فؤاد «الصاعقة»
إذا كان سبب من أسباب السمعة مانعًا للكتابة عن أحد، فهذا الكاتب الصحفي أولى الناس بالسكوت عنه.
ولكنه أحق الصحفيين بالكتابة عنه إذا كان تاريخ «الأدوار الكتابية» في حياة الصحافة عندنا موجبًا للكتابة عن صاحب الدور.
فقد كان «أحمد فؤاد» صاحب صحيفة «الصاعقة» الأسبوعية أشهر الصحفيين من أبناء جيله في تمثيل ذلك الدور الذي عرفناه في صحافتنا، بعد ظهور الصحف السيارة عندنا وانتشارها في أواسط القرن التاسع عشر، فإذا وجب أن تختصر أسماء الصحف التي يصح أن نطلق عليها عنوان «صحافة الهجاء الاجتماعي» في اسم واحد، فاسم «فؤاد الصاعقة» هو ذلك الاسم الذي لا يزاحمه شريك مثله في هذه الصناعة.
كان الناس يعرفون اسم «فؤاد الصاعقة» ولا يعرفون اسم «أحمد فؤاد» إذا انفرد بغير هذه القرينة، وقد يكتفون باسم «الصاعقة» ولا يزيدون، فيعرف قرَّاء الصحافة من يريدون.
وقد كان «فؤاد الصاعقة» ممثلًا في المجتمع المصري لدور واحد على صورتين: صورة تظهر في محيط الأدب الشعبي، وهي صورة «الأدباتي» المتجول بين بلاد الريف والحضر.
وصورة «مفصحة» من هذا الأدباتي وهي صورة الأديب «الأريب» المحتال لعيشه في لغة المقامات، واسم «أبو زيد السروجي» في مقامات «الحريري» عنوان عليه.
وإذا أردنا أن نترجم هذه الصناعة بالأسلوب الاقتصادي لتفسير الأدب والتاريخ، فالصحفيون من طائفة «أحمد فؤاد» هم «محصلو ضريبة الوجاهة والهيبة» في المجتمع الجديد.
ولنا أن نتخيل أن هذا المجتمع سلطان من السلاطين الأقدمين كان له خدامه على طريقته، وكان لهؤلاء الخدام نصيب من التزاماته وجباياته المقررة على رعاياه، فإن هؤلاء الأدباتية يخدمونه بالرقابة على أصحاب الجاه والهيبة، فيحيلهم بتحصيل الضريبة لحسابه أو لحسابهم من جميع هؤلاء، هربًا من تكلف المغارم والوفاء بحق الجزاء الصريح؛ لأن المجتمع نفسه وأصحاب الجاه والهيبة فيه، أولئك الجباة المسلطون عليهم، كلهم جميعًا غير صرحاء.
على أن «الوظيفة» هذه لم تكن مخجلة لأصحابها، ولا كان أصحابها يكتمونها ويدورون حولها.
جلس أحدهم بين زمرة من الكتاب والفضلاء يتحدث عن صديقه السري الذي يستدنيه منه ويسومه أن يجاريه بتعاطي المخدرات وشم «الكوكايين»، وكان يومئذ بدعة «أولاد الذوات» المتبطلين من رواد السهرات.
قال الأدباتي «السروجي» الحديث: «ولكن من ذقنه فتل له، كان — بسلامته — يريد مني أن أشم له الكوكايين لأعينه على السهر، ولكنني كنت أسهر بغير كوكايين وأجمعه عندي إلى ساعة الحاجة في آخر الليل، تلك الساعة التي توصد فيها أبواب الصيدليات ومخابئ العقاقير الممنوعة، وتحلو فيها الشمة الواحدة بأضعاف سعرها في جميع الأسواق السوداء، وأبدي لصاحبنا الغيرة على خدمته والتحرق على شمة أو شمتين معه قبل انقضاء السهرة، فلا يقنعني في الجرام الواحد أقل من ثمن عشرة جرامات، وأخرج من هنا وفي جيبي حصيلة الأسبوع من الكوكايين المدخر لتلك الساعة، ثم أعود إليه ببقية «العشرة الجنيهات» قروشًا معدودات، ولم أصرف من الورقة نصف مليم!»
وتحدث صحفي آخر عن كلمة غمز بها بعض الوجهاء، وفهمها ذلك الوجيه وفهم المقصود منها، فأرسل إليه خمسة جنيهات ولمح هو من الوسيط أن الحكاية قابلة للمساومة والزيادة جنيهين أو ثلاثة جنيهات.
ثم اعتدل الصحفي الأدباتي، وهو يقول في زهو وخيلاء: «ولكن فشر! محسوبكم «بري فكس»، كلمته واحدة لا يقبل المساومة، عشرون جنيهًا على داير المليم، وإلا فالذي قرأه الباشا غمزًا يقرؤه الناس جميعًا تصريحًا على المكشوف، وعينك ما تشوف إلا النور، لقد جاءتني الجنيهات العشرون قبل مغيب الشمس في ذلك المساء.»
كان هذا الصحفي يلقب بيننا «بالزِّبْرَا» أي حمار الوحش، وكان بعضهم يتطلف فيسميه الفنان؛ لأنه من أسماء الحمر الوحشية، فلما سمعنا منه هذه القصة صاح الأستاذ «أحمد صبري» المصور المعروف متهكمًا متبرمًا وهو يلوح له بيديه في وجهه: لا والله، ومن الآن فصاعدًا حمار وكفى، ولا «زبرا»، ولا فنان، ولا يحزنون!
على هذا المثال كان «الصحفي الأدباتي السروجي» يؤدي وظيفته في بقايا المجتمع من القرن التاسع عشر، وكان محصوله من هذه الوظيفة ضريبة المجتمع على الوجاهة والهيبة بحسب براعته في التحصيل.
وكان «فؤاد الصاعقة» أبرع هؤلاء الجباة في استغلال وجاهة الوجيه وهيبة المهيب شفويًّا وتحريريًّا بغير عناء، وهو عالم بحدود العرف والقانون مع كل طبقة من تلك الطبقات.
كان له جعل من المصروفات السرية يصيبه حينًا ويفقده حينًا ويتطلبه في جميع الأحيان، وكان «عبد الخالق ثروت باشا» و«حسين رشدي باشا» ممن عودوه المنحة بعد المنحة من هذه المصروفات.
وانقطعت عنه منحة «ثروت باشا»، وهو لا يزال رئيسًا للوزارة، فتربص به إلى ساعة اجتيازه ببار اللواء مشيًا على قدميه كعادته في أكثر الأوقات، وتعمد أن يجلس ذلك اليوم بين رهط من كبار رجال وزارتي العدل والداخلية. فما هو إلا أن عبر «الباشا» بهم، وهو يعرفهم جميعًا، حتى وثب «فؤاد الصاعقة» وراءه، ووقف على قارعة الطريق يناديه: يا سي «عبد الخالق»، يا سي «عبد الخالق»!
فهرول أولئك العلية إلى داخل البار، وعاد إليهم مقهقهًا وهو يقول: ليس بيني وبينه تكليف!
وقال أحدهم وهو يلطمه على فمه: ولا بيني وبينك تكليف يابن …
ولمح «رشدي باشا» عند محطة الرمل بالإسكندرية بعد اعتزاله الوزارة، فوضع ذراعه تحت إبطه ونظر إليه في غاية من الهدوء والتبسط وهو يمازحه قائلًا: لا صاحب دولة الآن ولا صاحب عطوفة، ولا حجَّاب على الباب ولا حرَّاس في الطريق، كلانا سواء يا «حسين»! فدفعه الباشا عنه بتلك البساطة الطريفة التي عرفت عنه، وقال له كأنه يرد المزاح بمثله: لكن أنا عندي فلوس يابن …
وكانت صحيفة «الصاعقة» أسبوعية كما تقول رخصتها أو يقول عنوانها.
ولكنها في الواقع لم تكن أسبوعية ولا يومية ولا شهرية ولا سنوية؛ إذ كان لا بد من تحديد الموعد بوقت معلوم.
وإنما تصدر كلما وجدت «الضحية» التي تؤدي ضريبة الجاه والهيبة، سواء من هذه الضريبة ثمن الثناء أو ثمن الهجاء أو ثمن النجاة من التهديد والوعيد.
ويحدث كثيرًا أن تقع المعاملة مع هؤلاء الضحايا بالجملة، كما حدث في رثاء بعض الأعلام من المشاهير، فإن رثاء العلم المشهور لم يستغرق غير كلمات في بضعة أسطر، ثم عقب «فؤاد» بعد هذه الكلمات متسائلًا: أيجوز في شرعة القدر أن يموت مثل هذا ويعيش أمثال فلان وفلان وفلان؟! إلى آخر القائمة المطولة من أسماء المغضوب عليهم والمطالبين بسداد الاشتراك، عند عددين في السنة، أو بضعة أعداد!
وقد يصدر العدد من أجل عنوان واحد يتكرر على الصفحة بجميع البنوط:
لا تبيعوا أقطانكم إلا بمائتي ريال!
لا تبيعوا أقطانكم إلا بمائتي.
لا تبيعوا أقطانكم.
لا تبيعوا.
لا … لا …
ويبلغ من يعنيه الأمر أن الإعلان سيعاد ويعاد مع مضاعفة الأجور في كل مرة، فيسرع من يعنيه الأمر إلى السداد.
أما من كان يعنيه الأمر في قصة بين القطن، فهو رجل من أصحاب المزارع والمحاصيل، كانت له مساهمة في صناعة القلم على أسلوب المقامات وما جرى مجراها، وكانت منافسة «الصاعقة» له سببًا مضافًا إلى سبب الطمع في ماله، أو في ضريبة الجاه والسمعة من يديه، فحسب عليه تلك النصيحة الفاشلة التي ضيعت على الفلاحين محصول العام زلة يهدده بها كلما نقم منه واحتاج إلى جدواه.
وقد يؤجر «فؤاد الصاعقة» على التحرش بالأدباء والكتَّاب ممن لا مال ولا جاه، فيعرف قراء «الصاعقة» ذلك كلما طلعت لهم الصحيفة بفصل من فصول الكاتب المغضوب عليه، يتبعه تهديد للمشتركين المتخلفين بمواصلة النشر والإعادة من أمثال هذه الفصول!
وربما أخذ التوقيع الذي يوقع به الكاتب مقالاته فترجمه من عنده على هواه؛ فتوقيع «ك. ك» هو توقيع «كامل كيلاني» بالحرفين الأولين من اسمه، ولكنه عند «فؤاد الصاعقة» إما «كلب كلب»، وإما «كاهن كذاب»!
ولم تبلغ الجرأة بأحد مبلغ هذا «الأدباتي السروجي» في مخاطبة الأمراء والرؤساء؛ فقد انقطعت عنه المعونة الشهرية من ديوان المعية الخديوية، فكتب إلى الأمير مباشرة خطابًا يقول فيه: إن كان بعضهم يظفر بعطايا الأمير لأنه ينظم فهو حقيق بهذه العطايا لأنه ينثر، وإن كان لعيب من العيوب، فهو — أي «فؤاد الصاعقة» — يضم إزاره بحمد الله على تلك العيوب، وعلى شر منها، وزيادة عليها، ثم يمضي في تعداد عيوبه غير مقتصد فيها، كأنها عيوب ضحية من ضحاياه.
واسم «الصاعقة» نفسه مثل من أمثلة الشهادة على نفسه في مقام المقابلة بينه وبين غيره.
كان «فؤاد الصاعقة» يدين بالأستاذية للمويلحيين الكبير والصغير.
وكان المويلحيان أستاذين في ذلك الجيل للكتَّاب من مدرسة «النقد الاجتماعي» على الأسلوب المهذب في لفظه ومعناه.
فأخذ تلميذهما اسم «المصباح» وحوله إلى «الصاعقة».
وأخذ أسلوب «النقد» وحوله إلى أسلوب «الهجاء».
وارتد على الأستاذين بالتهديد والوعيد، وحاول أن يتقاضى منهما ضريبة الابتزاز والإتاوة، فعلمه المويلحي درسًا قال له فيما بعد إنه قد فاته أن يتعلم منه مع الهجاء؛ هجاء الألف والباء.
أرسله إلى الآستانة برسالة يغنم فيها الهيل والهيلمان، من سلطان «آل عثمان».
فلما وصل إلى الميناء كان في استقباله مدير الشحنة السرية بدلًا من مدير التشريفات بالمابين، وقضى في السجن ما شاء المويلحي الكبير أن يقضيه هناك، قبل أن يشفع له ويدفع الشبهة عنه.
ولقد سمعت من هذا «الأدباتي السروجي» وصية تدل على طريقته في تقاليد هذه الصناعة.
كان يقول لي كلما لقيني بدار البلاغ أو الأهرام: أنا أعلم أنك لا تخافني كما يخافني فلان وفلان، وكل ما أرجوه منك ألا تجهر بذلك أمام هؤلاء، ودعنا نأكل عيشنا معهم، يرزقنا الله وإياك.
ومرة واحدة لقيني جالسًا إلى بعض زملائنا الصحفيين على قهوة بجوار البنك الأهلي، فهتف بي كالمعاتب الناصح: كله إلا هذا يا أستاذ، إن الكاتب الذي يلقبه «سعد زغلول» بالجبار لا يجلس على القهوات، دعهم يحسبونك من مردة الأساطير، يتلو أحدهم الطلسم كلما خطر له أن يراك.