من كان محمد؟
قال الفيلسوف تولستوي تحت هذا العنوان ما هو بالحرف الواحد:
إن محمدًا هو مؤسس ورسول الديانة الإسلامية التي يدين بها في جميع جهات الكرة الأرضية مائتا مليون نفس.
ولد النبي محمد في بلاد العرب سنة ٥٧٠ بعد ميلاد المسيح من أبوين فقيرين، وكان في حداثته راعيًا، ومال منذ صباه إلى الانفراد في البراري والأمكنة الخالية؛ حيث كان يتأمل بالله وخدمته أن العرب المعاصرين له عبدوا أربابًا كثيرة، وبالغوا في التقرب إليها واسترضائها، فأقاموا لها أنواع التعبد، وقدموا لها الضحايا المختلفة؛ ومنها الضحايا البشرية، ومع تقدم محمد في السن كان اعتقاده يزداد بفساد تلك الأرباب، وأن ديانة قومه ديانة كاذبة، وأن هناك إلهًا واحدًا حقيقيًّا لجميع الشعوب.
وقد ازداد هذا الاعتقاد في نفس محمد حتى قام في نفسه أن يدعو أمته ومواطنيه إلى الاعتقاد باعتقاده الراسخ في فؤاده، وقد دفعه عامل داخلي إلى أن الله اصطفاه لإرشاد أمته، وعهد إليه هدم ديانتهم الكاذبة، وإنارة أبصارهم بنور الحق؛ فأخذ من ذلك العهد ينادي باسم الواحد الأحد بحسب ما أوحي إليه ومقتضى اعتقاده الراسخ.
وخلاصة هذه الديانة التي نادى بها محمد هي: أن الله واحد لا إله إلا هو؛ ولذلك لا يجوز عبادة أرباب كثيرة، وأن الله رحيم عادل، وأن مصير الإنسان النهائي متوقف على الإنسان نفسه، فإذا سار حسب شريعة الله، وأتم أوامره، واجتنب نواهيه؛ فإنه في الحياة الأخرى يؤجر أجرًا حسنًا، وإذا خالف شريعة الله، وسار على هواه؛ فإنه يعاقب في الحياة الأخرى عقابًا شديدًا، وأن كل شيء في هذه الدنيا فان زائل، ولا يبقى إلا الله ذو الجلال، وأنه بدون الإيمان بالله وإتمام وصاياه لا يمكن أن تكون حياة حقيقية، وأن الله — تعالى — يأمر الناس بمحبته ومحبة بعضهم، ومحبة الله تكون في الصلاة، ومحبة القريب تقوم في مشاركته في السراء والضراء ومساعدته والصفح عن زلاته، وأن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر يقتضي عليهم أن يبذلوا وسعهم لإبعاد كل ما من شأنه إثارة الشهوات النفسانية، والابتعاد أيضًا عن الملذات الأرضية، وأنه يتحتم عليهم أن لا يخدموا الجسد ويعبدوه؛ بل يجب عليهم أن يخدموا الروح، وأن يزهدوا في الطعام والشراب، وأنه محرم عليهم استعمال الأشربة الروحية المهيجة، ومحتم عليهم العمل والجد وما شابه ذلك.
ومحمد لم يقل عن نفسه: إنه نبي الله الوحيد، بل اعتقد أيضًا بنبوة موسى والمسيح، وقال إن اليهود والنصارى لا يكرهون على ترك دينهم، بل يجب عليهم أن يتمموا وصايا أنبيائهم.
وفي سني دعوة محمد الأولى احتمل كثيرًا من اضطهاد أصحاب الديانة القديمة شأن كل نبي قبله نادى أمته إلى الحق، ولكن هذه الاضطهادات لم تثنِ عزمه بل ثابر على دعوة أمته.
وقد امتاز المؤمنون كثيرًا عن العرب بتواضعهم، وزهدهم في الدنيا، وحب العمل، والقناعة، وبذلوا جهدهم لمساعدة إخوانهم في الإيمان لدى حلول المصائب بهم.
ولم يمضِ على جماعة المؤمنين زمن طويل حتى أصبح الناس المحيطون بهم يحترمونهم احترامًا عظيمًا، ويعظمون قدرهم، وغدا عدد المؤمنين يتزايد يومًا فيومًا.
غير أن أصحاب الغيرة من أنصار النبي كانوا ينظرون إلى الوثنيين المحيطين بهم وفسادهم بعين الغضب والاستياء؛ فدفعتهم غيرتهم على الحق إلى التشدد في الدعوة إلى دين الإسلام والاعتراف بوحدانية الله، ومع أن هؤلاء الأنصار لم يبيحوا سفك الدماء للحصول على الأموال أو غيرها من متاع الدنيا من جانب؛ فإنهم من الجانب الآخر لم يبيحوا التهاون أو التخاذل أمام أولئك الذين أصروا على البقاء في الضلال.
وإذا كان انتشار الإسلام بصورة كبيرة على يد هؤلاء لم يرق بعضًا من البوذيين والمسيحيين فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن المسلمين اشتهروا في صدر الإسلام بالزهد في الديانة الباطلة، وطهارة السيرة، والاستقامة، والنزاهة، حتى أدهشوا المحيطين بهم بما هم عليه من كرم الأخلاق، ولين العريكة، والوداعة، ومن فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود؛ لا سيما قسوس الأوليين؛ فقد أمر بحسن معاملتهم ومؤازرتهم حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوج من المسيحيات واليهوديات، مع الترخيص لهم بالبقاء على دينهم، ولا يخفى على أصحاب البصائر النيرة ما في هذا من التساهل العظيم، ومما لا ريب فيه أن النبي محمدًا من عظام المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وتفضل عيشة الزهد، ومنعها عن سفك الدماء، وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية؛ وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام.