الرسالة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا مِنْ ذِكْرِ الصنائع العلمية الروحانية التي هي أجناسُ العلوم، ومن ذكر الصنائع العلمية الجسمانية التي هي أجناسُ الصنائع، وبيَّنَّا ماهيةَ كُلِّ واحد منهما وكمية أنواعهما وما الأغراضُ المطلوبةُ منهما في رسالتين لنا؛ فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالموسيقى الصناعةَ المركبةَ من الجسمانية والروحانية التي هي صناعةُ التأليف في معرفة النسب، وليس غرضُنا من هذه الرسالة تعليم الغناء وصنعة الملاهي، وإن كان لا بد من ذكرها، بل غرضنا هو معرفة النسب وكيفية التأليف اللذَين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق في الصنائع كلها.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن كل صناعة تعمل باليدين، فإن الهيولى الموضوعة فيها إنما هي أجسامٌ طبيعيةٌ ومصنوعاتها كلها أشكالٌ جسمانية إلا الصناعة الموسيقية فإن الهيولى الموضوعة فيها كلها جواهرُ روحانية، وهي نفوس المستمعين وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضًا، وذلك أن ألحان الموسيقى أصواتٌ ونغمات، ولها في النفوس تأثيراتٌ كتأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعتهم، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة وينشطها ويقوي عزماتها على الأفعال الصعبة المتعبة للأبدان التي تبذل فيها مهج النفوس وذخائر الأموال، وهي الألحان المشجعة التي تستعمل في الحروب، وعند القتال في الهيجاء، ولا سيما إذا غني معها بأبيات موزونة في وصف الحروب ومديح الشجعان مثل قول القائل:
ومثل قول البسوس بنت منقذ:
فإن هذه الأبيات وأخواتها يقال إنها كانت سببًا لإثارة أقوام إلى الحرب والقتال بين قبيلتين من قبائل العرب سنين متواترة، ومن الأبيات الموزونة أيضًا ما يُثير الأحقادَ الكامنة ويحرك النفوس الساكنة ويُلهب نيران الغضب؛ مثل قول القائل:
فإن هذه الأبيات وأخواتها أيضًا أثارت أحقادًا بين أقوام وحركت نفوسهم وألهبت فيها نيران الغضب وحثتهم على قتل أبناء الأعمام والأقرباء والعشائر، حتى قتلوهم بذنوب آبائهم ووزر أجدادهم ولم يرحموا منهم أحدًا.
ومن الألحان والنغمات أيضًا ما يسكن سورة الغضب ويحل الأحقاد ويوقع الصلح ويكسب الألفة والمحبة، فمن ذلك ما يُحكى أن في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان، وكان بينهما ضغنٌ قديمٌ وحقد كامن، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد والتهبت نيران الغضب وهمَّ كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهرًا في صناعته غيَّر نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سَكَّنَ سورة الغضب عنهما وقاما فتعانقا وتصالحا.
ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال، ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. ومن ذلك ما يُحكى أن جماعة كانت من أهل هذه الصناعة مجتمعةً في دعوة رجل رئيس كبير فرتب مراتبهم في مجلسه، بحسب حذقهم في صناعتهم؛ إذ دخل عليهم إنسانٌ رَثُّ الحال، عليه ثياب رثة، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم وتبين إنكار ذلك في وجوههم، فأراد أن يبين فضله ويسكن عنهم غضبهم، فسأله أن يسمعهم شيئًا من صناعته، فأخرج الرجل خشبات كانت معه فركبها ومد عليها أوتاره وحركها تحريكًا، فأضحك كل من كان في المجلس من اللذة والفرح والسرور الذي حل داخل نفوسهم، ثم قلبها وحركها تحريكًا آخر أبكاهم كلهم من رقة النغمة وحزن القلوب، ثم قلبها وحركها تحريكًا نومهم كلهم، وقام وخرج فلم يُعرف له خبر.
فقد تبين بما ذكرنا أن لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس المستمعين مختلفة كاختلاف تأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم، فمِنْ أجلها يستعملُها كُلُّ الأمم من بني آدم وكثير من الحيوانات أيضًا، ومن الدليل على أن لها تأثيرات في النفوس استعمالُ الناس لها؛ تارة عند الفرح والسرور في الأعراس والولائم والدعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب وفي المآتم، وتارة في بيوت العبادات وفي الأعياد، وتارة في الأسواق والمنازل، وفي الأسفار وفي الحضر، وعند الراحة والتعب، وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهال والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.
(١) فصل في أن أصل صناعة الموسيقى للحكماء
اعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الصنائع كُلَّها استخرجتْها الحكماءُ بحكمتها، ثم تعلمها الناس منهم وبعضهم من بعض، وصارت وراثة من الحكماء للعامة ومن العلماء للمتعلمين ومن الأساتذة للتلامذة، فصناعةُ الموسيقى استخرجتها الحكماءُ بحكمتها وتعلمها الناس منهم، واستعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم ومتصرفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة.
فأما استعمالُ أصحاب النواميس الإلهية لها في الهياكل وبيوت العبادات، وعند القراءة في الصلوات، وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء، كما كان يفعل داود النبي — عليه السلام — عند قراءة مزاميره، وكما يفعل النصارى في كنائسهم، والمسلمون في مساجدهم من طيب النغمة ولحن القراءة؛ فإن كل ذلك لرقة القلوب ولخضوع النفوس ولخشوعها والانقياد لأوامر الله تعالى ونواهيه والتوبة إليه من الذنوب والرجوع إلى الله — سبحانه وتعالى — باستعمال سنن النواميس كما رسمت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أحد الأسباب التي دعت الحكماء إلى وضع النواميس واستعمال سننها هو ما قد لاح لهم من موجبات أحكام النجوم من السعادات والمناحس عند ابتداء القرانات وتحاويل السنين من الغلاء أو الرخص أو الجدب أو الخصب أو القحط أو الطاعون والوباء أو تسلط الأشرار والظالمين، وما شاكلها من تغيرات الزمان وحوادث الأيام، فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيلة تنجيهم منها إن كانت شرًّا وتوفر حظهم فيها إن كانت خيرًا، فلم يجدوا حيلة أنجى ولا شيئًا أنفع من استعمال سنن النواميس الإلهية التي هي الصوم والصلاة والقرابين والدعاء عند ذلك بالتضرع إلى الله تعالى — جَلَّ ثناؤُهُ — بالخضوع والخشوع والبكاء والسؤال إياه أن يصرف عنهم ذلك ويكشف ما قد أوجبتْه أحكام النجوم من المناحس والبلاء.
وكانوا لا يشكُّون أنهم إذا دَعَوُا الله بالنية والإخلاص ورقة القلب والبكاء والتضرُّع والتوبة والإنابة أن يصرف عنهم ما يخافون ويكشف عنهم ما هم مبتلَون به، ويتوب عليهم ويغفر لهم ويجيب دعاءهم ويعطيهم سُؤلهم، وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحانًا من الموسيقى تسمى «المحزن»، وهي التي تُرَقِّقُ القلوب إذا سمعت، وتبكي العيون، وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب وإخلاص السرائر وإصلاح الضمائر، فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدعاء والصلوات.
وكانوا أيضًا قد استخرجوا لحنًا آخر يقال له: «المشجع» كانت تستعملُهُ قادةُ الجيوش في الحُرُوب والهيجاء يُكسب النفسَ شجاعة وإقدامًا، واستخرجوا أيضًا لحنًا آخر كانوا يستعملونه في المارستانات، وَقْتَ الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض ويكسر سورتها ويشفي من كثير من الأمراض والأعلال، واستخرجوا أيضًا لحنًا آخر يُستعمل عند المصائب والأحزان والغموم في المآتم، يعزي النفوس، ويخفف ألم المصائب، ويسلي عن الاشتياق، ويسكن الحزن. واستخرجوا أيضًا لحنًا آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبناءون وملاح الزواريق وأصحاب المراكب؛ يخفف عنهم كَدَّ الأبدان وتعب النفوس.
واستخرجوا أيضًا ألحانًا أُخَرَ، تستعمل عند الفرح واللذة والسرور في الأعراس والولائم وهي المعروفة المستعملة في زماننا هذا.
وقد تُستعملُ هذه الصناعةُ للحيوانات أيضًا مثل ما يستعمله الجمالون من الحداء في الأسفار وفي ظلم الليل؛ لينشِّطَ الجمالَ في السير، ويخفف عليها ثقل الأحمال، ويستعملها رعاة الغنم والبقر والخيل عند ورودها الماء من الصفير ترغيبًا لها في شرب الماء، ويستعملون لها أيضًا ألحانًا أخر عند هيجانها للنزو والفساد، وألحانًا أُخر عند حلب ألبانها لتدر، ويستعمل صياد الغزلان والدراج والقطا وغيرها من الطيور ألحانًا في ظلم الليل يوقعها بها حتى تؤخذ باليد، وتستعمل النساء للأطفال ألحانًا تسكن البكاء وتجلب النوم.
فقد تبين بما ذكرنا أن صناعة الموسيقى يَستعملها كل أحد من الأمم، ويستلذها جميعُ الحيوانات التي لها حاسةُ السمع، وأن للنغمات تأثيرات في النفوس الروحانية، كما أن لسائر الصنائع تأثيرات في الهيوليات الجسمانية، فنقول الآن: إن الموسيقى هي الغناء، والموسيقار هو المغني، والموسيقات هو آلة الغناء، والغناء هو ألحانٌ مؤلفة، واللحن هو نغماتٌ متواترة، والنغماتُ هي أصواتٌ متزنة، والصوتُ هو قرع يَحدث في الهواء مِنْ تصادُم الأجسام بعضها ببعض كما بيَّنا في رسالة «الحاس والمحسوس»، ولكن نحتاج أن نذكر من ذلك في هذه الرسالة ما لا بد منه.
(٢) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فأما كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات؛ فاعلم يا أخي أن الأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية أيضًا نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعية هي كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح، وسائر الأجسام التي لا رُوح فيها من الجمادات. والآلية كصوت الطبل والبوق والزمر والأوتاد وما شاكلها.
والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات غير الناطقة، وأما المنطقية فهي أصوات الناس، وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح. وبالجملة كل صوت لا هجاء له، وأما الدالةُ فهي الكلامُ والأقاويلُ التي لها هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هي قرعٌ يحدث في الهواء من تصادُم الأجرام؛ وذلك أن الهواء لشدة لطافته وخفة جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسمًا آخر انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموَّج إلى جميع الجهات وحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموُّجه إلى أن يسكن ويضمحل.
فمن كان حاضرًا من الناس وسائر الحيوانات الذي له أذن بالقُرب من ذلك المكان، فبتموج ذلك الهواء بحركته يدخل في أذنيه إلى صماخيه في مؤخر الدماغ، ويتوج أيضًا ذلك الهواء الذي هناك فتحس عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة وذلك التغيير.
واعلمْ أن كل صوت له نغمةٌ وصفيةٌ وهيئةٌ روحانيةٌ خلاف صوت آخر، وأن الهواء مِنْ شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيأته وصفته ويحفظها لئلا يختلطَ بعضُها ببعض، فيفسد هيئتها إلى أن يبلغها إلى أقصى مَدَى غاياتها عند القوة السامعة؛ لتؤديها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، وذلك تقديرُ العزيزِ الحكيم الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون، وإذْ قد فرغنا مِنْ ذِكْرِ ماهية الأصوات وكيفية حل الهواء وكيفية إدراك القوة السامعة لها، فنذكر الآن كيفيةَ حُدُوث أنواعها من تصادُم الأجسام بعضًا ببعض، فنقول: إن كل جسمين تَصَادَمَا برفق ولين لا تسمع لهما صوتًا؛ لأن الهواء ينسلُّ مِن بينهما قليلًا قليلًا فلا يحدث صوتًا، وإنما يَحدثُ الصوت من تصادُم الأجسام متى كان صدمها بشدة وسرعة؛ لأن الهواء عند ذلك يندفع مفاجأة، ويتموج بحركته إلى الجهات الست بسرعة، فيحدث الصوت ويسمع — كَمَا بَيَّنَّا في فصل قبل هذا.
والأجسامُ العظيمةُ إذا تصادمتْ كان صوتُها أعظم؛ لأنها تموج هواء أكثر، وكل جسمين من جوهر واحد، مقدارُهُما واحد، وشكلهما واحد، نقرا نقرة واحدة معًا؛ فإن صوتيهما يكونان متساويين، فإن كان أحدهما أجوف كان صوتُهُ أعظم؛ لأنه يصدم هواءً كثيرًا داخلًا وخارجًا، والأجسام الملس أصواتُها ملساء؛ لأن السطوح المشتركة التي بينها وبين الهواء ملساء، والأجسام الخشنةُ تكونُ أصواتها خشنة؛ لأن السطوح المشتركة بينها وبين الهواء خشنة.
والأجسام الصلبة المجوفة كالأواني والطرجهارات والجرار إذا نقرت طنت زمانًا طويلًا؛ لأن الهواء في جوفها يتردد ويصدمها مرة بعد مرة، وتارة بعد أخرى إلى أن يسكن، فما كان منها أوسع كان صوتها أعظم؛ لأنه يصدم هواءً كثيرًا داخلًا وخارجًا، والبوقات الطوال كان صوتها أعظم؛ لأن الهواء المتموج فيها يصدمها في مروره مسافة بعيدة، والحيوانات الكبيرةُ الرئات الطويلة الحلاقيم الواسعة المناخر والأشداق، تكون جهيرةَ الأصوات؛ لأنها تَستنشق هواءً كثيرًا وترسله بشدة.
فقد تَبَيَّنَ بما ذكرنا أَنَّ علة عِظَم الصوت إنما هي بحسب عِظَمِ الأجسام المصوتة وشدة صدمها وكثرة تَمَوُّج الهواء في الجهات عنها، فنقول: إن أعظم الأصوات صوتُ الرعد، وقد بَيَّنَّا علةَ حُدُوثه في رسالةِ الآثار العلوية، ولكنْ نذكر هنا ما لا بد منه.
أما علة حدوثه فهو أن البخارين الصاعدين في الجو من البحار والبراري إذا ارتفعا في الهواء واختلطا واحتوى البخار الرطب اليابس الذي هو الدخان، واحتوى الزمهرير على البخارين الرطب واليابس وحصرهما انضغط البخار اليابس في جوف البخار الرطب والتهب وطلب الخروج، فدفع البخار الرطب وخرقه، فيفرقع البخار الرطب من حرارة ذلك الدخان اليابس، كما تفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوتْ عليها حرارةُ النار دفعة واحدة.
ويحدث من ذلك قرعٌ في الهواء ويندفع إلى جميع الجهات، وينقدح من خروج ذلك الدخان اليابس في جوف السحاب ضوءٌ يُسَمَّى البرق، كما يحدث من دخان السراج المنطفئ إذا أُدني من سراج مشتعل، ثم ينطفئ.
وربما يذوب من ذلك البخار الرطب شيءٌ من جوف السحاب ويَصير ريحًا ويدور في خلل السحاب وجوف الغيوم، ويطلب الخروج، ويسمع له دويٌّ وتقرقر، كما يسمع الإنسان من جوفه إذا كان يعرض له ريح وانتفاخ، وربما ينشقُّ السحاب دفعة واحدة مفاجأة، فتخرج تلك الريح ويكون منها صوتٌ هائلٌ يسمى صاعقة.
فهذه علة صوت الرعد وكيفية حدوثه، فأما أصوات الرياح وعلة حدوثها فهي: أن الرياح ليست شيئًا سوى تموج الهواء شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا وفوقًا وتحتًا، فإذا صدم في حركته وجريانه الجبال والحيطان والأشجار والنبات وتَخَلَّلَها؛ حدثَ من ذلك فنونُ الأصوات والدوي والطنين مختلفة الأنواع، كل ذلك بحسب كِبَرِ الأجسام المصدومة وصغرها وأشكالها وتجويفها، ويطول شرحها.
وأما أصواتُ المياه في جريانها وتموجها وتصادُمها مع الأجسام، فإن الهواء؛ لِلَطَافَةِ جوهره وسيلان عنصره يتخللها كلها، ويكونُ حدوثُ تلك الأصوات وفنون أنواعها بحسب تلك الأسباب التي ذكرناها في أمر الرياح، وأما أصواتُ الحيوانات ذوات الرئة واختلاف أنواعها وفنون نغماتها فهي بحسب طُول أعناقها وقصرها وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها وشدة استنشاقها الهواء وقوة إرسالِ أنفاسها مِن أفواهها ومناخرها، يطول شرحها.
وأما أصوات الحيوانات التي ليست لها رئة كالزنابير والجراد والصرصر وما شاكلها؛ فإنها تحرك الهواء بجناحَين لهما سرعةٌ وخفة، فيحدث مِن ذلك أصواتٌ مختلفةٌ كما يحدث من تحريك أوتار العيدان، وتكون فنونُها واختلاف أنواعها بحسب لطافة أجنحتها وغلظها وطولها وقصرها وسرعة تحريكها لها.
وأما الحيوانات الخُرس كالسمك والسرطان والسلاحف وما شاكلها فهي خرس؛ لأن ليس لها رئة ولا جناحان، وأن اختلاف تلك الأصوات يكونُ بحسب شدة يُبسها وصلابتها وكمية مقاديرها من الكبر والصغر والطول والقصر والسعة والضيق وفنون أشكالها من التجويف والتقبيب والثقب وقوة الصدمة وما يعرض فيها من الأسباب — كما سنبين ذلك في موضعه.
وأما فُنونُ أصوات الآلات المتخذة للتصويب كالطبول والبوقات والدبادب والدفوف والسرناي والمزامير والعيدان، وما شاكلها، فهي بحسب أشكالها وجواهرها التي هي متخذةٌ منها وكبرها وصغرها وطولها وقصرها وسعة أجوافها وضيق ثقبها ورقة أوتارها وغلظها، وبحسب فنون تحريك المحركين لها.
ونحتاجُ أن نذكر من هذا الفن طرفًا إذ كان أحد أغراضنا من هذه الرسالة تبيانُ ماهيةِ الموسيقى الذي هو ألحانٌ مؤتلفةٌ ونغماتٌ متزنة، وهو المسمى الغناء، ولَمَّا تبين بما ذكرنا أن الغناء إنما هو ألحانٌ مؤتلفة، واللحن هو نغمات متزنة، والنغمات المتزنة لا تحدث إلا من حركات متواترة بينها سكنات متتالية؛ احتجنا أن نذكر أولًا ما الحركة وما السكون، فنقول: إن الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثانٍ، وضدها السكون وهو الوقوفُ في المكان الأول في الزمان الثاني.
والحركة نوعان: سريعةٌ وبطيئة، والحركةُ السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافةً بعيدةً في زمانٍ قصير، والبطيئةُ هي التي يقطعُ المتحرك بها مسافةً أَقَلَّ منها في ذلك الزمان بعينه، والحركتان لا يُعَدَّان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمانُ سكون، والسكونُ هو وقوفُ المتحرك في مكانه الأول زمانًا ما كان يمكنه أن يكون متحركًا فيه حركة ما.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا أن نبينه فنقول الآن: إن الأصوات تنقسم من جهة الكيفية ثمانية أنواع، كل نوعين منها متقابلان مِنْ جنس المضاف، فمنها العظيمُ والصغيرُ والسريعُ والبطيءُ والحادُّ والغليظُ والجهيرُ والخفيفُ، فأما العظيم والصغير من الأصوات فبإضافة بعضها إلى بعض، والمثال في ذلك أصوات الطبول؛ وذلك أن أصوات طبول المواكب إذا أضيفت إلى أصوات طبول المخانيث كانت عظيمة، وإذا أُضيفت إلى أصوات الكوس كانت صغيرة، وأصوات الكوس إذا أُضيفت إلى أصوات الرعد والصواعق كانت صغيرة.
والكوس هو طبلٌ عظيمٌ يُضرب في ثغور خُراسان عند النفير يُسمع صوته من فراسخَ، فعلى هذا المثال يُعتبر عظم الأصوات وصغرها بإضافة بعضها إلى بعض، وأما السريع والبطيء من الأصوات بإضافة بعضها إلى بعض، فهي التي تكون أزمان سكونات ما بين نقراتها قصيرة بالإضافة إلى غيرها.
والمثال في ذلك أصوات كوذينات القصارين ومطارق الحدادين؛ فإنها مريعة بالإضافة إلى أصوات دَقِّ الرزازين والجصاصين، وهي بطيئةٌ بالإضافة إليها، وأما بالإضافة إلى أصوات مجازيف الملاحين فهي سريعة، وعلى هذا المثال تُعتبر سرعةُ الأصواتِ وبطؤها بإضافة بعضها إلى بعض، وأما الحادُّ والغليظُ من الأصوات بإضافة بعضها إلى بعض؛ فهي كأصوات نقرات الزير وحدته، بالإضافة إلى نقرات المثنى والمثنى إلى المثلث والمثلث إلى البم؛ فإنها تكون حادة.
فأما بالعكس فإن صوت البم بالإضافة إلى المثلث والمثلث إلى المثنى والمثنى إلى الزير فغليظةٌ، ومِنْ وجهٍ آخر أيضًا، فإن صوت كل وتر مطلقًا غليظ بالإضافة إلى مزمومه — أي مزموم كان — فعلى هذا القياس تُعتبر حدة الأصوات وغلظها بإضافة بعضها إلى بعض.
وأما الخفيفُ والجهيرُ من الأصوات فقد تقدمتْ إبانتهما عند ذكر علتهما في الفصل الأول، والأصواتُ تنقسم من جهة الكمية نوعين: متصلة ومنفصلة، فالمتصلةُ هي التي بين أزمان حركة نقراتها زمانُ سكونٍ محسوس، مثل نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان.
وأما المتصلةُ من الأصوات فهي مثل أصوات المزامير والنايات والدبادب والدواليب والنواعير وما شاكلها، والأصواتُ المتصلةُ تنقسم نوعين: حادة وغليظة، فما كان من النايات والمزامير أوسعَ تجويفًا وثقبًا كان صوتُهُ أغلظَ، وما كان أضيق تجويفًا وثقبًا كان صوته أَحَدَّ، ومن جهةٍ أُخرى أيضًا ما كان من الثقب إلى موضع النفخ أقرب كانت نغمته أَحَدَّ، وما كان أبعد كان أغلظ.
(٣) فصل في امتزاج الأصوات وتنافرها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أصوات الأوتار المتساوية الغلظ والطول والخرق إذا نقرت نقرةً واحدةً كانت متساوية، وإن كانت متساويةً في الطول، مختلفةً في الغلظ؛ كانت أصوات الغليظ أغلظ وأصوات الدقيق أَحَدَّ، وإن كانت متساوية في الطول والغلظ، مختلفةً في الخرق، كانت أصوات المخروقة حادة، وأصوات المسترخية غليظة، وإن كانت متساويةً في الغلظ والطول والخرق، مختلفة في النقر، كان أشدها نقرًا أعلاها صوتًا.
واعلم بأن الأصوات الحادة والغليظة متضادان، ولكن إذا كانت على نسبةٍ تأليفيةٍ ائتلفتْ وامتزجتْ واتحدتْ، وصارتْ لحنًا موزونًا واستلذتْها المسامع وفرحتْ بها الأرواح، وسُرَّتْ بها النفوس، وإن كانت على غير النسبة تنافرت وتباينت ولم تأتلف ولم تستلذها المسامع، بل تنفر عنها وتشمئز منها النفوس وتكرهها الأرواح.
والأصوات الحادة حارةٌ تسخن مزاج أخلاط الكيموسات الغليظة وتلطفها، والأصوات الغليظة باردةٌ ترطب مزاج أخلاط الكيموسات الحارة اليابسة، والأصوات المعتدلة بين الحادة والغليظة تحفظ مزاج أخلاط الكيموسات المعتدل على حالته؛ كي لا يخرج عن الاعتدال، والأصوات العظيمةُ الهائلةُ غيرُ المتناسبة إذا وردت على المسامع دفعة واحدة مفاجأة، أفسدت المزاج وأخرجته عن الاعتدال، وتُحدث موت الفجأة ولها آلةٌ صناعية كان اليونانيون يستعملوها عند الحروب ويفزعون بها نفوس الأعداء، ويسد النافخون فيها آذانَهم عند استعمالها وتحريكها، والأصوات المعتدلة المتزنة المتناسبة تعدل مزاج الأخلاط وتفرح الطباع، وتستلذ بها الأرواح وتُسر بها النفوسُ.
(٤) فصل في تأثر الأمزجة بالأصوات
اعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أمزجة الأبدان كثيرةُ الفنون وطباع الحيوانات كثيرةُ الأنواع، ولكُلِّ مزاج وكل طبيعة نغمةٌ تشاكلها ولحن يلائمها لا يحصي عددها إلا الله — عز وجل.
والدليلُ على حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أنك تجد إذا تأملت لكل أمة من الناس ألحانًا ونغمات يستلذونها ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم، مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم وغيرهم من الأمم المختلفة الألسُن والطباع والأخلاق والعادات.
وهكذا أيضًا أنك تجدُ في الأمة الواحدة من هذه أقوامًا يستلذون ألحانًا ونغمات وتفرح نفوسُهُم بها، ولا يسر بها مَنْ سواهم، وهكذا أيضًا ربما تجد إنسانًا واحدًا يستلذُّ وقتًا ما لحنًا ويسره، ووقتًا آخرَ لا يستلذه بل ربما يكرهه ويتألم منه، وهكذا تجد حكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم وفي مشموماتهم وملبوساتهم وسائر الملاذ والزينة والمحاسن، كل ذلك بحسب تغيرات أمزجة الأخلاط واختلاف الطبائع وتركيب الأبدان والأماكن والأزمان كما بَيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة الأخلاق.
(٥) فصل في أُصُول الألحان وقوانينها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لكل أمة من الناس ألحانًا من الغناء وأصواتًا ونغمات لا يشبه بعضها بعضًا، ولا يحصِي عددَها كثرة إلا الله تعالى الذي خلقهم وصورهم وطبعهم على اختلاف أخلاقهم وألسنتهم وألوانهم، ولكن نريد أن نذكر أُصُول الغناء وقوانين الألحان التي منها يتركب سائرُها، وذلك أن الغناء مركبٌ من الألحان، واللحن مركب من النغمات، والنغمات مركبة من النقرات والإيقاعات، وأصلها كلها حركات وسكون، كما أن الأشعار مركبة من المصاريع، والمصاريع مركبة من المفاعيل، والمفاعيل مركبة من الأسباب والأوتاد والفواصل، وأصلها كلها حروف متحركات وسواكن، كما بينا ذلك في كتاب العروض.
وكذلك الأقاويل كلها مركبةٌ من الكلمات، والكلمات من الأسماء والأفعال والأدوات. وكلها مركبة من الحروف المتحركات والسواكن — كَمَا بَيَّنَّا في كتاب المنطق — ومَن يريدُ أن ينظر في هذا العلم فيحتاج أن يرتاض أولًا في علم النحو والعروض مما لا بد منه، وقد ذكرنا في رسالة المنطق ما يَحتاج إليه المتعلمُ والمبتدئُ، ونحتاجُ أن نذكر ها هنا أصلَ العروض وهو ميزان الشعر وقوانينه؛ إذ كانت قوانين الموسيقى مماثلة لقوانين العروض، فنقول:
إن العروضَ هو ميزانُ الشعر يُعرف به المستوي والمنزحف، وهي ثمانيةُ مقاطعَ في الأشعار العربية، وهي هذه: فعولن، مفاعيل، متفاعلن، مستفعلن، فاعلاتن، فاعلن، مفعولات، مفاعلتن، وهذه الثمانيةُ مركبة مِن ثلاثة أُصُول، وهي: السبب، والوتد، والفاصلة، فالسبب حرفان: واحد متحرك وآخرُ ساكنٌ أو متحرك، مثل قولك: هل لم، وما شاكلها، والوتد ثلاثةُ أحرف: اثنان متحركان، وواحدٌ ساكن، مثل قولك: نعم وبلى وأجل وما شاكلها، والفاصلةُ أربعةُ أحرف: ثلاثة متحركة، وواحدٌ ساكن، مثل قولك: غلبت فعلت وما شاكلها. وأصل هذه الثلاثة حرفٌ ساكنٌ وحرفٌ متحرك، فهذه قوانينُ العروض وأُصُوله.
وأما قوانينُ الغناء والألحان فهي أيضًا ثلاثةُ أُصُول، وهي السببُ والوتدُ والفاصلة، فأما السبب فنقرةٌ متحركةٌ يتلوها سكون، مثل قولك: تن تن تن تن ويكرر دائمًا، والوتد نقرتان متحركتان يتلوهُما سكون، مثل قولك: تنن تنن تنن تنن، يكرر دائمًا، والفاصلة ثلاث نقرات متحركة يتلوها سكونُ، مثل قولك: تننن تننن تننن تننن.
فهذه الثلاثةُ هي الأصلُ والقانون في جميع ما يركب منها من النغمات، وما يركب من النغمات في جميع اللغات من الألحان، وما يتركب منها من الغناء في جميع اللغات، فإذا ركبت من هذه الثلاثة الأُصُول اثنين اثنين كانت منها تسع نغمات ثنائية، وهي هكذا: نقرة ونقرتان مثل قولك: تن تنن، وتكرر دائمًا.
ومنها نقرتان ونقرة مثل قولك: تنن تن، وتكرر دائمًا، ومنها نقرة وثلاث نقرات مثل قولك: تن تننن، ويكرر دائمًا، ومنها نقرتان ونقرتان مثل قولك: تنن تنن، ويكرر دائمًا، ومنها ثلاث نقرات ثلاث نقرات مثل قولك: تننن تننن.
ومنها ثلاث نقرات ونقرتان مثل قولك: تننن تنن، ويكرر دائمًا، ومنها ثلاث نقرات ونقرة مثل قولك: تننن تن، ويكرر دائمًا، ومنها نقرة وسكون قدر نقرة، وهي الأصل والعمود مثل قولك: تن تن تن تن، ويكرر دائمًا، فهذه جملة النغمات الثنائية.
وأما الثلاثية فهي عشرة تركيبات: نقرة ونقرتان، وثلاث نقرات، ونقرتان ونقرة وثلاث نقرات، ونقرة وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة ونقرتان، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرة، وثلاث نقرات ونقرتان ونقرة، ونقرة وثلاث نقرات ونقرة، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة وثلاث نقرات، وثلاث نقرات ونقرتان وثلاث نقرات، فهذه جميع أنواع الإيقاع المركبة من النقرات، ثلاثة منها مفردة، وتسعة ثنائية، وعشرة ثلاثية، فذلك اثنان وعشرون تركيبًا.
والذي تركب من هذه في غناء العربية ثمانية أنواع، وهي: الثقيل الأول وخفيفُهُ، والثقيل الثاني وخفيفُهُ، والرمل وخفيفُهُ، والهزج وخفيفُهُ، وهذه الثمانية الأجناس هي الأصل، ومنها يتفرع سائر أنواع الألحان، وإليها تنسب، كما أن من الثمانية مقاطع يتفرعُ سائرُ ما في دوائر العرض، فقد تبين بما ذكرنا أَنَّ كل صناعة من الرياضيات أربعةُ أُصُول، منها يتركب سائرُها، وتلك الأربعة أصلُها واحدٌ. كما بَيَّنَّا في رسالة الأرثماطيقي كيفية تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، وفي رسالة جومطريا بَيَّنَّا بأن النقطةَ في صناعة الهندسة مماثلةٌ للواحد في صناعة العدد، وفي رسالة الأسطرنوميا بَيَّنَّا أن الشمس وأحوالها من بين الكواكب كالواحد في العدد والنقطة في صناعة الهندسة.
وفي رسالة النسب العددية بَيَّنَّا أن نسبة المساواة أصلٌ وقانونٌ في علم النسب كالواحد في صناعة العدد، وفي هذه الرسالة قد بَيَّنَّا أن الحركة كالواحد، والسبب كالاثنين، والوتد كالثلاثة، والفاصلة كالأربعة، وسائر نغمات الألحان والغناء مركبةٌ منها، كما أن سائر الأعداد من الآحاد والعشرات والمئين والألوف مركبةٌ من الأربعة والثلاثة والاثنين والواحد، وفي رسالة المنطق قد بَيَّنَّا أيضًا أن الجوهر كالواحد والتسع المقولات الأخر كتسعة الآحاد، أربعة منها متقدمة على باقيها، وهي الجوهر والكم والكيف والمضاف وسائرها مركبة منها.
وفي رسالة الهيولى بَيَّنَّا أن الجسم مركبٌ من الجوهر والطول والعرض والعمق، وسائر الأجسام مركبةٌ من الجسم المطلق، وفي رسالة المبادئ بَيَّنَّا أن الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — نسبته من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، والعقل كالاثنين، والنفس كالثلاثة، والهيولى كالأربعة، وسائر الخلائق مركبة من الهيولى والصورة المخترعين من النفس الكلية، والنفس الكلية منبعثة من العقل الكلي، والعقل مبدع بأمر الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — أبدعه الله لا مِنْ شيء، وصَوَّرَ فيه جميع الأشياء بالقوة والفعل.
وغرضنا من هذه الرسائل كلها أن نُبين لأهل كل صناعة وحدانية الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — من صناعتهم؛ لتكون أقرب إلى فهمهم، وأَبْيَنَ لحجتهم، وأَوْضَحَ لبرهانهم، وهكذا فَعَلْنَا في سائر الرسائل، ونبين أيضًا كيفيةَ حُدُوث الموجودات بعضها من بعض بإذن الله — جَلَّ ثناؤُهُ — وحسن عنايته وإتقان حكمته ودقة صنعته، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إن كل نقرتين من نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان فلا بد من أن يكون بينهما زمانٌ سكونٌ — طويلًا كان أو قصيرًا — وأنه إذا تواترت نقرات تلك الأوتار وإيقاعات تلك القضبان؛ تواترت أيضًا سكونات بينهما، ثم لا تخلو أزمانُ تلك السكونات من أن تكون مساويةً لأزمان تلك الحركات، أو تكون أطول منها، وإذا كانتْ أَقْصَرَ منها فالمتفق عليه بين أهل هذه الصناعة أن زمان الحركة لا يمكن أن يكون أطول من زمان السكون الذي هو من جنسه، فإن كانت أزمان السكونات مساويةً لأزمان الحركات في الطول، ولا يمكن أن يقع في تلك الأزمان حركةٌ أُخرى؛ سميت تلك النغمات عند ذلك العمود الأول، وهو الخفيف الذي لا يمكن أن يكون أَخَف منه؛ لأنه إنْ وقعت في تلك الأزمان حركةٌ أُخرى صارت نغمتها متصلة بنغمة النقرة التي قبلها والتي بعدها، وصار الجميعُ صوتًا متصلًا.
وإن كانت أزمانُ السكوناتِ طولها بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركة أخرى؛ سميت تلك النغمات العمود الثاني والخفيف الثاني، وإن كانت أزمانُ تلك السكونات أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركتان، سميتْ تلك النغمات الثقيل الأول، وإن كانت تلك الأزمان أَطْولَ من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها ثلاث حركات سميت تلك النغمات الثقيل الثاني.
وهذا الذي ذكرناه ووصفناه على ما يوجبه القياس والقانون، فأما على ما يعرفه أهل هذا الزمان من المغنين وأصحاب الملاهي من الخفيف والثقيل؛ فهو غير هذا، وسنذكرُهُ بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي بأنه إذا زادتْ أزمانُ السكونات التي بين النقرات والإيقاعات على هذا المقدار من الطول خرج من الأصل والقانون والقياس؛ أعني: مِنْ أن تدركها وتميزها القوة الذائقة السمعية، والعلةُ في ذلك أن الأصوات لا تمكث في الهواء زمانًا طويلًا إلا ريثما تأخذ المسامعُ حَظَّهَا من الطنين، ثم تضمحل تلك الأصوات من الهواء الحامل لها المؤدي إلى المسامع — كَمَا بَيَّنَّا في فصل قبل هذا — وهكذا أيضًا طنين الأصوات لا يمكث في المسامع زمانًا إلا ريثما تأخذ القوة المتخيلة رسومها، ثم تضمحل من المسامع تلك الطنينات.
وإذا طالت أزمان السكونات بين النقرات والإيقاعات وزادت على المقدار الذي تقدم ذكره، اضمحلتْ النغمةُ الأولى وطنينها من المسامع قبل أن ترد النغمة الأخرى، فلا تقدر القوة المفكرة أن تعرف مقدار الزمان الذي بينهما، فتميزهما وتعرف التناسب الذي بينهما؛ لأن جودة الذوق في المسامع هي معرفة كمية الأزمان التي بين النغمتين، وما بين أزمان السكونات وبين أزمان الحركات من التناسب والمقدار، وعلى هذا المثال يجري حكم سائر المحسوسات والقوى الحاسة المدركة لها، وذلك أن القوة الباصرة أيضًا لا تقدر أن تعرف مقدار أبعاد ما بين المرئيات إلا إذا كانت متقاربة في الأماكن، وأما إذا بعد ما بينها من الأماكن كما بعد ما بين المسموعات بالأزمان، فلا تقدر القوة الباصرة أن تدركها وتميز البعد ما بينها إلا بآلات هندسية كالذراع والأشل والباب والقبضة والأصابع، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الجومطريا.
وهكذا إذا بعُد ما بين أزمان الحركات بطول أزمان السكونات، فلا تقدر القوة الذائقة السامعة أن تدركها وتعرف بُعد ما بينها إلا بآلات رصدية كالطرجهارات والشياهين والأصطرلاب، وما شاكلها من آلات الرصد، فأما إن كانت قريبة أدركها السمع وميزها الذوق — كما هو معروف في العروض — فقد تَبَيَّنَ بما ذكرناه من العلة في أزمان السكونات التي بين النقرات، وأنه إذا زاد طولها على المقدار المذكور وخرج من الأصل والقانون.
وعلة أخرى أيضًا وهي أن النغمة الواحدة إذا وردت على القوة السامعة لا يمكث فيها صوتها إلى أن يضمحل إلا بمقدار زمان ثلاث نقرات أُخرى من أخواتها، بين كل واحدة زمان سكون أحدهما، فتكون جملتها ثمانية أزمان فحسب، مثل هذا الشكل: اه اه اه اه الألف علامة السكون، والهاء علامة المتحرك.
وإذ قد فرغنا من ذكر مقادير أزمان الحركات والسكونات وما بينهما من البعد والتناسب؛ فنُريد أن نذكر أيضًا طرفًا من أمر الآلات المصوتة وكيفية صناعتها وإصلاحها، وما التام الكامل منها.
(٦) فصل في كيفية صناعة الآلات وإصلاحها
اعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بِأَنَّ الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى وألحان الغناء، مفننة الأشكال، كثيرة الأنواع؛ مثل الطبول والدفوف والنايات والصنوج والمزامير والسرنايات والصفارات والسلباب والشواشل والعيدان والطنابير والجنك والرباب والمعازف والأراغن والأرمونيقي وما شاكلها من الآلات والأدوات المصوتة، ولكن أتم آلة استخرجتها الحكماء وأحسن ما صنعوها الآلة المسماة بالعود.
ونحتاج أن نذكر من كيفية صنعها وإصلاحها واستعمالها، وكمية نسب ما بين نغمات أوتارها وطولها وعرضها وغلظها ورقتها ونقراتها طرفًا شبه المدخل والمقدمات؛ ليكون تنبيهًا لنفوس الطالبين للعلوم الفلسفية والناظرين في الآداب الرياضية، ونبين لهم دقائقَ الحكمة وأسرار الصنائع التي هي كلها دلالةٌ على الصانع الحكيم الذي هو الباري — تبارك وجَلَّ ثناؤُهُ — وهو الذي خلق الصناع وألهمهم الصنائعَ الأول والحكم والعلوم والمعارف، والله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين.
ولكن نبدأ أولًا بذكر ما قال أهل هذه الصناعة؛ فإنه قد قيل: استعينوا في كل صناعة بأهلها، فنقول: إن أهل هذه الصناعة قالوا: ينبغي أن تتخذ الآلة التي تسمى العود خشبًا طوله وعرضه وعمقه يكون على النسبة الشريفة، وهي أَنَّ طوله مثل عرضه ومثل نصفه، ويكون عمقُهُ مثل نصف العرض، وعنق العود مثل ربع الطول، وتكون ألواحُهُ رقاقًا متخذةً من خشبٍ خفيف، ويكون الوجه رقيقًا من خشب صلب خفيف يطن إذا نُقر.
ثم يتخذ أربعة أوتار بعضُها أغلظُ مِنْ بعض على النسبة الأفضل، وهو أن يكون غلظ البم مثل غلظ المثلث ومثل ثلثه، وغلظ المثلث مثل غلظ المثنى ومثل ثلثه، وغلظ المثنى مثل غلظ الزير ومثل ثلثه، وهو أن يكون البم أربعةً وستين طاقة إبريسم، والمثلث ثمانيًا وأربعين طاقة، والمثنى ستًّا وثلاثين طاقة، والزير سبعًا وعشرين طاقة إبريسم، ثم تمد هذه الأوتار الأربعة على وجه العود مشدودة أسفالها في المشط، ورءوسها في الملاوي فوق عُنُق العود، فعند ذلك تكون أطوالها متساوية وهي في دقتها وغلظها مختلفة على هذه النسبة «سد مح لوكز».
ثم يقسم طول الوتر الواحد بأربعة أقسام متساوية ويشد دستان الخنصر عند الثلاثة الأرباع مما يلي عُنُق العود، ثم يقسم طول الوتر من الرأس بتسعة أقسام متساوية، ويشد دستان السبابة على التسع مما يلي عنق العود، ثم يقسم طول الوتر عند دستان السبابة إلى المشط بتسعة أقسام متساوية ويشد دستان البنصر على التسع منه، فإنه يقع فوق دستان الخنصر مما يلي دستان السبابة.
ثم يقسم طول الوتر عند دستان الخنصر مما يلي المشط بثمانية أقسام، ويزاد عليها هذا الدستان، أعني: دستان الوسطى يشد بحيال نقطة من الوتر بينها وبين دستان الخنصر ثمن ما بين الخنصر إلى المشط، فيصير نسبة نغمة الوسطى هذه إلى نغمة الخنصر مثلها، فما بقي من الوتر فوق، ويشد عند ذلك دستان الوسطى، فإنه يقع فيما بين دستان السبابة والبنصر، فهذا هو إصلاحُ العود ونسب الأوتار ومواضع الدساتين.
فأما كيفية إصلاح النغم ومعرفة ما يكون بينها من النسب، فهو أن يمد الزير ويحزق بحسب ما يحتمل أن لا ينقطع، ثم يمد المثنى فوق الزير ويحزق ثم يزم بالخنصر وينقر مع مطلق الزير، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين فقد استويا، وإلا يزاد في حزق المثنى وإرخائه حتى يستويا، ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر وينقر مع مطلق المثنى حتى تسمع نغمتاهما متساويتين، وإلا يزاد في الحزق والإرخاء حتى يستويا ويسمع نغمتاهما كأنهما نغمة واحدة. ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثنى حتى يسمع نغمتاهما متساويتين كأنهما نغمة واحدة.
ثم يمد البم ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثلث، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين كأنهما نغمة واحدة فقد استويا، وإذا استوتْ هذه الأوتارُ على هذا الوصف وجدت نغمة مطلق كل وتر بالإضافة إلى نغمة مزمومة بالخنصر مثله ومثل ثلثه في الغلظ والثقل، ويوجد أيضًا نغمة كل وتر مزموم بالخنصر مثل نغمة الوتر الذي تحته مطبقًا بالسواء، أيضًا نغمة مطلق كل وتر مثل نغمة مزمومة بالسبابة ومثل ثلثه سواء.
ويوجد أيضًا نغمة مطلق كل وتر ضعف نغمة الوتر الذي تحته وهو الثالث منه مزمومًا بالسبابة، ويوجد أيضًا نغمة سبابة كل وتر منه مثل نغمة بنصره ومثل ثمنه سواء، ويوجد أيضًا نغمة وسطى كل وتر مثل نغمة خنصره ومثل ثمنه سواء.
وبالجملة: ما من وتر ولا دستان من هذه الأوتار والدساتين إلا ولنغماتها نسبة بعضها إلى بعض، ولكن منها ما هي فاضلة شريفة، ومنها ما دون ذلك، فمن النسب الفاضلة الشريفة أن تكون النغمة مثل الأخرى سواء، وتكون النغمة الغليظة مثل الحادة ومثل ثلثها ومثل نصفها أو مثلها ومثل ربعها أو مثلها ومثل ثمنها.
فإذا استوت هذه الأوتار على هذه النسب الفاضلة وحركت حركات متواترة متناسبة؛ حدث عند ذلك منها نغماتٌ متواترة متناسبة، حادَّات، خفيفات وثقيلات غليظات، فإذا ألفت ضروبًا من التأليفات — كما تقدم ذكرها في فصل قبل هذا — وصارت النغماتُ الغليظاتُ الثقال للنغمات الحادات الخفاف كالأجساد وهي لها كالأرواح، واتحد بعضها ببعض وامتزجت وصارت ألحانًا وغناءً؛ كانت نقرات تلك الأوتار عند ذلك بمنزلة الأقلام، والنغمات الحادات منها بمنزلة الحروف، والألحان بمنزلة الكلمات، والغناء بمنزلة الأقاويل، والهواء الحامل لها بمنزلة القراطيس، والمعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان بمنزلة الأرواح المستودَعة في الأجساد.
فإذا وصلت المعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان إلى المسامع؛ استلذتْ بها الطباع، وفرحتْ فيها الأرواح وسُرَّتْ بها النفوس؛ لأن تلك الحركات والسكونات التي تكون بينها تصير عند ذلك مكيالًا للأزمان وأذرُعًا لها، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية، كما أن حركات الكواكب والأفلاك المتصلات المتناسبات هي أيضًا مكيالٌ للدهور وأذرع لها، فإذا كيل بها الزمان كيلًا متساويًا متناسبًا معتدلًا؛ كانت نغماتها مماثلةً لنغمات حركات الأفلاك والكواكب ومناسبة لها، فعند ذلك تذكرت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك، وعلمت وتبين لها بأنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأدوم السرور؛ لأن تلك النغمات هي أَصْفَى وتلك الألحان أطيب؛ لأن تلك الأجسام أحسن تركيبًا وأجود هندامًا وأصفى جوهرًا، وحركاتها أحسن نظامًا ومناسباتها أجود تأليفًا.
فإذا علمت النفس الجزئية التي في عالم الكون والفساد أحوال عالم الأفلاك وتيقنتْ حقيقة ما وصفنا؛ تشوقتْ عند ذلك إلى الصعود إلى هناك واللحوق بأبناء جنسها من النفوس الناجية في الأزمان الماضية، من الأمم الخالية.
فإن قال قائل: إن الفلك طبيعةٌ خامسةٌ لا يجوز أن يكون لأجسامه نغمات وأصوات؛ فليعلمْ هذا القائل أن الفلك وإن كانت طبيعتُهُ خامسة فليس بمخالفٍ لهذه الأجسام في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء مثل النار وهي الكواكب، ومنها ما هو مشف كالبللور وهي الأفلاك، ومنها ما هو صقيل كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما هو يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد.
وبيان ذلك: أن ظل الأرض يبلغ مخروطُهُ إلى فلك عطارد، وهذه كلها أوصاف للأجسام الطبيعية، والأجسام الفلكية تشاركها فيها، فقد تبين أن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعضها دون بعض؛ وذلك أنها ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة بل يابسة صلبة أشد صلابة من الياقوت، وأصفى من الهواء، وأَشَفُّ من البلور، وأصقل من وجه المرآة، وأنها يماس بعضها بعضًا وتصطكُّ وتحتكُّ، وتطنُّ كما يطن الحديد والنحاس، وتكون نغماتها متناسبات مؤتلفات وألحانها موزونات — كَمَا بَيَّنَّا مثالها في نغمات أوتار العيدان ومناسباتها.
(٧) فصل في أن لحركات الأفلاك نغمات كنغمات العيدان
اعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لو لم يكن لحركاتِ أشخاص الأفلاك أصواتٌ ولا نغماتٌ؛ لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجودة فيهم، فإن لم يكن لهم سمع فهم صم بكم عمي، وهذه حال الجمادات الجامدات الناقصات الوجود، وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي أن أهل السماوات وسكان الأفلاك هم ملائكةُ الله وخالصُ عباده، يسمعون ويبصرون ويعقلون ويقرأون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، وتسبيحهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب، ونغمات ألذ من نغمات أوتار العيدان الفصيحة في الإيوان العالي.
فإن قال قائل: فإنهم ينبغي أن يكون لهم أيضًا شم وذوق ولمس؛ فليعلمْ هذا القائل بأن الشم والذوق واللمس إنما جعل للحيوان الآكل للطعام والشارب للشراب؛ ليميز بها النافع من الضار، ويحرز جثته عن الحر والبرد المفرطين المهلكين لجثته، فأما أهل السماوات وسكان الأفلاك فقد كفوا هذه الأشياء، وهم غير محتاجين إلى أكل الطعام والشراب بل غذاؤُهُم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتُهُم الفكرُ والرويَّةُ والعلم والشعور والمعرفة والإحساس واللذة والفرح والسرور والراحة.
فقد تبين بما ذكرنا أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحانًا طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها، وأن تلك النغمات والألحان تذكر النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح التي فوق الفلك التي جواهرها أشرف من جواهر عالم الأفلاك، وهو عالمُ النفوس ودار الحياة التي نعيمُها كلها روحٌ وريحانٌ في درجات الجنان، كما ذكر الله تعالى في القرآن.
والدليلُ على صحة ما قلنا والبرهان على حقيقة ما وَصَفْنَا أن نغمات حركات الموسيقار تذكر النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك، كما تذكر نغمات حركات الأفلاك والكواكب النفوس التي هي هناك سرور عالم الأرواح، وهي النتيجة التي أنتجت من المقدمات المقرر بها عند الحكماء، وهي قولهم: إن الموجودات المعلولات الثواني تحاكي أحوالها أحوال الموجودات الأُولى التي هي علل لها، فهذه مقدمة واحدة.
والأخرى قولهم: إن الأشخاص الفلكية علل أوائل لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وأن حركاتها علةٌ لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركاتها، فَوَجَبَ أن تكون نغماتُ هذه تحاكي نغماتها، والمثال في ذلك حركات الصبيان في لعبهم؛ فإنهم يحاكون أفعالَ الآباء والأمهات، وهكذا التلامذة والمتعلمون يحاكون في أفعالهم وصنائعهم أفعال الأستاذين والمعلمين وأحوالهم، وأن أكثر العقلاء يعلمون بأن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة متقدمةُ الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وعالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام — كما بَيَّنَّا في رسالة الهيولى ورسالة المبادئ العقلية.
فلما وجد في عالم الكون حركاتٌ منتظمةٌ لها نغمات متناسبة؛ دلت على أن في عالم الأفلاك، لتلك الحركات المنتظمة المتصلة نغماتٌ متناسبةٌ مفرحةٌ لنفوسها، ومشوقة لها إلى ما فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياقٌ إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع التلامذة والمتعلمين اشتياقٌ إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع العامة اشتياقٌ إلى أحوال الملوك، وفي طباع العقلاء اشتياقٌ إلى أحوال الملائكة والتشبه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسية.
ويقال: إن فيثاغورس الحكيم سمع — بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه — نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فطرته أُصُول الموسيقى ونغمات الألحان، وهو أول مَنْ تكلم في هذا العلم، وأخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم بعده نيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء، وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات، عند القرابين في سنن النواميس الإلهية، وخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية، المذكرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية.
وكانوا يلحنون مع نقرات تلك الأوتار كلمات وأبياتًا موزونة قد ألفت في هذا المعنى ووصف فيها نعيم عالم الأرواح ولذات أهله وسرورهم، كما يقرأ غزاة المسلمين عند النفير آياتٌ من القرآن أُنزلت في هذا المعنى لترقِّق القلوب، وتشوق النفوس إلى عالم الأرواح ونعيم الجنان؛ مثل قوله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ، وأخوات هذه الآيات من القرآن، وكما ينشد غُزاة المسلمين عند اللقاء أيضًا أو الحملة على الهيجاء ما قيل من أبيات الشعر في وصف الحور العين ونعيم الجنان مما يشوق النفوس إلى هناك، أو يشجع على الإقدام، بالعربية والفارسية، نحو قول الشاعر:
وقول الشاعر الفارسي:
فأما الأشعار التي كان الحكماء الإلهيون يلحنونها عند استعمالهم الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات؛ لترقيق القلوب القاسية وتنبيه النفوس الساهية من نومةِ الغفلة، والأرواح اللاهية في رقدة الجهالة، ولتشويقها إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ودارها الحيوانية؛ ولإخراجها من عالم الكون والفساد، ولتخليصها من غَرَق بحر الهيولى ونجاتها مِنْ أَسْرِ الطبيعة، فهي ما هذه معانيها: «يا أيتها النفوس الغائصة في بحر الأجسام المدلهمة، ويا أيتها الأرواحُ الغريقةُ في ظلمات الأجرام ذوات الثلاثة الأبعاد، الساهية عن ذكر المعاد، المنحرفة عن سبيل الرشاد؛ اذكروا عَهْدَ الميثاق؛ إذ قال لكم الحقُّ ألست بربكم، قلتم: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا الجسمانيون من قبل، وكنا ذرية من بعدهم جرمانيين في دار الغرور، وضنك القبور. اذكروا عالمكم الروحاني وداركم الحيوانية ومحلكم النوراني، وتشوقوا إلى آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم الروحانيين الذين هم في أعلى عليين، الذين هم مِنْ أوساخ الأجرام مُبَرَّءُون، وعن ملابسة الأجسام الطبيعية منزهون، بادروا وارحلوا من دار الفناء إلى دار البقاء قبل أن يبادر بكم إلى هناك مكرهين مجبورين، غير مستعدين نادمين خاسرين.»
ففي مثل هذه الأوصافِ وما شاكل هذه المعاني كانت الحكماءُ تلحن مع نغمات الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات، فقد تبين إذن — بما ذكرنا — طرفٌ من غرض الحكماء في استعمالهم الموسيقى واستخراجاتهم أُصُول ألحانه وتركيب نغماته، وأما علة تحريم الموسيقى في بعض شرائع الأنبياء — عليهم السلام — فهو من أجل استعمال الناس لها على غير السبيل التي استعملها الحكماء، بل على سبيل اللهو واللعب، والترغيب في شهوات لذات الدنيا والغرور بأمانيها، والأبيات التي تنشد مشاكلة لها مثل قول قائل:
وقول القائل:
واعلمْ بأن مثل هذه الأبيات إذا سمعها أكثرُ الناس ظنوا وتوهموا أنه ليست لذةٌ ولا نعيمٌ ولا فرحٌ ولا سرورٌ غير هذه المحسوسات التي يشاهدونها، وأن الذي أخبرت به الأنبياء — عليهم السلام — من نعيم الجنات ولذات أهلها باطلٌ، والذي أخبرت به الحكماء من سرور عالم الأرواح وفضله وشرفه كذب وزور ليست له حقيقةٌ، فيقعون في شكوك وحيرة.
واعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنك إن لم تؤمن للأنبياء — عليهم السلام — بما أخبروك عنه مِنْ نعيمِ الجنان ولذات أهلها، ولم تصدق الحكماء بما عرفوك من سرور عالم الأرواح، ورضيت بما تُخيل لك الأوهام الكاذبة والظنون الفاسدة؛ بَقِيتَ متحيرًا شاكًّا ضالًّا مضلًّا.
واعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن غرض الأنبياء — عليهم السلام — في وضعهم النواميس والشرائع، وغرض الحكماء في وضع السياسات ليس هو إصلاح أُمُور الدنيا فحسب، بل غرضُهُم جميعًا في ذلك إصلاحُ الدين والدنيا جميعًا، فأما غرضهم الأقصى فهو نجاةُ النفوس مِنْ مِحَنِ الدنيا وشقاوة أهلها وإيصالها إلى سعادة الآخرة ونعيم أهلها.
ونرجعُ الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إنه إذا وصلت معاني النغمات والألحان إلى أفكار النفوس بطريق السمع وتصورت فيها رسوم تلك المعاني التي كانت مستودعة في تلك الألحان والنغمات؛ استغني عن وجودها في الهواء كما يستغنى عن المكتوب في الألواح إذا فُهم وحفظ ما كان فيها مكتوبًا من المعاني.
وهكذا يكون حكم النفوس الجزئية إذا ما هي تمت وكملت، وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها مع هذه الأجسام، فعند ذلك هدمت أجسامها إما بموت طبيعي أو عرضي، أو بقربان في سبيل الله تعالى، واستخرجت تلك النفوس من الأجسام كما يُستخرجُ الدرُّ من الصدف، والجنين من الرحم، والحَبُّ من الأكمام، والثمرة من القشرة، واستؤنف بها أمرٌ آخر، كما يستأنف بالدر أمر آخر إذا رمي بالصدف وحصل الدر، وهكذا حكم الثمار والحب إذا أدركت ونضجت، فليس إلا الصرام والحصاد والرمي بقشورها وتحصيل لبها ويستأنف بها حكم آخر، وهذا حُكم النفوس بعد مفارقة الأجسام يراد بها أمرٌ آخرُ كما ذكر الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ.
هكذا أيضًا حُكمُ نُفُوس الحيوانات بعد الذبح يُستأنفُ بها أمرٌ آخرُ، فلا تقدر يا أخي بأن غرض واضعي النواميس في تحليل ذبح البهائم في الهياكل عند القرابين إنما هو لأكل لحومها حسب، بل غرضُهُم تخليصُ نُفُوسها مِنْ دَرَكات جهنم عالم الكون والفساد ونقلها من حال النقص إلى حال التمام والكمال في الصورة الإنسانية التي هي أَتَمُّ وأكمل صورة تحت فلك القمر، وهذه الصورة هي آخرُ بابٍ في جهنم عالم الكون والفساد، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة حكمة الموت.
فانظر الآن يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، وتفكرْ واعلمْ بأن جسمك صدف ونفسك درةٌ ثمينةٌ لا تغفلْ عنها، فإن لها قيمةً عظيمة عند بارئها وخالقها، وقد بلغت آخر باب في جهنم، فإن بادرت وتزودت وسعيت وخرجت من هذا الباب الذي ظاهرُهُ من قِبَله العذاب، ودخلت من الباب الذي باطنه فيه الرحمة، ساجدًا في صورة الملائكة؛ فقد أفلحتَ وفزتَ ونجوتَ.
واعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن صورة الملائكة هي التي تَوَفَّى نفسك عند مفارقة الجسد، كما ذكر الله تعالى بقوله: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ملك الموت هو قابلةُ الأرواح ودَايَةُ النفوس، كما أن الداية للأجسام هي قابلة الأطفال.
واعلمْ يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الأرواح، كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد، كما قال رسول الله ﷺ لعلي — رضي الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة، قال الله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية.
فنرجعُ إلى ما كنا فيه فنقول: إن الحكماء الموسيقاريين إنما اقتصروا من أوتار العود على أربعةٍ لا أقل ولا أكثر؛ لتكون مصنوعاتهم مماثلةً للأُمُور الطبيعية التي دون فلك القمر؛ اقتداءً بحكمة الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — كما بَيَّنَّا في رسالة الأرثماطيقي، فوترُ الزير مماثلٌ لركن النار ونغمتُهُ مناسبة لحرارتها وحدتها، والمثنى مماثلٌ لركن الهواء ونغمته مناسبةٌ لرطوبة الهواء ولينه، والمثلث مماثل لركن الماء ونغمته مناسبة لرطوبة الماء وبرودته، والبم مماثل لركن الأرض ونغمته مماثلة لثقل الأرض وغلظها.
وهذه الأوصافُ لها بحسب مناسبة بعضها إلى بعض وبحسب تأثيراتِ نغماتها في أمزجة طِبَاعِ المستمعين لها؛ وذلك أن نغمة الزير تقوي خلط الصفراء، وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط البلغم وتلطفه، ونغمة المثنى تقوي خلط الدم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط السوداء وترققه وتلينه، ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط الصفراء، وتكسر حدتها، ونغمة البم تقوي خلط السوداء وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط الدم وتسكن فورانه.
فإذا ألفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، واستعملت تلك الألحان في أوقات الليل والنهار المضادة طبيعتها طبيعة الأمراض الغالبة والعلل العارضة، سكنتْها وكسرت سورتها، وخففت على المرضى آلامها؛ لأن الأشياءَ المتشاكلة في الطباع إذا كثرتْ واجتمعتْ قويتْ أفعالها، وظهرت تأثيراتها، وغلبت أضدادها كما يعرف الناس مثل ذلك في الحروب والخصومات.
فقد تبين بما ذكرنا طرف من حكمة الحكماء الموسيقيين المستعملين لها في المارستانات في الأوقات المضادة لطبيعة الأمراض والأغراض والأعلال، وهم اقتصروا على أربعة أوتار لا أكثر ولا أقل، فأما العلة التي من أجلها جعلوا غلظ كل وتر مثل غلظ الذي تحته ومثل ثلثه؛ فذلك منهم أيضًا اقتداءٌ بحكمة الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — واتباعٌ لآثار صُنعه في المصنوعات الطبيعية.
وذلك أن الحكماء الطبيعيين ذكروا أن أقطار أكر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، كلُّ واحد منها مثل الذي تحته ومثل ثلثه في الكيفية؛ أعني: في اللطافة والغلظ، فقالوا: إن قطر كرة الأثير — أعني: كرة النار التي دون فلك القمر — مثل قطر كرة الزمهرير ومثل ثلثها، وقطر كرة الزمهرير مثل قطر كرة النسيم ومثل ثلثها، وقطر كرة النسيم مثل قطر كرة الماء ومثل ثلثها، وقطر كرة الماء مثل قطر كرة الأرض ومثل ثلثها.
ومعنى هذه النسبة أَنَّ جوهرَ النار في اللطافة مثل جوهر الهواء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الماء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الأرض ومثل ثلثها.
وأما علة شدهم الزير الذي هو مماثل لركن النار ونغمته مماثلة لحرارة النار وحدتها تحت الأوتار كلها، وشدهم البم المماثل لركن الأرض فوقها كلها، والمثنى مما يلي الزير، والمثلث مما يلي البم، فهي أيضًا لعلتين اثنتين؛ إحداهما أن نغمة الزير حادة خفيفة تتحرك علوًّا، ونغمة البم غليظةٌ ثقيلةٌ تتحرك إلى أسفل، فيكون ذلك أَمْكَنَ لمزاجهما واتحادهما، وكذلك حالُ المثنى والمثلث.
والعلة الأُخرى: أن نسبة غلظ الزير إلى غلظ المثنى، والمثنى إلى المثلث، والمثلث إلى البم؛ كنسبة قطر الأرض إلى قطر كرة النسيم، وكرة النسيم إلى كرة الزمهرير، والزمهرير إلى الأثير، فهذا كان سبب شدهم لها على هذا الترتيب.
وأما استعمالهم نسبة الثمن في نغمة الأوتار دون الخمس والسدس والسبع وتفضيلهم إياها؛ فمن أجل أنها مشتقةٌ من الثمانية، والثمانيةُ هي أول عدد مكعب، وأيضًا فإن الستة لَمَّا كانتْ أول عدد تام وكانت الأشكالُ ذوات السطوح الستة أفضلها، والمقدم عليها هو المكعب لِمَا فيه من التساوي كما بيَّنا في رسالة الجومطريا، وذلك أن طول هذا الشكل وعرضه وعمقه كلها متساوية، وله ستة سطوح مربعات كلها متساويات، وله ثماني زوايا مجسمة كلها متساوية، وله اثنا عشر ضلعًا متوازية متساوية، وله أربع وعشرون زاوية قائمة متساوية، وهي من ضرب ثلاثة في ثمانية.
وقد قلنا: إن كل مصنوع كان التساوي فيه أكثرُ فهو أفضلُ، وليس بعد الشكل الكري شكل أكثر تساويًا من الشكل المكعب، فمن أجل هذا قيل في كتاب إقليدس في المقالة الأخيرة: إن شكل الأرض بالمكعب أشبه، وشكل الفلك بذي اثنتي عشرة قاعدة مخمسات أشبه، وقد بَيَّنَّا في رسالة الأسطرنوميا فضيلةَ الشكل الكري والعدد الاثني عشر.
ومن فضيلة الثمانية ما ذكرته الحكماء الرياضيون بأن بين أقطار أكر الأفلاك وبين قطر الأرض والهواء نسبة موسيقية؛ وبيان ذلك أنه إذا كان نصف قطر الأرض ثمانية، وكان نصف قطر كرة الهواء تسعة؛ فإن قطر كرة فلك القمر اثنا عشر، وقطر فلك عطارد ثلاثة عشر، وقطر فلك الزهرة ستة عشر، وقطر فلك الشمس ثمانية عشر، وقطر فلك المريخ إحدى وعشرون ونصف، وقطر فلك المشتري أربعة وعشرون، وقطر فلك زحل سبعة وعشرون وأربعة أسباع، وقطر فلك الكواكب الثابتة اثنان وثلاثون.
فنسبة قطر فلك القمر من قطر الأرض مثله وثلث، ومن قطر الهواء المثل والربع، ونسبة قطر الزهرة من قطر الأرض نسبة الضعف، ومن قطر القمر المثل والثلث، ونسبة قطر الشمس من قطر الهواء الضعف، ومن قطر الأرض الضعفان والربع، ومن قطر القمر المثل والنصف، ونسبة قطر المشتري من قطر القمر الضعف، ومن قطر الأرض الثلاثة الأضعاف، ومن الزهرة المثل والنصف، ونسبة قطر فلك الكواكب الثابتة من قطر المشتري المثل والربع، ومن الزهرة الضعف، ومن الشمس المثل والثلاثة الأرباع، ومن القمر الضعفان والثلاثة الأرباع، ومن الأرض أربعة أضعاف.
وأما عطارد والمريخ وزحل فغير هذه النسبة، فمن أجل هذا قيل: إنها نحوس، وذَكَرَ هؤلاء الحكماء أيضًا أن بين عظم أجرام هذه الكواكب بعضها لبعض نسبًا شتى، إما عددية وإما هندسية وإما موسيقية، وهكذا بينها وبين جرم الأرض هذه النسب أيضًا موجودة، ولكن منها شريفةٌ فاضلةٌ ومنها دون ذلك، يطولُ شَرْحُها.
فقد تبين بما ذكرنا أن جملة جسم العالم بجميع أفلاكه وأشخاص كواكبه وأركانها الأربعة وتركيب بعضها جوف بعض، مركبةٌ ومؤلفةٌ ومصنوعةٌ وموضوعةٌ بعضُها من بعض على هذه النسب المذكورة المقدم ذِكْرُها، وأن جملة جسم العالم يجري مجرى جسم حيوان واحد وإنسان واحد ومدينة واحدة، وأن مدبرها ومصورها ومركبها ومؤلفها ومبدعها ومخترعها واحدٌ لا شريك له، وهذا كان أحد أغراضنا في هذه الرسالة.
ومن فضيلة الثمانية أيضًا أنك إذا تأملت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، وتصفحت الموجودات وعنصر الكائنات الفاسدات؛ وجدت موجوداتٍ كثيرةً مثمنات كطبائع الأركان: الحار الرطب والبارد اليابس والبارد الرطب والحار اليابس ثمانية، وهي أصل الموجودات الطبيعية، وعنصر الكائنات الفاسدات.
وأيضًا من فضيلة الثمانية أنك تجد مناظرات الكواكب إلى ثمانية مواضع في الفلك مخصوصة دون غيرها، وهي المركز والمقابلة والتثليثان والتربيعان والتسديسان، وهذه الثمانية هي أيضًا أحدُ أسباب الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر، وإذا تأملت أيضًا واعتبرت؛ وجدت الثمانية والعشرين حرفًا التي في اللغة العربية المماثلة لثمان وعشرين منزلة من منازل القمر، هجاؤها ثمانية أحرف، وهي: «أ ل ف ي م ن د و». ومفاعيل أشعار العرب أيضًا ثمانية أجزاء، وهي أجزاء العروض وأجناس ألحان غنائهم أيضًا ثمانية — كما سنبين في فصل آخر.
وقد قيل: إن للجنان ثماني مراتب، وحَمَلَة العرش ثمانية والنيران سبعةُ أبواب، وقد بينا في رسالة البعث والقيامة حقيقتها، وعلى هذا القياس يا أخي إذا تأملتَ الموجودات وتصفحت أحوال الكائنات وجدتَ أشياء كثيرة ثنائيات وثلاثيات ورباعيات وخماسيات وسداسيات وسباعيات وثمانيات ومتسعات ومعشرات، وما زاد على ذلك بالغًا ما بلغ.
وإنما أردنا بذكر المثمنات أن ننبهك من نوم الغفلة ورَقْدة الجهالة؛ ولتعلمَ أن المسبعة الذين قد شغفوا بذكر المسبعات وتفضيلها على غيرها إنما كان نظرُهُم جزئيًّا وكلامهم غير كلي.
وكذلك حكم الثنوية في المثنويات والنصارى في تثليثهم والطبيعيين في مربعاتهم والحزمية في مخمساتهم والهند في مسدساتهم، والكيالية في متسعاتهم، وليس هذا مذهب إخواننا الكرام أيدهم الله وإيانا بروح منه؛ حيث كانوا في البلاد، بل نظرهم كلي وبحثهم عمومي وعلمهم جامع ومعرفتهم شاملة.
ولنعد الآن إلى ما كنا فيه فنقول: قد تبين إذن بما ذكرنا طرف من صفة العُود وكمية أوتاره وتناسب ما بين غلاظها ودقاقها وكمية دساتينها وكيفية شدها وما بينها من التناسب وكمية نغمات نقرات أوتاره مطلقًا ومزمومًا وما بينها من التناسُب، فإن أحكم المصنوعات وأَتْقَنَ المركبات وأحسن المؤلفات ما كان تأليفُ أجزائه وهيئة تركيبه على النسبة الأفضل، ومن أجل هذا صارت الألحان تستلذها أكثر المسامع وتستحسن صفتها واستعمالها أكثر العقول، ويغنَّى بها في مجالس الملوك والرؤساء.
(٨) فصل في أن إحكام الكلام صنعةٌ من الصنائع
ومن المصنوعات المحكمة المتقنة أيضًا صنعة الكلام والأقاويل، وذلك أن أحكم الكلام ما كان أَبْيَنَ وأبلغ، وأتقن البلاغات ما كان أفصح، وأحسن الفصاحة ما كان موزونًا مقفًّى، وأَلَذَّ الموزونات من الأشعار ما كان غير منزحف، والذي غير منزحف من الأشعار هو الذي حروفُهُ الساكنةُ وأزمانها مناسبةٌ لحروف متحركاتها وأزمانها، والمثال في ذلك: الطويل والمديد والبسيط؛ فَإِنَّ كل واحد منها مركب من ثمانية مقاطع، وهي هذه: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن.
وهذه الثمانية مركبةٌ من اثنَي عشر سببًا وثمانية أوتاد؛ جملتها ثمانية وأربعون حرفًا، عشرون منها سواكنُ، وثمانية وعشرون حرفًا متحركات، والمصراع منه أربعةٌ وعشرون حرفًا، عشرةٌ سواكنُ وأربعة عشر متحركات، ونصف المصراع الذي هو ربع البيت اثنا عشر حرفًا، خمسةٌ منها سواكنُ وسبعة متحركات، ونسبة سواكن حروف ربعه إلى متحركاته كنسبة سواكن حُرُوف نصفه إلى متحركاته وكنسبة سواكن حروفه كلها إلى متحركاته كلها.
وهكذا تجد حكم الوافر والكامل، فإن كل واحد منهما مركبٌ من ستة مقاطع، وهي هذه: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن ست مرات، ونسبة سواكن حروف ثلث البيت إلى حروف متحركاته كنسبة حروف سواكن نصفه إلى متحركاته، وكنسبة سواكن كله إلى متحركات كله، وعلى هذا المثال والحكم يوجد كل بيت من الأشعار إذا سلم من الزحاف منصفًا كان أو مربعًا أو مسدسًا، وكذلك حكم الأزمان التي بينها، وهذه صورتها: فعولن مفاعيلن «ه ه ا ه ا ه ه ا ه اه ا» الهاءات علامة المتحركات والألفات علامة السواكن.
فقد تبين بهذا المثال أيضًا أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات ما كان تأليف أجزائه وأساس بنيته على النسبة الأفضل، ومن أمثال ذلك أيضًا صناعة الكتابة التي هي أشرفُ الصنائع، وبها يفتخرُ الوزراءُ والكُتَّاب وأهل الأدب في مجالس الملوك، مع كثرة أنواعها وفنون فروعها، وذلك أن لكل أمة من الأُمم كتابة غير ما للأخرى، كالعربية والفارسية والسريانية والقبطية والعبرانية واليونانية والهندية وما شاكلها، لا يحصي عددها إلا الله — عز وجل — الذي خلقهم مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأخلاقهم وطبائعهم وصناعاتهم وعلومهم ومعارفهم؛ كل ذلك لِسِعَةِ علمه ونفاذ مشيئته وإتقان حكمتِهِ — سبحانه وتعالى.
ونريد أن نذكر في هذا الفصل أصلَ الحروف وكيفية ترتيبها وكمية مقاديرها ونسب تأليفها الفاضلة بينها، فنقول: إن أصل حروف الكتابات كلها في أي لغة وضعت، ولأي أمة كانت، وبأي أقلام كتبت وخطت، أو بأي نقش صورت، وإن كثرت فإن أصلها كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطرُ الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطُ الدائرة، فأما سائرُ الحروف فمركبةٌ منهما ومؤلفةٌ، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة الجومطريا شبه المدخل إلى صناعة الهندسة، ونبين مثالًا لما ذكرنا من الحروف التي في الكتابة العربية؛ ليكون دليلًا على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، من أن أصل الحروف كلها هو الخطُّ المستقيمُ والخط المقوس اللذان أحدهما قطر الدائرة والآخرُ محيطها، وهي هذه: أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن ﻫ و لا ي.
فانظرِ الآن واعتبرْ وتأملْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه؛ فإنك تجد هذه الحروف بعضها خطًّا مستقيمًا مثل هذا: أ ب ت ث، وبعضها مقوسًا مثل هذا: د ذ ر ز، وبعضها مركبًا منهما مثل سائر الحروف، وعلى هذا المثال والقياس توجدُ حُرُوف كتابات سائر الأُمم مثل الهندية، فإنها هكذا: ١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩، وكذلك السريانية والعبرانية واليونانية والرومية، فإن لكل منها اصطلاحًا في أشكال الحروف وصورها لا يخرج عما قلنا.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن أصل الحروف والكتابات كلها هو الخط المستقيم الذي هو قُطْر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطُها؛ فنريد أن نبين أيضًا أن أجود الخطوط وأَصَحَّ الكتابات وأحسن المؤلفات ما كان مقاديرُ حروفها بعضها من بعض على النسبة الأفضل، فلنذكرْ أولًا ما قاله أهلُ هذه الصناعة، أعني: صناعة الكتابة؛ ليكون أقوى وأَصَحَّ للحجة وأوضح للبيان وأرشد إلى القياس والقانون.
قال المحررُ الحاذق المهندس: ينبغي لمن يُريد أن يكوِّن خَطُّهُ جيدًا وكتابتُهُ صحيحة أن يجعل لها أصلًا يَبني عليه حروفه وقانونًا يقيس عليه خطوطه، والمثال في ذلك في كتابة العربية هو أن يخط الألف أولًا بأي قدر شاء ويجعل غلظه مناسبًا لطوله، وهو الثمن وأسفله أدق من أعلاه، ثم يجعل الألف قُطْر الدائرة، ثم يبني سائر الحروف مناسبًا لِطُول الألف ولِمحيط الدائرة التي الألف مساوٍ لقطرها، وهو أن يجعل الباء والتاء والثاء كل واحد منها طولُهُ مساوٍ لطول الألف، وتكون رءوسها إلى فوق الثمن مثل هذا: أ ب ت ث، ثم يجعل الجيم والحاء والخاء كل واحد منها مدته من فوق نصف الألف، وتقويسه إلى أسفل نصف محيط الدائرة التي الألف مساوٍ لقُطرها مثل هذا: ج ح خ.
ثم يجعل الدال والذال كل واحد منهما مثل طول الألف إذا قوس؛ مثل هذا: د ذ، ثم يجعل الراء والزاي كل واحد منهما كمثل ربع محيط الدائرة التي الألف قطرُها، ثم يجعل السين والشين كل واحد منهما رءوسها إلى فوق ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة مثل هذا: س ش، ثم يجعل الصاد والضاد مدة طول كل واحد منهما إلى قدام مثل طول الألف وفتحتها مثل ثمن الألف ومدتها إلى أسفل مثل نصف الدائرة المقدم ذكرها مثل هذا: ص ض؛ ويجعل الطاء والظاء كل واحد منهما طوله مثل طول الألف وفتحتها مثل ثمن الألف، ورءوسها إلى فوق بطول الألف مثل هذا: ط ظ، ثم يجعل العين والغين كل واحد منهما تقويسه من فوق ربع محيط تلك الدائرة وتقويسه من أسفل نصف محيطها، مثل هذا: ع غ.
ثم يجعل مدة الفاء إلى قدام مثل طول الألف، وفتحته ثمن الألف وحلقته وحلقة القاف والواو والميم والهاء كلها متساوية مثل ثلث الألف إذا دور مثل هذا: ف ق و م ﻫ، ويجعل مدة القاف إلى أسفل مثل نصف محيط تلك الدائرة مثل هذا: ق، ثم يجعل مدة الكاف إلى قدام مثل طول الألف، وفتحته مثل ثمن الألف، وكسرته إلى فوق ربع الألف مثل هذا: ك، ثم يجعل طول اللام مثل الألف، ومدته إلى قدام نصف الألف، مثل هذا: ل، ثم يجعل مدة الميم والواو كل واحد منهما إلى أسفل مثل تقويس الراء والزاي مثل هذا: م و.
ثم يجعل تقويس النون مثل نصف محيط تلك الدائرة التي الألف مساوٍ لقطرها مثل هذا: ن، ثم يجعل الياء مثل الدال ومدته إلى خلف مثل طول الألف أو تقويسه إلى أسفل مثل نصف محيط الدائرة مثل هذا: ي، وهذا الذي ذكرناه من نِسَب هذه الحروف وكمية مقاديرها طولًا وعرضًا بعضها عند بعض، فهو شيء توجبُهُ قوانينُ الهندسة والنسب الفاضلة.
وأما ما يتعارفُهُ الناس ويستحسنُهُ الكتاب فعلى غير ما ذكرنا من المقادير والنسب، وذلك بحسب موضوعاتهم ومرضياتهم واختياراتهم دون غيرها، وبحسب طُول الدربة وجريان العادة فيها؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا ماهيةَ النسب الفاضلة ومقادير الحُرُوف وكمية أطوالها؛ فنُريد أن نذكر ها هنا أيضًا طرفًا مِنْ كيفيةِ صورها وتخطيط أشكالها وكيفية تركيبها بعضها مع بعض على ما يوجبُهُ القياسُ والقانونُ بطريق الهندسة.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن صور حروف الكتابات كثيرة الفنون مختلفة الأنواع، كما تقدم ذكرها، وهي بحسب موضوعات الحكماء من الكتاب واختياراتهم لها وتواطئهم عليها يطول ذكر علة ذلك وشرحه، ولكن نذكر قولًا مجملًا مختصرًا في ثلاث كلمان بحسب ما توجبه قوانين الهندسة والقياسات الفلسفية، كما أوصى المحرر الحاذق المهندس، فقال: ينبغي أن تكون صور الحروف كلها لأي أمة كانت، في أي لغة كانت، وبأي أقلام خطت إلى التقويس والانحناء ما هو الألف التي في كتابة العربية وأن يكون غلظ الحروف إلى الانخراط ما هو وأن يكون عند التركيب الزوايا كلها حادة وإلى التدوير ما هو، فهذا ما قاله أهلُ الصناعة في تقديرِ هذه الحروفِ ومناسباتها مفردة مفردة، فأما عند التركيب والتأليف فربما تختلفُ وتتغيرُ لعلل يطول شرحها، ولكن على المحرر يجب عند تعليمه للخط التوقيف عليها.
فقد تبين إذن بما ذكرنا أن أحكم المصنوعات وأَتْقَنَ المركبات وأحسن المؤلفات ما كان تركيبُ بنيته وتأليفُ أجزائه على النسبة الأفضل، والنسب الفاضلة هي المثل، والمثل والنصف، والمثل والثلث، والمثل والربع، والمثل والثمن — كما قد بينا قبل — ومن أمثال ذلك أيضًا صورةُ الإنسان وبنيةُ هيكله، وذلك أن الباري — جل جلالُهُ — جعل طُولَ قامته مناسبًا لعرض جثته، وعرض جثته مناسبًا لعنق تجويفه، وطول ذراعيه مناسبًا لطول ساقيه، وطول عضديه مناسبًا لطول فخذيه، وطول رقبته مناسبًا لطول عمود ظهره، وكِبَر رأسه مناسبًا لكبر جثته، واستدارة وجهه مناسبة لسعة صدره، وشكل عينيه مناسبًا لشكل فمه، وطول أنفه مناسبًا لعرض جبينه، وقدر أذنيه مناسبًا لمقدار خديه، وطول أصابع يديه مناسبًا لأصابع رجليه، وطول أمعائه مناسبًا لطول أوردته، وتجويف معدته مناسبًا لكبر كبده، ومقدار قلبه مناسبًا لكبر رئته.
وشكل طحاله مناسبًا لشكل كبده، وسعة حلقومه مناسبة لكبر رئته، وطول أعضائه وغلظها مناسبًا لكبر عظامه، وطول أضلاعه وتقويسها مناسبًا لصندوق صدره، وطول عروقه وسعتها مناسبًا لبعد مسافة أقطار جسده، وعلى هذا المثال إذا تأملت واعتبرت كل عضو من أعضاء بدن الإنسان؛ وَجَدْتَهُ مناسبًا لجملة جثته نسبة ما ومناسبًا لعضو عضو من أعضاء الجسد نسبة أُخرى، لا يعلم كنه معرفتها إلا الله — جَلَّ ثناؤُهُ — الذي خلقها وصورها كما شاء كيف يشاء، كما ذكر بقوله — جل ثناؤه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وقال: خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ.
(٩) فصل في تناسُب الأعضاء على الأُصول الموسيقية
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النطفة إذا سلمت في الرحم من الآفات العارضة هناك ومِن فساد الأخلاط وتَغَيُّر المزاج ومناحس أشكال الفلك عند مسقط النقطة وعند المبادئ شهرًا بشهر وتمت بنية البدن، وكملت صورة الجسد، كَمَا بَيَّنَّا في رسالة لنا، خرج الطفل من الرحم صحيحَ البنية تام الصورة، فكان طُولُ قامته ثمانية أشبار بشبره سواء، فمن رأس ركبتيه إلى أسفل قدميه شبران، ومن رأس ركبتيه إلى حقويه شبران، ومن حقويه إلى رأس فؤاده شبران، ومن رأس فؤاده إلى مفرق رأسه شبران.
وإذا فتح يديه ومدهما يمنة ويسرة كما يفتح الطائر جناحيه وجد ما بين رأس أصابع يده اليمنى إلى رأس أصابع يده اليسرى ثمانية أشبار؛ النصف من ذلك عند ترقوته والربع عند مرفقيه، وإذا مد يديه إلى فوق رأسه ووضع رأس البركار على سرته وفتح إلى رءوس أصابع يديه، ثم أدبر إلى رءوس أصابع رجليه كان البعد بينهما مساويًا عشرة أشبار بزيادة ربع طول قامته، ويوجد طول وجهه من رأس ذقنه إلى منبت الشعر فوق جبينه شبرًا وثمنًا، ويوجد البعد ما بين أذنه شبرًا وربعًا ويوجد طول أنفه ربع شبره، ويوجد طول شق عينيه كل واحد ربع ثمن شبره، وطول جبينه ثلث طول وجهه.
ويوجد شق فمه وشفتيه كل واحد مساويًا لطول أنفه، وطول قدميه كل واحد شبر وربع شبر، وطول كفيه من رأس الكرسوع إلى رأس الإصبع الوسطى شبرًا، ويوجد طول إبهامه وطول خنصره متساويين، ورأس البنصر زائدًا على رأس الخنصر ثمن شبره، وكذلك زيادة الوسطى على البنصر وكذلك السبابة، ويوجد عرض صدره شبرًا ونصفًا وبُعد ما بين ثدييه شبرًا، وما بين سرته إلى عانته شبرًا، ومن رأس فؤاده إلى رأس ترقوته شبرًا، ويوجد البعد ما بين منكبيه شبرين.
وعلى هذا المثال والقياس يوجد إذا اعتبر طول أمعائه ومصارين جوفه وعروق جسده والعصبات الممسكات لعظامه وأوتار مفاصله متناسبات بعضها إلى بعض طولًا وعرضًا وعمقًا مثل ما ذكرنا من مناسبات مقادير أعضائه الظاهرة، وعلى هذا القياس والمثال يوجد بنية أبدان سائر الحيوانات مناسبة أعضاء صورة كل نوع منها لجملة بدنه، أو بعضها إلى بعض مناسبة إما بالكيفية وإما بالكمية وإما بهما جميعًا، لا تخل شيئًا إذا سلمت من الآفات العارضة عند الابتداء وعند النشوء من فساد الأخلاط وتغيير المزاج ومناحس أشكال الفلك.
وعلى هذا المثال والقياس يعمل الصناعُ الحذاق مصنوعاتهم من الأشكال والتماثيل والصور مناسبات بعضها لبعض في التركيب والتأليف والهندام؛ كل ذلك اقتداءً بصنعة الباري تعالتْ قدرتُهُ، وتشبه بحكمته، كما قيل في حد الفلسفة: إنها هي التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
(١٠) فصل في حقيقة نغمات الأفلاك
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن في اعتبار هذه المقالات التي تقدم ذكرها في هذه الفصول الدالة على أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات، وأحسن التأليفات هو ما كان تركيبُ بنيته على النسبة الأفضل، وتأليف أجزائه على مثل ذلك دليل وقياس لكل عاقل متفكر معتبر، على أن تركيب الأفلاك وكواكبها ومقادير أجرامها ومقادير الأركان ومولداتها موضوعةٌ بعضُها على بعض على النسبة الأفضل.
وهكذا أبعاد هذه الأفلاك وكواكبها وحركاتها؛ متناسبات على النسبة الأفضل، وأن لتلك الحركات المتناسبة نغماتٌ متناسبات مطربات متوازنات لذيذات، كما بيَّنا في حركات أوتار العيدان ونغماتها، فإذا تفكر ذو اللب واعتبر؛ تبين له عند ذلك وعلم بأن لها صانعًا حكيمًا صنعها ومركبًا حاذقًا ركبها ومؤلفًا لطيفًا ألفها وتيقن بذلك، فتزول الشبهة المموهة التي دخلت على قُلُوب كثيرٍ من المرتابين وترتفع الشكوكُ ويتضحُ الحقُّ ويعلم أيضًا ويتبين له أن في حركات تلك الأشخاص ونغمات تلك الحركات لذةً وسرورًا لأهلها مثل ما في نغمات أوتار العيدان لذة وسرورًا لأهلها في هذا العالم، فعند ذلك تشوقت نفسه إلى الصعود إلى هناك والاستماع لها والنظر إليها كما صعدت نفس هرمس الثالث بالحكمة لما صفت ورأت ذلك، وهو إدريس النبي — عليه السلام — وإليه أشار بقوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا، وكما سمعته نفس فيثاغورس الحكيم لَمَّا صفتْ من درن الشهوات الجسمانية ولطفت بالأفكار الدائمة وبالرياضات العددية والهندسية والموسيقية.
فاجتهدْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وعبودية الشهوات الجسمانية، وافعلْ كما فعلت الحكماء، ووضعت في كتبها، فإن جوهر نفسك من جوهر نفوسهم، واعمل كما وصفنا في كتاب الأنبياء — عليهم السلام — وصَفِّ نفسك من الأخلاق الرديئة والآراء الفاسدة والجهالات المتراكمة والأفعال السيئة؛ فإن هذه الخصال هي المانعةُ لها عن الصعود إلى هناك بعد الموت كما ذكر الله تعالى بقوله: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن جوهر نفسك من الأفلاك نزل يوم مسقط النطفة — كَمَا بَيَّنَّا في رسالة لنا — وإلى السماء يكونُ مصيرُها بعد الموت الذي هو مفارقة الجسد، كما أن من التراب يكونُ جسدك، وإلى التراب يكون جسدك بعد الموت.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن هذه الحياة الدنيا للنفوس المتجسدة إلى وَقْتِ المفارقة التي هي الموتُ مماثلة لمدة كون الجنين في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم الولادة.
واعلمْ يا أخي أَنَّ الموت ليس شيئًا سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليستْ شيئًا سوى مفارقة الجنين الرحم، وقال المسيح — عليه السلام: من لم يولد ولادتين لم يصعد إلى ملكوت السماء، وقال — جَلَّ ثناؤُهُ — في صفة أهل الجنة: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى، وهو مفارقة النفس الجسد مرة واحدة على الشريطة التي تَقَدَّمَ ذكرها، وهم السعداء الذين أشار إليهم بقوله: وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ، فأما الأشقياءُ فَهُمُ الذين يتمنون العود إلى الدنيا والتعلُّق بالأجساد مرة أخرى ويذوقون الموت مرة أخرى، كما ذكر الله تعالى حكاية عنهم: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أعاذك الله أيها الأخ من حال هذه الطائفة وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه لطيف بالعباد، فلنرجعْ إلى ما كُنَّا فيه، وقد وعدنا به مَنْ ذَكَرَ قوانينَ الألحان العربية، فنقول:
إن اللغة العربية وألحانها ثمانيةُ قوانين هي كالأجناس لها، ومنها يتفرع سائرُها، وإليها يُنسب باقيها، كما أن لأشعارها ثمانية مقاطع، منها يتركب سائرُ دوائر العروض وأنواعها، وإليها يُنسب وعليها يُقاس باقيها كما هو مذكورٌ في كُتُب العروض بشرحها.
وأما الثمانية التي هي قوانينُ غناء العربية، فأولها الثقيلُ الأولُ ثم خفيفُ الثقيل ثم الثقيل الثاني ثم خفيفُهُ، ثم الرمل ثم خفيف الرمل ثم خفيف الخفيف ثم الهزج، فهذه الثمانيةُ هي كالأجناس وسائرها كالأنواع المتفرعة منها المنسوبة إليها، فأما الثقيل الأول فهو تسع نقرات، ثلاثٌ منها متواليات وواحدة مفردة ثقيلةٌ ساكنة، ثم خمس نقرات، واحدة مطويةٌ في أولها مثل قولك: مفعولن مف مفاعيلن، مف تن تن تن تن تن تن تن تن، ثم يعود الإيقاع ويكرر دائمًا إلى أن يسكت الموسيقار.
وأما الثقيل الثاني فهو إحدى عشرة نقرة، ثلاث نقرات متواليات، ثم واحدةٌ ساكنة، ثم واحدةٌ ثقيلة، ثم ست نقرات في أولها واحدةٌ مطوية، مثل قولك: مفعولن مفعو مفاعيلن مفعو تن تن تن تن تن تن تن تن تن تن، ثم يعود الإيقاع ثانيًا دائمًا.
وأما خفيف الثقيل الأول فهو سبع نقرات، نقرتان منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان، نقرة ثم نقرة مفردة ثقيلة، ثم أربع نقرات، واحدةٌ مطويةٌ في أولها، مثل قولك: مفاعل مفاعيلن تنن تن تنن تن، ثم يعود الإيقاع ويكرر إلى أن يسكت المغني، وأهل زماننا يسمون هذا اللحن الماخوري، وهو مثال صياح الفاختات ككو كو كككو كو.
وأما خفيف الثقيل الثاني فهو ثلاث نقرات متواليات لا يكون بينها زمان نقرة، ولكن بين كل ثلاث نقرات وثلاث نقرات زمان نقرة، مثل قولك: فعلن فعلن تكرر دائمًا تننن تننن إلى أن يسكت المغني.
وأما الرمل فهو عكس الماخوري، وذلك أنه سبع نقرات مثله، ولكن أوله نقرة مفردة ثقيلة، ثم نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ثم أربع نقرات كل اثنتين منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان نقرة مثل قولك: فاعلن مفاعلن مثل صياح القباج تن تنن تنن كي ككي ككي ككي، وأما خفيف الرمل فهو ثلاث نقرات متواليات متحركات مثل قولك: متفاعلتن تننن تننن.
وأما خفيف الخفيف فهو نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ولكن بين كل نقرتين ونقرتين زمان نقرة مثل قولك: مفاعلن مفاعلن تنن تنن تنن تنن، وأما الهزج فهو نقرة مسكنة ونقرة أُخرى أخف منها، بينهما زمان نقرة، وبين كل اثنتين زمان نقرتين مثل قولك: فاعل فاعل.
فهذه الثمانيةُ الأجناس التي قلنا: إنها أصل وقوانين لغناء العرب وألحانها، وأما غير العربية كالفارسية والرومية واليونانية فلألحانها وغنائها قوانين أخر غير هذه، ولكنها كلها مع كثرة أجناسها وفنون أنواعها؛ ليست تخرجُ من الأصل والقانون الذي ذكرناه قبل هذا الفصل، وإذا تأملت يا أخي، أيدك الله وإيانا؛ وجدت صحة ما قلنا وعرفت حقيقة ما وصفنا.
(١١) فصل في ذكر المربعات
اعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى جعل بواجب حكمته الأشياءَ الطبيعية التي تحت الكون والفساد وأسبابها وعللها الموجبة؛ لكونها أكثرها مربعات بعضها متضادات وبعضها متشاكلات، لِمَا فيها من إحكام الصنعة وإتقانِ الحكمة، لا يعلم أحدٌ من خلقه كنه معرفتها إلا هو الذي أبدعها واخترعها وأوجدها وركبها وألفها كما شاء كيف شاء.
ونُريد أن نذكر طرفًا من تلك الأشياء المربعات المتضادات والمتشاكلات؛ ليكون تنبيهًا لنفوس الغافلين عن النظر فيها، وحثًّا لهم على التفكر بها والاعتبار لها وتسهيلًا لنفوس الباحثين عن معرفة عللها والطالبين ما الحكمة فيها.
فمِنَ الأُمُور المربعات الظاهرات البينات: الأزمان الأربعة، التي هي فُصُول السنة، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء، والذي يشاكل الربيع من البروج من أول الحمل إلى آخر الجوزاء، والذي يشاكلها من أرباع الفلك الربع الشرقي الصاعد إلى وتد السماء، والذي يشاكلها من الشهر الرابع الأول، سبعة أيام من أول الشهر، والذي يشاكلها من اتصالات الكواكب التربيع الأيسر، ومن الأركان الأربعة ركن الهواء.
ومن الطبائع الحرارة والرطوبة، ومن الجهات الجنوب، ومن الرياح التيمي، ومن أرباع اليوم الست ساعات الأولى، ومن أخلاط المزاج الدم، ومن أرباع العمر أيام الصبا، ومن القوى الطبيعية القوة الهاضمة، ومن القوى الحيوانية القوة المتخيلة.
ومن الأفعال الظاهرة الفرح والسرور والطرب، ومن الأخلاق الجُود والكرمُ والعدل، ومن المحسوسات المشاكلات لهذه أيضًا وترُ المثنى ونغماته، ومِنَ الألحان الترنُّم، ومن الكلام والأشعار المديح، ومن الطعوم الحلاوات، ومن الألوان ما اعتدلت أصباغه كالمنثور، ومن الروائح الغالية البنفسج والمرزنجوش وما شاكلها من الروائح الحارة اللينة، وبالجملة كل طعم ورائحة ولون معتدل.
والذي شاكل زمان الصيف مِن أرباع الفلك الربع الهابط من وتد السماء إلى وتد المغرب، ومن البُرُوج من أول السرطان إلى آخر السنبلة، ومن أرباع الشهر الربع الثاني سبعة أيام، ومن الاتصالات ما جاوز التربيع الأيسر إلى المقابلة، ومن الأركان ركن النار، ومن الطبائع الحرارة واليبس، ومن الجهات الشرق، ومن الرياح الصبا، ومن أرباع اليوم ست ساعات إلى آخر النهار، ومن الأخلاط المرة الصفراء، ومن أرباع العمر أيام الشباب، ومن القُوَى الطبيعية القوة الجاذبة، ومن القوى الحيوانية القوة المفكرة، ومن الأخلاق الباطنة الشجاعة والسخاء، ومن الأفعال الظاهرة سرعة الحركة والقوة والجلد.
ومن المحسوسات المقوية لها مثل نغمات وتر الزير، ومن الألحان الماخوري وما شاكله، ومن الكلام الأشعار وما شاكلها من مديح الفُرسان والشجعان، ومن الطُّعوم الحريفات، ومن الألوان الصفرة والحمرة، ومن الروائح المسك والياسمين وما شاكلهما، وبالجملة كُلُّ طعم ولون ورائحة حارة يابسة، والذي شاكل زمان الخريف مِنْ أرباع الفلك الربع الهابط من وتد المغرب إلى وتد الأرض، ومن البروج من أول الميزان إلى آخر القوس.
ومن أرباع الشهر الربع الثالث السبعة الأيام بعد النصف، ومن الاتصالات بعد المقابلة إلى التربيع الأيمن، ومن الأركان ركن الأرض، ومن الطبائع البرودة واليبوسة، ومن الجهات المغرب، ومن الرياح الدبور، ومن أرباع اليوم ست ساعات من أول الليل، ومن الأخلاط المرة السوداء، ومن أرباع العمر أيام الكهولة.
ومن القوى الطبيعية القوة الماسكة، ومن القوى الحيوانية القوة الحافظة، ومن الأخلاق العفة، ومن الأفعال الظاهرة التَّأَنِّي والتثبت، ومن المحسوسات المشاكلة لها نغمات المثلث، ومن الألحان الثقيل وما شاكله، ومن الكلام المديح وما كان في وصف العقل والرزانة والزكانة والحصافة، ومن الطعوم الحموضات، ومن الألوان السواد الغبرة وما شاكلهما، ومن الروائح رائحة الورد والعود وما شاكلهما من الروائح الباردة اليابسة.
والذي شاكل زمان الشتاء من أرباع الفلك الربع الصاعد مِنْ وتد الأرض إلى أفق المشرق، ومن البروج من أول الجدي إلى آخر الحوت، ومن أرباع الشهر الربع الأخير سبعة أيام، ومن الاتصالات التربيعُ الأيمن، ومن الأركان ركن الماء، ومن الطبائع البرودةُ والرطوبةُ، ومن الجهات الشمال، ومن الرياح الجرباء، ومن أرباع اليوم النصف الأخير من الليل، ومن أخلاط المزاج البلغم، ومن القوى الطبيعية القوة الدافعة، ومن القوى الحيوانية القوة المذكرة.
ومن الأخلاق الحلم والتجاوز، ومن الأفعال الظاهرة السهولة في المعاملة وحسن المعاشرة، ومن المحسوسات المشاكلة له أيضًا نغمات وتر البم، ومن الألحان الهزج والرمل، ومن الكلام والأشعار ما كان مديحًا في الجود والكرم والعدل وحُسن الخُلُق، ومن الطعوم الدسومات والعذوبات، ومِن الألوان الخضرة، ومن الروائحِ النرجس والنيلوفر وما شاكلهما. وبالجملة: كل لون أو طعم أو رائحة باردة رطبة.
وعلى هذا المثال والقياس إذا تصفحت يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أحوالَ الموجودات الطبيعيات واعتبرتَ أنواع الكائنات المحسوسات؛ وجدتَ كلها داخلة في هذه الأقسام الأربعة، مشاكلات بعضها لبعض، أو مضادات بعضها لبعض، كما ذكر الله بقوله جَلَّ ثناؤُهُ: ومِن كل شيء خَلَقْنا زوجَيْن اثنين، وقوله عز وجل: خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ.
واعلمْ يا أخي بأن هذه الأشياء المتشاكلة إذا جمع بينها على النسبة التأليفية ائتلفتْ وتضاعفتْ قواها، وظهرتْ أفعالها، وغلبت أضدادها، وقهرت ما يخالفها، وبمعرفتها استخرجت الحكماء الأدوية المبرئة من الأمراض، الشافية للأسقام مثل الترياقات والمراهم والشرابات المعروفة بين الأطباء، الموصوفة في كتبهم.
وعلى مثل ذلك عمل أصحابُ الطلسمات بعد معرفتهم بطبائع الأشياء وخواصها ومشاكلتها وكيفية تركيبها ونسب تأليفها، والمثال في ذلك الشكل المتسع في تسهيل الولادة إذا كتب فيه الأعداد التسعة في الشهر التاسع من الحمل في الساعة التاسعة من الطلق، ويكون رب الطالع في التاسع، أو رب التاسع في الطالع، أو يكون القمر التاسع أو متصلًا بكوكب منه في التاسع، وما شاكل ذلك من المتسعات.
(١٢) فصل في الانتقال من طبقات الألحان
واعلمْ يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله — جَلَّ جلالُهُ — جعل بواجب حكمته لكل جنس من الموجودات حاسة مختصة بإدراكها، وقوة من قوى النفس تنالها بها وتعرفها بطريقها، لا تنال بطريقة أخرى، وجعل أيضًا في جِبِلَّة كل حاسة دراكة أو قوة علامة أن تستلذ من إدراك محسوساتها، وتتشوق إليها إذا فقدتها وملت منها إذا دامت عليها وتستروح إلى غيرها مِنْ أبناء جنسها، مثل ما هو معروف بين الناس في مأكولاتهم ومشروباتهم وملبوساتهم ومشموماتهم ومبصراتهم ومسموعاتهم، فالموسيقارُ الحاذقُ الفارهُ هو الذي إذا علم بأن المستمعين قد ملوا من لحن غَنَّى لهم لحنًا آخر، إما مضادًّا له أو مشاكلًا له.
واعلم يا أخي أن الخروج من لحن إلى لحن، والانتقال منه ليس له طريقٌ إلا على أَحَدِ الوجهين، إما أن يقطع ويسكت ويصلح الدساتين والأوتار بالحزق والإرخاء ويبتدئ ويستأنف لحنًا آخر أو يترك الأمر بحاله ويخرج من ذلك اللحن إلى لحن آخرَ قريب منه مشاكل له، وهو أن ينتقل من الثقيل إلى خفيفه، أو من الخفيف إلى ثقيله أو إلى ما قارب منه، والمثال في ذلك أنه إذا أراد أن ينتقل من خفيف الرمل إلى الماخوري أن يقف عند النقرتين الأخيرتين من ثقيل الرمل ثم يتلوهما بنقرة، ثم يقف وقفةً خفيفةً، ثم يبتدئ بالماخوري.
ومن حذق الموسيقار أيضًا أن يكسو الأشعار المفرحة الألحان المشاكلة لها، مثل الأرمال والأهزاج، وما كان منها من المديح في معاني المجد والجود والكرم أن يكسوها من الألحان المشاكلة لها مثل الثقيل الأول والثاني، وما كان في المديح من معاني الشجاعة والإقدام والنشاط والحركة أن يكسوها من الألحان مثل الماخوري والخفيف وما يشاكلها.
ومِنْ حذق الموسيقار أيضًا أن يستعمل الألحان المشاكلة للأزمان في الأحوال المشاكلة بعضها لبعض، وهو أَنْ يبتدئ في مجالس الدعوات والولائم والشرب بالألحان التي تُقوِّم الأخلاقَ والجود والكرم والسخاء، مثل ثقيل الأول وما شاكلها، ثم يُتبعها بالألحان المفرحة المطربة، مثل الهزج والرمل، وعند الرقص والدستبند الماخوري وما شاكله، وفي آخر المجلس إن خاف من السكارى الشغب والعربدة والخصومة أن يستعمل الألحان الملينة المنومة الحزينة.
(١٣) فصل في نوادر الفلاسفة في الموسيقى
يقال: إنه اجتمعت جماعةٌ من الحكماء والفلاسفة في دعوة ملك من الملوك فأمر أن يكتب كل ما يتكلمون به من الحكمة، فلما غنى الموسيقار لحنًا مطربًا، قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارُها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة فأخرجها النفس لحنًا موزونًا، فلما سمعتْها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرت بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها ودعُوا الطبيعةَ والتأمل لزينتها لا تغرنكم، وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقى أن تثور بكم شهواتُ النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة فتميل بكم عن سنن الهدى وتصدكم عن مناجاة النفس العُليا.
وقال آخر للموسيقار: حرك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شهواتها البهيمية.
وقال آخر: الموسيقارُ إذا كان حاذقًا بصنعته حَرَّكَ النفوسَ نحو الفضائل، ونَفَى عنها الرذائل.
وقال آخرُ: إنه سمع فيلسوف نغمة القينات، فقال لتلميذه: امضِ بنا نحو هذا الموسيقار؛ لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحنًا غير موزون ونغمة غير طيبة، فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ما قالوا صدقًا، فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم.
وقال آخر: الموسيقار وإن كان ليس بحيوان فهو ناطقٌ فصيحٌ يخبر عن أسرار النفوس وضمائر القلوب، ولكن كل كلامه أعجمي يحتاج إلى الترجمان؛ لأن ألفاظه بسيطةٌ ليس لها حروفٌ معجمة، وقد أنشدت أبيات بالفارسية تدل على تصديق قول هذا الفيلسوف، وهي هذه:
وقال آخر: أصوات الموسيقار ونغماته — وإن كانت بسيطة — ليس لها حروف معجم، فإن النفوس إليها أشد ميلًا ولها أسرع قبولًا لمشاكلة ما بينهما؛ وذلك أن النفوس أيضًا جواهرُ بسيطةٌ روحانيةٌ غيرُ مركبة ونغمات الموسيقار كذلك والأشياء إلى أشكالها أَمْيَلُ، وقال آخر: إن الموسيقار هو الترجمان عن الموسيقى والمعبر عنه، فإن كان جيد العبارة عن المعاني أفهم أسرار النفوس وأخبر عن ضمائر القُلُوب وإلا فالتقصير منه يكون.
وقال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار، ولطيف عبارته عن أسرار الغيوب إلا النفوس الشريفة الصافية، والبريئة من الشوائب الطبيعية، والبريئة من الشهوات البهيمية.
وقال آخر: إن الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — لَمَّا ربط النفوسَ الجزئية بالأجساد الحيوانية ركب في جبلتها الشهوات الجسمية، ومَكَّنَها من تناوُل اللذات الجرمانية في أيام الصبا، ثم سلبها عنها في أيام الشيخوخة وزهدها فيها كما يدلها على الملاذ والسرور والنعيم الذي في عالمها الروحاني، ويرغبها فيها، فإذا سمعتم نغمات الموسيقار فتأملوا إشاراته نحو عالم النفوس.
وقال آخرُ: إن النفوس الناطقةَ إذا صَفَتْ عن الشهوات الجسمانية، وزهدت في الملاذ الطبيعية، وانجلتْ عنها الأصدية الهيولانية؛ ترنمت بالألحان الحزينة، وتذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، وتشوقت نحوه، فإذا سمعت الطبيعة ذلك اللحن تعرضت للنفس بزينة أشكالها ورونق أصباغها كيما ترد إليها، فاحذروا من مكر الطبيعة أن لا تقعوا في شبكتها، وقال آخر: إن السمع والبصر هُمَا مِنْ أفضلِ الحواس الخمس وأشرفها التي وهب الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — للحيوان، ولكن أرى البصر أفضل؛ لأنه كالنهار والسمع كالليل، وقال آخر: لا بل السمع أفضل من البصر؛ لأن البصر يذهب في طلب محسوساته ويخدمها حتى يدركها مثل العبيد، والسمع يحمل إليه محسوساته حتى تخدمه مثل الملوك.
وقال آخر: إن البصر لا يدرك المحسوسات إلا على خطوط مستقيمة والسمع يدركها من محيط الدائرة، وقال آخر: محسوسات البصر أكثرها جسمانية ومحسوسات السمع كلها روحانية، وقال آخر: النفس بطريق السمع تنال خبر من هو غائب عنها بالمكان والزمان وبطريق البصر لا ينال إلا ما كان حاضرًا في الوقت.
وقال آخر: السمع أدق تمييزًا من البصر؛ إذ كان يعرف بجودة الذوق الكلام الموزون والنغمات المتناسبة والفرق بين الصحيح والمنزحف والخروج من الإيقاع واستواء اللحن، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته، فإنه ربما يرى الكبير صغيرًا والصغير كبيرًا، والقريب بعيدًا والبعيد قريبًا، والمتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، والمستوي معوجًا والمعوج مستويًا.
وقال آخرُ: إن جوهر النفس لما كان مجانسًا ومشاكلًا للأعداد التأليفية وكانت نغماتُ ألحان الموسيقار موزونة وأزمان حركات نقراتها وسكونات ما بينها متناسبة؛ استلذت بها الطباعُ، وفرحتْ بها الأرواحُ، وسُرَّت بها النفوس؛ لما بينها من المشاكلة والتناسُب والمجانسة، وهكذا حكمها في استحسان الوجوه وزينة الطبيعيات؛ لأن محاسن الموجودات الطبيعية هي من أجل تناسب صنعتها وحسن تأليف أجزائها.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار الناظرين إلى الوجوه الحسان؛ لأنها أثرٌ مِنْ عالم النفس؛ ولأن عامةَ المرئيات في هذا العالم غير حسان؛ لما يعرض لها من الآفات المشينة المشوهة، إما في أصل التركيب أو بعده، وبيان ذلك أن الصِّغَار من المواليد يكونون أَلْطَفَ بنيةً وأظرف شكلًا وصورة؛ لقرب عهدها من فراغ الصانع منها، وهكذا حُكم ما يرى مِنْ حسن الثياب ورونقها في مبدأ كونها قبل الآفات العارضة لها من الهوام والبلى والفساد.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار النفوس الجزئية نحو المحاسن اشتياقًا إليها؛ لما بينها من المجانسة؛ لأن محاسنَ هذا العالم من آثار النفس الكلية الفلكية.
وقال آخر: إن وزن نقرات وتر الموسيقار وتناسُب ما بينها ولذيذ نغماتها؛ تنبئُ النفوسَ الجزئيةَ بأن لحركات الأفلاك والكواكب نغماتٌ متناسبةٌ مؤتلفةٌ لذيذة.
وقال آخر: إذا تصورت رسوم المحسوسات الحسان في الأنفس الجزئية؛ صارت هذه مشاكلة ومناسبة للنفس الكلية ومشتاقةً نحوها ومتمنية لِلُّحُوق بها، فإذا فارقت الهيكل الجسداني ارتقتْ إلى ملكوت السماء ولحقت بالملأ الأعلى، وعند ذلك أيقنت بالبقاء، وأمنت من الفناء، ووجدت لذةَ العيش صفوًا، فقال قائلٌ منهم: وما الملأ الأعلى؟ فقال: أهلُ السماوات وسكان الأفلاك، فقال: أنى لهم السمع والبصر؟ فقال: إن لم يكن في عالم الأفلاك وسعة السماوات مَن يرى تلك الحركات المنظمة، وينظر إلى تلك الأشخاص الفاضلة، ويسمع تلك النغمات اللذيذة الموزونة، فقد فعلت الحكمة إذن شيئًا باطلًا، ومن المقدمات المتفق عليها بين الحكماء أن الطبيعة لم تفعل شيئًا باطلًا لا فائدة فيه.
وقال آخر: إن لم يكن في فضاء الأفلاك وسعة السماوات خلائقُ وسكانٌ، فهي إذن قفر خاوية، وكيف يجوز في حكمة الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — أن يترك فضاء تلك الأفلاك مع شرف جواهرها فارغًا خاويًا قفرًا بلا خلائق هناك، وهو لم يترك قُعُور البحار المالحة المرة المظلمة فارغًا حتى خلق في قعرها أجناس الحيوانات من أنواع الأسماك والحيتان وغيرها؛ ولم يترك جو هذا الهواء الرقيق حتى خلق له أجناس الطيور تسبح فيه كما تسبح الأسماك والحيتان في المياه ولم يترك البراري اليابسة والآجام الوحلة والجبال الراسية حتى خلق فيها أجناسَ السباع والوحوش، ولم يترك ظلمات التراب وأجناس النبات والحب والثمر حتى خلق فيها أجناسَ الهوام والحشرات.
وقال آخر: إن أجناس هذه الحيوانات التي في هذا العالم إنما هي أشباحٌ ومثالاتٌ لتلك الصور والخلائق التي في عالم الأفلاك وسعة السماوات، كما أن النقوش والصور التي على وُجُوه الحيطان والسقوف أشباحٌ ومثالاتٌ لصور هذه الحيوانات اللحمية، وإن نسبة الخلائقِ اللحمية إلى تلك الخلائق التي جواهرُها صافية كنسبة هذه الصور المنقشة المزخرفة إلى هذه الحيوانات اللحمية الدموية.
وقال آخر: إن كانت هناك خلائقُ وليس لهم سمع ولا بصر ولا عقل ولا فهم ولا نطق ولا تمييز؛ فهم إذن صم بكم عمي، وقال آخر: فإن كان لهم سمع وبصر، وليس هناك أصواتٌ تسمع ولا نغمات تلذ؛ فسمعهم وبصرهم إذًا باطل لا فائدة فيه، فإن لم يكن لهم سمعٌ وبصرٌ وهم يسمعون ويبصرون فهم إذن أشرفُ وأفضل مما ها هنا؛ لأن تلك الجواهر هي أصفى وأنور وأَشَفُّ وأتم وأكمل، وقال آخر: إنما استخرجت هذه الألحان الموسيقية التي ها هنا مماثلة لِمَا هناك كما عملت الآلات الرصدية مثل الأسطرلاب والرباب والبنكان وذوات الحلق مماثلة لما هناك.
وقال آخر: إن لم تكن تلك المحسوسات التي هناك أشرف وأفضل مما ها هنا، ولم يكن للنفوس إليها وصول فترغيب الفلاسفة في الرجوع إلى عالم الأرواح وترغيب الأنبياء — عليهم السلام — وتشويقهم إلى نعيم الجنان إذن باطل وزور وبهتان ومعاذ الله من ذلك! فإنْ توهم متوهمٌ أو ظن ظانٌّ أو قال مجادل: إن الجنان هي من وراء هذه الأفلاك وخارجة من فسحة السماوات؛ قيل له: وكيف تطمع في الوصول إليها إن لم تصعد أولًا إلى ملكوت السماوات وتجاوز سع الأفلاك؟ ويقال: إنه إذا هبت نسيم الجنان بالأسحار تحركت أشجارها، واهتزتْ أغصانُها، وتخشخشت أوراقها، وتناثرت ثمارها، وتلألأت أزهارُها، وفاحتْ روائحُها، فلو عاين أهلُ الدنيا منها نظرة واحدة لَمَا تَلَذَّذُوا بالحياة في الدنيا بعد ذلك أبدًا، فلِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وبذلك فليفرحوا، هو خيرٌ مما يجمعون، والفلاسفة تسمِّي الجنة «عالم الأرواح».
(١٤) فصل في تلون تأثيرات الأنغام
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن تأثيرات نغمات الموسيقار في نُفُوس المستمعين مختلفةُ الأنواع، ولذةُ النفوس منها وسرورها بها متفننةٌ متباينة؛ كل ذلك بحسب مراتبها في المعارف وبحسب معشوقاتها المألوفة من المحاسن، فكُلُّ نفس إذا سمعتْ من الأوصاف ما يُشاكل معشوقاتها، ومن النغمات ما يلائم محبوبها؛ فرحت وسُرَّتْ والتذَّتْ بحسب ما تصورت من رسوم معشوقها، واعتقدت في محبوبها حتى ربما وقع النكير من الآخرين إذا لم يعرفوا مذهبه ولا ما قصد نحوه، والمثال في ذلك ما يُحكى أن رجلًا من أهل الوجد من المتصوفة سمع قارئًا يقرأ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فاستعادها من القارئ مرارًا وجعل يقول: كم أقول لها ارجعي فليس ترجع، وتواجد وزعق وصعق صعقة فخرجت روحه، وسمع آخر رجلًا يقرأ: فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، فاستعادها وزعق وصعق فخرجت روحه، فقال أهل الوجد: إنما حمل معنى قوله جزاؤه من وجد في رحله أن المحبوب هو جزاء الحبيب؛ لأنه هو الموجود في رحله، يعنون أن صورة المحبوب مصورة في نفس الحبيب ورسوم شكله منقوشة في قلبه فذلك جزاؤه، ألا ترى يا أخي كيف حمل معنى القول على مذهبه ومقصده مع شهرة معنى الآية في الظاهر.
وآخر سمع قول القائل وهو يغني:
فاستفزه القولُ واللحنُ وتواجد وجعل يكرره ويجعل مكان التاء نونًا ويقول: غدًا نزور حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور، فلما أفاق سئل عن وجده مِمَّ كان؟ فقال: ذكرت قول الرسول ﷺ: إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة.
ويُروى في الخبر أَنَّ أَلَذَّ نغمة يجدها أهل الجنة وأطيب نغمة يسمعونها مناجاة الباري — جَلَّ ثناؤُهُ — وذلك قوله تعالى: تحيَّتُهم يومَ يَلْقَوْنه سَلامٌ وآخِرُ دَعْوَاهم أَنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمِين، ويقال: إن موسى عليه السلام لما سمع مناجاة ربه داخله من الفرح والسرور واللذة ما لم يتمالك نفسه حتى طرب وترنم وصغر عنده بعد ذلك كل النغمات والألحان والأصوات — وفقك الله أيها الأخ لفهم معاني هذه الإشارات اللطيفة والأسرار الخفية، وبَلَّغَكَ بلاغها وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا وأين كانوا من البلاد؛ إنه رءوفٌ بالعباد.
(تمت الرسالة الخامسة في الموسيقى، والحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.)