الرسالة الثالثة عشرة
(١) فصل في أنولوطيقا الأولى
اعلم يا أخي بأن كل قضيتين إذا قُرنتا ووجب عنهما حكم آخر، سميت القضيتان مقدمتين، وسمي ذلك الحكم نتيجتهما، مثال ذلك إذا قيل: كل إنسان حيوان، وكل حيوان نامٍ، فينتج من هاتين أن كل إنسان نام.
واعلم بأن المقدمتين لا تقترنان إلا أن تَشتركا في كُلِّ حد واحد، وتتباينان بحَدَّيْن آخرين، وذلك الحد لا يخلو مِن أن يكون موضوعًا في إحداهما ومحمولًا في الأخرى، أو يكون محمولًا في كلتيهما أو يكون موضوعًا فيهما جميعًا، فإن كان موضوعًا في إحداهما، محمولًا في الأُخرى يسمى ذلك الشكل الأول، وهو مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل حيوان متحرك، فالحيوان هو الحد المشترك في المقدمتين جميعًا، محمولًا في الأولى، موضوعًا في الأخرى، وإن كان محمولًا فيهما جميعًا سمي ذلك الشكل الثاني، وهو قولك: كل إنسان حيوان وكل طير حيوان، فالحد المشترك الذي هو الحيوان محمولٌ فيهما جميعًا، وإن كان موضوعًا فيهما سمي ذلك الشكل الثالث، وهو مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل إنسان ضَحَّاك.
واعلم يا أخي بأنه إذا اقترنت هذه المقدمات على هذه الشرائط واستخرج بها حكم ما؛ سمي جميع ذلك الشكل «سلوجيموس» يعني القياس المنتج.
واعلم يا أخي بأن من المقدمات ما هو منتج ومنها ما هو غير منتج، فالمنتج ما تقدم ذكره، وغير المنتج هو ما ليس له حد مشترك مثل قولك: كل إنسان حيوان وكل حجر يابس، فإن هاتين المقدمتين، وإن كانتا صادقتَين فليستا تُنتجان شيئًا؛ لأنه ليس لهما حد مشترك.
واعلمْ يا أخي أنه إنما احتِيج في المقدمات إلى الحد المشترك ليقع الازدواج بينهما، وإنما يُراد الازدواجُ لتخرج النتيجة التي هي الغرضُ من تقديم المقدمات، كما أَنَّ الغرضَ من تزويج الحيوان الذكور مع الإناث هو أن ينتج منها أولاد مثلها، فهكذا أيضًا حكم المقدمتين واقترانهما هو لأن ينتج منهما حكم على شيء ليس بظاهر للعقول، فمن أجل هذا احتيج إلى اقتران المقدمات.
واعلم يا أخي بأنه ليس كل اقتران منتجًا، كما أنه ليس من كل تزويج يكون الولادة، وذلك أنه إذا قيل: كل إنسان حيوان وكل طائر حيوان، فإن هاتين المقدمتين وإن كانتا قد اشتركتا في حد فليس ينتج من اقترانهما نتيجة؛ لأنهما من الشكل الثاني، وهكذا إذا قيل: ليس واحد من الناس طائرًا ولا واحد من الناس حجرًا، فإن هاتين المقدمتين وإن كانتا قد اشتركتا، فليس ينتج من اقترانهما شيء؛ لأنهما من الشكل الثالث، وهذان الشكلان ليس يوثَق بنتيجتهما دون أن يعتبر بالشكل الأول كما بين ذلك في كتب المنطق بشرح طويل.
واعلم يا أخي بأن مقدمات الشكل الأول منتجة كلها، كلية كانت أو جزئية، سالبة كانت أو موجبة؛ مثال ذلك إذا قيل: كل إنسان حيوان، كلية موجبة صادقة؛ وكل حيوان متحرك، كلية موجبة صادقة، ينتجان كل إنسان متحرك، كلية موجبة صادقة، وإذا قيل: ليس واحد من الناس حجرًا كلية سالبة صادقة، ولا واحد من الأحجار طائرًا، كلية سالبة صادقة، نتيجتهما ليس واحد من الناس طائرًا، كلية سالبة صادقة، وبعض الناس كاتب جزئية موجبة صادقة، وبعض الكتاب حاسب جزئية موجبة صادقة، نتيجتهما بعض الناس حاسب جزئية موجبة صادقة وبعض الناس ليس بكاتب، جزئية سالبة صادقة، وبعض الكتاب ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة، نتيجتهما بعض الناس ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة، فقد بان أن هذا الشكل ومقدماته ينبغي أن يتحفظ بها ويعرف استعمالها في القياسات وكيفية استخراج نتائجها، ويتحرز من السهو والغلط فيها، فإنه يدخل عليها الآفاتُ العارضة، كما يدخل في سائر الموازين والقياسات، إما بقصد من المستعملين لها، أو بسهو يدخل عليهم فيها، وذلك أنه ربما تكون المقدمات صادقة، ونتائجها كاذبة، وربما كانت المقدماتُ كاذبة، ونتائجها صادقة، وربما تكون المقدمات والنتيجة كاذبة كلها أو صادقة كلها.
واعلمْ يا أخي بأن هذا الباب ينبغي أن يتفحص وينظر موضع المغالطة فيه ويتحرز منه، فإن الذين راموا إبطال القياس المنطقي من هذا الباب أتوا، وذلك أن أرسطاطاليس لما عمل كتاب القياس وبَيَّنَ فيه القياس الصحيح الذي لا يدخله الخطأُ والزلل، وذكر أنه ميزانٌ يُعرف به الصدق من الكذب في الأقاويل، والصواب من الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والشر من الخير في الأفعال، فكثر الراغبون فيه في ذلك الزمان والطالبون له وتركوا ما سواه من كُتُب الجدل وزال الاختلاف الذي كان بينهم لرجوعهم إلى الميزان الذي يريهم الحق ووثقوا به وأيقنوا أنه لا يجوز غيرُه. كقوم اختلفوا في وزن شيء من الأشياء، فلما اعتبروه بالميزان عرفوه يقينًا، ورجعوا إليه، وتركوا الجدل والمراء، فلما زال الاختلافُ فيما بينهم حَسَدَهُ جماعةٌ مِن أبناء جنسه من المتفلسفة وراموا إبطالَ ذلك عليه من هذا الطريق، وهو أن أتوا بمقدمات صادقة نتائجها كاذبة، وبمقدمات كاذبة نتائجُها صادقة، وبمقدمات كاذبة نتائجُها كاذبة، وعارضوا بها تلامذة أرسطاطاليس؛ لكي ما ينفروهم عنها ويزهدوهم فيها وهي هذه: ليس واحدٌ من الناس بحجر، سالبة صادقة. و: لا واحد من الأحجار بحيوان، سالبة صادقة، نتيجتهما: لا واحد من الناس بحيوان، سالبة كاذبة، والآخر: كل إنسان طائر، موجبة كاذبة. وكل طائر ناطق، موجبة كاذبة، نتيجتهما كل إنسان ناطق موجبة صادقة، وكل إنسان طائر موجبة كاذبة وكل طائر حجر موجبة كاذبة نتيجتهما كل إنسان حجر موجبة كاذبة وكل إنسان حيوان موجبة صادقة.
واعلم يا أخي بأن مثل هذه المغالطة تدخل في الصناعة مِن وجهين؛ أحدهما أن يكون المتعاطي جاهلًا بصناعة القياس أو ناقصًا فيها، فيغالط ولا يدري من أين وكيف ولِمَ، كما يغلط من يحسب ولا يدري الحساب، أو يزن أو يكيل ولا يدري كيف الوزن والكيل، أو يكون عارفًا بالصناعة، ولكن يقصد عمدًا وعنادًا لغرض من الأغراض كما يفعل الحاسب والوزان والكيال دغلًا وغشًّا وحيلة، فمِن أجل هذه المغالطة التي أتى بها القومُ أوصى أرسطاطاليس تلاميذَه بسبع شرائطَ أن لا يستعمل قياس برهاني من مقدمتين سالبتين لا كليتين ولا جزئيتين أصلًا، ولا مهملتين ولا جزئية ولا خاصة البتة؛ إذ كان منها تكون هذه المقدمات التي أتى بها القومُ لمغالطتهم، بل يقتصر على استعمال المقدمات الصادقة التي نتائجُها صادقةٌ، وهي التي تغافل القومُ عن ذكرها، والمقدمات التي تصدق هي ونتائجها في كل مادة، وفي كل زمان قبل العكس وبعد العكس، تبين ذلك كله في أنولوطيقا الثانية.
(٢) فصل في بيان العلة الداعية إلى تصنيف القياسات المنطقية
اعلمْ يا أخي بأن الحكماء الأولين لما نظروا في فنون العلوم وأحكموها واستخرجوا الصنائع العجيبة وأتقنوها واستنبطوا عند ذلك لكل علم وصناعة أصلًا، منه تتفرع أنواعه، ووضعوا له قياسًا يعرف به فروعها وميزانًا يتبين به الزائدُ والناقص والمستوي منها، مثل صناعة العروض التي هي ميزانُ الشعر يعرف بها الصحيحُ والمنزحفُ من الأبيات، ومثل صناعة النحو التي هي ميزانُ الإعراب يعرف بها اللحن والصواب في الكلام، ومثل الأسطرلاب الذي هو ميزانٌ يعرف به الأوقات في صناعة النجوم، ومثل المسطرة والبركار والكونيا التي هي موازينُ في أكثر الصنائع يُعرف بها الاستواءُ من الاعوجاج، ومثل المكيال والذراع والشاهين والقبان التي هي موازين يعرف بها الزائدُ والناقص والمستوي في البيع والشراء في معاملات التجار، ومثل الحساب الذي هو ميزان العمال وأصحاب الدواوين.
واعلم يا أخي بأن هذه المقاييس والموازين هي أحكام بين الناس؛ نصبها الله الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — بين خلقه قضاة وعدولًا تحكم بالحق فيما يختلف الناس فيه من الحكم بالحزر والتخمين؛ لكي ما إذا تحاكموا إلى الموازين والمكاييل والمقاييس حكمت بينهم بالحق، وقضي الأمر، وانفصل الخطاب، وارتفع الخلف، فلما رأى الحكماء المنطقيون اختلافَ العلماء في الأقاويل والحكم على المعلومات بالحزر والتخمين بالأوهام الكاذبة ومنازعتهم فيها وتكذيب بعضهم بعضًا وادعاء كل واحد أن حكمه الحق وخصمه المبطل، ولم يجدوا لهم قاضيًا من البشر يرضون بحكمه؛ لأن ذلك القاضي أيضًا يكون أحد الخصوم فرَأَوْا من الرأي الصواب والحكمة البالغة أن يستخرجوا بقرائح عقولهم ميزانًا مستويًا وقياسًا صحيحًا؛ ليكون قاضيًّا بينهم فيما يختلفون فيه لا يدخلُهُ الخللُ، وإذا تحاكموا إليه قضى بالحق وحكم بالعدل، لا يحابِي أحدًا وهو القياس الذي يسمى البرهان المنطقي المماثل للبرهان الهندسي الذي يشبه البرهان العددي.
(٣) فصل في القياس المنطقي
واعلم بأنه لما كان مقياس كل صناعة وميزان كل بضاعة متخذًا من الأشياء التي تشاكلها من موضوعاتها؛ كالموازين التي يعرف بها الأثقال بصنجات لها ثقل وميزان المساحة الذي تعرف به أبعاد أشياء لها أبعاد، وهي الذراع والباب والأشل، ومثل المسطرة التي تعرف بها الأشياء المستوية؛ فهكذا قاس الذين استخرجوا البرهان المنطقي وقالوا: إن اختلاف العلماء فيما يدعون من الحق والباطل والصواب والخطأ الذي في ضمائرهم لا يتبين لنا إلا في أقاويلهم من الصدق والكذب، وإن الأقاويل الصادقة والكاذبة لا تعرف إلا بميزان وقياس يُقاس بها ويوزن.
ولما كان الميزان أيضًا لا يكون إلا من أشياء تجمع وتركب ضربًا من التأليف حتى تصير ميزانًا يمكن أن يوزن به ويقاس عليه، مثال ذلك الميزان الذي تُعرف به الأثقالُ، فإنه مجموعٌ من كفتين وعمود وخيوط وصنجات، فهكذا سلكوا في اتخاذ الميزان المنطقي الذي يسمى البرهان وبدءوا أولًا فذكروا الأشياء التي منها يكون الميزان والموزون جميعًا في قاطيغورياس، ثم ذكروا في بارامانياس كيف تركب وتؤلف تلك الأشياء حتى يكون منها ميزانٌ ومقياس، ثم ذكروا في أنولوطيقا الأُولى كيف يعتبر ذلك الميزان حتى لا يكون فيه الغبن والاعوجاج، ثم ذكروا كيفية الوزن به حتى يصح ولا يدخل الخلل في أنولوطيقا الثانية.
(٤) فصل في أن الحكم على الأشياء بالعقل والحث على تحري الصواب
واعلمْ يا أخي بأن الإنسان قادرٌ على أن يقول خلاف ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل؛ وذلك أنه يمكنُهُ أن يقول: زيدٌ قائمٌ قاعدٌ في حال واحدة، ولكن لا يمكنه أن يعلم ذلك؛ لأن عقله ينكره عليه، فلما كان هذا هكذا فلا ينبغي أن ينزل بالحكم على قول القائلين، ولكن على حكم العقول.
واعلم يا أخي بأن أهل كل صناعة يحرصون على حِفظ أنفسهم من الخطأ والزلل في صناعتهم، وذلك أَنَّ أهل كل علم يتجنبون الخطأ ويَتَحَرَّوْنَ الصواب والحق، ويجتهدون في ذلك، فينبغي لإخواننا، أيدهم الله وإيانا بروح منه، ومن يتعاطى منهم المنطق الفلسفيَّ أنْ يحفظ أقاويله من التناقُض من أولها إلى آخرها؛ فإن من المتكلمين من يحفظ أقاويله من التناقُض في مجلس واحد أو عدة مجالس، ولكن قَلَّ من يحفظ كل أقاويله من أوائلها إلى أواخرها حتى لا يناقض بعضها بعضًا.
مثال ذلك من قال في كتاب له: إن من شأن النفس أن تتبع مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر: إن النفس مزاج البدن، ثم قال في كتاب آخر لا أدري ما النفس، أو مثل من يعتقد بأن الله — عَزَّ وَجَلَّ — خلق الخلق لينفعهم، ثم يقول ويعتقد بأنه لا يغفر لهم ولا يخرجهم من النار. ومثل من يعتقد بأن المكان جسم أو عرض حالٌّ في الجسم، ثم يعتقد أنه يبطل الجسم ويبقى المكان فارغًا، ومثل من يقول: إن الجزء لا يتجزأُ، ثم يعتقد بأن له ست جهات، وهو يشغل الحيز، وما شاكل ذلك من الأقاويل المتناقضة والآراء الفاسدة يعتقدها إنسانٌ واحدٌ في نفسه ثم يتعاطى مع هذا المنطق الفلسفي والبرهان الحقيقي.
واعلمْ يا أخي علمًا يقينًا بأن أهل كل صناعة وعلم إذا لم يكن لهم أصلٌ صحيحٌ في صناعتهم منه يتفرع علمهم، وقياسٌ مستوٍ عليه يقاس ما يعملونه، مثل صناعة العدد كما بينا قبل؛ فإنه لا يمكنه أن يتحرز فيه من الخطأ، ولا أن يتجنب فيه من الباطل؛ لأن الأصل إذا كان خطأ فالفروعُ عليه تدور.
واعلم بأن من لا يحس بالتناقُض في أقاويله، فكيف يوثَق به في آرائه واعتقاده، وكيف يؤمن عليه أنه غير معتقد آراء متناقضة، ويكون فيها مخالفًا لنفسه ولا يدري، وكيف يرجى منه الوفاقُ مع غيره وهو مخالفٌ لنفسه ومناقضٌ لاعتقاده وجاهل في معلوماته؟
(٥) فصل أن المنطق أداة الفيلسوف
واعلم يا أخي بأن الحكماء المنطقيين إنما وضعوا القياس المنطقي واستخرجوا البرهان الصحيح؛ ليكون المتعاطي للمنطق يبتدئ أولًا ويقيم البرهان من عند نفسه على اعتقاداته، فإذا صحتْ في نفسه تلك رام أن يصححها عند غيره، وقبل كل شيء تحتاج يا أخي أن تعلم كيف تحفظ أقاويلك من التناقُض؛ فإنك إذا فعلت ذلك فقد أحكمتَ صناعة المنطق الفلسفي.
واعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل: إنه أداة الفيلسوف، وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات؛ لأنه قيل في حد الفلسفة: إنها التشبُّهُ بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
واعلمْ بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان هو أن يجتهد الإنسانُ ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه، ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته، هذا هو معنى قولهم: التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان؛ لأن الله — عَزَّ وَجَلَّ — لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير، فاجتهدْ يا أخي في التشبُّه به في هذه الأشياء؛ فلعلك تُوَفَّق لذلك فتصلح أن تلقاه فإنه لا يصلح للقائه إلا المهذبون بالتأديب الشرعي والرياضات الفلسفية.
وإذ قد فرغنا مِنْ ذِكْرِ ما احتجنا أن نقدمه من هذه الرسالة بلفظ وجيز، عمدنا إلى الرسالة التي هي موضوعة للبرهان.