الرسالة الثانية عشرة
«وهي الرسالة الثالثة من المنطقيات»
وإذ قد فرغنا من ذكر العشرة الألفاظ التي يسميها الحكماء المنطقيون «المقولات العشرة»، ووصفنا كمية ما يتضمن كل واحد منها جنسًا من المعاني، وهي الصور المنتزعة من الهيولى، ورسومها المصورة في أفكار النفوس الإنسانية، مثالها في رسالة قاطيغورياس، وقبل ذلك قد ذكرنا في فصل آخر الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها، وفي فصل آخر قبله وصفنا أن الحروف المفردة إذا أُلفت صارت ألفاظًا، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت سمات، وأن السمات إذا ترادفت صارت كلامًا مفيدًا، فنقول في هذا الفصل:
إن الكلام كله ثلاثةُ أنواع، فمنها ما هي سماتٌ دالَّات على الأعيان يسميها المنطقيون والنحويون الأسماء، ومنها ما هي سماتٌ دالات على تأثيرات الأعيان بعضها في بعض، ويسميها النحويون الأفعال ويسميها المنطقيون الكلمات، ومنها ما هي سمات دالات على معانٍ كأنها أدوات للمتكلمين تربط بعضها ببعض، كالأسماء بالأفعال، والأفعال بالأسماء، يسميها النحويون الحروف، ويسميها المنطقيون الرباطات.
فالأسماء هي كل لفظة دالة على معنًى بلا زمان، كقولك: زيد وعمرو وحجر وخشب وما شاكلها من الألفاظ، والفعل مثل ضرب يضرب وعقل يعقل، وهو كل لفظة دالة على معنًى في زمان، والحروف مثل قولك: من وفي وعلى وما شاكلها من ألفاظ مذكور شرحها في كُتُب النحو. وبالجملة: ينبغي لمن يريد أن ينظر في المنطق الفلسفي أن يكون قد ارتاض أولًا في علم النحو قبل ذلك.
واعلمْ يا أخي أن الكلمات والأسماء إذا اتسقت صارت أقاويل، والأقاويل نوعان فمنها ما يقع فيه الصدق والكذب ومنها ما لا يقعُ فيه لا الصدق ولا الكذب، وهذه أربعة أنواع: الأمر والسؤال والنداء والتمني، والذي يقع الصدق والكذب فيه يسمى الأخبار، والأخبارُ نوعان إما إيجاب صفة لموصوف، وإما سلبُها عنه كقولك: النار حارة وليست بحارة، فقولك: ليست بحارة سلب، فالإيجاب إما أن يكون صدقًا وإما أن يكون كذبًا، وكذلك السلبُ مثل قولك: إذا قلت النار حارة فصدق، وإذا قلت: باردة فكذب، وإذا قلت: النار ليست بباردة فصدق، وإذا قلت: ليست بحارة فكذب، فقد تبين لك كيف يكون السلب والإيجاب تارة صدقًا وتارة كذبًا.
واعلم بأن الإيجاب والسلب تارة يكون حكمًا حتمًا، وتارة شرطًا واستثناءً، فالإيجاب الحتمُ مثل قولك: الشمس فوق الأرض وهو نهار، والشرط مثل قولك: إن كانت الشمسُ فوق الأرض فهو نهار، وكذلك حكم السلب مثله، مثال ذلك ليست الشمس فوق الأرض ولا هو نهار، والشرط والاستثناء مثل قولك: إن كانت الشمس ليست فوق الأرض فليس هو نهارًا.
واعلم بان الحكم نوعان: تارة يكون الصدق والكذب فيه ظاهرَين، وتارة يكونان فيه خفيَّين، بيان ذلك أنه متى كان قول القائل محتملًا للتأويل؛ لم يتبين فيه الصدق والكذب، ومتى كان غير محتمل للتأويل بان فيه الصدق والكذب.
واعلم بأن القول يكونُ غير محتمل للتأويل متى كان محصورًا، والمحصورُ من الأقاويل ما كان عليه سور، وسور الأقاويل نوعان كلي وجزئي، فالسورُ الكلي مثل قولك: كل إنسان حيوان، فهذه صدق وظاهر بين؛ لأن عليه سورًا كليًّا، والكذب الظاهر البين مثل قول القائل ليس واحد من الناس حيوانًا فكذب ظاهر؛ لأن عليه سورًا كليًّا، وأما السور الجزئيُّ فمثل قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، والصدق فيهما ظاهرٌ بينٌ؛ لأن عليهما سورًا جزئيًّا.
وأما ما كان من الأقاويل غير المحصورة فهو الذي ليس عليه سور، وهو نوعان مهملٌ ومخصوص، فالمهمل مثل قولك: الإنسانُ كاتب، والإنسان ليس بكاتب، فلا يتبين فيه الصدق والكذب؛ لأنه لا يمكن للقائل أن يقول: أردت بعض الناس، وأما المخصوص فمثل قول القائل: زيد كاتب، وزيد ليس بكاتب، فلا يتبين فيهما الصدق والكذب؛ لأنه يمكنه أن يقول: أردت بزيد الفلاني، وأما إذا جعل على كل قول قائل سور كلي كما وصفنا، فيتبين الصدق عند ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن يقول: أردت غير ما أوجبه الحكم.
واعلم أنه يجب على المستمع أن يلزم القائل ما يوجبه قوله ويطالبه به لا بما في ضميره؛ لأن الضمائر لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى، فقد تبين بهذا المثال أن الكلام إذا لم يكن محصورًا بسور لا يتبين فيه الصدق ولا الكذب ظاهرًا.
واعلم بأن الأسوار إنما تحصل الصفات للموصوفات وتحتاج أيضًا أن يكون الموصوف محصلًا بصفات معلومة معروفة، وذلك أن الموصوف إذا لم يكن معروفًا باسم فلا يتبين فيه الصدق والكذب في القول؛ مثل قولك: غير الإنسان حيوان وغير زيد كاتب وما سوى الحيوان جواهرُ ميتةٌ، وما شاكل هذه الألفاظ التي هي سماتٌ لأعيان غير معروفة، بل مشتركة لكل شيء سوى ذلك المستثنى منه.
واعلم يا أخي بأن السلب والإيجاب هما حُكمان متناقضان في اللفظ والمعنى جميعًا، لا يجتمعان في الصدق والكذب في صفة واحدة في زمان واحد من جهة واحدة في إضافة واحدة؛ لأنه رفع الشيء الذي أوجب من الشيء الذي أوجبته له على النحو الذي أوجبته له، في الوقت الذي أوجبته له، من الوجه الذي أوجبته له، ومتى نقصت من هذه الشرائط واحدة جاز اجتماعُها على الصدق والكذب جميعًا، مثال ذلك قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، وفي الصبي: إنه كاتب بالقوة ليس بكاتب بالفعل، وإليه أشار بقوله — عليه السلام: «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين.» عنى كنت نبيًّا بالقوة لا بالفعل، وفي الرجل الواحد أنه عالمٌ بشيء ليس بعالمٍ بشيءٍ آخر، وصائم في رمضان بالنهار ليس بصائم بالليل، وكبير بالإضافة إلى ما هو أصغرُ منه وليس بكبير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه، والكلبُ ليس يتحرك؛ لأن الكلب اسمٌ مشترك، وكذلك يتحرك اسم يقع فيه الحركات الست.
واعلمْ يا أخي بأنه إذا حكم بالقول على موصوف بصفة سميتْ تلك الصفة قضية ثنائية مثل قولك: زيد كاتب؛ لأنه يجوز أن يكون كاتبًا وغير كاتب، فإذا قطعت على أحد الخبرين كان قولًا جازمًا وقضية جازمة، وإذا قرن بهذه القضية أحدُ الأزمان الثلاثة سميتْ قضية ثلاثية مثل قولك: زيد كتب أمس أو يكتب غدًا أو هو كاتب اليوم، وإن زدت على إحدى القضايا الثلاثية أحد العناصر الثلاثة الذي هو من الممكن والممتنع والواجب سميت رباعية مثل قولك: يمكن أن يكون هذا الصبي يومًا ما رجلًا جلدًا وممتنع أن يحمل يومًا ما ألف رطل، وواجب أن يموت يومًا ما.
واعلم بأن السلب والإيجاب نوعان كلية وجزئية، فالكلية الموجبة مثل قولك: كل نار حارة، وسالبتها ليس شيء من النيران حارة، فإذا تقابلتا سُميتا أضدادًا كبرى، والموجبة الجزئية مثل قولك: بعض الناس كاتب، وسالبتها ليس واحد من الناس بكاتب، وإذا تقابلتا سُميتا أضدادًا صغرى، وإذا تقابلت قضيتان موجبَتان أوسالبتان سُميتا متتاليتين مثل قولك: بعض الناس حيوان، بل كل الناس حيوان، وإن بعض الناس لا يطير، بل كل الناس لا يطيرون، والقضيتان المتلائمتان هما اللتان تتفقان في المعنى وتختلفان في اللفظ، مثال ذلك كُل نار حارة، وليست شيء من النيران باردة، وبعض الناس كاتب ليس بعض الناس أُمِّيًّا.
واعلمْ أَنَّ الصفة تسمى محمولًا، والموصوف يسمى موضوعًا لحمله، فإذا كثرت الموصوفات والصفة واحدة؛ فالقضايا تكون كثيرة مثل قولك: زيدٌ كاتب وخالد كاتب وعمرو كاتب، وإذا كثرت الصفات والموصوف واحد، فالقضايا كثيرة مثل قولك: زيد كاتب وحداد ونجار، فإذا كثرت الصفات في اللفظ والمعنى واحد؛ فالقضية واحدة مثل قولك: زيد فهم فقيه عالم.
واعلم أن القضايا تختلف تارة بالسلب والإيجاب، وتارة بالكل والجزء، والاختلاف بالسلب والإيجاب يسمى كيفية وبالكلية والجزئية يسمى كمية، فإذا اختلفت القضايا بالكيفية والكمية سميتا متناقضتين، وإذا اختلفت بالكيفية سميتا متضادتين، والمتناقضان أشد عنادًا من المتضادين، والمتضادان مثل قولك كل إنسان كاتب، كل إنسان ليس بكاتب، والمتناقضان مثل قولك: كل إنسان كاتب ليس كل من الناس بكاتب.
واعلم بأن الواجب في الكون أقدم في الطبع من الممكن، والممكن أقدم من الممتنع؛ لأنه لو لم يكن الواجب في الكون لما عرف الممكن، ولو لم يكن الممكن لما عرف الممتنع.
واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن كل قضية كلية أو جزئية، موجبة كانت أو سالبة، فهي مركبةٌ مِنْ حَدَّيْن، يسمى أحدهما الموضوع والآخر المحمول، مثال ذلك قولك: النار حارة، فالنارُ هي الموضوعةُ، والحرارة هي المحمولة.
واعلمْ بأنه ربما جعل الموضوع محمولًا، والمحمول موضوعًا، مثال ذلك إذا قيل: النار حارة ثم قيل: الحارة نار ويسمى هذا عكس القضية.
واعلم بأنه ربما تكونُ القضيةُ قبل العكس صادقة وبعده كاذبة مثل قولك: كل حيوان إنسان، وكل إنسان حيوان، وربما تكون صادقة قبل العكس وبعده مثل قولك: كل إنسان ضَحَّاك، وكل ضحاك إنسان، وربما تكون كاذبة في الحالتين جميعًا مثل قولك: كل إنسان طائر وكل طائر إنسان.
(هذه آخرُ رسالة بارامانياس وتليها رسالة أنولوطيقا الأُولى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.)