القوة في الشرائع
قد علمت من مجمل ما قدمناه أن الشرائع هي الكفيلة بحفظ نظام الإنسان، وترقي المدنية والعمران، لما أنها الحد الفاصل بين الأهواء المتغالبة الناشئة عن احتكاك المقاصد بين أصناف الإنسان الميال من طبعه إلى حب الأثرة، المفطور على الشر، فهو لو أُطْلِق له العنان في ميدان المقاصد النفسية لبلغ منتهى البله، وأصبح فاقد النظام يأكل قويه الضعيف، بدليل ما يشاهد من حالة الأقوام غير المتمتعين بأنوار الشرائع الذين هم لهذا السبب أقرب إلى الحيوانية منهم إلى الإنسانية.
فالشرائع في الحقيقة هي قوام الحياة الاجتماعية وعلى وجودها تتوقف سعادة النفس البشرية، لما أنها الوازع الذي يأخذ على النفوس سبل الاندفاع وراء الأهواء، والرادع الذي يكبح جماح العواطف قسرًا عن قصد كل طريق عوجاء؛ إذ لما كان الإنسان ميالًا إلى الإطلاق عند قيد الحجر القانوني رغابًا باهتضام حقوق أخيه، وكانت الشرائع بالإضافة إلى مقصدها المعنوي بمثابة القوة التي تقف بكل فرد منه عند حد الواجب، وتعرفه من الحقوق ما كان له أو عليه كان القسر فيها من لوازم التشريع المعنوية التي تأخذ بعنان إرادة البشر عما لا ينبغي لها أن ترسل فيه، وإلا فلو عرف الإنسان طريق الواجب بالطبع فلم يتعدها، وأذعن للحق سواء كان له أو عليه لانتفت الحاجة إلى الشرائع، وانجلت روابط الاجتماع القومية، حيث تستحيل بين أصناف الإنسان إلى الرابطة النوعية فتقوم المساواة الإخائية والزواجر النفسية مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهيهات هيهات، فإنه فضلًا عن استحالة وصول الإنسان إلى هذا المقام، فهو مع علمه بضرورة الشرائع وتمتعه براحة الإيواء إلى ظلها الظليل ميال للشذوذ عنها وإن انقاد لها مع التمادي والإرشاد من حيث الوجهة الدينية فلا ينقاد لها من حيث الوجهة الدنيوية إلَّا على رغم الأميال النزاعة إلى الشر، وإلا لما احتيج في إقامة أحكام الشرائع إلى الوازع الذي يأخذ بالقوة على أيدي ذوي العبث بالحقوق، بل لكان الرجوع بالنفس إلى مجرد أمر الشارع عند كل خلاف يقع بين متخاصمين هو الحكم الفصل المغني عن القوة الحاكمة والقوة الإجرائية (التنفيذية) المنوط بهما حفظ نظام العباد وصيانة حقوق الأفراد.