حاجة البشر إلى الاجتماع وأن دعامته الدين
من البديهي أن الإنسان يستحيل عليه الاستغناء عن مشاركة من سواه من بني الطينة البشرية حتى في أدنى الأعمال التي هي من ضروريات الحياة، وإلا لكان كالسائمة يأكل مما تنبت الأرض ويشرب مما تمطر السماء دون افتقار منه إلى الألفة الاجتماعية التي هي من بواعث العقل الذي فضل الله به الإنسان على سائر الحيوان، لهذا فالإنسان منذ فُطِر عقلًا شعر بالحاجة إلى الاجتماع الذي به قوام الحياة الأدبية، فافترق إلى جماعات وأقوام كانت في أبسط أطوارها خاضعةً لحكم النظام الاجتماعي ولو بما يُسمى بالعصبية.
ولا ريب أن الاجتماع على صورته المذكورة غير جدير بالاعتبار الكمالي في جانب الحاجة إلى التآلف العمومي والاجتماع المدني، لهذا افتقرت الشعوب مع التمادي والتدريج واتساع دائرة المعاملات الدنيوية إلى روابط أعم من العصبية، تجمع إليها شتات القوى المتوزعة وتضم إلى سلسلتها حلقات الأقوام المتفرقة، التماسًا للتعاون الذي هو علة النمو والبقاء، وتدرجت في مهد الزمان عواطف الشعور البشري بالحاجة إلى القوة الوازعة التي تصان في جانبها حقوق الأفراد باعتبار الأعمال المشتركة والشخصية، والجماعات باعتبار الحقوق القومية والعلائق الجوارية، وذلك لأن تنوع العناصر البشرية الداعي لتعدد المطامع والغايات بين أصناف الإنسان لمَّا كان من شأنه إيجاد المنازعات الشخصية والمشاحنات القومية التي تضر بالعمران وتأخذ على البشر سبل الترقي في الحياة الاجتماعية في كل آن، فكان من الضرورة وجود قوة معنوية تجذب أطراف الشعوب إلى نقطة جامعة، تستحيل بها العصبية الجنسية إلى رابطة عمومية، يترتب عليها توحيد الكلمة وتوثيق عرى التأليف والاجتماع وتوطد دعائم النظام المدني الكافل بدوام الترقي البشري على صراط الحكمة والعلم.
ومن البديهي أن تلك الروابط المفتقر إليها جماعات الإنسان وهذه القوة المعنوية التي يرتاح إليها الجنان إنما هي الشرائع الإلهية التي تجمع الشعوب على كلمة الألفة والحب وتوثق بينهم عرى الإخاء والمساواة، وترشدهم إلى الطاعة التي هي أساس الشرائع الداعية إلى انتظام الأحوال وتبادل الأيدي على الأعمال، فالشرائع ضرورية للبشر بمقدار حاجتهم إلى الاجتماع.
ومن المقرر أن خضوع جماعات من الإنسان مختلفي العناصر والأجناس لسلطة واعية ونظام شامل أمر يصعب حصوله، ما لم يكن أولى بصالحهم الاجتماعي الأعم، ولما تحقق عند البشر مع التمادي والتدريج أن الشرائع الإلهية هي ذلك الوجه الكافل براحة الاجتماع العمومي، وأن خضوعهم لشرائعه تعالى، وانقيادهم لكلمتها الجامعة أمر لا بد منه في جانب مصلحة المجتمعات القائمة بالتعاون والاتحاد اللذين يترتب عليهما نمو الحياة الأدبية وبقاء النوع كان تمسكهم بمبدأ التآلف الاجتماعي تحت جامعة الأديان أمرًا مستمرًّا لم تخل منه الشعوب في كل زمان.
ولا جرم أن دعامة الاجتماع هو الدين؛ إذ به يُصان نظام الأمم من الخلل والتفريق، ويدفع خطر الفوضى والعصبيات الجنسية التي تهوي بالشعوب من الهلكة إلى مكان سحيق.