رثاء أحمد شوقي لتولستوي
ولما انتقل الفيلسوف تولستوي من دار الفناء إلى دار البقاء وقع نبأ وفاته وقعًا مؤلمًا في الغرب والشرق، ورثاه الفلاسفة والشعراء، ومن ذلك ما قاله شاعر وادي النيل صاحب السعادة أحمد بك شوقي حيث قال:
(طولستوي) تجري آية العلم دمعها
عليك ويبكي بائس وفقير
وشعب ضعيف الركن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم
وأنت سراج غيَّبوة منير
يعانون في الأكواخ ظلمًا وظلمة
ولا يملكون البث وهو يسير
تطوف كعيسى بالحنان وبالرضى
عليهم وتغشى دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه
وللخادميه الناقمين فشور
أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه
أناجيل منها منذر وبشير
ويبكيك ألف فوق (ليلى) ندامة
غداة مشى (بالعامري) سرير
تناول ناعيك البلاد كأنه
يراع له في راحتيك سرير
وقيل تولى (الشيخ) في الأرض هائمًا
وقيل (بدَير) الراهبات أسير
وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه
وللطب من بطش القضاء عذير
إذا أنت جاورت (المعري) في الثرى
وجاور (رضوى) في التراب (ثبير)
وأقبل جمع الخالدين عليكما
وغالى بمقدار النظير نظير
جماجم تحت الأرض عطرها شذى
جنَاهنَّ مسك فوقها وعبير
بهن يباهي بطن (حواء) واحتوى
عليهن بطن الأرض وهو فخور
فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى
فأنت عليهم بالأمور خبير
أحطت من الموتى قديمًا وحادثًا
بما لم يحصل منكر ونكير
طوانا الذي يطوي السموات في غد
وينشر بعد الطي وهو قدير
تقادم عهدانا على الموت واستوى
طويل زمان في البلى وقصير
كأن لم تضق بالأمس عني كنيسة
ولم يؤوني دَيرٌ هناك طهور
أرى راحة بين الجنادل والحصى
وكل فراش قد أراح وثير
نظرنا بنور الصوت كل حقيقة
وكنا كلانا في الحياة ضرير
إليك اعترافي لا لقس وكاهن
ونجواي بعد الله وهو غفور
فزهدك لم ينكره في الأرض عارف
ولا متعال في السماء كبير
بيان يشم الوحي من نفحاته
وعلم كعلم الأنبياء غزير
سلكت سبيل المترفين ولذَّ لي
بنون ومال والحياة غرور
أداة شتائي الدفء في ظل شاهق
وعدة صيفي جنة وغدير
ومتعت بالدنيا ثمانين حجة
ونضَّر أيامي غنى وحبور
وذكر كضوء الشمس في كل بلدة
ولاحظ مثل الشمس حين تسير
فما راعني إلا عذارى أجرنني
ورُبَّ ضعيف تحتمي فيجير
أردت جوار الله والعمر منقض
وجاورته في العمر وهو نضير
صبا ونعيم بين أهل وموطن
ولذات دنيا كل ذاك نذور
بهن وما يدرين ما الذنب خشية
ومن عجب تخشى الخطيئة حور
أوأنس في داج من الليل موحش
ولله أنس في القلوب ونور
وأشبه طهر في النساء بمريم
فتاة على نهج المسيح تسير
تسائلني هل غَيَّرَ الناسُ ما بهم
وهل حدثت غير الأمور أمور
وهل آثر الإحسان والرفق عالم
دواعي الأذى والشر فيه كثير
وهل سلكوا سبل المحبة بينهم
كما يتصافى أسرة وعشير
وهل آن من أهل الكتاب تسامح
خليق بآداب الكتاب جدير
وهل عالج الأحياء بؤسًا وشقوة
وقل فساد بينهم وشرور
قم انظر وأنت المالئ الأرض حكمة
أأجدى نظيم أم أفاد نثير
أناس كما تدري ودنيا بحالها
ودهر رخيٌّ تارة وعسير
وأحوال خلق غابر متجدد
تشابه فيها أول وأخير
تمر تباعًا في الحياة كأنها
ملاعب لا ترخى لهن ستور
وحرص على الدنيا وميل مع الهوى
وغش وإفك في الحياة وزور
وقام مقام الفرد في كل أمة
على الحكم جم يستبد غفير
وحور قول الناس مولى وعبده
إلى قولهم مستأجر وأجير
وأضحى نفوذ المال لا أمر في الورى
ولا نهي إلا ما يرى ويشير
تساس حكومات به وممالك
ويذعن إقبال له وصدور
وعصر بنوه في السلاح وحرصه
على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف
يصادف شعبًا آمنًا فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه
ويؤوي جيوشًا كالحصى ويمير
ولما استقل البر والبحر مذهبًا
تعلق أسباب السماء يطير
وقال حضرة الشاعر المشهور حافظ بك إبراهيم يرثي الفيلسوف أيضًا:
رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى
لمدحك من كتاب مصر كبير
ولست أبالي حين أرثيك بعده
إذا قيل عني قد رثاه صغير
فقد كنت عونًا للضعيف وإنني
ضعيف وما لي في الحياة نصير
ولست أبالي حين أبكيك للورى
حوتك جنان أو حواك سعير
فإني أحب النابغين لعلمهم
وأعشق روض الفكر وهو نضير
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس
وهز لها عرش وماد سرير
وقال أناس إنه قول ملحد
وقال أناس إنه لبشير
ولولا حطام رد عنك كيادهم
لضقت به ذرعًا وساء مصير
ولكن حماك العلم والرأي والحجى
ومال إذا جد النزال وفير
إذا زرت رهن المحبسين١ بحفرة
بها الزهد ثاو والذكاء مثير
وأبصرت أنس الزهد في وحشة الليل
وشاهدت وجه الشيخ وهو منير
وأيقنت أن الدين لله وحده
وأن قبور الزاهدين قصور
فقف ثم سلم واحتشم إن شيخنا
مهيب على رغم الفناء وقور
وسائله عما غاب عنك فإنه
عليم بأسرار الحياة بصير
يخبرك الأعمى وإن كنت مبصرًا
بما لم تخبر أحرف وسطور
كأني بسمع الغيب أسمع كلما
يجيب به أستاذنا ويحير
يناديك أهلًا بالذي عاش عيشنا
ومات ولم يدرج إليه غرور
قضيت حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جدير
وسموك فيهم فيلسوفًا وأمسكوا
وما أنت إلا محسن ومجير
وما أنت إلا زاهد صاح صيحة
يرن صداها ساعة ويطير
سلوت عن الدنيا ولكنهم صبوا
إليها بما تعطيهم وتمير
حياة الورى حرب وأنت تريدها
سلامًا وأسباب الكفاح كثير
أبت سنة العمران إلا تناحرًا
وكدحًا ولو أن البقاء يسير
تحاول رفع الشر والشر واقع
وتطلب محض الخير وهو عسير
ولولا امتزاج الشر بالخير لم يقم
دليل على أن الإله قدير
ولم يبعث الله النبيين للهدى
ولم يتطلع للسرير أمير
ولم يعشق العلياء حر ولم يسد
كريم ولم يرجُ الثراء فقير
ولو كان فينا الخير محضًا لما دعا
إلى الله داع إن تبلج نور
ولا قيل هذا فيلسوف موفق
ولا قيل هذا عالم وخبير
فكم في طريق الشر خير ونعمة
وكم في طريق الطيبات شرور
ألم تر أني قمت قبلك داعيًا
إلى الزهد لا يأوي إليَّ ظهير
أطاعوا أبيكير وسقراط قبله
وخولفت فيما أرتئي وأشير
ومت وما ماتت مطامع طامع
عليها ولا ألقى القياد ضمير
إذا هُدمت للظلم دور تشيدت
له فوق أكتاف الكواكب دور
أفاض كلامًا في النصيحة جاهدًا
ومات كلانا والقلوب صخور
فكم قيل عن كهف المساكين باطل
وكم قيل عن شيخ المعرة زور
وما صد عن فعل الأذى قول مرسل
ولا راع مفتون الحياة نذير
هوامش
(١) يريد أبا العلاء المعري.