عبد العزيز جاويش
كلما ذكرت الشيخ عبد العزيز جاويش، ذكرت زيه على الخصوص؛ لأنه كان أول ما لفتني إليه، ولم يزل موضع التفاتي بعد ذلك كلما رأيته أو سمعت بخبر من أخباره في بعض المناسبات.
كان لنا زميل في مدرسة «أسوان الأميرية»، لا تقل شهرته بيننا بالجهل عن شهرته بالعبث وقلة المبالاة.
وتخرج بعدنا من المدرسة، فعينته وزارة المعارف مدرسًا بها للترجمة، لشدة الحاجة يومئذ إلى المدرسين.
وكنا نعجب لكتابته العربية أكثر من عجبنا لكلامه باللغة الإنجليزية، فهو يعرف الإنجليزية كما يعرف العربية، ومعرفته للعربية بعد ذلك هي موضع الشك الكبير.
وإنه ليلقي درسه في الترجمة ذات يوم إذا بمفتش معمم يدخل عليه، فظنه مفتشًا للغة العربية قد ضل طريقه إلى هذه الحصة، فاطمأن على جهله وعلمه، ومضى في درسه بغير اكتراث، ولم يكن من دأبه كما أسلفنا أن يكترث لشيء من الأشياء.
وفوجئ باعتراض من المفتش المعمم، فقال له بغير تردد: «إن هذه القطعة منقولة من كتاب مقرر.»
وسأله المفتس: ما هو؟
فقال: كتاب مرشد المترجم.
وطلب منه المفتش أن يريه القطعة في الكتاب، فقلب الصفحات كأنما يبحث عن واحدة معينة منها، ثم أشار إلى جملة في الصفحة، وقال للمفتش بكل ثقة واطمئنان: هي هذه القطعة!
وهنا المباغتة التي كان أهون منها على صاحبنا أن ينفتح أمامه قمقم مغلق ويخرج منه مارد من الجن؛ لأن الشيخ المعمم قد أخذ يقرأ القطعة الإنجليزية ويسأله عن العلاقة بينها وبين العبارة العربية.
إن المفتش المعمم هو الشيخ «عبد العزيز جاويش» مؤلف كتاب مرشد المترجم، مع زميل من المعلمين!
وضجت المدينة ليلتها من الضحك، ولم يزل شاهدو القصة يذكرونها إلى الآن. لا عجب إذن أن يظل زي الشيخ عالقًا بذهني على تعاقب الأيام.
•••
وذهبت سنة وجاءت سنة، وتتابعت سنوات بعد سنوات، وألفت في «القاهرة» منظر الشيخ في جبته الغراء، وهي في أشد شتائها قلما أحوجتنا يومئذ — نحن أبناء الصعيد — إلى معطف ثقيل.
ثم استقال الشيخ من وظيفته بوزارة المعارف، بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي وإسناد نظارتها إلى المربي الكبير «عاطف بركات بك»، وأخذ في حملته على وزارة المعارف على النحو الذي يذكره قراء اللواء في تلك الأيام.
وحضرنا يومًا إلى مكتب الصحافة بوزارة الداخلية، فسألنا موظف فيه: «هل صحيح أن الشيخ جاويش اعتزل عمله في تحرير «اللواء»؟»
فقال زميل صحفي: «إن صحيفة الوطن قد نشرت الخبر.» وقال زميل آخر: «إني أشك في صحة الخبر.» وقلنا جميعًا: «إن دار اللواء قريبة، والسؤال هناك أيسر من الشك بغير دليل.»
ودخلنا مكتب الشيخ فوجدناه فيه، وتبين من الكلمة الأولى أن الخبر غير صحيح، ثم مضى الشيخ في كلامه من التعليق على صحيفة الوطن إلى تعليق على الصحف عامة، وعلى السياسة والأحزاب، ثم إلى الكلام عن حرية الصحافة وحرية الزعماء السياسيين.
وجلست أسمع وأنا أعجب لرجل يفهم الوطنية المصرية في نهضة المطالبة بالاستقلال، ثم ازداد عجبي حين قدم للمحاكمة، فكان دفاعه الأول أنه «غير مصري»؛ لأنه ينتمي إلى أسرة تونسية، و«تونس» خاضعة للحماية الفرنسية.
ثم ازداد العجب حين سافر إلى «الآستانة» وأنشأ فيها صحيفة «الهلال العثماني»؛ لينشر بها دعوته السياسية على الوجه الذي كان يفهمه ولم يعدل عنه بقية حياته، وبلغ غايته حين علمنا أنه أنشأ في «الآستانة» حزب «الوطن العثماني»؛ ليعارض به حزب «محمد فريد»، الذي جعل شعاره «مصر للمصريين».
وكانت صحيفة «الهلال العثماني» تصل إلينا سرًّا في فترات متقطعة، فكنت أسأل نفسي: هل بلغ من يقين الشيخ بمذهبه في الوطنية أن يفترض قبوله على كل مصري يسمع باسمه من بعيد؟
وعدنا إلى زي الشيخ حين سمعنا نبأ الحملة التركية على هذه البلاد، فقد قيل يومئذ إن كسوة المشيخة الإسلامية كانت في حقيبة الشيخ، وإنه قد حيل بينه وبين مصاحبته الحملة في اللحظة الأخيرة لامتعاض شيخ الإسلام هناك من حركاته حول مصر والحجاز.
•••
وانتهت الحرب، ولقيت الشيخ اتفاقًا قبل تعيينه مرة أخرى بوزارة المعارف، فإذا هو هو في تفكيره وتقديره عن السياسة الوطنية: «أنقرة» هي صاحبة القول الفصل في السيادة المصرية، «أنقرة» هي المرجع الأخير في الامتيازات الأجنبية، معاهدة سنة ١٨٤٠ هي أساس ما نطالب به من حقوق!
قلت: «الحمد لله، لقد تغيرت مصر كثيرًا في عشر سنوات، وإن لم يتغير الشيخ عبد العزيز جاويش، ومن جرى على مجراه.»
•••
لقد ذكرنا «رشيد رضا» في الفصل السابق، وبين الشيخ «رشيد» والشيخ «جاويش» جامعة لا غنى عن الإشارة إليها لتقدير كل منهما معًا، وكل من دخل معهما في هذه الجامعة، فبعد «جمال الدين» و«محمد عبده» أصبح من همِّ كل شيخ ناشئ أن يصبح أستاذًا إمامًا أو نمطًا آخر من «جمال الدين».
ومن هنا نشأت مدرسة «رشيد رضا»، و«مصطفى المراغي»، و«طنطاوي جوهري» و«عبد الحميد الزهراوي»، و«محمد الخضري»، و«محمد المهدي»، و«النجار»، وغيرهم.
ولكن الشيخ «عبد العزيز» كان يتشبه ﺑ «جمال الدين»؛ حيث يتشبه أقرانه على الأكثر بالأستاذ الإمام.
وفارق آخر بينه وبين الشيخ «رشيد» أن الشيخ «رشيد» كما قلنا كانت به جفوة عن الفكاهة والكياسة.
أما الشيخ «عبد العزيز»، فقد كانت فيه من «أبناء البلد» الظرفاء مشابهة كثيرة.
ذهبت يومًا لزيارة الأستاذ «محمد صادق عنبر» بمكتب صحيفة العلم على ما أذكر، فوجدت الشيخ «عبد العزيز» يصيح صيحة المحنق الذي يغالب ضحكًا مكظومًا: إنه خبر أدهش البقر، إنه خبر أدهش البقر!
فسألت الأستاذ «صادق عنبر»: ما هذا الخبر؟
فجعل يغمغم بين الضحك والخجل وهو يقول: إنه مصحح عندنا من أهل الشرقية، جاءه من بلده خبر عن بقرة قتلها قطار السكة الحديد، فاختار للخبر عنوانًا يليق بهذه الفاجعة العالمية، وكتبه بهذا العنوان: «خبر أدهش العالم!» وفي رأي الأستاذ كما سمعت أن الدهشة من حق البقر في هذا المقام!
قلت: صدق أبو العيناء، رأوه يأكل في الطريق أمام الغادين والرائحين فلاموه.
قال: أمن البقر حياء؟
«وأراد أن يثبت لمن لاموه أن القوم بقر، فوقف ونادى: أيها الناس! قال هَيُّ بن بَيٍّ عمن لا يوثق له برأي: من بلغ طرف لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة. فلم يبق من حوله أحد إلا أخرج لسانه يحاول أن يبلغ أرنبة أنفه!»
«ومضى أبو العيناء وهو يقول لمن لاموه: ألم أقل لكم؟» وقد أبى الأستاذ «صادق» إلا أن ينقل الحديث الروي لصاحب الخبر ليرى أين هو من قول الشيخ «عبد العزيز» ومن قول «أبي العيناء».