فرح أنطون
مضت عدة سنوات على احتجاب ذلك الطيف الذي كان كثيرًا ما يُرى في هذه العاصمة غاديًا أو رائحًا في خطوة وئيدة وعزلة بعيدة، كأنما يسري من حيث لا يعلم الناس إلى حيث لا يعلمون، ذاهب الطرف أنى سار كالعابر من عالم لا يذكره إلى عالم لا يرجوه، غير مشغول بأمر الطريق، على وجهه سماحة تظللها سحابة من أسف شجيٍّ ولوعةٍ مخامرة، وفي عينيه حيرة قرت من فرط القلق فعادت في رأي العين طمأنينة راضية، وعلى شفتيه صمت مصرٌّ كظيم، يصف لك من صاحبه هاتفًا دعا ثم ألحف داعيًا مناديًا حتى مل وفتر، فلم يستمع إليه مصيخ ولم يجب إلى صوته صدى، فأطبق شفتيه إطباقة من لا ينوي افترارًا ولا يهم بصيحة ولو علقت النار بردائه.
مضت سنوات على احتجاب ذلك الطيف واحتباس حركته، فكان مغيبه في نفوس المحبين والعارفين رزءًا فادحًا وألمًا بارحًا ونزعة شديدة وشقة بعيدة، وكان في تصور الخيال خطوة واحدة كخطوة الطيف الهائم جفلته لواعظ الأصوات فأوى إلى ظلمته الساكنة.
مضت سنوات على وفاة «فرح أنطون».
ولقد رأيت «فرحًا» مرارًا، ولكني لم أكلمه إلا مرتين أو ثلاثًا. وكانت مرة منها في مكتب «الأهالي»؛ إذ كان يعمل في تحريرها، فتلاقينا في غرفة الأستاذ صاحبها وتعارفنا على يديه، فسمعت من نبرة صوته وفاق ما رأيت من خشوع نظراته، وأحسست موضع دائه، فقلت له مؤاسيًا، وكان كلامنا على النهضة السياسية: إنك يا «فرح أفندي» طليعة مبكرة من طلائع هذه النهضة العامة، وسيعرف لك المستقبل من عملك ما لم يعرفه الحاضر، وستكون حين تفترق الطريقان خيرًا مما كنت في هذا الملتقى المضطرب. فأومأ برأسه إيماءة شاكرة وحرك يده حركة فاترة وقال: «إنه يا أخي تيار جارف، فماذا يحفل المستقبل بالحاضر، وماذا يبالي السائر المغذ بمن كان قبله في مفترق الطرق؟!» فبدا لي أن الرجل يئس من الحياة، وأنه جرب كل سهامه حتى ساء ظنه بالسهام والهدف. على أنه كان إلى يوم وفاته ممسكًا بالقوس لا يحول بصره عن الهدف الذي خدعه، وذلك ديدن غالب في النفوس الراجية، وهو كهامة الأمل تتردد حتى تفيض روحه.
ما يئس ذلك الفاضل الأبيُّ هذا اليأس إلا لأنه أبعد منزع الرجاء، فلم يكن غريبًا أن يمنى بحسرة المضيع المنبتِّ عن غايته، لم يكن ذلك غريبًا ولو أنه كان في بلاد الغرب الناشط منشؤه، وفي ذلك الميدان الممهد جهاده، فكيف به وقد نشأ في هذا الشرق المسرف الذي يمشي بين الأمم في أطمار الفاقة، ويمزق ما يضفي عليه من نسج العقول تمزيق البذخ والغنى! إلا أننا نقول: من أين للشرق المسكين أن يفعل غير ما فعله؟ ومن أين لعظمائه المغبونين أن يفعلوا غير ما يفعلون؟! كفاهم عزاء أنهم أضخم من عظماء الغرب واجبًا وأجل منهم قربانًا، فإن يكن أمدهم بعد الأين والنصب قريبًا وأثرهم بعد الجهاد ضئيلًا قليلًا، فلتكن سلواهم — لا بل فخرهم — أن واجبهم ثقيل وأن سفرهم على قرب الأمد سفر طويل.
و«فرح أنطون»: كسائر الكتاب الذين يستوحون قلوبهم ويقطرون على القرطاس من دمائهم، مفكر تؤثر في تفكيره عوامل الحياة وتنبث في نفسه ألوان الجو الأدبي الذي يحيط به. ولقد فاتني أن أحيط بكل ما كتب ذلك الأديب الفقيد، ولكن الذي قرأته من كتبه ناطق بحياة صاحبه، يدل على أنه من وحي ذهن لا تمر به مذاهب الفكر الشائعة في زمانه عبثًا، ولا تتعارض حوله تيارات الحياة بغير جدوى، ولعل أصوب ما يقال في كتاباته أنها خير دليل على اتجاه تيار الفكر في أيامه وخاصة في نشأته الأولى؛ أي في عهد الصبا المتفتح للدنيا، المقبل على كل جديد، الذي قل أن يوصد بابه في وجه طارق من طوارق الأفكار الجميلة، أو يضن بموضع في نفسه على ضيوف الأحلام اللاعبة والخواطر الوسيمة.
نشأ «فرح أنطون» في سورية، وكانت نشأته في أواسط النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فبقي في حياته الفكرية أثر واضح من وطنه المكاني ووطنه الزماني. فأما وطنه المكاني فظاهر الأثر في حملته على رجال الدين وشغفه بالمؤلفات التي تنحي عليهم أو تخفض من دعواهم وتقوض من دعائم سلطانهم، فمن ذلك إكثاره من الكتابة عن «تلستوي»، وتلخيصه لكتاب «رينان» في «تاريخ المسيح»، واشتغاله بالمقارنة بين «الدين والعلم والمال» وبين ما يتنازعه سدنة هذه الأرباب الثلاثة من سيادة على الضمائر والأجسام، ومن ذلك دعوته إلى الفصل بين الكنيسة والحكومة، ورأيه الذي ارتآه في كلامه على ابن رشد ذاهبًا فيه إلى انتقاد الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية في الخلافة الإسلامية، وهو الرأي الذي كان من أسباب فشله وكساد مجلته «الجامعة».
ولعل سائلًا يسأل: ولماذا يكون التحدي البين للنفوذ الديني خاصة من خواص النشأة السورية؟ فأقول لهذا السائل: إنني كنت كذلك أعجب لهذا الأمر وأستغرب الغيظ الشديد الذي تتوهج به كتابة السوريين الأحرار حين يحملون على النفوذ الديني في بلادهم ويصفون تغلغله في شئون قومهم، وكنت لا أعرف لذلك علة حتى تذكرت القوة التي يقبض على زمامها رجال الدين في سورية، فخطر لي أنه لا عجب! لأن رجال الدين هناك ربما كانوا أقوى الطوائف الدينية في العالم، وأوسع رعاة الكنائس إشرافًا على حياة أتباعهم، فقد جمعوا بين الزعامة في الدين والزعامة في السياسة والزعامة في العلم.
وناهيك بها من سطوة هائلة تغري بالتحدي وتغري بالمناجزة! أما سبب اجتماع هذه السطوة لهم، فللحوادث التاريخية التي حدثت عقب غارات الصليبيين وعقب الاتفاق على الامتيازات الأجنبية؛ دخل عظيم فيه. وخلاصته القريبة أن طائفة رجال الدين كانت في البلاد السورية — ولا تزال — معقد آمال الشعب المسيحي في الحرية السياسية، لما بينها وبين الحكومة الفرنسية والحكومات الأوروبية الأخرى من صلة معروفة، وأنها كانت — ولا تزال — قائدة الأفكار وقدوة المسترشدين؛ لأنها منشئة المدارس وطابعة الكتب ومربية الصغار والكبار. وإذا اجتمعت لفئة واحدة أزِمَّة السطوة الروحية من كل جانب — كما اجتمعت لفئة القسيسين السوريين — فغير عجيب ألا يرضى عنها، وأن يتبرم بها، فريق الشبان المتعطشين إلى المعرفة الحرة، التواقين إلى الآراء المتجددة من أصحاب النفوس الأبية والعقول الطليقة والأخلاق المعتقة من أسر التقاليد والعادات، وغير عجيب أن يجعلوا تحديها والإغراء بها هجيراهم وشغلهم الشاغل في كل ما يدرسون ويكتبون، وهذا ما تراه في كتابات «فرح أنطون» مع شيء من الرفق والاعتدال، وتراه على تفاوت في الجرأة وغلو في اللهجة في كتابات الأدباء السوريين المهاجرين إلى الأقطار الأمريكية.
أما وطنه الزماني، فأثره ظاهر في الطريقة الكتابية التي تبعها منذ عهده الأول ولم يغيرها إلا قليلًا في عهده الأخير، ونعني طريقة الكتاب القائلين بالعودة إلى الطبيعة، وهي — كما لا يخفى — الطريقة التي كانت كتبها وآراؤها ميسورة للقارئ الشرقي في ذلك العصر حيث يأخذ في مطالعة الآداب الفرنسية، ولا سيما الخفيف القريب المتناول منها، فلما ترعرع «فرح» واشتاقت نفسه إلى ما عند الغربيين من زاد الفكر ولذة النفس، ألفى بين يديه كتب «روسو» و«برناردين» وغيرهما تدعوه إلى موائدها السهلة الهنيئة، فأقبل عليها ولهج بها وتملكت لبه وأصابت من فطرته الوادعة الكريمة موقعًا حسنًا، وحق لها أن تصيب ذلك الموقع؛ لأنها كانت في عصرها أصدق ما يعبر به عن سآمة النفوس من آفات المدنية وأدرانها وجور الطغاة من ساسة القرن الثامن عشر، ويخيل إليك أن أديبنا كان يكتب بقلم من أقلام أولئك الفلاسفة والأدباء الذين تَعَشَّقَهم وأغرم بآرائهم لقرب مأخذه من مأخذهم ومشاكلته إياهم في أسلوبهم وطلاوة عباراتهم. ولا أقول إنه كان يقلدهم أو يترسم خطاهم، فإني أجله عن ذاك ولا أضعه دون «برناردين» مثلًا في منزلة أو صفة، ولكني أقول إنه توافق في الفطرة وتطابق في النظرة يسلكه في مضمارهم ويتقدم به إلى صف الكثيرين منهم.
على أنني لا أحسبه استمر طويلًا على الإيمان بعقيدة العود إلى الطبيعة وابتغاء السلام في حظيرتها؛ إذ هي عقيدة لا تثبت على تجارب الأيام واختيار حقائقها ولا تبهر النظر في ضوء المذاهب المستحدثة بعد «روسو» وتلاميذه. ولا أشك في أنه اجتواها وأعرض عنها بعدما زاول من حقائق الدنيا ونظر في «دارون» و«نيتشه»، فإن الاطلاع على «دارون» و«نيتشه» ومن حذا حذوهما ينشئ للنفس إحساسًا جديدًا بمسئوليات الحياة، يغض من قداسة الرجعة إلى الطبيعة، ويجعل النكوص من المعترك وصمة وعارًا. هذا فضلًا عن أن الطبيعة التي يصورانها ليست بالملاذ الأنيس ولا بالملجأ الأمين من شرور المدنية وأوضار المجتمع، إنما هي والمدنية سواء في حكم تنازع البقاء وبطش الأقوياء بالضعفاء والأشرار بالأتقياء.
وفي مناجاة الكاتب لشلال «نياجرا» وقفة تريك العابد يمسح صنمه ويؤنبه ويسبح باسمه ويذكر له قلة غنائه عنه، تريك «فرحًا» يحب الطبيعة وينكرها ويلومها ويعذرها، ويقول فيها ما يقوله الكافر الذي يود لو يؤمن والمؤمن الذي شق عليه أن يكفر، ففي مزاجه حنين إلى عقيدته القديمة فيها، وفي عقله نبو عنها وسوء ظن بها. ومن هذا النزاع بين مزاجه وعقله استملى مقالًا من غرر ما يقرأ على نمطه في آدابنا الحديثة، وبث زبدة حياته وصفوة تجاريبه في بضع صفحات لا يمل تكرارها، وعندي أنها حسب كاتبها من أثر في عالم الكتابة إن لم يكن له قط أثر سواها.
كان «فرح أنطون» كاتبًا على استعداد للرواية والقصص، وكانت ملكته القاصة تظهر أحيانًا في مقالاته الأدبية والسياسية كما تظهر في رواياته وحكاياته، فمال به هذا الاستعداد إلى وضع الروايات، فأحسن وارتفع في روايته «أورشليم الجديدة»، ثم تقلبت به صروف، وألمت به محن، وتجرع من مرارة الخيبة مرارًا.
وطلب إليه وهو بين اليأس والرجاء أن يترجم أو يكتب للمسرح، فلبى وبدأ بداءة حسنة، ولكنه لم يحقق بغيته، ولم يصنع شيئًا يليق به أو يضاف إلى محاسنه، وقد حضرت إحدى رواياته التلحينية، فما أطقت الصبر على أكثر من فصل منها، ولم أر في موضوعها، ولا في فنها، ولا في غنائها، ولا في ممثليها، ولا في الجمهور الذي يسمعها، أثرًا ﻟ «فرح أنطون» الذي نعرفه، ولا علامة على ملكته السامية ومكانته الأدبية، وهي زلة نأسف لها ونعتبر بها. ولكن هل هو أول من يلام على اضطراره إلى هجر ملكته والخروج عن جادته؟ ألم يكن يربح في الرواية الواحدة من هذه الروايات ما يعادل ربحه من جميع مؤلفاته ومترجماته الصالحة؟ فمن المسئول عن ذلك؟ أهو أم الجمهور الأحمق المأفون؟! وماذا كان يصنع «فرح أنطون» إن لم يؤلف تلك الروايات؟! ألا فلنعلم أننا إذا كنا لا نختار للأديب النابغ المريض المنقطع الموارد إلا أن يموت بيننا على «الكتمان» جوعًا، فقد يحق لذلك الأديب أن يختار لنفسه خاتمة أسلم وأكرم من تلك.