفظ والمعنى جميعًا، كقولك: هذا إنسانٌ اسمه زيد، وهذا اسمُهُ عمر، ومنها المشتق أسماؤها وهي كقولك: الضارب والمضروب وما شاكلها من الأسماء المشتقة من الأفعال.
(٧) فصل في أن الأشياء كلها جواهرُ وأعراض
واعلمْ يا أخي أن العلماء قالوا: إن الأشياء كلها نوعان؛ جواهر وأعراض، وإن الجواهر كلها جنس واحد قائمة بأنفسها، وإن الأعراض تسعة أجناس، وهي حالةٌ في الجواهر وهي صفاتٌ لها، وإن الباري — عَزَّ وَجَلَّ — ليس يوصف بأنه عرض ولا جوهر بل هو خالقهما وعِلَّتهما الفاعلة. ونحن نقول: إن الأشياء كلها صور وأعيان غيريات؛ مرتب بعضها تحت بعض كترتيب العدد ومتعلق وجود بعضها ببعض كوجود العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة العدد، وإن الباري — جَلَّ جلالُهُ — هو علتها وهو موجدها كَمَا بَيَّنَّا في رسالة المبادئ العقلية.
واعلمْ أَنَّ الصورة نوعان: مقومة ومتممة، وقد سَمَّت العلماء الصور المقومة جواهر، وسمت الصور المتممة أعراضًا، وقد بَيَّنَّا الفرق بين الصورة المقومة والصورة المتممة في رسالة الهيولى والصورة، وفي رسالة الكون والفساد، فاعرفهما من هناك إن شاء الله.
(٨) فصل في حاجة الإنسان إلى المنطق
واعلم أيها الأخ أنه لو أمكن الناس أن يفهم بعضهم من بعض المعاني التي في أفكار نُفُوسهم من غير عبارة اللسان لَمَا احتاجوا إلى الأقاويل التي هي أصواتٌ مسموعة؛ لأن في استماعها واستفهامها كلفةٌ على النفوس مِنْ تعليم اللغات وتقويم اللسان والإفصاح والبيان، ولكن لَمَّا كانت نفسُ كل واحد من البشر مغمورة في الجسد، مغطاة بظلمات الجسم، حتى لا ترى واحدة منهما الأُخرى إلا الهياكل الظاهرة التي هي الأجسامُ الطويلة العريضة العميقة، ولا يدري ما عند كل واحد منها من العلوم إلا ما عبر كل إنسان عما في نفسه لغيره من أبناء جنسه، ولا يمكنه ذلك إلا بأدواتٍ وآلات مثل اللسان والشفتين واستنشاق الهواء وما شاكلها من الشرائط التي يحتاج الإنسانُ إليها في إفهامه غيره من العلوم واستفهامه منه، فمِنْ أجل هذا احتِيج إلى المنطق اللفظي وتعليمه والنظر في شرائطه التي يطولُ الخطاب فيها.
فأما النفوسُ الصافيةُ غير المتجسدة فهي غير محتاجة إلى الكلام والأقاويل في إفهام بعضها بعضًا من العلوم والمعاني التي في الأفكار، وهي النفوسُ الفلكية؛ لأنها قد صفتْ مِنْ درن الشهوات الجسمانية، ونَجَتْ من بحر الهيولى وأَسْر الطبيعة، واستغنت عن الكون مع الأجساد المظلمة التي هي أسفل السافلين وعالم الكون والفساد، وارتفعت إلى أعلى أفق العالم العلوي، وسرت في الجواهر النيرة والشفافة التي هي الكواكب والأفلاك، وذلك كما توجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية؛ إذ لم تقرن بالأجسام الساترة، ولم تحتج إلى كتمان أسرارها ولا إلى إخفاء ما في ضمائرها؛ إذ كانت صافية من الخبث والدغل وبريئة من الإضمار للشر، فقرنت بالجواهر النيرة والأكر الشفافة التي يتراءى الجزء منها في الكل، والكل يتراءى في الجزء، كما تتراءى وجوه المرايا المجلاة بعضها في بعض، وكما تتراءى وجوه الجماعة المتقابلين في عين الواحد منهم، ووجه الواحد في أعين الجميع، فهم غير محتاجين إلى الإخبار عن الإضمار ولا السؤال عن كتمان الأسرار؛ لأنهم في الإشراق والأنوار التي هي معدن الأخيار والأبرار.
فاجتهد يا أخي فلعل نفسك تصفو وهمتك تعلو من الرغبة في هذه الدنيا الدنية التي ذمها رب العالمين، فقال — عَزَّ وَجَلَّ: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ إلى قوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وقال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الآية، وقال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ الآية، وقال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
واعلمْ بأنه إذا عدم الجنس عدم جميع أنواعه معه، وإذا عدم النوع عدم جميع أشخاصه معه، وليس من الضروري إذا وُجد الشخص وجد النوعُ كله، ولا إذا وجد النوع وجد الجنسُ كُلُّهُ، واعلم بأن الأجناس أربعةُ أنواع؛ ثلاثة يستعملها صاحب اللغة في أقاويله، وواحدٌ يستعملُهُ صاحب الفلسفة في أقاويله، فالذي يستعمله صاحبُ اللغة من هذه الثلاثة؛ أحدها جنس البلدي والآخر جنس الصناعي والآخر جنس النسبي، فالجنس البلدي كقولك لجماعة تشير إليهم فتقول: البغداديون والبصريون والخراسانيون وما شاكله، والصناعي كقولك لجماعة تشير إليهم فتقول: نجارون حدادون خبازون وما شاكله، والنسبي كقولك لجماعة: هاشميون علويون ربعيون، وأما الذي يستعملُهُ الفيلسوف في أقاويله فهو عشرةُ ألفاظ بَيَّنَّاها في قاطيغورياس.