في كيفية قيام الشرائع وانتشارها بين البشر
قد تعين علينا بعد ما بسطناه من أمر الشرائع وحكمة مشروعية الجهاد فيها أن نشرع ببيان كيفية امتداد الشرائع الإلهية بين البشر، وعلى أي وجه كان قيامها في الأرض، لما أن هذا هو الغرض المقصود في كلامنا على الشرائع الإلهية بسبب ما يتوهمه ويقول به فريق من الناس من أن الشريعة الإسلامية إنما قامت وانتشرت بالسيف دون غيرها من الشرائع الإلهية وعلى الخصوص الشريعتين المنتشرتين مع الشريعة الإسلامية على وجه البسيطة إلى الآن، وهما شريعتا موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والحال أنه توهم باطل نشأ عن الوقوف عند حد الظاهر من حكم مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية والنظر إلى تاريخ الفتح الإسلامي من جهة دينية دون وجهته السياسية، مع أنه ليس في مشروعية الجهاد ولا في الفتح الإسلامي ما يؤيد زعم الزاعمين بقيام الإسلام بالسيف كما سنتلوه عليك مفصلًا إن شاء الله.
ولو اعتبرنا هذا التوهم قصورًا من بعض القائلين بهذا القول لأخذهم الأمور مجردةً عن البحث والتدقيق واستسلامهم لضعف التمييز والرأي، فماذا نعتبره من البعض الآخر ممن لا يُشَك بسعة إطلاعهم وميلهم إلى التحقيق والتنقير وثقتهم من ضمائرهم بالعلم بحقيقة انتشار الدين الإسلامي، وأنه قام وانتشر بالدعوة لا بالسيف، أليس تعسفًا لا داعي إليه سوى الرغبة بستر الحقائق بغشاء من التحرير والتمويه لأمر يعلمه الله والراسخون في العلم؟ ومن العار على كل كاتب حر الضمير أن يُحرك قلمه على قرطاس ليسود به جبهة الحقائق بمداد التعسف بغية إقامة البرهان على أمر يخالفه في حقيقته الوجدان، وما لا نخال كلامنا هذا يسوء حضرة الكاتب المتستر مُناظرنا في جريدة الهلال الذي تصدى لنقض قولنا المشعر بأن الإسلام قام بالدعوة ولم يقم بالسيف؛ إذ ليس في جميع ما خطه قلمه هناك إلَّا ما يدل على خلاف ما يعتقده في نفس الأمر لاعتماده فيما قاله عن قيام الإسلام على أمور ثلاثة — سيأتي بيانها — ليس فيها حجة لمحتج، ومحاولته لإثبات ما ذهب بالمغالطة والتمويه مما يرد بالبديهة عند كل منصف حر الضمير، وهذا ما حداني للظن بأنه إنما يحاول الإشارة من طرف خفي إلى استنكار مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية، وبما أن مقام تلك الجريدة لا يساعد على الإفاضة في هذا البحث الجليل، وبث ما يكنه الضمير من بيان خطأ الكاتب فيما توهمه وذهب إليه، فقد اختتمت مُناظرتي معه بالوعد بوضع هذه الرسالة التي قصدت بها الإتيان على تفصيل ما أجملناه في الهلال الأغر، وحيث قد أبنت له فيما مر عن مزايا الشرائع الإلهية وحكمة مشروعية الجهاد فيها ما ينفي الاعتقاد باستنكار تلك المشروعية سواء في الشريعة الإسلامية أو غيرها من الشرائع الإلهية، فها أنا إتمامًا للبحث آتي على تفنيد أموره الثلاثة التي يُوهم بها قيام الإسلام بالسيف، مضيفًا إلى ذلك ما تيسر لي إيراده من الأدلة على كيفية قيام كل من الشريعة العيسوية والموسوية، وبيان أي شريعة كان قيامها بالسيف، وذلك للمقابلة بينهما وبين قيام الشريعة المحمدية، والحكم في ذلك بما يقتضيه العدل والإنصاف فأقول: أما الأمور الثلاثة التي اتخذها حضرة مُناظرنا حجةً على قيام الإسلام بالسيف: فأولها، زعمه باستعمال بعض الصحابة القوة في ردع بعض المقاومين للدعوة قبل الهجرة، وقوله: «كما يؤخذ ذلك عن واقعة حمزة بن عبد المطلب مع أبي جهل في المسجد، وبتأييد الإسلام بحمزة وعمر بن الخطاب؛ لأنهما كانا ذوي بطش وسطوة في قريش.»
والثاني: مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية.
والثالث: الفتح الإسلامي لاعتباره إياه فتحًا دينيًّا أو هو الدعوة إلى الدين.
والذي يظهر في سياق هذه الحادثة عند أدنى تأمل أن النبي ﷺ لم يطلب تأييد الإسلام بعمر ليستعين ببطشه وسطوته على نشر الإسلام كما زعمه حضرة مُناظرنا في الهلال؛ بل لأنه في منعة من عشيرته تخوله دفع الأذى عن النبي ﷺ ممن يتعمدون أذاه إذا جهر بالدعوة إلى دينه القويم، ولأنه قدوة صالحة في العرب، يثبت ذلك تتابع الناس بعد إسلامه على الدخول في الإسلام مع أن عمر رضي الله عنه لم يستعمل السيف في إسلام أحد قط، لا قبل الهجرة ولا بعدها حتى، ولا في غضون خلافته التي امتد فيها سلطان المسلمين في أطراف المعمور، وهو رضي الله عنه كان أحرص الناس على اتباع أوامر القرآن وإطلاق حرية الأديان كما تشهد بذلك وصاياه لعمال الأطراف والقواد وكتب عهده لأهل الذمة في كل صقع وناد.
هذا، وأما الأمر الثاني؛ أي مشروعية الجهاد التي اتخذها الكاتب حجةً على قيام الإسلام بالسيف استنادًا على ما أورده في الهلال من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المصرحة بمشروعية الجهاد، فقد سبق لنا القول في مُناظرتنا معه ثمة أن مشروعية الجهاد لا تكون حجةً على قيام الإسلام بالسيف، وأن تلك الآيات كانت تنزل على النبي ﷺ تباعًا على مقتضى الظروف والأحوال، كما يتضح ذلك لمن أراد الوقوف عليه من كتب التفسير المطولة فالتراجع، ونزيده بيانًا الآن أن ذلك كان بعد أن أعلن النبي ﷺ دعوته بين الناس وأخذ الإسلام ينتشر بين العرب ويزداد أهله منذ أسلم وجوه الصحابة كحمزة وعمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهم، وداخل قريشًا من هذا ما داخلهم من الحسد الذي أداهم إلى معارضة النبي ﷺ وتسفيه دعوته والبغي عليه وعلى أصحابه بما أمكنهم من الوسائل، حتى إنه لما كان يخرج في المواسم ويدعو قبائل العرب إلى الإسلام كان يتبعه أبو لهب، فإذا فرغ رسول الله ﷺ من كلامه يقول لهم أبو لهب: يا بني فلان إنما يدعوكم هذا إلى أن تستحلوا اللات والعزى من أعناقكم وخلفائكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
فلا وجه بعد هذا للاحتجاج بمشروعية الجهاد على قيام الإسلام بالسيف؛ إذ معنى قيامه بالسيف هو الإكراه على قبول الإسلام، وهذا لم يحصل لامتناعه في أصل الشريعة، ولأن الجهاد كما علمت لم يشرع لهذه الغاية، وإلا لما كان النبي ﷺ أرسل دعاته بعد الفتح — فتح مكة — يدعون القبائل حول مكة للإسلام. هذا، وقد كان لديه ذلك الجيش الذي فتح به مكة وظفر بمن كانوا أشد الناس عداوةً له وأعظمهم خطرًا على المسلمين، إلَّا أنه لما لم تكن الغاية من الجهاد إلَّا دفع أذى المشركين الذين هم أشد ضررًا على المسلمين ونكايةً فيهم وكانت قريش كذلك، كان من الضروري أن يدفع شرها عن المسلمين بالحرب ويرد بغيها عليها بالقتال والقتل، بخلاف تلك القبائل التي أرسل الله النبي ﷺ من يدعوها إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، فإنها إنما كانت تُجَاري قريشًا في بعض الأحيان رهبةً منهم لا رغبةً فيهم، وتعمدًا لنكاية المسلمين، وكان ممن بعثه رسول الله ﷺ داعيًا يومئذ لا محاربًا خالد بن الوليد، بعثه إلى بني جذيمة ولم يأمره بقتال، فذهب وقاتلهم وقتل منهم من قتل، ولما انتهى الخبر إلى النبي ﷺ رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد.» ثم أرسل عليًّا وأمره أن ينظر في أمرهم، فودى الدماء والأموال بعد أن اعتذر خالد عما صنع، وأُنزل فيه قرآن، وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا، الآية، ولهذه الحادثة قصة طويلة لا محل لذكرها هنا، فلتراجع في الكامل وغيره من التواريخ وفيها دليل على أن النبي ﷺ ما كان يرى القتال في غير من يُخشى أذاه على المسلمين، وأن الجهاد شُرِّع في شريعته الغراء لا لأجل الدعوة إلى الدين، بل الدعوة إلى الدين هي غير الجهاد، كما سيمر عليك مفصلًا إن شاء الله.
ومع أن التفرقة بين هذين الأمرين، أي الفتح الإسلامي والدعوة إلى الدين لا تحتاج إلى كثير تأمل عند ذوي الاطلاع على أصول الدين الإسلامي، وإن غُمَّ على كثير من الناس حتى مزجوا بين الأمرين مزجًا أداهم إلى الظن بقيام الإسلام بالسيف، وهو ظن فاسد ليس أبعد ممن تمسك به عن الصواب وأقرب منه إلى الخطأ المعاب، فإن الشريعة الإسلامية جمعت بين السياسة والدين؛ إذ لم تقتصر في قسمها الدنيوي على المعاملات الشخصية فقط، بل شملت الحقوق المشتركة العمومية الداخلة تحت الأحكام السياسية فهي — أي الشريعة الإسلامية — تنقسم باعتبار الأصل إلى قسمين: قسم ديني وقسم دنيوي، فالقسم الديني ينطوي تحته قسمان: قسم العبادات، وقسم الترغيب والترهيب، والقسم الدنيوي كذلك ينقسم إلى قسمين: قسم المعاملات وفيه الحقوق المدنية والعقوبة والقصاص، وقسم السياسة وهو الذي يُعين تصرف الإمام بكيفية جلب المصلحة العمومية للجمعية الإسلامية على حدود وأحكام مقررة مرجعها الكتاب والسنة، وبهذا القسم قام الفتح الإسلامي كما قام الإسلام بالقسم الديني، لا بحرب ولا إكراه، وقد تقدم معنا في الفصل الثاني بيان العلاقة التي تربط السياسة بالدين بالإضافة إلى تصرف الإمام بأمور الأمة، والإشارة فيه تُغْنِي عن التطويل؛ إذ المقام مقام إجمال لا مقام تفصيل، وهذا الإيضاح يكفي لرد زعم الزاعمين بأن الفتح الإسلامي هو الدعوة إلى الدين وأن الإسلام قام معه بالسيف؛ إذ الإسلام قام بالدعوة وليس للسيف أو الإكراه في امتداد الإسلام وقيامه أدنى علاقة مادية يقوم معها البرهان على خلاف ما قررناه، وإليك بيان كيفية قيام الإسلام وانتشاره في الأرض.
مطلب كيفية قيام الإسلام وانتشاره في الأرض
قد ذكرنا فيما تقدم لمحًا من حال النبي محمد ﷺ قبل الهجرة وكيف أنه كان يدعو الناس إلى الإسلام بين جماهير الأعداء، الذين قاموا في وجهه بالمعارضة والرد وأخصهم قريش الذين هم قومه وعشيرته الأقربون، وما هو داعي الحسد الذي دعا هؤلاء إلى أن يكونوا من أشد المعارضين لدعوته المؤذين له ولمن تبعه من الناس، حتى عانى الصحابة منهم من المشقة وأصابهم من الفتنة ما أوجب هجرة كثيرٍ منهم إلى الحبشة وفيهم عثمان رضي الله عنه وعنهم أجمعين، ومع ذلك فقد كان النبي ﷺ يخرج في كل موسم عند اجتماع العرب في مكة فيدعو القبائل إلى الإسلام فمنهم من كان يُجادله ومنهم من يستمهله ومنهم من يرده ردًّا حسنًا وبالعكس، ومنهم من يقبل دعوته سرًّا خشية أن يُقال عنه أنه صبأ عن عبادة الأوثان أو خوفًا من أن يناله من أذى قريش وأجلافها ما كان شأنهم مع المسلمين وعادتهم بالوقوف دون انتشار دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، حتى إذا كان يومًا كعادته يدعو القبائل إلى الإسلام لقي رهطًا من الخزرج عند العقبة ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوه بيعة العقبة الأولى، ولما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير وأمره أن يعلمهم القرآن فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة واجتمع به نفر من المسلمين، فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فانطلق إليه هذا الثاني ليعلم أمره فدعاه إلى الإسلام فأسلم وتبعه سعد بن معاذ فأسلم أيضًا، وأسلم معه جميع بني الأشهل في يوم واحد، وما زال مصعب يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور المدينة إلَّا وفيها رجال ونساء مسلمون، ثم لما كانت بيعة العقبة الثانية وهاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة وامتنع بالأنصار عظم الأمر على قريش فأخذوا يثيرون عليه الخواطر هم ويهود قريظة والنضير من سكان المدينة وعواليها، فكان ذلك هو الباعث على وجوب مشروعية الجهاد في شريعته الغراء، حتى كان النبي ﷺ يخرج بنفسه الشريفة إلى غزو القبائل تارةً للتهديد حفظًا لجماعة المسلمين من هجمات الهاجمين، وتارة لدفع القوة بمثلها حتى لا يكون في جانب المسلمين مطمع لجماهير الأعداء المخالفين، حتى إذا انكف عنه الأعداء واستقر الإسلام في الأرض كثر أتباعه وأخذت تفد عليه وفود مكة مسلمين مختارين كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة وغيرهم ممن أسلم قبل الفتح، لا سيما بعد عهدة الحديبية التي عُقدت بين النبي ﷺ وبين أهل مكة في السنة السادسة من الهجرة، وأُبيح بها الاختلاط بين المسلمين والمشركين فعقب هذا الاختلاط حرية التبادل الفكري حيث زالت موانعه بزوال تعصب قريش وامتناعهم من مخالطة المسلمين أو معاملتهم إلَّا بما يكرهون، فكان من ذلك أن تغلبت الحجة الإقناعية على ضمائر العقلاء من المشركين فأسلم كثير، وفيهم من الوجوه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وكان النبي ﷺ في غضون ذلك يُكاتب ملوك الأقطار كقيصر والنجاشي والحارث الغساني والمقوقس، يدعوهم إلى الإسلام تعميمًا لدعوته وإعلانًا لأمر ربه بين الأمم والشعوب، وهو يتلو عليهم قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ، وكاتب أيضًا غير هؤلاء ممن ليسوا من أهل الكتاب ككسرى والمنذر بن ساوي وهوذة الحنفي وغيرهم من الملوك، ثم جعل نصب عينيه قريشًا الذين كانوا مناصبيه الحرب والحائلين بينه وبين سائر الناس، فغزاهم في مكة فأظهره الله عليهم فأذل طغيانهم وكسر أصنامهم، ولما علموا أن الله غالب على أمره وأن الدين عند الله الإسلام أخذوا يُقبلون عن طيب خاطر على الدخول في الإسلام، وبدلوا كفرهم بالإيمان وعنادهم بالتسليم لما جاء به من لدن الرحمن الرحيم، حيث لم يوقنوا بصدق نبوته وصحة رسالته إلَّا بعد أن غلبهم على أمرهم في البيت المعمور والمكان المقدس المشهور، فلما رأى العرب إسلام من أسلم من قريش وزوال الفتنة بزوال أهل الفساد والشر منهم — وكانت العرب تنتظر بإسلامها قريشًا؛ إذ كانوا أئمة الناس وصريح ولد إسماعيل — أخذت تفد وفودهم على النبي ﷺ من كل وجه مظهرين لديه الإسلام راغبين بتعليم شريعة خير الأنام، فقدم عليه وفد ثقيف وفيهم من الأحلاف عبد ليلى بن عمرو بن عمير والحكم بن عمرو بن وهب وشرحبيل بن غيلان، ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة، وقدم وفد بلي ووفد أسد ووفد الزاريين وهم عشرة نفر، ووفد بني تميم مع حاجب بن زرارة وغيره ومعهم عيينه بن حصن الفزاري، وفيهم أنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، الآيات، وقدم وفد بني فزارة وفيهم خارجة بن حصن ووفد بني ثعلبة بن منقذ، وقدم رسول ملوك حمير بكتبهم مقرين بالإسلام، ووفد سعد بن بكر وكان وافدهم ضمام بن ثعلبة، فسأل رسول الله ﷺ عن شرائع الإسلام وأسلم، فلما رجع إلى قومه اجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، فقالوا: اتق البرص والجذام والجنون، فقال: ويحكم، إنهما لا يضران ولا ينفعان، وإن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا، وقد استنقذكم مما كنتم فيه وأظهر إسلامه فما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل مشرك ولا امرأة مشركة.
وأسلم في عهد الرسالة كثير من الناس سرًّا وجهرًا كنجاشي الحبشة ومقوقس مصر كما في رواية، وهرقل ملك الشام كما في رواية أيضًا، وذلك بمجرد الدعوة وتلقي العقول لما جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء بلا قتال ولا إكراه، ولو كان ثمت إكراه على الإسلام لكان أولى الناس بالإكراه اليهود من بني النضير لمجاورتهم لمدينة النبي ﷺ، ولما ظهر منهم من إيذاء صاحب الشريعة وتعمدهم قتله في بعض الأحيان واستطاعة إكراههم وقتئذ على الإسلام، ومع ذلك فإن النبي ﷺ أمر بإجلائهم عن مواطنهم فقط، وأن تكون أموالهم فيئًا للمسلمين دون أن يتعرض لهم في نفس أو عرض أو دين، وأي دليل أعظم من هذا على امتناع الإكراه في الشريعة الإسلامية، وأن الإسلام إنما قام وامتد بالدعوة لا بالسيف.
هذا، ثم لما تمكن في الأرض سلطان المسلمين وأخذت تنكشف للأمم غير المسلمة حقائق ما انطوت عليه الشريعة الإسلامية لم يلبث الإسلام بعد وفاة النبي ﷺ أن امتد في أطراف المعمور امتدادًا يشابه بسرعته امتداد النور، وذلك ليس إلَّا بمجرد تلقي العقول لما جاءت به هذه الشريعة الغراء بالقبول لا بقوة الإكراه والترهيب كما يزعمه الزاعمون، فإن الخلفاء في صدر الإسلام إلى عصر العباسيين اقتفوا من الممالك ما يبلغ أهله نيفًا ومائة مليون من البشر جلهم من أهل الكتاب، ولم يُعْلَم أن فاتحًا من فاتحي الإسلام أكره شعبًا منهم على الدخول في الإسلام بقوة السيف، بل إن الإسلام انتشر بين تلك الأمم والشعوب في أزمنة متفاوتة بالتدريج، كما يتضح ذلك لمن تصفح التواريخ العربية وغيرها، فنصارى المشرق من سكان آسيا الوسطى وسورية ومصر دخلوا الإسلام في صدر الإسلام في غضون مدة لا تزيد عن ثلاثين سنة، بسبب انتشار مذهب أريوس وقتئذ بين نصارى المشرق، وذلك لأن أريوس المذكور الذي كان أسقف الإسكندرية كان يقول بعدم وقوع الصلب على المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام وبنبوته، ولما جاء الإسلام وانتشر أهله في الشرق وتحقق عند المتمذهبين بالمذهب الأريوسي أن القرآن مصرح بنفي وقوع الصلب المذكور، بل مكفر لمن يقول به وبألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام، فضلًا عما رأوه أيضًا في الشريعة الإسلامية من الأحكام العادلة والمزايا العظيمة التي تعود على المجتمع الإنساني بالخير المحض أخذوا يقبلون على الدخول في الإسلام عن طيب نفس واختيار، حتى لم يمض نصف قرن إلَّا وثلاثة أرباع نصارى المشرق من الإسلام.
وأسلم أهل خراسان وعامة بلاد فارس في خلافة الوليد وسليمان الأمويين، وأسلم أهل السند «داغستان» وما والاها من بلاد الترك بدعوة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي على رأس المائة الأولى من الهجرة، وتسمى ملوكهم بأسماء عربية، وأسلم البربر في إفريقيا لسماعهم بسيرة عمر بن عبد العزيز أيضًا، وذلك في عهد ولاية إسماعيل بن عبيد الله على رأس المائة الأولى أيضًا، بما فيهم أهالي طرابلس وتونس، ومن ثم امتدَّ الإسلام إلى الأندلس، وكان معظم المسلمين في هذه البلاد من قبائل العرب وسكان المغرب النازحين، إلَّا ما قل من السكان الأصليين الذين تفرق منهم بعد الفتح من تفرق وانحاز إلى البرتغال من انحاز.
مطلب كيفية قيام النصرانية وانتشارها في الأرض
مع أنه كان ينبغي للدين المسيحي في قرونه الثلاثة الأولى التي ذكرنا كيفية بطء انتشاره فيها أن يعم في أطراف المعمور، بالنظر لحاجة الشعوب يومئذ إلى الشرائع الإلهية، وظهور الرومان في مظهر الترقي المدني الذي يأبى صاحبه الإذعان لسفاسف العبادات الوثنية، خصوصًا وأن المبشرين بالدين النصراني كانوا منبثين في الأرض يجاهدون بالنفس والمال توصلًا لهذه الغاية كل الجهاد، ولعل اختلاف «الرسل» الذي أدى إلى الانشقاق واختلاف التأويل إذ ذاك، هو كان المانع من تغلب الشريعة العيسوية على الشرائع الفاسدة الوثنية، والله بذلك أعلم.
وبالإجمال فإن الدين المسيحي تأيد وامتد بقوة السيف، ومن قال بأنه قام بالتبشير فإنما يريد تمويه الحقيقة لا لداعٍ موجب؛ إذ من العبث أن يُقَال إن شريعةً يستمر أهلها أجيالًا ثلاثةً تحت طائلة الاضطهاد والتنكيل، ثم يظهرون ظهورًا واحدًا ويتغلبون على مئات الملايين من المقاومين دون الاعتضاد بسيف المنعة وقوة السلطان، مع أن قيام الدين المسيحي على الصفة المذكورة آنفًا من القضايا المسلمة الظاهرة التي أفعمت بذكرها تواريخ الإفرنج، فلا سبيل لإنكارها بوجه من الوجوه؛ إذ لو كان التبشير وحده دون القوة هو الذي نشر النصرانية بين ثلاثمائة مليون من البشر في الأربعة أجيال الأولى من تاريخ الدعوة المسيحية، فينبغي أن يكون النصارى على تلك النسبة ألفًا ومائتي مليون؛ إذ التبشير ما زال مستمرًّا منذ الدعوة إلى الآن، بل زادت وسائله تسهيلًا منذ قرنين زيادةً فائقة الحد، فالمبشر يمكنه بسبب كثرة وسائط الاختلاط العمومي واتساع نطاق الاستعمار الغربي أن يجول أطراف الكرة الأرضية معززًا بروح القوة من دول المغرب، مُتَّبعًا بالأساطيل الماخرة في البحار لحماية هؤلاء المبشرين في أي قطر احتلوه من الأقطار، فلو كان التبشير وحده هو العامل الوحيد في تعميم الدين المسيحي لرأينا من نتائجه الآن ما يُبهر العقول، والحال أن ذلك لم يفد في هذين القرنين إلَّا في بعض المستعمرات الإفريقية وجزائر المحيط بين برابرة الأقوام، الذين قام بينهم التبشير على دعائم قوة الاستبداد والقسوة، مما ترتب عليه إهراق كثير من الدماء البريئة كما جرى في أوغندا من عهد غير بعيد، أي سنة ١٨٩٢ب.م مما ذاع ذكره على ألسنة الجرائد في الخافقين، وما خلا ذلك فالمبشرون منتشرون في أنحاء المشرق انتشار الشرايين في الجسم وهم معززون بالقوة والمال، متشبثون من رسائل الترغيب بما لا نهاية بعده، ومع هذا فعملهم كله عقيم واجتهادهم أو جهادهم لم يوصلهم لأدنى غرض مما يرمون إليه، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.
مطلب كيفية قيام اليهودية وانتشارها في الأرض
هذا، وحيث قد أتممنا الكلام على كيفية قيام كل من الشريعتين المحمدية والعيسوية على صاحبيها أكمل الصلاة والتحية، فلنتكلم قليلًا عن قيام الشريعة الموسوية على صاحبها الصلاة والسلام إيفاءً للوعد ورفعًا لشبهة الضمائر وإظهارًا للحق الصراح، فنقول إن مبدأ دعوة موسى الكليم عليه الصلاة والسلام كان في مصر، حيث كان قومه مستعبدين عند المصريين فلم يعارضه في دعوته وقتئذ أحد من قومه بسبب كونهم أبناء عائلة واحدة واقعين تحت ذل الأسر المهين، وإنما عارضه في ذلك فرعون وقومه الذين تحداهم بالمعجزات، فخشي فرعون منه أن تؤثر دعوته في أفكار العقلاء من قومه من المصريين فيتبعونه ويفسدون عليه ملكه، فجعل يحاول إيصال الأذى إلى موسى عليه السلام وقومه، فعندها أمره الله سبحانه وتعالى بالخروج بقومه من مصر إلى الأرض المقدسة، وكان من قصة الخروج إلى أن دخل أرض الميعاد ما كان مما هو مبسوط في محله ولا حاجة للكلام عليه.
وإجمال القول أن بني إسرائيل لما لم تكن لهم هناك أرض يسكنونها، والشعوب الساكنون في تلك الأرض يستحيل أن يشركوا في ملكهم هذا الشعب العظيم بدون مقاومة وقتال، خصوصًا وأن بني إسرائيل كانوا عقب خلاصهم من الاستعباد وخروجهم من التيه في حالة الضنك الذي يُخْشَى معه أن تتخطفهم الأمم المحاربة، لهذا شرع لهم الجهاد في شريعة موسى عليه السلام، لكن على وجه شديد كما مر عليك حفظًا لجماعة الدين من التشتت وأهله من الافتراق، ودخل يومئذ بنو إسرائيل إلى الأرض المقدسة بقوة السيف، وتملكوا فيها ما تملكوه بعد جهاد طويل.
هذا، ودعوة موسى عليه الصلاة والسلام لم تتعد قومه ولم تنتشر شريعته بين الشعوب، وإنما اليهود أنفسهم هم الذين انتشروا وتفرقوا فيما بعد في الأرض، إلَّا أنهم كانوا غير مبالين إلى غير أبناء عنصرهم ليقوم منهم دعاة يدعون غيرهم إلى الدين، وكانوا مع تعززهم بشريعتهم أميل إلى كتمان تعاليمها منهم إلى إذاعتها بين الناس، لهذا السبب صح اعتبار الشريعة الموسوية شريعةً خاصةً قامت بقيام بني إسرائيل ونهوضهم للخلاص من أسر المصريين كما يظهر ذلك من سياق قصة موسى عليه الصلاة والسلام، سواء في الكتب الدينية أو التواريخ فلا حاجة للتطويل في هذا البحث الجليل، وفيما مر جميعه كفاية تقنع ذوي العقول السليمة الذين لا يماحكون في الحق.
والله سبحانه وتعالى مفرق الأديان وله الحكمة البالغة في كل عمل وشان.
تنبيه
إذا رأى حضرة مُناظري الأديب «ر. ن» في رسالتي هذه محلًّا للاعتراض، وأراد نشره سواء في جريدة الهلال أو غيرها فليتكرم ببيان اسمه الصريح؛ إذ شرط المُناظر أن لا يكون مجهولًا، وإلا فإني أكون معذورًا إذا لم أتصدَّ للدخول معه في باب المُناظرة بعد، وإن دخلته في جريدة الهلال لأسباب ما إخال أن حضرته يجهلها، وأما الآن وقد وضح الصبح للعيان فلا حاجة للإخلال بذلك الشرط، كما لا داعي يدعو المُناظر في الحق إلى التستر ما دام أن كلينا يسعى وراء الحقائق، والباحث فيها لا يستغني عن التنبيه والعصمة لله وحده.
غِبَّ إتمامِ هذه الرسالة اطلع عليها حضرة العلامة الفاضل السيد الشريف محمد أفندي الحريري المفتي بحماة الشام حالًا، فتفضل حفظه الله بتقريظها بالأبيات الآتية: