فصل في رسائل إخوان الصفاء
قد رأيت أن أطيل القول على هذا الكتاب، وأوفيه حقَّه من الشرح والبيان؛ لمناسبة انتشاره واشتهاره على أثر طبعه حديثًا بالهند وبمصر، بعد أن لم يكن يوجد منه سوى نسخ تُعد على الأصابع، ولعمري! إنه لجدير بالعناية؛ لأنه يدلنا على حالة المعارف العقلية عند العرب، بعد انتشار الدين الإسلامي بزمن قليل.
اشتهر هذا الكتاب بين بني الآداب، وعلا قدره وطار صيته، حتى صار موضوعًا لحديث القوم في كل نادٍ، يهيمون بالمذاكرة في تاريخه وأصله في كل وادٍ، وما تجلت عرائس الحقيقة، إلا لنفر من نخبة الأفاضل المدققين، فاستجلوها وضنوا بها على المتسائلين، فحملني ذلك على التنقيب في دفاتر الأوائل والأواخر، حتى تيسَّر لي بعون الله تعالى جمع خلاصة تُميط النقاب عن حقيقة هذا الكتاب، فأقول: لم يظهر بدر هذا الكتاب في أفق المعارف، حتى تزاحم عليه الناس من جميع الطبقات والمذاهب، وعُنوا بقراءته والإعجاب به مدة طويلة من الزمان.
ولقد شُغفوا بمعرفة مؤلفيه لكونهم كتموا أسماءهم، فزادوا بذلك فضل الكتاب واهتمام الباحثين، حتى بلغ صيته المشارق والمغارب، وتنبَّه إليه العلماء وقدَّروه حق قدره.
فقد رأيت، أثناء مطالعتي ومراجعاتي، عبارة في ترجمة «الطبيب أبي الحكم الكرماني القرطبي» أحد الراسخين في علم العدد والهندسة «في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء نقلًا عن القاضي صاعد» وهي «… ورحل إلى ديار المشرق وانتهى منها إلى حران من بلاد الجزيرة … ثم رجع إلى الأندلس واستوطن مدينة سرقسطة من ثغرها، وجلب معه الرسائل المعروفة «برسائل إخوان الصفاء» ولا نعلم أحدًا أدخلها الأندلس قبله.»
فهذا القول يدل على جليل مكانتها وعظيم أهميتها التي جعلت العلماء يقيدون تاريخ دخولها واسم مَن أتى بها في ربوع العلم بالأندلس، وسنستعين به فيما سيجيء معنا من التحقيق الدقيق، إن شاء الله.
ولقد عرف حكماء الإفرنج وجهابذتهم مقامها فأحلوها محلها الرفيع، واعتنوا بالتنويه بها والتنبيه عليها، وكان السابق لهم في حلبة هذا المضمار العلامة سلفستر دوساسي المشهور، فإنه كتب عليها خلاصة وجيزة باللغة الفرنساوية.
وقد طُبعت هذه الرسائل في سنة ١٨١٢ مسيحية بمدينة كلكتة بالهند تحت عنوان «تحفة إخوان الصفاء»، والذي راجعها وباشر طبعها هو الشيخ «أحمد بن محمد شروان اليمني».
وفي سنة ١٨٣٧ طبع العلامة نوفرك في برلين خلاصة على رسائل إخوان الصفاء، تكلم فيها عليهم وعلى كتابهم، ونقل منها شيئًا باللغة العربية ووضع أمامه ترجمته بالألمانية.
وللمعلِّم فريدرخ ديتريصي الألماني كتاب في ثمانية أجزاء، بحث فيه عن العلوم الفلسفية عند العرب في القرن العاشر للمسيح «القرن الرابع للهجرة» واعتمد في كتابه كله على «رسائل إخوان الصفاء»، وقد طبعه في برلين من سنة ١٨٥٨ إلى سنة ١٨٧٩.
أقول: إنه أشبه في صنيعه هذا رجلًا من الخراسانيين ألَّف كتابًا عنوانه «مجمل الحكمة»، وإليك ما قاله صاحب «كشف الظنون» عنه: «فارسي في حكمة الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات، وأكثره رموز، انتخبه رجل من الخراسانيين بحذف الحشو وإيضاح الرمز، كما في «رسائل إخوان الصفاء»، ونقله بعضهم من الفارسي إلى التركي.» ا.ﻫ.
وهذا كله دليل كافٍ يُعلِمك بمكانتها من نفوس العلماء، ومقامها عند جمهور الفضلاء في مشارق الأرض ومغاربها.
ولا يغرب عن بال القارئ اللبيب أن الأعمال العظام والتآليف المعتبرة ونوابغ الرجال، قد كانت وستكون في جميع الأزمان والبلاد، عرضة لسهام الطعن والانتقاد، ولا تكاد تخلو من ذلك أمة من الأمم، والشواهد كثيرة ليس هذا محل بيانها، بل إن هذه حقيقة مقررة لا ينكرها إلا مَن يطلب الدليل على ثبوت النهار، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
إذا ثبت ذلك، فاعلم أن هذه الرسائل حازت قبولًا كثيرًا عند جماعة الناس، كما استوجبت لأصحابها السخط واللعنة عند فريق آخرين، ونحن لا نتشيع لأحد المذهبين، بل نترك الحكم لمن يطلع عليها في إبداء رأيه بالانتصار لأربابها أو التحامل عليهم، ونورد له كلامًا يعينه على تعيين حكمه ويرشده في أمره.
رسائل إخوان الصفا
هؤلاء جماعة اجتمعوا على تصنيف كتاب في أنواع الحكمة الأولى ورتَّبوه مقالات، عِدتها إحدى وخمسون مقالة، خمسون منها في خمسين نوعًا من الحكمة، والحادية والخمسون جامعة لأنواع المقالات، على طريق الاختصار والإيجاز، وهي مقالات مشوِّقات، غير مستقصاة، ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج، وكأنها للتنبيه والإيماء إلى المقصود الذي يحصل عليه الطالب لنوع من أنواع الحكمة.
ولما كتم مصنفوها أسماءهم، اختلف الناس في الذي وضعها، فكل قوم قالوا قولًا بطريق الحدس والتخمين، فقوم قالوا: هي من كلام بعض الأئمة من نسل علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه)، واختلفوا في اسم الإمام الواضع لها اختلافًا لا يَثبت له حقيقة، وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول.
ولم أزل شديد البحث والتطلب لذكر مصنِّفها، حتى وقفتُ على كلام لأبي حيان التوحيدي، جاء في جواب له عن أمر سأله عنه الوزير صمصام الدولة بن عضد الدولة، في حدود سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وصورته:
«قال أبو حيان حاكيًا عن الوزير المذكور: حدثني عن شيء هو أهم من هذا إليَّ، وأخطر على بالي! إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولًا يريبني ومذهبًا لا عهد لي به، وكناية عما لا أحقه، وإشارة إلى ما لا يتوضح شيء منه، يذكر الحروف ويذكر اللفظ، ويزعم أن الباء لم تُنقط من تحت واحدة إلا لسبب، والتاء لم تُنقط من فوق اثنتين إلا لعلة، والألف لم تُهمل إلا لغرض، وأشباه هذا، وأشهد منه في عرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفخ بذكرها، فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ فقد بلغني، يا أبا حيان، أنك تغشاه وتجلس إليه، وتُكثِر عنده، ولك معه نوادر معجبة، ومَن طالت عشرته لإنسان، صدقت خبرته، وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه.
فقلت: أيها الوزير، أنت الذي تعرفه قبلي قديمًا وحديثًا، لاختبار ولاستخدام، وله منك الإمرة القديمة والنسبة المعروفة.
قال: دع هذا، وصِفه لي!
قال: فعلى هذا، ما مذهبه؟
قلت: لا يُنسب إلى شيء، ولا يُعرف له حال؛ حيث إنه تكلم في كل شيء وغليانه في كل باب، ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه وسطوته بلسانه.
وقد أقام بالبصرة زمانًا طويلًا، وصادق بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن مشعر البيستي (ويُعرف بالمقدسي) وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي، وغيرهم، وصَحِبهم وخدَمَهم، وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنهم قرَّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله.
وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دُنِّست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال.
وصنَّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، علميًّا وعمليًّا، وأفردوا لها فهرسًا وسموها «رسائل إخوان الصفاء» وكتموا فيها أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ووهبوها للناس، وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية، والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق المموهة.
قال الوزير: فهل رأيت هذه الرسائل؟
فقال له النجاري بن العباس: ولمَ ذلك أيها الشيخ؟
فقال: إن الشريعة مأخوذة عن الله (عز وجل) بواسطة السفير بينه وبين الخلق، ومن طريق الوحي وباب المناجاة وشهادة الآيات وظهور المعجزات، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوض فيه، ولا بد من التسليم المدعو إليه والمنبَّه عليه، وهناك يسقط «لم» ويبطل «كيف» ويزول «هلا» ويذهب «لو» و«ليت» في الريح؛ لأن هذه المواد عنها محسومة، وجملتها مشتملة على الخير، وتفصيلها موصول على حسن التقبل، وهي متداولة بين متعلق بظاهر مكشوف، وصحيح بتأويل معروف، وناصر باللغة الشائعة، وحامٍ بالجدل المبين، وذابٍّ بالعمل الصالح، وضارب للمثل السائر، وراجع إلى البرهان الواضح، ومتفقِّه في الحلال والحرام، ومستنِد إلى الأثر والخبر المشهورَين بين أهل الملة، وراجِع إلى اتفاق الأمة، ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك، ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل وما المنفعل منها، وكيف تمازجها وتنافرها، ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ولوازمها، ولا حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال ومناسب الأسماء والحروف والأفعال.
قال: فعلى هذا كيف يسوغ «لإخوان الصفاء» أن ينصبوا لأنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة؟ على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضًا لهم مأخذ من هذه الأغراض كصاحب العزيمة، وصاحب الكيمياء، وصاحب الطلسم، وعابر الرؤيا، ومدعي السحر، ومستعمل الوهم.
فقال: ولو كانت هذه جائزة، لكان الله ينبِّه عليها، وكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها، ويكملها باستعمالها، ويتلافى نقصها بهذه الزيادة التي تجدها في غيرها، أو يحض المتفلسفين على إيضاحها، بها يتقدم إليهم بإتمامها، ويفرض عليهم القيام بكل ما يذب به عنها حسب طاقتهم فيها، ولم يفعل ذلك بنفسه، ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه، بل نهى عن الخوض في هذه الأشياء، وكرَّه إلى الناس ذكرها، وتوعَّدهم عليها، وقال مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا أو منجِّمًا يطلب غيبَ الله منه، فقد حارب الله! ومَن حارب الله، حرب، ومن غالبه، غُلب، وحتى قال: «لو أن الله حبس عن الناس القطر سبع سنين، ثم أرسله، لأصبحت طائفة كافرين! يقولون مُطرنا بنوء المجدح.» وهذا كما ترى. والمجدح الدبران.
ثم قال: ولقد اختلفت الأمة ضروبًا من الاختلاف في الأُصُول والفروع، وتنازعوا فيها فنونًا من التنازع في الواضح والمشكل، من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والعيان والخبر والعادة والإصلاح، فما فزِعوا في شيء من ذلك إلى منجِّم ولا طبيب ولا منطقي ولا هندسي ولا موسيقار ولا صاحب عزيمة وشعبذة وسحر وكيمياء؛ لأن الله تعالى تمَّم الدينَ بنبيه ﷺ، ولم يحوِجه، بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيان موضوع بالرأي.
وقال: وكما لم تجد هذه الأمة تفزع إلى الفلاسفة في شيء من دينها، فكذلك أمة عيسى ﷺ (هي النصارى) وكذلك المجوس.
قال: ومما يزيدك وضوحًا أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها، فصارت أصنافًا فيها وفرقًا، كالمعتزلة والمرجئة، الشيعة والسنية والخوارج، فما فزعت طائفة من هذه الطوائف إلى الفلسفة، ولا حققت مقالاتها بشواهدهم وشهاداتهم، وكذلك الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى يومنا هذا، لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة واستنصروهم.
وقال: وأين الآن الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل؟ فإن أدلوا بالعقل، فالعقل موهبة الله — جل وعز — لكل عبد، ولكن بقدر ما يدرِك به ما يعلوه، كما يخفى عليه ما يتلوه. وليس كذلك الوحي، فإنه على نوره المنتشر، وبيانه المتيسر.
قال: ولو كان العقل يُكتفى به، لم تكن للوحي فائدة ولا غناء، على أن منازل الناس متفاوتة في العقل، وأنصباؤهم مختلفة فيه، فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل، كنا كيف نصنع، وليس العقل بأسره لواحد منا، وإنما لجميع الناس. فإن قال قائل بالنعت والجهل: كل عاقل موكول إلى قدر عقله، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره؛ لأنه مكفي به وغير مطالَب بما زاد عليه، قيل له: كفاك عارًا في هذا الرأي، أنه ليس لك فيه موافِق ولا عليه مطابِق، ولو استقل إنسان واحد بعقله في جميع حالاته «في دينه ودنياه» لاستقل أيضًا بقوته في جميع حاجاته «في دينه ودنياه»، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى أحد من نوعه وجنسه، وهذا قول مرذول، ورأي مخذول.
قال النجاري: فقد اختلف أيضًا في درجات النبوة بالوحي، وإذا ساغ هذا الاختلاف بالوحي، لم يكن ذلك ثالمًا له، ساغ أيضًا في العقل.
فقال: يا هذا! اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثقة والطمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي، وخصهم بالمناجاة، واجتباهم للرسالة، وهذه الثقة والطمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة؛ لأنهم على بُعد من الثقة والطمأنينة إلا في الشيء القليل، وعوار هذا الكلام ظاهر، وخطلُ هذا المتكلم بَيِّن.
قال الوزير: فما سمع شيئًا من هذا المقدسي؟
قلت: بلى، قد ألقيت إليه هذا وما أشبهه بالزيادة والنقصان وبالتقديم والتأخير في أوقات كثيرة بحضرة الوراقين بباب الطاق، فسكت وما رآني أهلًا للجواب.
قال المؤلف (أي القطفي): ثم إن أبا حيان ذكر تمام المناظرة بينهما فأطال فتركته؛ إذ ليس ذلك من شرط هذا التأليف، والله الموفق للصواب (انتهى كلام القفطي).
قال صاحب «جلاء العينين»: فتدبره وأنصفْ، وأقول: إني طالعت كثيرًا من الرسائل المذكورة، فرأيتها كما أشار الشيخ ابن تيمية، وأنها مشوبة بالتصوف المشوب بفلسفة المتفلسفين والأبحاث التي تمجها أسماع فلتشرعين، ولربما يفوح منها ريح المتشيعين، فإن أردت كمال الوقوف عليها المرجع إليها، ولنعم ما قيل:
انتهى كلام صاحب جلاء العينين.
فأنت ترى أن الآلوسي صدَّر كلامه عن هذه الرسائل بأنها أصل مذهب القرامطة، وأقول: إن مَن اطلع عليها خصوصًا الجزء الرابع منها ونظر في خطط المقريزي وسفينة الراغب وكشاف اصطلاحات العلوم ودائرة المعارف للبستاني وغير ذلك من كتب علماء المشرقيات الذين تكلموا عن الإسماعيلية الذين هم القرامطة، رأى ما يحقق له هذا القول، لكن العبارة في هذه الكتب واضحة صريحة، وهي في «إخوان الصفاء» دقيقة لا يكاد يدركها إلا مَن تنبه إليها أو نُبه عليها فتلا الرسائل على بصيرة.
فإن تخصيص هذه الرسائل بالذكر والنص عليها دون غيرها، يدل صراحة على أن هذا الرئيس إنما كان يهيم بمطالعتها، ويهتم بمراجعتها لكي يقتبس منها تعاليمه، ويستمد منها ما يؤيد سلطته في عشيرته، وعلى ذلك يكون مؤلفوها ممن نحوا نحو الإسماعيلية، وذهبوا مذهبهم، وقالوا بمقالاتهم.
وقد ذكر صاحب «كشف الظنون» بعد أن أورد أسماءهم، التي مرت عليك في رسالة التوحيدي، أنهم كلهم حكماء اجتمعوا وصنَّفوا إحدى وخمسين رسالة، ولم يزد على هذا.
وقد أعملتُ الجهد الجهيد في تطلب ترجمتهم، ومعرفة أخبارهم وشئونهم، والوقوف على سيرتهم، ونظرتُ كثيرًا في كتب التواريخ والطبقات، فلم يسعفني القدر ببلوغ الوطر، ولكني أقول: إن إطناب أبي حيان في مدح زيد بن رفاعة، كما رأيته فيما تقدم، يدلك دلالة ضمنية على فائق فضلهم وواسع اطلاعهم.
وقد ساعدتني المقادير، أثناء البحث الطويل والمراجعة المتوالية، فرأيت صاحب «كشف الظنون» يقول: إن لأبي الحسن العوفي (وهو من أصحاب إخوان الصفاء) رسالة في «أقسام الموجودات وتفسيرها» قال: وهي لطيفة ذكرها الشهرزوري في «تاريخ الحكماء».
وعلى ذكر هذه الرسائل نسوق الحديث إلى نبأ غريب، وموضوع تُحار فيه الألباب.
وليس بغريب أن يستولي الذهول على قارئ هذه السطور، أو مَن يطلع على الكتاب المذكور، فقد قيل في آخره: إن المؤلف هو رجل يُدعى «أحمد بن عبد الله» (ولا أرى هذا الاسم مرادفًا لهي بن بي)، والأغرب من هذا وذاك قوله بأن الرجل مترجَم في كتاب اسمه «عيون الأخبار» لمن يُدعى «إدريس عماد الدين»، مع أن هذا الكتاب أثر لا عين؛ وليس له مسمى في الوجود، فإني لما رأيتُ ذلك، أخذ العجب مني مأخذه، فشرعتُ أتحرى الأمر؛ لأكون على بينة وبصيرة من هذا المشكِل الذي ليس له في بابه مثيل، وقد تحققتُ بأن هذه العبارات، إنما هي تلفيق ومحض اختلاق؛ وذلك لأنني كابدت مشقة عظيمة في البحث عن أمر هذا الكتاب المزعوم، وعن شأن ذلك الرجل الموهوم، وكل ما يتعلق به مما هو مدوَّن زورًا وبهتانًا بآخر تلك الطبعة، ولما لم أعثر على شيء، وداخلتني الريبة، واختلفت عندي الظنون، كاشفتُ بهذا الأمر أحد العارفين.
فقال لي: إن الحقيقة على خلاف ما ورد بهذه الطبعة، وإن أصحاب المطبعة إنما اضطُروا لاختلاق مثل هذه الأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ ليحتكروا طبع الكتاب وبيعه في بلاد الهند، فإن القوانين هناك تحفظ للمؤلفين ولورثتهم من بعدهم حقوق الطبع، كما هو الشأن في بلاد أوروبا، فلما شرع أصحاب هذه المطبعة في نشر الرسائل التي نحن بصدد الكلام عليها، أرادوا أن يختصوا بربحها دون سواهم، ويقفلوا باب المزاحمة على مَن عداهم، فجاءوا برجل وقالوا إنه من ذرية المؤلف، وأخذوا منه رخصة تخوِّلهم وحدهم طبع الكتاب، ونقدوه في نظير ذلك ما طابت به نفسُهُ، وبهذا انتفع الرجل وانتفع أصحاب المطبعة بنيل الاحتكار، فهذا هو السبب في التلبيس والتدليس.
وفي كتاب المقابسات أن زيد بن رفاعة وجماعة من كبار فلاسفة الإسلام كانوا يجتمعون في منزل أبي سليمان النهرجوري، وكان شيخهم وإن لم يَحُز شهرتهم، وكانوا إذا اجتمع معهم أجنبي، التزموا الكنايات والرموز والإشارات، قال: ولعل كيفية اجتماعاتهم هذه هي التي أرابت صمصام الدولة حتى أوجس من زيد بن رفاعة — وهو شيخه — خيفة. انتهى.
وهو قول يؤيد أنهم من الإسماعيلية.
وقد قدَّمنا من التآليف في العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية رسائل استوعبناها فيها استيعابًا لم يتقدمنا فيها أحد من أهل عصرنا البتة، وقد شاعت هذه الرسائل فيهم، وظهرت إليهم، فتنافسوا في النظر إليها، وحضوا أهل زمانهم عليها، ولا يُعلم مَن ألَّف ولا أين ألَّف غير الحذاق منهم؛ لما دأبوا على مطالعتها لاستحسانهم إياها واستعذابهم لألفاظها، علموا أنها من تأليف زمانهم وعصرهم الذي هم فيه، ولا يعلمون مَن ألَّفها، وكل ذلك من تلك التآليف مبسوط المرسوم. انتهى.
فالظاهر أنهم لما اطلعوا عليه (أي على كتاب رتبة الحكيم) قالوا: إن الرسائل التي يذكرها إنما هي المعروفة برسائل إخوان الصفاء وهو وَهمٌ، فإنه يقول إنه استوعب فيها العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية استيعابًا لم يتقدمه فيه أحد من أهل عصره، وليست رسائل إخوان الصفاء كذلك، كما علمت وتعلم إن شاء الله، وأيضًا فقوله: إن هذه الرسائل شاعت بين أهل عصره وظهرت إليهم فتنافسوا فيها وحضوا أهل زمانهم عليها، وإن الحذاق دأبوا على مطالعتها، وعلموا أنها تأليف زمانهم، يؤيد ما قلناه من وهم القوم، فإنه يُقال: إذا كانت هذه الرسائل التي يقوم بشيوعها بين أهل عصره هي رسائل إخوان الصفاء، وقد كان الرجل أندلسيًّا، فأي معنى بعدُ لقول المؤرخين بأن الكرماني هو أول مَن أدخل رسائل إخوان الصفاء إلى بلاد الأندلس، حاملًا لها من المشرق؟ اللهم إلا أن يُقال: إن هذا الشيوع كان بالمشرق، ودون ذلك القول خَرْط القَتَاد.
وقد قال المجريطي أيضًا «وكل ذلك من تلك التآليف مبسوط المرسوم» كأنه أراد أن يؤكد ما قاله قبيل هذا من أنه استوعب في هذه الرسائل العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية استيعابًا لم يتقدمه فيه أحد، مع أن ذلك مخالف لما نراه في الكتاب المعروف برسائل «إخوان الصفاء» المتداول بين أيدينا الآن.
ذلك لأن مَن أجالَ جواد الناظر في هذه الرسائل، وجدها يصدق عليها ما قاله «القفطي» من أنها مشوقات، غير مستقصاة، وكأنها للتنبيه والإيماء، وينطبق عليها ما قاله أبو حيان التوحيدي من أنها مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وتأكد من موافقتها لما قصده أصحابها؛ إذ قالوا في موضع: «واعلم يا أخي، أيدك الله، إنما نذكر في كل علم شبه المقدمة والمدخل إلى ما فيه؛ ليكون تحريضًا لإخواننا على التميز فيه والشوق إليه؛ لأن بالشوق إلى شيء يكون الحرص على الاطلاع عليه.»
وقالوا في موضع آخر: «اعلم يا أخي، أنما نورد من العلوم في كتبنا ورسائلنا ما يكون تذكية للعقول وتنبيهًا للنفوس، فأخذنا من كل علم بقدر ما اتسع له الإمكان وأوجبه الزمان، وقد اجتهدنا أن يكون ذلك من أحسن ما قدرنا عليه ووصلنا إليه؛ ولذلك وضعناه وأثبتناه وأوردناه لإخواننا (أيدهم الله وإيانا) ورضينا لهم ما رضينا لأنفسنا؛ إذ كنا كلنا روحًا واحدة، وقد قال رسول الله ﷺ: لا يكمل للمؤمن إيمانه حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه، وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» إلخ.
فهذه الأقوال كلها تناقض ما صرَّح به المجريطي مناقضة كلية، وحينئذٍ لا يصح القول بأن الكتاب الذي يشير إليه هو «رسائل إخوان الصفاء» الذي بين أيدينا الآن.
وغاية ما أراه في هذا الشأن أن لهذا الحكيم كتابًا آخر أو كتبًا متعددة لم يضع اسمه عليها، فلما رأى الناس عبارته في «رتبة الحكيم» وكانوا يبحثون على مؤلف «رسائل إخوان الصفاء» بغير جدوى، ظنوا أنهم أدركوا الطلبة وأصابوا الغرض فنسبوا له هذه الرسائل، من غير ما تمعن ولا تدبُّر.
وهنا نذكر أمرًا آخر لا يخلو من الغرابة، وهو أن المجريطي لم يذكر في عبارته التي أوردتها قبيل هذا، أسماء الكتب التي أطنب في مدحها والتنبيه عليها، فليت شعري! ما هو الباعث الذي دعاه في أول الأمر إلى كتم اسمه عن مصنفات جليلة، تاقت إليها نفوس أهل عصره وشغفوا بمطالعتها؟ ثم ما هو الداعي الذي جعله يصرح أخيرًا في كتابه «رتبة الحكيم» بأنه هو الذي صنَّف تلك الكتب؟
ولعل هذا التصريح من المجريطي هو الذي حمل صاحب «كشف الظنون» على القول بوجود كتاب آخر اسمه «رسائل إخوان الصفاء» لهذا الحكيم، وأنه صنفه على مثال الرسائل المعروفة المشهورة بهذا الاسم.
وإذا اعتبرنا هذا القول بميزان البحث والتدقيق، وصلنا إلى ملحوظة لطيفة، وذلك أن هذا الحكيم تُوفي سنة ٣٩٥ كما قاله حاجي خليفة (صاحب كشف الظنون)، ولا شك أن هذه الرسائل كانت موجودة في سنة ٣٧٣، كما يتضح من كلام أبي حيان، ومن ذلك يُستنبط أن أصحاب الرسائل الشرقية المتداولة الآن كانوا معاصرين للمجريطي، وأن وقت تأليف رسائلهم يقارب الوقت الذي ألَّف فيه هو رسائله على ذياك النمط؛ لأن صاحب الكشف قال «إن رسائله غير رسائل إخوان الصفاء وإنها على نمطها.»
والنتيجة أن المجريطي يمكن أن يكون صنَّف رسائل، ولم يضع لها اسمًا، كما كتم اسمه فيها، وكان هذا سببًا لتسمية بعضهم لها حين رآها برسائل «إخوان الصفاء» تشبيهًا لها برسائل المشرق؛ لأن الاتفاق في التسمية أيضًا، فوق الاتفاق في النمط وكتم الاسم، من الأُمُور المستبعدة بل المتعذرة.
وهنا نرى فضل صاحب الكشف واضحًا فإنه لم يخلط بين الكتابين، ولم ينسب كتاب المشرق إلى المجريطي، كما فعل كثير من العلماء، بل قال بوجود كتاب آخر بهذا الاسم، وأورد كلمتين من خطبته، فلا بد أن يكون اطلع على الكتاب، ولكن إذا كان هذا الكتاب موجودًا حقيقة، فكيف لم ينبِّه عليه القاضي صاعد لمَّا ذكر أن الكرماني هو أول مَن أدخل رسائل «إخوان الصفاء» إلى الأندلس، وأنه لا يعلم أحدًا أدخلها فيه قبله؟ فإن هذا الكلام يدل، كما قدمنا، على عناية كبيرة بشأن الكتاب، وإذا كان ذلك كذلك، وكان المجريطي مؤلفًا لكتاب آخر بهذا الاسم وهذا النمط (كما يقول صاحب الكشف) فلا بد أنه من واجبه أن ينبِّه عليه بعبارة صريحة، لا سيما وأن صاحب طبقات الأطباء ترجم المجريطي قبل إيراد هذه العبارة بصحيفة وبضعة أسطر خصصهما لذكر سيرة ثلاثة من تلامذة المجريطي، وأعقبهم بترجمة تلميذه الكرماني، وأورد فيها العبارة المذكورة قبل.
ومهما يكن فقد ثبت أن الرسائل المتداولة الآن ليست للمجريطي، وأنه لا يصح أن يُقال بأن له كتابًا بهذا الاسم، بل إنه إذا ثبت وجود كتاب له بهذا الاسم، فيكون الاسم موضوعًا عرضًا، لا من المؤلف نفسه، والله أعلم.
نقول: وقد صدرت هذه العبارة في حياة المرحوم علي باشا رفاعة فلم يمكنه أن يتملص من هذه الخنقة، ولا أن يتمحل عذرًا لهذه السرقة، وأما الكتاب الذي نقل عنه ابن القفطي فقد ظفر الأستاذ زكي باشا به، ونقله لنفسه بالفتوغرافيا، وهو عنده الآن، وعنوانه «الإمتاع والمؤانسة».