الدكتور يعقوب صروف
كنت في زيارة للقاهرة حين لقيت الدكتور يعقوب صروف صاحب «المقتطف» حوالي سنة ١٩٠٥.
وكانت زيارات القاهرة فرصة للبحث عن الكتب الخاصة التي لا تصل إلى الأقاليم مع الباعة المتجولين، وقد يتطلب البحث عنها زيارة حي «الكتبية» إلى جوار الأزهر، أو زيارة حي الفجالة حيث تباع المطبوعات العصرية؛ لأن قوائم المكتبات لم تكن يومئذ شيئًا معروفًا في بيئات النشر والمطالعة، وكان المعروف المتداول منها لا يغني عن البحث في المطبعة التي طبعت الكتاب والمكتبة التي تبيعه، وقلما يباع في سواها.
أما الكتاب الذي قصدت إلى دار المقتطف في مدخل شارع عبد العزيز للبحث عنه، فهو كتاب «الكائنات» للشاعر الباحث العراقي جميل صدقي الزهاوي، وكانت مجلة المقتطف هي التي تولت طبعه في القاهرة؛ لأنه يبحث في موضوع من موضوعات «فلسفة ما وراء الطبيعة»، وهي تلك الموضوعات التي كانت تثير الريبة في الأقطار الشرقية إلى ما بعد أوائل القرن العشرين.
ولقد كان لقاء الدكتور يعقوب صروف — فيلسوف العصر عند المحدثين — هو الغرض الأول من زيارة الدار؛ إذ كان في وسعي أن أسأل عن الكتاب بمخزن المطبوعات هناك، وكان في وسع عامل المخزن أن يتولى إخراج الإذن ببيعه من رئيسه في إدارة المقطم أو إدارة المقتطف، ولكنني قدمت إلى القاهرة من مدينة «قنا»، حيث كنت أعمل تلميذًا بالقسم المالي في انتظار التثبيت، وأنا خارج من إحدى «المعامع» الأدبية أو الفكرية، التي كان «يعقوب صروف» محورًا من أهم محاورها الكثيرة طوال أيام الحرب الروسية اليابانية.
ولا بد من ذكر الحرب الروسية اليابانية في هذا المقام؛ لأنها كانت في الواقع محور المحاور في ميادين العصبيات السياسية والوطنية، والصحفية والأدبية يومذاك، بل كانت محور المحاور في كل عصبية يثور لها الشباب الذي يعنى بشأن غير شئون الخاصة كيفما كان.
وكان النزاع حول الطرفين — روسيا واليابان — يشمل ضروبًا من النزاع حول كل موضوع عام يشغل أذهان الناشئة على الخصوص.
فكان النزاع الوطني يميل بالأكثرين من الشبان المصريين إلى جانب الدولة الشرقية الناهضة، أو دولة «الشمس المشرقة» التي ألف فيها مصطفى كامل كتابه بهذا الاسم، كأنها المثال الأول للأمم الشرقية المجاهدة في قضايا الحرية والنهضة والاستقلال، وفيها يقول حافظ إبراهيم:
وكان التنافس بين خريجي المدارس الإنجيلية والمدارس المحلية الأرثوذكسية على أشده وأوسعه في عواصم الصعيد، ولا سيما في أسيوط؛ فكانت روسيا رمزًا لعصبية المدارس الأرثوذكسية، وكانت اليابان رمزًا للعصبية الأخرى؛ لأنها صديقة الدول الإنجيلية التي تعادي روسيا في قضايا السياسة العالمية، وفي مقدمتها إنجلترا والولايات المتحدة.
وكانت العداوة بين دولة القياصرة ودولة الخلافة الإسلامية سببًا لعصبية أخرى، جمعت أنصار دولة الخلافة إلى صف واحد يناصر اليابان، في سبيل الوطنية وفي سبيل الدين.
وكان أصحاب المقطم والمقتطف للمرة الأولى في صف واحد مع أنصار الوطنية وأنصار الدولة العثمانية، مع ما هو معروف من موقفهم حيال تركيا وحيال بريطانيا.
أما عصبية الثقافة، فقد أبرزت أمام الخريجين من المدارس الإنجيلية اسمي: «يعقوب صروف» و«فارس نمر» صاحبي المقتطف والمقطم؛ لأنهما كانا في عالم الكتابة أنبغ من اشتهر من كتاب العلم والسياسة في عالم الصحافة الشرقية. وكانت هذه العصبية تبلغ الهزل على ألسنة المتشيعين لهذين الكاتبين، حين يجعلونهما موضوعًا من موضوعات النظم شعرًا وزجلًا، وهم لا يحسنون هذا ولا ذاك باللغة الفصحى ولا باللغة العامية، ومما يحضرني من أبيات «الزجل» في الثناء على «فارس نمر» قول أحدهم:
وإذا بلغ بالحماسة «الأدبية» أن تنطق من لا ينطق بهذا «النشيد» فقد يتصور القارئ العصري كيف كانت حماسة المتشيعين لكاتب المقتطف وكاتب المقطم عن فهم وإدراك صحيح؟
أما نحن — من غير ناشئة المدارس الإنجيلية — فقد كان تشيعنا لليابانيين لا يبلغ عندنا أن يشفع ﻟ «فارس نمر» أو يقربه إلينا، كاتبًا أو سياسيًّا، أو عالمًا كما اشتهر في أوائل عهده بالصحافة، ولكننا كنا نمحض يعقوب صروف من إعجابنا الأدبي كل ما كنا نأباه على زميله، وكان اعتزال صروف للدعاية السياسية يخرجه من ميدان الخصومة ويكسبه من كرامة العلم ولاء مشتركًا نتفق عليه مع زملائنا الخريجين من المدارس الإنجيلية.
وقد أذكر إلى اليوم كيف لقيني رهط منهم بعد عودتي إلى قنا ومعي نسخة من كتاب «الكائنات» عليها كلمة بخط العالم الكبير.
ولقد كانوا يستمعون لي كأنهم يستمعون إلى حديث رؤيا غير قابلة للتصديق، وكانوا يسألون: كيف حييته؟ وكيف رد عليك التحية؟ وماذا قال لك حين أسلمك الكتاب؟ وهل فاتحك في بحث من بحوثه؟ وماذا قلت له عن المؤلف وعن موضوع التأليف؟ وقد كانت دهشتهم الكبرى أنني لم أجد في الرجل ما يثير الدهشة إن كانت الدهشة بمعنى الرهبة، بل كان الرجل في الحق مثلًا للطيبة الأبوية والوداعة الحكيمة، فلم يختلف شعوري بلقائه الأول بعد أن لقيته مرات في مكتبه وفي داره وفي بعض المجالس الأدبية، ولم أره بعد ذلك على غير تلك الصورة التي شهدتها منه أول مرة! بساطة لا تخلو من تحفظ السمت والوقار، وعاطفة أبوية يشمل بها كل من عرفوه من ناشئة الكتاب والدارسين.
عتب علي أول الأمر أنني فاجأته بالدخول إلى مكتبه بغير استئذان، ولكنه عاد يستسمحني حين أكدت له أنني طرقت الباب طرقًا خفيفًا لعله لم يسمعه وهو مستغرق في القراءة، فقال مبتسمًا: «بل هو ثقل في السمع يعتريني من حين إلى حين، فلا تؤاخذني إذا عتبت عليك!»
ولكن الحدة التي فاتتني من صاحب الدار لم تفتني من عامل المخزن، حين خرجت بالكتاب لتسليمه ورقة الإذن ببيعه — وأظنه كان متمصرًا طال مقامه بالقاهرة — لأنه نظر في عنوان «الكائنات» وقال مازحًا: «جاك كائنة!» وهي دعوة لا يعرفها غير المصريين أو المتمصرين، وإنما قالها ليقول إنني أفلحت في تهدئة غضب الدكتور وأعفيته من الجزاء الذي كان مستحقًّا له لو لم أقنع الدكتور ببراءة موظفيه من التقصير؛ لأنني قصدت أن ألقاه ابتداء، ولم يكن دخولي إلى مكتبه لخطأ من أولئك الموظفين.
•••
ولا يحضرني تفصيل الحديث الموجز الذي سمعته من الدكتور صروف في تلك المقابلة الأولى، ولكنه دار على الإجمال حول فلسفة «ما وراء الطبيعة»، وعلقت بذهني كلمة منه لغرابتها أو لغرابة صدورها من «الفيلسوف يعقوب صروف»، وتلك هي قوله إنه لا يتقبل تلك الفلسفة، أو لا يهضم تلك الفلسفة، أو عبارة دارجة بمعنى هاتين العبارتين، على حد القائلين في التعبيرات الأوروبية الشائعة: «إنني لا أبتلع هذه الفلسفة».
وفوجئت — ولا غرابة — بذلك التصريح من رجل لم يشتهر في عالم الثقافة العربية يومئذ بما هو أشهر من صفة الفيلسوف، ولم نعلم أن أحدًا غيره وغير زميله «فارس نمر» حصل على لقب «الدكتور في الفلسفة» من جامعة غربية، وإنما كنت أفهم في بداءة عهدي بالاطلاع على فلسفة «ما وراء الطبيعة» أنها هي الفلسفة كلها، أو هي الفلسفة في أهم مسائلها وقضاياها، فإن لم تكن هذه كذلك، فهي — على الأقل — شيء لا يصعب هضمه على «الفيلسوف» — بألف التعريف!
إلا أن الدكتور عرفني بتلك الكلمة العابرة بحقيقة رسالته في نهضة الثقافة العربية بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فكان من الخطأ أن نفهم من تلقيبه بالدكتور في الفلسفة أنه فيلسوف كفلاسفة البحوث المنطقية النظرية، في قضايا الغيب المجهول ومشكلات «ماهية الوجود» على منهج أرسطو وابن سينا وابن رشد والغزالي ومحيي الدين، وإنما هو فيلسوف في نطاق العلوم التجريبية التي يقوم برهانها على الوقائع والمشاهدات، وإن تناولت مباحث التاريخ والأخلاق، ولا تقيم براهينها على الفروض والأقيسة من قبيل براهين الكائنات لإثبات الفضاء المحدود وغير المحدود.
وبعد أكثر من عشر سنوات، سمعت منه مثل هذا الرأي في فلسفة «ما وراء الطبيعة»، خلال حديث أذكر مناسبته ولا أذكر زمنه على التحديد، وقد كانت هذه المناسبة تعقيبًا على مقال للآنسة «مي زيادة» حول فلسفة «برجسون» لم أقرها على كثير مما فيه، وكان الدكتور صروف يقرأ تعقيبي وهو يبتسم، ويقول بين آونة وأخرى: «يا رجل! أتتمرجل على بنت؟» فاستعدت منه المقال، وعلمت بعد ذلك أنه أطلع الآنسة على ملخص ذلك التعقيب!
وفي خلال المناقشة حول كلام الآنسة وتعقيبي عليه، علمت منه مرة أخرى أنه ينظر إلى الفلسفات التي على غرار فلسفة برجسون من ناحيتها العلمية التي تنطبق على قضايا الحياة الإنسانية، ولا تخوض وراء ذلك في أحاديث «الغيبيات» وفروض ما وراء الطبيعة، وأن فكرة التطور في كتابة برجسون تعنيه لأنها على اتصال بمذهب داروين، ولا أذكر أنني سمعت منه — يومئذ — كلامًا يدل على التوسع في الاطلاع على مذهب الفيلسوف الفرنسي، ولا على مذاهب زملائه الأوروبيين في تلك الفترة.
وبعد سنوات أخرى قرأت خلاصة المناقشة التي دارت بين الدكتور صروف وبين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مجلس علي مبارك باشا، فأكدت لي أصالة هذه النظرة إلى الفلسفة في رأي الدكتور صروف منذ زمن بعيد، وخلاصة هذه المناقشة أنهم تحدثوا في المجلس عن كاتب وصفته الصحف بالفيلسوف، فقال الدكتور: «إن الناس قد ابتذلوا هذه الكلمة حتى صاروا يطلقونها على غير أهلها.» ثم تساءل الحاضرون: «من يكون الفيلسوف إذن على المعنى الصحيح؟» قال الدكتور في رواية السيد رشيد رضا: «هو الذي يتقن جميع العلوم.» فقال الشيخ محمد عبده: «إذن لا يوجد على الأرض فيلسوف.» فعاد الدكتور يقول ما معناه: «إنه لا بد أن يتقن علمًا من العلوم ويلم بسائرها.» فقال الشيخ محمد عبده: «إن الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون من المدارس العالية وقبلها الثانوية، على إلمام بالعلوم ويتقنون بعضها، فما أكثر الفلاسفة بين الأطباء والمهندسين وسائر الطلاب بهذا المعنى!» ولما سئل الشيخ محمد عبده: «من يكون الفيلسوف إذن؟» قال: «إن الفيلسوف — كما يفهمه — هو الذي له رأي في العقليات والاجتماعيات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه.»
ولم أزل ألقى الدكتور صروف بين آونة وأخرى إلى ما قبل وفاته بقليل، فأعرف منه في كل مقابلة صورة واحدة لم تتغير منذ رأيته للمرة الأولى: صورة فيلسوف له عقل عالم مشغول بالواقع من الخبرة العملية، وله مع هذا العقل العلمي قلب إنسان ودود يحب الخير للناس ويغتبط بتوفيقهم للنجاح.
وأذكر اغتباطه بتوفيق الناشئين إلى النجاح؛ لأن كتابه المترجم عن صمويل سمايلز باسم «سر النجاح» كان أول كتاب قرأته له، وأخبرته بإعجابي به حين سألني عن مؤلفاته، ولم أزل كلما زرته أسمع منه سؤالًا واحدًا قبل كل سؤال: «ماذا صنعت لنفسك ولمستقبلك؟» فوقر في نفسي أن كتاب «سر النجاح» لم يكن مجرد كتاب ترجمه وأضاف إليه ودل به على طريقته العلمية في تحقيق السير والأخلاق، ولكنه كان قبل ذلك ترجمانًا لسجية الخير والمودة فيه، وعنوانًا لرغبته في الحياة الناجحة ورغبته في تعليم الناشئين جميعًا كيف ينجحون ويسعدون بالحياة.
كان يقول لي مازحًا: «إياك أن تكون من شعراء شكوى الزمان ومعاتبة الإخوان، وحذار أن تحسب البؤس زينة للأديب وقسمة مقدورة للأذكياء!»
وسألني مرة: «ألا تصدق قول القائل: إن الناس في طلب الدين حتى يصلوا إلى العلم، وفي طلب العلم حتى يصلوا إلى المال؟»
وقبل أن أجيب سؤاله، ولعله سأله وهو لا ينتظر جوابي عليه، قال: «إنك إن صدقته أو لم تصدقه تستطيع أن تكون على يقين من حقيقة حسابية لا خلاف عليها وهي: اجمع الدراهم والدنانير تجمع نفسها!»
«ولا أعرف أحدًا من كبار الأدباء الذين عرفتهم في أيام نشأتي قد عناه أمر عملي الذي أعول عليه في معيشتي غير اثنين: أحدهما الدكتور صروف، والآخر محمد المويلحي الذي رشحني للعمل بديوان الأوقاف.»
فلما علم الدكتور صروف أنني استقلت من العمل بالمدرسة الإعدادية، فكر مليًّا ثم قال: «إنني أعلم أن القيادة العسكرية تبحث عن مندوبين صحفيين وتفضل أن يكونوا من المسلمين؛ لأنها تنوي أن تندبهم من حين إلى حين للسفر إلى خطوط القتال وراء القناة وفي حدود سيناء، ولا تريد أن يكونوا متهمين في رواياتهم عن مناعة تلك الخطوط، إن كانوا على غير دين الترك المغيرين على البلاد.»
فلما تبين مني النفور من القيام بهذه المهمة الصحفية مع وفرة العائد منها، قال: «أرى أن شعورك غير مستريح إليها.» وقالها بالإنجليزية.
فأجبته: «نعم؛ فإن المسألة إن كانت من إحدى جهتيها غارة تركية على حدود مصر، فهي من الجهة الأخرى حرب بين الجيش التركي وجيش الاحتلال!»
قال: «فليكن لك رأيك وشعورك.» ثم سألني أن أعود إليه بعد يوم لأمر لا علاقة له بهذه البعثة، فإذا به قد اتصل بمدير مدرسة وادي النيل ليبلغه أنه يرشح لمدرسته معلمين يعرف كفايتهما الأدبية وصلاحهما للتدريس، ويسأله أن يزوره غدًا ليلقاهما عنده إذا شاء.
أما اختياره لهذه المدرسة بذاتها، فقد كان سببه — كما علمنا بعد ذلك — أن له «أطيانًا» بإقليم الفيوم، وأنه عرف عبد الله وهبي باشا لهذا السبب معرفة وثيقة يوم كان عبد الله باشا كبيرًا للمهندسين المشرفين على الري في ذلك الإقليم، وقد ذكر لنا أن الباشا كان حسن العناية بأطيانه، ولم يذكر لنا أنه هو — أي الدكتور صروف — كانت له في تزكية الباشا عند كبار الرؤساء الإنجليز، ودفع الوشاية التي عرضته للمحاكمة، وانتهت باستقالته دون تقديمه إلى مجلس التأديب.
وقد كان من جراء ذلك أن عبد الله وهبي باشا لم يأمل خيرًا في وظائف الحكومة لأبنائه، فأنشأ المدرسة الثانوية باسم «وادي النيل» لابنه الأكبر، واتجه أبناؤه الآخرون إسماعيل ويوسف وعباس للعمل «المستقل» في المحاماة وفن التمثيل وشركات الهندسة والمعمار.
وإنني لأذكر كلمة «الأطيان» هنا كما كان يرددها الدكتور في طيبة وديعة لا ننساها؛ لأننا كنا نحس منه ارتياحًا لتكرارها وهو يقول: «ذهبت إلى أطياني»، و«شكرت لعبد الله باشا عنايته بأطياني»، و«فكرت في قضاء الصيف بأطياني»، وكنا نحس مع هذا التكرار بغبطة بريئة كغبطة الطفل بكسوته الجديدة في غير عتو ولا خيلاء، ونحس مرة أخرى أننا مع الفيلسوف العليم بحكمة الحياة وحب النجاح.
•••
وعلى تعدد الزيارات لم يكن ينسى كلما زرته أن يسألني عما أصنعه لنفسي ولمستقبلي، وعما أجده في المدرسة وفي شواغلي الأدبية، وكان يحثني كل مرة على إتمام دراستي لأبي العلاء المعري، التي نشرت منها مقالين في المقتطف، ثم اقتضبتها للعودة إليها مع زيادة الشرح والتحليل، فإذا انتقل الحديث إلى موضوعات المقتطف أو موضوعات الدكتور التي يفكر فيها، فقلما كان الحديث يستطرد بنا إلى غير اللغة ومسائل الاجتماع مما له علاقة بالدين والأخلاق، وقلما عرض للسياسة إلا أن تتفق الزيارة على أثر حادث من الحوادث البارزة التي لا يتخطاها المتحدثون في إبانها، وكذلك رأيته يومًا وعلى وجهه مسحة الامتعاض الظاهر بعد أن تعاقب إلقاء القذائف على طائفة من الوزراء ورؤساء الدولة، فقال بشيء من المرارة: «إننا تقدمنا جدًّا وأفرطنا غاية الإفراط في التقدم، ولم لا؟ هذه مبادئ التطرف في الوطنية تنتهي إلى الطرف الأقصى من مبادئ الفوضويين!»
وزرته يومًا وهو يقرأ كلامًا في الصحف عن نهضة الإسلام وعودة السلطان إلى الأمم الإسلامية يستشهد فيه الكاتب بالآية القرآنية من سورة القصص: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.
فسألني بلهجته اللبنانية متبسطًا: «وليش ما عمل؟»
قلت: «إن الخالق يريد، وعلى الخلق أن يعملوا بما أراد.»
فعاد يقول في جد ووقار: «نعم يعود الإسلام إذا عاد أهله إلى صدق العقيدة.» ثم يستطرد فيقول: «إن الأعرابي والمعزة لا يبقيان على شيء أخضر حيث ذهبا. ولكن غيرة الإسلام هي التي ابتعثت من الأعرابي صانعًا للدول والسلطنات.» وأحسبه قال: «إن عالم الإسلام — محمد عبده — قد عرف طريق العودة ودل المسلمين عليه، وما من طريق لتلك العودة غير العلم والأخلاق.»
وربما جشمه البحث عن تحقيق كلمة لغوية أن يصعد السلم ليلتقط هذا الكتاب من هنا وذاك الكتاب من هناك، فلا يستريح أو يحقق الصواب في الكلمة قبل استعمالها فيما يكتب أو يترجم.
رأيته يومًا على السلم يبحث عن كلمة «الشهية» هل وردت في الكلام الفصيح بمعنى القدرة على اشتهاء الطعام؟ وهل من الجائز أن يقال على بعض التوابل والأباريز إنها تفتح «الشهية»؟ فانتهى على أن كلمة المشهيات أصح ما يقال في هذا المعنى، وأن القابلية خير من «الشهية» للدلالة على المقصود من تهيئة الجسم لطلب الطعام.
ووجدته يومًا يردد كلمات «نفق ونبق ونبك» بتفخيم الباء والكاف؛ لأنه كان يشك في أصل كلمة «النفاق» ويحسب أن اجتماع الفاء والقاف في هذا الوزن قليل في اللغة العربية، مطروق في اللغات السامية والتركية.
قلت له: «لقد اجتمعتا في كلمتي الفقر والفراق، وهما عربيتان بلا خلاف.» قال ضاحكًا: «يا سوء ما اجتمعتا: فقر وفراق!»
وتطرقت الأحاديث كثيرًا إلى مسائل الدين، ولم يكن يكتم رأيه أن الخلاف قائم بين بعض العقائد وبعض المشاهدات العلمية، ولكنني لم أسمعه قط يتكلم عن الدين في إجماله بغير الاحترام، ولم يكن له موقف من الديانات ورجالها غير موقف «سيد المجتمع» من العلمية المسئولة، وهو كما رأيت منه في شتى المناسبات شبيه بموقف الرجل المهذب أمام الشيخ المطاع، بما له من حق السن والخبرة في كل ما خالفته فيه.
وكذلك كان الفيلسوف الوديع في عادات تفكيره وسلوكه: إنسانًا اجتماعيًّا يعطي العلم والعمل حقهما، ولا ينسى حقًّا من حقوق العرف والتقاليد.