ترقي الشرائع بترقي الإنسان
من المقرر الثابت في تاريخ الإنسان أخذه بالترقي في سلم المدنية منذ العصور القديمة إلى الآن، وقد مر عليك أن روابط الأديان هي القائمة بحفظ نظام الإنسان، فلهذا كانت الشرائع الإلهية — التي على إثرها تقوم ومنها تُستنبط الشرائع الوضعية — تتوالى على الشعوب بواسطة الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، بُما يوافق المناسبات الطبيعية والترقيات التدريجية الملازمة للحضارة والعمران مع توالي الأزمان، بدليل أن ما من رسول إلَّا ويُبعث إلى قومه على فترة من الرسل فيُوحَى إليه بشريعة أرقى، تنسخ ما قبلها وتكون أجمع لضروب الأحكام التي تقتضيها سنة الترقي البشري والتقدم الاجتماعي، هذا من حيث الفروع لا من حيث الأصول؛ إذ الأصل في الشرائع الإلهية واحد وهو التوحيد، فالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لم يكن من العبث إرسالهم هكذا في أزمنة متباعدة، نهاية كل منها بداية غيره، بل سُنة الترقي وحكمة موحي الشرائع جل شأنه في هذا اقتضت ذلك؛ رعايةً لمصالح العباد المنوط حفظها بالشرائع الكافلة بانتظام النظام الاجتماعي بالنسبة لما يصادفه كل نبي من الشئون والمناسبات الطبيعية، بالإضافة إلى كل أمة وزمان، والاعتراف بهذه الحقيقة لا يفتقر لغير اطراح التشيع المذهبي ولغير النظر إليها بعين التروي والإنصاف؛ إذ حكمة التشريع على نهج الترقي المذكور قضية ثابتة حتى في الوضعيات العقلية لا يتردد في قبولها الوجدان ولا يماحك فيها إنسان فكيف بها إذا كانت من وضع الحكيم العليم بمصالح عباده أجمعين.
فشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لو كانت مع موافقتها بالوضع للمناسبات الزمانية مستوفية لشروط الدوام والاستمرار لما كان أُوحِي فيما بعد إلى موسى عليه السلام بشريعة أخرى تخالفها في كثير من الأحكام، كإباحة الجمع بين الأختين في الأولى وتحريمه في الثانية مثلًا، لا جرم أن علم الخالق تعالى بحاجة الخلق التي تختلف باختلاف الأزمنة وتترقى بترقي الشعوب هو الذي اقتضى ذلك، وإلا لاختل نظام الوجود الاجتماعي المستمد روح القوة من نور الشرائع والأديان، لهذا نرى أيضًا أن الشريعة المحمدية — الجديرة بالنظر والاعتبار لتأثيرها على النظام الاجتماعي تأثيرًا سريعًا وتلقي العقول لها بالقبول والناس بالرضا والاختيار — لما كانت خاتمة الشرائع الإلهية كان من الحكمة بلوغها درجة الكمال بالنسبة لما تقدمها من الشرائع التي لم تتجاوز حد الحاجة الاجتماعية، بالإضافة إلى أزمنة ظهورها وتبليغها بواسطة الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فالله سبحانه وتعالى لما اقتضى علمه الكريم وجود شريعة كاملة تأتلف بها القلوب ويتم بها نظام الاجتماع فتكون خاتمة شرائعه الإلهية أنزل هذه الشريعة المحمدية مهيئةً لأن تجمع أممًا مختلفةً وشعوبًا متباينةً، وارتضاها لأن تكون شرعًا قيمًا للناس كافةً، بدليل قوله تعالى خطابًا للمؤمنين أي لمن آمن بصاحب هذه الشريعة وبما جاء به وصار من أتباعه وأهل ملته من أهل الكتاب وغيرهم من الطوائف والملل الأخرى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، فمفهوم هذه الآية الشاملة في الخطاب للمسلمين ممن كان منهم من أهل الكتاب وغيرهم واضح لا يحتاج إلى زيادة تفسير وبيان.
هذا، وبالجملة فمزايا هذه الشريعة التي لا تدخل تحت الحصر لم توجد في شريعة من الشرائع السابقة، واختصاصها بتلك المزايا دون غيرها يؤيد أنها أرقى الشرائع، وبما أنها خاتمة الشرائع أيضًا، اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون كذلك وافيةً بالغرض من جميع الوجوه، فعلماء التشريع في هذا العصر الذي اتسعت فيه دائرة المعاملات المشتركة والسياسية اتساعًا فاق حد الحصر مهما توسعوا في وضع القوانين العقلية بعد تطبيقها على التجارب النظرية في المعاملات المستحدثة تراها إن لم تكن استنباطًا من الشريعة الإسلامية، فهي لا تخرج في مؤداها عن معاني الأصول في هذه الشريعة الغراء الموحاة منذ ثلاثة عشر جيلًا مضت عليها من الزمان، وهي ما زالت ولا تزال كنزًا ينضح التمدن من الأحكام كل جديد، تزان بدرره نحور العصور والحس شاهد عدل، والباحثون في أصول الشرائع من ذوي الإنصاف إذا راجعوا كتب الشريعة الإسلامية بكل تدقيق لا يخالفوننا في هذه الحقيقة حيث تتضح لهم بأجلى بيان.