الرسالة السابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أيها الأخ، أيدك اله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من ذكر النسب العددية وأخبرنا بماهياتها وكمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس ووصفنا كيفية إظهارها من القوة إلى الفعل، وبَيَّنَّا أن الموضوع فيها كلها أجسامٌ طبيعيةٌ وأن مصنوعاتها كلها جواهر جسمانية، وأن أغراضها كلها عمارة الأرض لتتميم أمر معيشة الحياة الدنيا. فنُريد أن نذكر في هذه الرسالة الصنائع العلمية التي هي الموضوع فيها جواهرُ روحانيةٌ التي هي أنفس المتعلمين، ونبين أن تأثيراتها في المتعلمين كلها روحانية، كما ذكرنا في رسالة المنطق، ونبين أيضًا ماهية العلوم ونذكر كمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس ونصف أيضًا كيفية إخراج ما في قوة النفس من العلوم إلى الفعل الذي هو الغرضُ الأقصى في التعاليم، وهو إصلاحُ جواهر النفوس وتهذيب أخلاقها وتتميمها وتكميلها للبقاء في دار الآخرة التي هي دارُ الحيوان لو كانوا يعلمون، والذين يريدون الخلود في الدنيا هم الغافلون عن أمر الآخرة.
(١) فصل في مثنوية الإنسان
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال ومشتركان في الأفعال العارضة والصفات الزائلة؛ صار الإنسانُ من أجل جسده الجسماني مريدًا للبقاء في الدنيا، متمنيًا للخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالبًا للدار الآخرة، متمنيًا للبلوغ إليها.
وهكذا أكثر أُمُور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية، متضادة كالحياة والممات والنوم واليقظة والعلم والجهالة والتذكُّر والغفلة والعقل والحماقة والمرض والصحة والفجور والعفة والبخل والسخاء والجبن والشجاعة والألم واللذة، وهو مترددٌ بين الصداقة والعداوة والفقر والغنى والشبيبة والهرم والخوف والرجاء والصدق والكذب والحق والباطل والصواب والخطأ والخير والشر والقبح والحُسن وما شاكلها من الأخلاق والأفعال والأقاويل المتضادة المتباينة التي تظهر من الإنسان الذي هو جملةٌ مجموعةٌ مِنْ جسدٍ جسمانيٍّ ونفس روحانية.
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال التي عَدَدْنَا لا تنسب إلى الجسد بمجرده ولا إلى النفس بمجردها، ولكن إلى الإنسان الذي هو جملتُهما والمجموع منهما الذي هو حي ناطق مائت، فحياتُهُ ونطقُهُ من قِبَل نفسه وموتُهُ من قبل جسده، وهكذا نومه من قبل جسده ويقظته من قبل نفسه، وعلى هذا القياس سائرُ أُمُوره وأحواله المتباينات المتضادات؛ بعضها من قبل النفس، وبعضها من قبل الجسد، مثال ذلك عقله وعلمه وحلمه وتفكُّره وسخاؤُهُ وشجاعتُهُ وعفتُهُ وعدلُهُ وحكمته وصدقه وصوابه وخيره وما شاكلها من الخصال المحمودة، فكلها من قِبَل نفسه وصفاء جوهرها وأضدادها من قبل أخلاط جسده ومزاج أخلاطه.
(٢) فصل في الصفات المختصة بالجسد والنفس
واعلم يا أخي بأن الصفات المختصة بالجسد بمجرده هي أن الجسد جوهرٌ جسمانيٌّ طبيعي ذو طعم ولون ورائحة وثقل وخفة وسكون ولين وخشونة وصلابة ورخاوة، وهو متكونٌ من الأخلاط الأربعة التي هي الدمُ والبلغمُ والمرتان المتولدة من الغذاء الكائن من الأركان الأربعة التي هي النارُ والهواءُ والماء والأرض ذوات الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهو منفسد؛ أعني الجسد ومتغير ومستحيل وراجع إلى هذه الأركان الأربعة بعد الموت الذي هو مفارقة النفس الجسد وتركها استعماله.
وأما الصفات المختصة بالنفس بمجردها فهي أنها جوهرة روحانية سماوية نورانية حية بذاتها عَلَّامة بالقوة، فَعَّالة بالطبع، قابلة للتعاليم، فعالة في الأجسام، ومستعملة لها، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة لهذه الأجسام ومفارقة لها وراجعة إلى عنصرها ومعدنها ومبدئها كما كانت، إما بربح وغبطة أو ندامة وحزن وخسران، كما ذكر الله — عز وجل — بقوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، وقال — عز وجل: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فكفى بهذا يا أخي زجرًا ووعيدًا وتهديدًا وتوبيخًا ومذكرًا ونذيرًا، إن كنت منتبهًا من نوم الغفلة ومستيقظًا من رقدة الجهالة.
وأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون من الذين ذمهم رب العالمين بقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ، أفترى ذمهم من أجل أنهم لم يكونوا يعقلون أمر معيشة الدنيا؟ إنما ذمهم لأنهم لم يكونوا يتفكرون في أمر الآخرة والمعاد ولا يفقهون ما يُقال لهم من معاني أمر الآخرة وطريق المعاد، فقال: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ، وقال — عز وجل: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.
(٣) فصل في مثنوية قنية الإنسان ومثنوية الأعمال
ولما تبين أن أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية متضادة من أجل أنه جملة مجموعة من جوهرين متباينين؛ جسد جسماني ونفس روحانية، كَمَا بَيَّنَّا قبل، صارت قنيته أيضًا نوعين؛ جسمانية كالمال ومتاع الدنيا وروحانية كالعلم والدين، وذلك أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد، وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة، وبالدين يصل إليها، وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن بالأكل والشرب يُنَمَّى الجسد ويزيد ويربو ويسمن.
فلما كان هكذا صارت المجالس أيضًا اثنين؛ مجلس للأكل والشرب واللهو واللعب واللذات الجسمانية من لحوم الحيوان ونبات الأرض لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني، ومجلس للعلم والحكمة وسماع روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها، ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة، كما ذكر الله — جَلَّ ثناؤُهُ — بقوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، فلما كانت المجالسُ اثنين صار أيضًا السائلون اثنين، واحدٌ يسأل حاجة من عرض الدنيا، لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه، أو لدفع المضرة عنه، وواحدٌ يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة أو للتفقُّه في الدين؛ طلبًا لطريق الآخرة واجتهادًا في الوصول إليها، وفرارًا من نار جهنم ونجاة من عالم الكون والفساد وفوزًا بالوصول إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات والسيحان في درجات الجنان والتنفس من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن.
(٤) فصل في العلم والمعلوم والتعلُّم والتعليم وأوجه السؤال
وينبغي لطالبي العلم والباحثين عن حقائق الأشياء أن يعرفوا أولًا ما العلم وما المعلوم، وعلى كم وجه يكون السؤال وما جواب كل سؤال حتى يدروا ما الذي يسألون وما الذي يجيبون إذا سئلوا؛ لأن الذي يسأل ولا يدري أي شيء سأل فإذا أجيب لا يدري بأي شيء أجيب.
واعلم يا أخي بأن العلم إنما هو صورةُ المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو عدمُ تلك الصورة من النفس، واعلمْ بأن أنفس العلماء علامة بالفعل وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئًا سوى إخراج ما في القوة؛ يعني: الإمكان، إلى الفعل؛ يعني الوجود، فإذا نسب ذلك إلى العالم سُمي تعليمًا، وإن نسب إلى المتعلم سمي تعلمًا.
واعلم بأن السؤالات الفلسفية تسعةُ أنواع مثل تسعة آحاد: أولها هل هو؟ والثاني ما هو؟ والثالث كم هو؟ والرابع كيف هو؟ والخامس أي شيء هو؟ والسادس أين هو؟ والسابع متى هو؟ والثامن لم هو؟ والتاسع من هو؟ تفسيرها: هل هو سؤال يبحث عن وجدان شيء أو عن عدمه؟ والجواب نعم أوْ لا. وقد بَيَّنَّا معنى الوجود والعدم في رسالة العقل والمعقول، وما هو سؤال يبحث عن حقيقة الشيء وحقيقة الشيء تُعرف بالحد أو بالرسم، ذلك أن الأشياءَ كلها نوعان مركبٌ وبسيط، فالمركب مثل الجسم، والبسيط مثل الهيولى والصورة، وقد بينا معناهما في رسالة الهيولى.
والأشياءُ المركبةُ تُعرف حقيقتُها إذا عرفت الأشياء التي هي مركبةٌ منها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقةُ الطين؟ فقال: تراب وماء مختلطان، وهكذا إذا قيل: ما حقيقة السكنجبين؟ فيقال: خلٌّ وعسلٌ ممزوجان، وعلى هذا القياس كُلُّ مركب إذا سُئل عنه، فيحتاج أن يذكر الأشياء التي هو مركبٌ منها وموصوفٌ بها، والحكماء يسمون مثل هذا الوصف الحد، ومن أجل هذا قالوا في حد الجسم: إنه الشيء الطويل العريض العميق، فقولهم: الشيء إشارة إلى الهيولى، وقولهم: الطويل والعريض والعميق إشارة إلى الصورة؛ لأن حقيقة الجسم ليست بشيء غير هذه التي ذكرت في حده، وهكذا قولهم في حد الإنسان: إنه حي ناطق مائت، فقولهم: حي ناطق يعنون به النفس، ومائت يعنون به الجسد؛ لأن الإنسان هو جملةٌ مجموعةٌ منهما؛ أعني: جسدًا جسمانيًّا ونفسًا روحانية، وعلى هذا القياس تُعرف حقائقُ الأشياء المركبة من شيء.
وأما الأشياء التي ليست مركبةً من شيء بل مخترعة مبدعة كما شاء باريها وخالقها تعالى فحقيقتُها تُعرف من الصفات المختصة بها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقةُ الهيولى؟ فيقال: جوهرٌ بسيطٌ قابلٌ للصورة لا كيفية فيه البتة، وإذا قيل: ما الصورة؟ فيُقال: هي التي يكونُ الشيءُ بها ما هو، فمثلُ هذا الوصف تُسَمِّيهِ الحكماءُ الرسم، والفرق بين الحد والرسم أَنَّ الحد مأخوذٌ من الأشياء التي المحدود مركب منها — كَمَا بَيَّنَّا — والرسم مأخوذٌ من الصفات المختصة بالرسوم.
وفرق آخرُ: أن الحد يخبرك عن جوهر الشيء المحدود ويميزه عَمَّا سواهُ، والرسم يميز لك المرسوم عما سواه حسب، فينبغي لك أيها الأخ البارُّ الرحيمُ، أيدك الله وإيانا بروح منه، إذا سئلتَ عن حقيقة شيءٍ من الأشياء أن لا تستعجل بالجواب بل تنظر هل ذلك الشيءُ المسئولُ عنه مُرَكَّبٌ أم بسيط حتى تجيب بحسب ذلك، وأما كم هو؟ فسؤال يبحثُ عن مقدار الشيء.
والأشياءُ ذواتُ المقادير نوعان متصلٌ ومنفصلٌ، فالمتصلُ خمسة أنواع: الخطُّ والسطحُ والجسمُ والمكانُ والزمانُ، والمنفصل نوعان: العدد والحركة، وهذه الأشياء كلها يقال فيها: كم هو؟ وقد بينا ماهية العدد في رسالة الأرثماطيقي وماهية الحركة والزمان والمكان والجسم في رسالة الهيولى، وماهية الخط والسطح في رسالة الهندسة، وأما كيف هو؟ فسؤال يبحث عن صفة الشيء، والصفاتُ كثيرة الأنواع، وقد بيناها في رسالة شرح المقولات العشر التي كل واحدة منها جنسُ الأجناس، وأما أي شيء هو؟ فسؤالٌ يبحثُ عن واحد من الجملة أو عن بعضٍ من الكل.
مثال ذلك إذا قيل: طلع الكوكب، فيقال: أي كوكب هو؟ لأن الكواكب كثيرةٌ، وأما إذا قيل: طلعت الشمس، فلا يقال أي شمس هي؟ إذ ليس من جنسها كثرة وكذلك القمر، وأما أين هو؟ فسؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن رتبته، والفرقُ بينهما أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكلها، مثال ذلك إذا قيل: أين زيد؟ فيقال: في البيت أو في المسجد أو في السوق أو في موضع آخر، وأما المحل فهو صفةٌ للعرض، والعرضُ نوعان: جسماني وروحاني، فالأعراضُ الجسمانية حالةٌ في الأجسام، مثال ذلك إذا قيل: أين السواد؟ فيقال: حالٌّ في الجسم الأسود وهكذا الألوان كلها والطعوم والروائح حالةٌ في الأجسام ذات الطعم واللون والرائحة، وهكذا حُكْمُ جميع الأعراض الجسمانية.
وأما الأعراض الروحانية فحالة في الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين العلم؟ فيقال: حال في نفس العالم، وكذلك السخاء والشجاعة والعدل وما شاكلها من الصفات حالة في النفس وهكذا حكم أضدادها، وقد ظن كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس ولا معرفة بجوهرها أن هذه الأعراض حالة في الجسم؛ كل واحد في محل مختص، مثال ذلك ما قالوا: إن العلم في القلب والشهوة في الكبد والعقل في الدماغ والشجاعة في المرارة والجبن في الطحال، وعلى هذا القياس سائر الأعراض، وقد بينا نحن أن هذه الأعضاء آلاتٌ وأدواتٌ للنفس تظهرُ بها ومنها في الجسد هذه الأفعالُ والأخلاق في رسالة تركيب الجسد.
وأما الرتبة فهي من صفات الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين النفس؟ فيقال: هي دون العقل وفوق الطبيعة، وهكذا إذا قيل: أين الخمسة من العدد؟ فيُقال: بعد الأربعة وقبل الستة، وعلى هذا القياسِ حُكْمُ الجواهر الروحانية التي لا توصف بالمكان ولا بالمحل، ولكن بالرتبة — كَمَا بَيَّنَّا في رسالة المبادئ العقلية.
وأما متى هو؟ فسؤالٌ يبحث عن زمان كون الشيء. والأزمان ثلاثة؛ ماضٍ مثل أمس، ومستقبل مثل غد، وحاضر مثل اليوم، وهكذا حكم السنين والشهور والساعات، وقد بيَّنا ماهية الزمان واختلاف أقاويل العلماء في ماهيته في رسالة الهيولى، وأما لِمَ هو؟ فسؤالٌ يبحث عن علة الشيء المعلول.
واعلمْ يا أخي بأن لكل معلول صناعي أربعُ علل؛ إحداها علة هيولانية، والثانية علة صورية، والثالثة علة فاعلية، والرابعة علة تمامية، مثال ذلك الكرسي والباب والسرير، فإن العلة الهيولانية فيها الخشب، والعلة الصورية الشكل والتربيع، والعلة الفاعلية النجار، والعلة التمامية للكرسي القعود عليه، وللسرير النوم عليه، وللباب ليغلق على الدار. وعلى هذا القياس كُلُّ معلولٍ لا بد له من هذه الأربع العلل، فإذا سئلتَ عن علة شيء فاعرفْ أولًا عن أيها تسأل؛ حتى يكون الجوابُ بحسب ذلك.
وأما من هو؟ فسؤالٌ يبحث عن التعريف للشيء، ويقول علماءُ النحو: إن هذا السؤال لا يَتَوَجَّهُ إلا إلى كل ذي عقل، ويقول قومٌ آخرون: إلى كل ذي علمٍ وتمييز، والجوابُ فيه أنْ يعرف السؤال بأحد ثلاثة أشياء، إما أن يُنسب إلى بلده، أو إلى أصله، أو إلى صناعته، مثال ذلك إذا قيل: من زيد؟ فيقال: البصري، ينسب إلى بلده، والهاشمي إلى أصله، والنجار إلى صناعته.
فهذه جملةٌ مختصرةٌ في كمية السؤالات وأجوبتها ومباحث العلوم والنظر في حقائق الأشياء شبه المدخل والمقدمات؛ ليقرب مِنْ فَهْمِ المتعلمين النظر في المنطق الفلسفي، وليوقفوا عليها قبل النظر في إيساغوجي الذي هو المدخل إلى المنطق الفلسفي.
(٥) فصل في أجناس العلوم
وإذ قد فرغنا مِنْ ذِكْرِ ماهيةِ العُلُوم وأنواع السؤالات وما يقتضي كل واحد من الأجوبة فنريد أن نذكر أجناسَ العلوم وأنواعَ تلك الأجناس؛ ليكون دليلًا لطالبي العلم إلى أغراضهم وليهتدوا إلى مطلوباتهم؛ لأن رغبة النفوس في العلوم المختلفة وفنون الآداب كشهواتِ الأجسام للأطعمة المختلفة الطعم واللون والرائحة.
فاعلمْ يا أخي بأن العلومَ التي يتعاطاها البشرُ ثلاثةُ أجناس، فمنها الرياضية، ومنها الشرعيةُ الوضعيةُ، ومنها الفلسفيةُ الحقيقيةُ. فالرياضية هي علم الآداب التي وضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا، وهي تسعةُ أنواع، أولها علمُ الكتاب والقراءة، ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات، ومنها علم الشعر والعروض، ومنها علم الزجر والفأل وما يشاكله، ومنها علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما شاكلها، ومنها علم الحرف والصنائع، ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل، ومنها علم السير والأخبار.
فأما أنواعُ العُلُوم الشرعية التي وُضعت لطب النفوس وطلب الآخرة فهي ستة أنواع؛ أولها علمُ التنزيل، وثانيها علم التأويل، والثالث علم الروايات والأخبار، والرابع علم الفقه والسنن والأحكام، والخامس علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف، والسادس علم تأويل المنامات، فعلماءُ التنزيل هم القراء والحفظة، وعلماء التأويل هم الأئمةُ وخلفاء الأنبياء، وعلماء الروايات هم أصحابُ الحديث، وعلماء الأحكام والسنن هُمُ الفقهاء، وعلماء التذكار والمواعظ هم العُبَّاد والزهاد والرهبان ومن شاكلهم، وعلماء تأويل المنامات هم المعبِّرون.
وأما العلوم الفلسفيةُ فهي أربعةُ أنواع؛ منها الرياضيات ومنها المنطقياتُ ومنها الطبيعياتُ ومنها الإلهياتُ، فالرياضياتُ أربعةُ أنواع؛ أولها الأرثماطيقي وهو معرفة ماهيةِ العدد وكمية أنواعه وخواص تلك الأنواع وكيفية نشوئها من الواحد الذي قبل الاثنين وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض.
والثاني الجومطريا وهو الهندسة وهي معرفةُ ماهية المقادير ذوات الأبعاد وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض وكيفية مبدئها من النقطة التي هي رأس الخط، وهي في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد.
والثالث الأسطرنوميا وهي النجوم، وهي معرفةُ كمية الأفلاك والكواكب والبروج وكمية أبعادها ومقادير أجرامها وكيفية تركيبها وسرعة حركاتها وكيفية دورانها وماهية طبائعها وكيفية دلائلها على الكائنات قبل كونها، والرابعُ الموسيقى الذي هو علم التأليف، وهو معرفةُ ماهية النسب وكيفية تأليف الأشياء المختلفة الجواهر المتباينة الصور، المتضادة القوى، المتنافرة الطبائع كيف تجمع ويؤلف بينها؛ كيما لا تتنافر وتأتلف وتتحد وتصير شيئًا واحدًا، وتفعل فعلًا واحدًا أو عدة أفعال، وقد عملنا في كل صناعة من هذه الصناعات رسالةً شبه المدخل والمقدمات.
والعلوم المنطقيات خمسة أنواع؛ أولها أنولوطيقيا وهي معرفة صناعة الشعر، والثاني ديطوريقيا وهي معرفة صناعة الخطب، والثالث طوسيقا وهي معرفة صناعة الجدل، والرابع يولوطيقا وهي معرفةُ صناعة البرهان، والخامس سوفسطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل، وقد تكلم الحكماءُ الأَوَّلُون والمتأخرون في هذه الصنائعِ والعلومِ، وصَنَّفُوا فيها كُتُبًا كثيرة، وهي موجودةٌ في أيدي الناس.
وقد عمل أرسطاطاليس ثلاثةَ كتب أخر وجعلها مقدماتٍ لكتاب البرهان؛ أولها قاطيغورياس والثاني باريميناس والثالث أنولوطيقيا الأولى، وإنما جعل عنايته أكثرها بكتاب البرهان؛ لأن البرهان ميزان الحكماء يعرفون به الصدق من الكذب في الأقوال والصواب من الخطأ في الآراء والحق من الباطل في الاعتقادات والخير من الشر في الأفعال، كما يَعرف جمهور الناس بالموازين والمكاييل والأذرع؛ تقدير الأشياء الموزونة والمكيلة والمذروعة إذا اختلفوا في حزرها وتخمينها، فهكذا العلماء العارفون بصناعة البرهان يعرفون بها حقائقَ الأشياء إذا اختلف فيها حزر العقول وتخمين الرأي كما يعرف الشعراء العروضيون استواءَ القوافي وانزحافها إذا اختلف فيه بصناعة العروض الذي هو ميزانُ الشعر.
وقد عمل فرقوريوس الصوري كتابًا وسماه إيساغوجي، وهو المدخلُ إلى صناعة المنطق الفلسفي، ولكن من أجل أنهم طَوَّلُوا الخطب فيها ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن عارفًا بها وبمعانيها انغلق على الناظرين في هذه الكتب فَهْمُ معانيها وعَسُرَ على المتعلمين أخذها، وقد عملنا في كل واحدةٍ من هذه الصنائعِ رسالةً ذكرنا فيها نكت ما يحتاج إليه وتركنا التطويل.
لكن نريد أن نذكر غرض ما في كل رسالة منها ها هنا؛ ليكون من ينظر فيها قد عرف غرض كل صناعة من هذه قبل النظر فيها، فنقول: أما غرض ما في إيساغوجي فهو معرفةُ معاني الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفةُ في أقاويلها، وهو قولهم: الشخص والنوع والجنس والفصل والخاصة والعرض وماهية كل واحد منها وكيفية اشتراكاتها وماهية رسومها التي تميز بعضها من بعض وكيفية دلالاتها على المعاني التي في أفكار النفوس.
وأما غرضُ قاطيغورياس فهو معرفةُ معاني العشرة ألفاظ التي كل واحدة منها يقال لها: جنس الأجناس، وإن واحدًا منها جوهر وتسعة أعراض وماهية كل واحد منها وكمية أنواعها ورسم كل واحد منها المميز لها بعضها من بعض، وكيفية دلالتها على جميع المعاني التي في أفكار النفوس.
وأما غرض ما في باريمنياس فهو معرفة تلك العشرة الألفاظ التي هي في قاطيغورياس، وما تدلُّ عليه من المعاني عند التركيب حتى تصير كلماتٍ وقضايا، ويكون منها الصدقُ والكذب، وأَمَّا غرضُ ما في أنولوطيقا الأولى فهو معرفةُ كيفية تركيب تلك الألفاظ مرة أخرى؛ حتى يكون منها مقدماتٍ وكمية أنواعها وكيف تُستعمل حتى يكون منها شيءٌ محسوسٌ واقتران القضايا ونتائجها. وأما غرضُ ما في أنولولطيقا الثانية فهو معرفة كيفية استعمال القياس الحق والبرهان الصحيح الذي لا خطأ فيه ولا زلل.
وأما العلوم الطبيعية فهي سبعة أنواع؛ أولها علم المبادئ الجسمانية وهي معرفة خمسة أشياء: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة، وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، والثاني علم السماء والعالم وهو معرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلة دورانها وهل تقبل الكون والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر أم لا؟ وما علة حركات الكواكب واختلافها في السرعة والإبطاء؟ وما علة حركة الأفلاك؟ وما علة سكون الأرض في وسط الفلك في المركز؟ وهل خارج العالم جسمٌ آخرُ أم لا؟ وهل في العالم موضعٌ فارغٌ لا شيء فيه؟ وما شاكل ذلك من المباحث.
والثالثُ علم الكون والفساد، وهو معرفةُ ماهيةِ جواهر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض وكيف يستحيل بعضُها إلى بعضٍ بتأثيرات الأشخاص العالية، ويكونُ منها الحوادثُ والكائناتُ من المعادن والنبات والحيوان، وكيف تستحيلُ إليها راجعة عند الفساد.
والرابع علم حوادث الجو، وهو معرفةُ كيفيةِ تغييرات الهواء بتأثيرات الكواكب بحركاتها ومطارح شعاعاتها على هذه الأركان وانفعالاتها منها وخاصة الهواء؛ فإنه كثيرُ التلوُّن والتغير من النور والظلمة والحر والبرد وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبروق والرعود والشهب والصواعق وكواكب الأذناب وقوس قزح والزوابع والهالات وما شاكلها مما يحدث فوق رءوسنا من التغييراتِ والحوادث.
والخامسُ علمُ المعادن، وهو معرفةُ الجواهر المعدنية التي تنعقد من البخارات المحتقنة في باطن الأرض، والعصارات المنعقدة في الأهوية وكهوف الجبال، وقعور البحار من العقاقير والجواهر من الكباريت والزوابيق والشبوب والأملاح والنوشادر والذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأسرب والكحل والزرنيخ والبلور والياقوت والبازهرات وما شاكلها، ومعرفة خواصها ومنافعها ومضارها.
والسادس علم النبات، وهو معرفةُ كل نبت يُغرس أو يُبذر أو يَنبت على وجه الأرض أو في رءوس الجبال أو قعر المياه أو شطوط الأنهار من الأشجار والزروع والبقول والحشائش والعشب والكلاء ومعرفة كمية أنواعها وخواص تلك الأنواع ومواضع منابتها من البقاع وكيفية امتداد عروقها في الأرض وارتفاع فروعها وأُصُولها في الهواء؛ وانبساطها على وجه الأرض وتفرق فروعها في الجهات وأشكال أغصانها من الطول والقصر والدقة والغلظ والاستقامة والاعوجاج. وكيفية أشكال أوراقها من السعة والضيق واللين والخشونة وألوان أزهارها وأصباغ أنوارها وكيفية صور ثمارها وحبوبها وبذورها وصموغها وطعومها وروائحها وخواصها ومنافعها ومضارها واحدًا واحدًا.
والسابع علمُ الحيوان، وهو معرفةُ كل جسم يغتذي وينمى ويحس ويتحرك مما يمشي على وجه الأرض أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء أو يدب في التراب أو يتحرك في جوف جسم آخر كالديدان في جوف الحيوان وفي لب النبات والثمر والحبوب وما شاكلها، ومعرفة كمية أجناسها وأنواع الأجناس وخواص تلك الأنواع ومعرفة كيفية تَكَوُّنها في الأرحام أو في البيض أو في العفونات؛ ومعرفة كيفية تأليف أعضائها وتركيب أجسادها واختلاف صورها وائتلاف أزواجها وفنون أصواتها ومنافرة طباعها وتباين أخلاقها وتشاكل أفعالها ومعرفة أوقات هيجانها وسفادها واتخاذ أعشاشها ورفقها بتربية أولادها وتحننها على صغار نتاجها ومعرفتها بمنافعها ومضارها وأوطانها وأربابها وأعدائها ومعارفها، وما شاكل ذلك.
فالنظرُ في هذه كلها والبحثُ عنها يُنسب إلى العلوم الطبيعيات، وكذلك علم الطب والبيطرة وسياسة الدواب والسباع والطيور والحرث والنسل وعلم الصنائع أجمع داخلٌ في الطبيعيات.
(٦) فصل في العلوم الإلهية
والعلومُ الإلهيةُ خمسةُ أنواع: أولها معرفةُ الباري — جَلَّ جلالُهُ — وعم نواله وصفة وحدانيته وكيف هو علة الموجودات وخالق المخلوقات وفائض الجود ومعطي الوجود ومعدن الفضائل والخيرات وحافظ النظام ومبقي الدوام ومدبر الكل وعالم الغيب والشهادة لا يعزبُ عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء، وأول كل شيء ابتداءً وآخر كل شيء انتهاءً وظاهر كل شيء قدره وباطن كل شيء علمًا، وهو السميع العليم اللطيف الخبير الرءوف بالعباد، عز شأنه، وجَلَّتْ قدرتُهُ، وتعالى جَدُّه، وجل ثناؤه، ولا إله غيره، تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
والثاني علمُ الروحانيات وهو معرفةُ الجواهر البسيطة العقلية العَلَّامة الفَعَّالة التي هي ملائكةُ الله، وخالص عباده وهي الصورُ المجردةُ من الهيولى، المستعملة للأجسام المدبرة بها لها ومنها أفعالها ومعرفة كيفية ارتباط بعضها ببعض وفيض بعضها على بعض، وهي أفلاكٌ روحانيةٌ محيطاتٌ بالأفلاك الجسمانية.
والثالث علم النفسانيات، وهي معرفةُ النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض ومعرفة كيفية إداراتها للأفلاك وتحريكها للكواكب وتربيتها للحيوان والنبات وحلولها في جُثث الحيوانات وكيفية انبعاثها بعد الممات.
والرابعُ علم السياسة وهي خمسةُ أنواع: أولها السياسةُ النبوية، والثاني السياسة الملوكية، والثالث السياسة العامية، والرابع السياسة الخاصية، والخامس السياسة الذاتية.
فأما السياسةُ النبويةُ فهي معرفةُ كيفية وضع النواميس المرضية والسنن الزكية بالأقاويل الفصيحة ومداواة النفوس المريضة من الديانات الفاسدة والآراء السخيفة والعادات الردية والأفعال الجائرة ومعرفة كيفية نقلها من تلك الأديان والعادات، ومحو تلك الآراء عن ضمائرها بذكر عيوبها ونشر تزييفها ومداواتها من سقام تلك الآراء وتلك العادات بالحمية لها من العود إليها وشفائها بالرأي المرضي والعادات الجميلة والأعمال الزكية والأخلاق المحمودة بالمدح لها والترغيب في جزيل الثواب يوم المآب.
وكيفية سياسة النفوس الشريرة بصدودها عن قصد سبيل الرشاد وسلوكها في وعور طرق الغي والتمادي بالقمع لها والزجر والوعيد والتوبيخ والتهديد؛ لترجع إلى سبل النجاة وترغب في جزيل الثواب ومعرفة كيفية تنبيه الأنفُس اللاهية والأرواح الساهية من طول الرقاد ونسياها ذكر المعاد، والإذكار لها عهد يوم الميثاق؛ لئلا يقولوا ما جاءنا من رسول ولا كتاب، وهذه السياسةُ تختص بها الأنبياء والرسل — صلوات الله عليهم.
وأما السياسة الملوكية فهي معرفةُ حفظ الشريعة على الأمة، وإحياء السنة في الملة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإقامة الحُدُود وإنفاذ الأحكام التي رسمها صاحب الشريعة، ورد المظالم وقمع الأعداء وكف الأشرار ونصرة الأخيار، وهذه السياسة يختص بها خلفاء الأنبياء — صلوات الله عليهم — والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
وأما السياسة العامية التي هي الرياسة على الجماعات كرياسة الأمراء على البلدان والمدن، ورياسة الدهاقين على أهل القرى، ورياسة قادة الجوش على العساكر وما شاكلها؛ فهي معرفةُ طبقات المرءوسين وحالاتهم وأنسابهم وصنائعهم ومذاهبهم وأخلاقهم وترتيب مراتبهم ومراعاة أُمُورهم وتفقُّد أسبابهم وتأليف شملهم والتناصُف بينهم وجمع شتاتهم واستخدامهم في ما يصلحون له من الأُمُور واستعمالهم في ما يشاكلهم مِنْ صنائِعِهم وأعمالهم اللائقة بواحدٍ واحد منهم.
وأما السياسة الخَاصية فهي معرفةُ كل إنسان كيفية تدبير منزله وأمر معيشته ومراعاة أمر خَدَمِهِ وغلمانه وأولاده ومماليكه وأقربائه، وعشرته مع جيرانه وصحبته مع إخوانه وقضاء حقوقهم، وتفقد أسبابهم والنظر في مصالحهم من أُمُور دنياهم وآخرتهم.
وأما السياسة الذاتية فهي معرفةُ كل إنسان نفسه وأخلاقه وتفقد أفعاله وأقاويله في حال شهواته وغضبه ورضاه والنظر في جميع أُمُوره.
والخامس علم المعاد وهو معرفة ماهية النشأة الأُخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظُلمة الأجساد وانتباه النفوس من طُول الرقاد وحشرها يوم المعاد وقيامها على الصراط المستقيم وحشرها لحساب يوم الدين ومعرفة كيفية جزاء المحسنين وعقاب المسيئين.
وقد عملنا في كل فصل من هذه العلوم التي تقدم ذكرها رسالةً، وذكرنا فيها طرفًا من تلك المعاني وأتممناها بالجامعة؛ ليكون تنبيهًا للغافلين وإرشادًا للمريدين وترغيبًا للطالبين ومسلكًا للمتعلمين، فكن به يا أخي سعيدًا، واعرض هذه الرسالة على إخوانك وأصدقائك، ورَغِّبْهُم في العلم، وزَهِّدْهُم في الدنيا، ودُلَّهم على طريق الآخرة؛ فإنك بذلك تنالُ الزُّلْفى من الله تعالى، وتستوجبُ رضوانه، وتفوز بسعادة الآخرة، وتبلغ به المرتبة العُليا كما دل عليه قول النبي — عليه السلام: «الدال على الخير كفاعله.»
واعلم يا أخي بأن هذه الطريقة هي التي سلكها الأنبياء — صلوات الله عليهم — واتبعهم عليها الأخيارُ الفُضلاء من العلماء والحكماء، فاجتهدْ لعلك تحشر في زمرتهم كما وعد الله تعالى، فقال:فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، وفقك الله وإيانا أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك سبيل الرشاد.